قراءات نقدية

علي فضيل العربي: أدب التوقيعات.. ذلك الفنّ المنسي

عرّف الأديب والعالم اللغوي المصري شوقي ضيف فنّ التوقيعات على أنها "ا عبارات موجزة بليغة تعوّد ملوك الفرس ووزراءهم أن يوقعوا بها على ما يقدم إليهم من تظلمات الأفراد في الرعية وشكاواهم، وحاكاهم خلفاء بني عباس ووزراؤهم في هذا الصنيع، وكانت تشيع في الناس ويكتبها الكتاب ويتحفظونها وظلامته، وقد سموا الشكاوى والظلامات بالقصص لما يحكي من قصة الشاكي وظلامته، وسموها بالرقاع تشبيها لها برقاع الثياب. " *

وهي من الفنون السرديّة المنسيّة في الأدب العربي المعاصر. فقد ازدهر فنّ التوقيعات في العصر العباسي الأول. شأنه في ذلك شأن فن المقامة، الذي عرف شيوعا وازدهارا في العصر العباسي الذهبي، على يد بديع الزمان الهمذاني، والذي كان – بحق – فنّا سرديّا راقيّا، احتوى على فنيّات القصة القرآنيّة، وفنيّات القصة القصيرة الغربيّة (جي. دي.موباسان، وتشيخوف، إدغار آلان بو). دون أن ننسى الذهبيّات السرديّة أبي عُثْمان عمَرُو بن بَحر المعروف بالجاحظ في مصنّفه الفريد " البخلاء ".

كان العرب قبيل الإسلام (العصر الجاهلي)، يعيشون في نظامهم القبلي والعشائري، وكان الشعر هو ديوانهم الأول، بلا منازع. أمّا النثر فقد حظّه كحظ الشعر في حياة الإنسان الجاهلي. ولم يتجاوز فنون الخطابة والوصيّة والأمثال والحكم، وهو أقصى ما كانوا يحتاجونه في إدارة حياتهم اليوميّة.

وعندما نزل الوحي على رسول الله، سيدنا محمد صلّى الله عليه وسلّم، وسمع عرب الجاهليّة، الذين أسلموا أو الذين لم يسلموا، آيات القرآن الكريم، بُهتوا من عظمة أسلوبه، وإعجاز ألفاظه ومعانيه. فانفتحت عقولهم على بحر من الإيجاز والغنى اللفظي والعمق الدلالي والفكري، وازدادت لغة العرب العاربة والمستعربة قوّة وعمقا وشيوعا.

وقد اندرج فنّ التوقيعات ضمن فنّ التراسل. وهو فنّ عريق في الأدب العربي، وهو ضربان: رسائل ديوانيّة، تتناول شؤون حكم الرعيّة وسياستها، ورسائل إخوانيّة متبادلة بين الأدباء والشعراء والمؤرخين وعموم كتاب السرد، حول المسائل الذاتيّة والفكريّة والعاطفيّة والفقهيّة وغيرها ممّا يشغل الفكر الإنساني. حتى قيل: بدأت الكتابة بعبد الحميد الكاتب وانتهت بابن العميد. ولكن الحقيقة أنّ فن التراسل بين الأدباء والشعراء والساسة لم يتوقف وإنّما ضعف أسلوبه ولفظه وقلّ شأنه بين الأدباء أنفسهم، ولم يعد يشغل الكتاب والمبدعين لا النقاد المعاصرين...

جاء في إحدى التوقيعات، ما يلي: (كثر شاكوك، وقلّ شاكروك، فإمّا اعتدلت، وإمّا اعتزلت).

وهي كما يبدو توقيعة موجّهة إلى حاكم أو وزير أو خليفة أو الوالي، لوحظ انحرافه عن سياسة العدل في رعيّته. ومتضمّنة النصيحة والموعظة الحسنة والحكمة بأسلوب ليّن وهادئ ورزين، بعيدا عن أسلوب التهديد والوعيد..

