قراءات نقدية

فيلم: فوتوكوبي.. وقصور الرؤية الإخراجية

adnanhusan ahmadلم يكن رصيد المخرج المصري تامر عشري خاويًا قبل إخراج فيلمه الروائي الطويل الأول الذي ينضوي تحت عنوان "فوتوكوبي"، فلقد سبق له أن أخرج عددًا من الأفلام القصيرة مثل "كش ملك" و"الحادثة"، كما أنجز عددًا من الأفلام الوثائقية نذكر منها "الحرب السابعة"، "صُور من غزة"، "لُقمة نظيفة" و"همزة وصل". وقد أثرى خبرته الإخراجية حينما عمل كمخرج مساعد لمدة عشر سنوات مع عدد من المخرجين المصريين الشباب مثل مروان حامد وأحمد علاء وأحمد جلال وتعلّم منهم كيفية إدارة الممثلين، والتعامل مع مواقع التصوير قبل التعاطي مع القصة، والسيناريو، والحوار، والمعالجة السينمائية التي يُفترض أنها تحتل جزءًا كبيرًا من اهتماماته الفنية التي درَسها أو ألمّ بها خلال سنوات التلمذة والتدريب.

لا ينتمي تامر عشري إلى تيار حديث أو موجة سينمائية جديدة، فهو مُخرج تقليدي بكل ما تنطوي عليه الكلمة من معنى، وفيلم "فوتوكوبي" هو دليل دامغ على رؤيته الكلاسيكية ليس في الإخراج حسب وإنما في القصة والتصوير والمونتاج. ولو تفحصنا قصة هذا الفيلم لوجدناها لا تعدو أكثر من "رغبة محمود، صاحب محل الاستنساخ في الزواج من جارته صفية مع أنّ كليهما في خريف العمر"، أما التصوير فهو لا ينطوي على لقطات ومشاهدَ فنية مُحترفة أو مدهشة، بينما تباطأ إيقاع الفيلم إلى درجة مملة جدًا، ولولا وجود الفنان محمود حميدة الذي حمل على عاتقه جزءًا كبيرًا من القصة السينمائية لوقع الفيلم في أخطاء فنية كثيرة تجعل من مشاهدته أمرًا شاقًا وعسيرًا على المُتلقي الذي بات مُقتنعًا بأنه يشاهد قصة مكررة، ومَشاهد مُستعادة سبق أن رآها في أفلام مصرية أُخر.

لا شك في أن مشكلة هذا الفيلم تكمن في قصته الركيكة، أو البسيطة إن شئتم، لأنها لا تتوفر إلاّ على حكاية متشظية المعلومات، ومتناثرة الأحداث لا يجمعها جامع، ونظرًا لخبرة الكاتب المتواضعة التي لا تتعدى أربعة أفلام قصيرة ووثائقية لم يستطع أن يفجّر الأحداث أو يصعدها دراميًا في الأقل ذلك لأنها مغلقة من جهة أو أنها لا تحتمل التصعيد لأنها تسير بخط أفقي لا تتخلله الهزّات المفاجئة وكأن القصة برمتها مكتوبة لشخصية العم محمود "محمود حميدة" الذي وجد نفسه مُحالاً على التقاعد بعد أن انقرض قسم "التجميع" في صحيفة رسمية ووُزع طاقمه على الأرشيف والكافتيريا وما إلى ذلك. وبما أن الراتب التقاعدي لا يكفي لسدّ متطلبات الحياة اليومية فقد وجدنا العم محمود يمارس عمله الجديد في محل للاستنساخ يصور الأوراق والمستندات التي كشفت له بعض أسرار الناس وعقودها، ووثائقها الرسمية. ثم تنفتح هذه القصة قليلاً على بعض الشخصيات مثل صفية "شيرين رضا" التي تعاني هي الأخرى من الوحدة لكنها تخشى من عدم موافقة ابنها المغترب على فكرة الزواج، كما أنها تثير سؤال الأنوثة والجمال بعد استئصال ثديها إثر إصابتها بمرض السرطان، ومعاناتها الدائمة من مرض السُكّري. وضمن التشظيات المحدودة للقصة نتعرّف على صاحب العمارة  حسني "بيّومي فؤاد" الذي يلحُ على العم محمود بضرورة تسديد إيجاراته المتأخرة، ويحاول إزعاجه وطرده من المحل الذي يكسب منه قوته اليومي.

لم يبحث كاتب القصة السينمائية ومُخرج الفيلم عن ماضي الشخصيات الرئيسة التي قُدِّمت للمُشاهدين بصيغة مبتورة، فعُزلة البطلين ووحدتهما النفسية لم تهبط من السماء مباشرة، وكان الأولى بكاتب السيناريو أن يعود إلى الوراء قليلاً ليكشف لنا الأجواء العائلية الحميمية التي كان يعيشها البطلان في مرحلة الشباب أو في أثناء حياتهما الزوجية السابقة قبل أن تنتهي إلى هذا الفراغ المؤلم، والإحساس القاسي بالعزلة.

لا شك في أن فكرة الانقراض بحد ذاتها هي فكرة جميلة وتنطوي على قدر كبير من الإثارة لو أن كاتب القصة عالجها بطريقة إبداعية تتوفر فيها الضربة الفنية التي تلامس أعماق المتلقين. فهذه الفكرة قائمة على مرّ السنين فمثلما انقرضت الديناصورات لأسباب علمية وبيئية تنقرض العديد من الوظائف والمهن فحينما ظهرت أجهزة الكومبيوتر إلى الوجود انتفت الحاجة إلى أقسام التجميع في الصحف وصار بإمكان الكاتب إلى أن يوصِل مقاله إلى أي قسم يشاء من دون المرور بقسم التجميع، ولعل مهنة الاستنساخ أو التصوير الضوئي مهددة هي الأخرى بالانقراض طالما انتقلت المطابع إلى البيوت وأن التصوير الإليكتروني قد حلّ محلها. تُرى، ما الذي يفهمه المُشاهد من بحث العم محمود في أسباب انقراض الديناصورات؟

إنّ من يتتبع الأدوار التي أدّاها الفنان محمود حميدة في أكثر من ستين فيلمًا يلمس جديته، وحبّه لفن التمثيل خاصة، وللفن السابع بشكل عام، وغالبًا ما يكون المحور الذي يفعِّل أداء بقية الشخصيات كما هو الحال في "فارس المدينة" و"مَلك وكتابة" و"بحب السيما" و"احكي يا شهرزاد" وغيرها من أدواره الكثيرة التي يحبها جمهوره ومتابعوه، فلقد غابت نفحته الإبداعية في دور العم محمود، وتلاشت الهالة التي كانت ملازمة له في أفلامه السابقة، وقد سقط في خانق الأدوار المستنسخة والمكرورة التي لا تضيف شيئًا لجعبته السينمائية الممتلئة بالأفلام النوعية، وهذا الدور تحديدًا يُشكِّل انتكاسه ملحوظة لا تليق بجاذبيته، وألقه الأدائي المعبِّر. وهذا التراجع يُسجّل أيضًا على الفنانة شيرين رضا التي بدا دورها مفتعلاً في التجسيد والأداء، فلا الصوت مقبول، ولا الحركات الجسدية مُقنعة مع أنها توهجت في العديد من الأدوار التي جسدتها في باقة من الأفلام الجيدة نذكر منها "حسن اللول" و"هيبتا" و"الفيل الأزرق" وما دمنا منغمسين في أداء الشخصيات فلابد من الإشادة بدور عبد العزيز الذي جسده الطفل الفنان "أحمد داش"، بواب العمارة الذي توفي والده وتركه يواجه مصاعب الحياة لوحده غير أن تفاعله مع الأحداث والشخصيات جعلته العنصر الوحيد الذي يتحرك بحيوية، ومهارة، وخفة ظل واضحة للعيان. وقد اشترك هذا الطفل الموهوب في عدد من الأفلام والمسلسلات المهمة مثل "لا مؤاخذة" و"اشتباك" و"سرايا عابدين" و"إمبراطورية مين؟" وسوف يكون نجمًا لامعًا في السينما المصرية إن هو واصل مشواره الفني بذات الدأب والمحبة الكبيرة للتمثيل السينمائي والتلفازي على حدٍ سواء.

لم يكن فيلم "فوتوكوبي" في واقع الحال أفضل فيلم عربي مشارك في مسابقة الأفلام الروائية الطويلة في الدورة الأولى لمهرجان الجونة السينمائي ومع ذلك فقد نال هذه الجائزة من دون أن يستحقها ولعل لجنة التحكيم أرادت أن ترضي الجميع فوزعت الجوائز على الأفلام العربية الثلاثة حيث أسندت جائزة أفضل ممثلة لنادية كوندا بطلة فيلم "وليلي" للمخرج المغربي فوزي بنسعيدي، وجائزة نجمة الجونة الفضية لفيلم "قضية رقم 23"  للمخرج اللبناني زياد دويري ولم تترك اللجنة فيلمًا روائيًا عربيًا طويلاً يخرج من المولد بلا حمّص! وفي هذه الترضية تشجيع للأفلام الهابطة، وإيهام القائمين عليها وخاصة صنّاع الأفلام الذين لا يتوفرون على موهبة أو رؤية إخراجية تتوفر على أدنى قدر من الجانب الإبداعي الذي يتيح للمتلقي القدرة على مُشاهدة الفيلم حتى اللقطة الختامية. وكان بإمكان اللجنة أن تحجب هذه الجائزة أو تمنحها لفيلم "قضية رقم 23" لأنه حقًا أفضل فيلم روائي عربي طويل مُشارك في المسابقة.

 

عدنان حسين أحمد

 

في المثقف اليوم