في هذه التوقيعة، يظهر لنا سحر اللغة العربيّة وأسلوبها الموجز. وجمال بيانها وبديعها. فقليل لفظها يغني عن كثيره، ومعانيها واضحة القصد. فهي تحرّك العقل قبل القلب، والفكر قبل العاطفة. كما تبرز للقارئ عبقريّة كاتبها، الذي أبدع في الإيجاز غير المخلّ بالمعنى والهدف، وصبّ فيه بحرا من المعاني والأفكار والعواطف، واختصر زمن الكتابة والقراءة، وجنّب المرسل إليه، مغبّة المجاز والتأويل.

إنّ الأدب العربي زاخر بكنوز من الفنون الأدبيّة في جميع أصناف السرد والشعر. فلم نكن في حاجة إلى استبدال المقامة بالقصة الغربيّة. والقول أنّ العرب لم يعرفوا فنّ القصّة إلا بعد اتّصالهم بالغرب، وتأثرهم بآدابه. هو ترّهة فجّة وادّعاء باطل، أملاه علينا منطق المغلوب يتبع الغالب، كما قال ابن خلدون. إنّ العرب عرفوا فن القصّة قبل الغرب بقرون، ومن هنا وجب علينا، الاعتراف بالخطأ، دون خجل، وتصويبه..

وبالعودة إلى فنّ التوقيعات، الذي ازدهر في العصر العباسي، سأورد نماذج من تلك التوقيعات:

وقّع الخليفة أبو العباس السفاح على كتاب عددٍ من أفراد بطانته الذين اشتكوا حبس أرزاقهم "من صبر في الشدة شارك في النعمة ".

وقّع الخليفة أبو جعفر المنصور لواليه في مصر عندما شكى له نقص مياه نهر النيل "طهر عسكرك من الفساد، يعطك النيل القياد".

وقّع الخليفة هارون الرشيد في حادثة البرامكة "أنبتته الطاعة، وحصدته المعصية".

ووقع إلى والي خراسان "داوِ جرحك لا يتسع".

وهي توقيعات، اتّسمت بعديد من الخصائص الفنيّة، اهمها:

تعددت سمات التوقيعات وخصائصها، ويمكن اختصارها بالعناصرالتالية:

تتميّز التوقيعات من حيث الأساليب بمتانة التركيب والصياغة الدقيقة، والجمع بين الخبر والإنشاء والإيجاز. أما معانيها، فهي قويّة الدلالة، مباشرة. نافذة التأثير.، متضمّنة بعض الاقتباسات المأخوذة من القرآن الكريم، أو الأحاديث النبوية الشريفة، بالإضافة إلى الأمثال، والحكم، وأبيات من الشعر.

إنّ فنّ التوقيعات يدل على ذكاء مؤلّفه، وعلى قدرته في توظيف الصور البلاغيّة، كالاستعارات والتشبيهات والكنايات والمجازات المرسلة. وهي (التوقيعات)، وإن كانت موجزة اللفظ، لكنّها غزيرة المعاني، قويّة التأثير في النفس، جامعة بين إصابة الهدف أو الغرض، وقلّة المؤونة اللفظيّة. إنّها مثال دال على عبقريّة الذائقة الإبداعيّة العربيّة، وعلى عشق العرب للإيجاز اللفظي والمجاز اللغوي. وقد قالت العرب قديما " خير الكلام ما قلّ ودلّ ". كما ذمّ العرب الرجل المهذار، وأعابوا على الرجل، إذا كثر كلامه في غير فائدة. وأطلقوا على من قلّ لفظه وأنزله موضعه، صفة الحكيم.

إنّنا في حاجة ماسة إلى إعادة قراءة تراثنا العربي والإسلامي الأصيل، من جديد، قراءة علميّة متأنيّة، هادفة، خاليّة من الانتقاء المذهبي والميل العاطفي، عقليّة، ذكيّة، وخالية من ترّهات الاستشراق الغربي. وأن نتلافى دراسات المستشرقين الشرقيين والغربيين وقراءاتهم، إلا النادر منها.

***

بقلم: الناقد والروائي علي فضيل العربي – الجزائر

........................

هامش:

* رفيع أحمد، " قراءة في فن التوقيعات العربية وإيجازه. قراءة أنموذجية للعصور المختلفة "، مجلة أقلام الهند، بتصرّف.

 

في المثقف اليوم