قراءات نقدية

تأمّلات في القصّة القصيرة جدّا

hasan salimiلا شكّ أنّ النّقاش حول القصّة القصيرة جدّا تجاوز شرعية وجودها من عدمه. إذ استطاع هذا الجنس أن يثبت بكل اقتدار على أرض صلبة ويستمرّ كلّ هذه السّنين. فضلا عن أنّ محاكمته موكلة إلى التّاريخ، وقد يستغرق الأمر قرونا أخرى. إنّما النّقاش جدير أن يدور حول هويتّها التي تميزّها من الأجناس الأخرى، دون أن تتماهى معها أو تذوب فيها أو تكون امتدادا لها في قوالب مغايرة.

وهويّة الشيء لا يمكن أن تعرف أو تلمس من دون ضابط يميّزها وسقف وحدود تعرف بهما، وإلاّ تداخلت الأشياء وضاعت أسماؤها، وربّما اختفت في الزّحام.

وهنا أسأل: كيف نجعل ضابطا لمن لا ضابط له، والفنّ عموما متفلّت من كلّ قيد، لا يكاد يركن إلى أرض حتّى يبرحها، ولا يكاد يسكن ويطمئنّ حتّى يثور ويعاود بحثه المستمرّ في رحلته التي لا تنتهي؟

تلك هي المعضلة، وتلك هي المعادلة الصّعبة!

القصّة في عمومها وإن بدت لنا خارجة عن المألوف سابقة لكلّ الأمثلة، ماهي إلّا امتداد لروح الكون على نحو مّا، سواء وعينا بذلك أم لم نع، وسواء أوهمنا أنفسنا بالتمرّد عليها أم لا. وما طريقة بناء القصّة والعوالم التي تصنعها إلّا محاكات لتلك الرّوح وتأكيدا على صلة صاحبها بها، ومن هنا فإنّ تصوّرنا لِكُنْهِ هذا الوجود ومدى قدرتنا على تمثيل قوانينه وأسراره وفهمهما واكتشافهما هو المعيار الذّهبي الذي على أساسه يتحدّد الإبداع والدّرجة التي يرتقي إليها. ولا أستثني القصّة القصيرة جدّا من هذا، ولا أرى لها طريقا يضمن رسوخ قدمها إلّا إذا تبنّت رؤية فلسفيّة محدّدة على قاعدة الحياة وما تجلّى فيها وما خفي. فعلى قدر وقوف المبدع على أسرار الحياة وخفاياها، واستثمارهما الاستثمار الحسن في أعماله المجزة، تكون الفرادة والطّرافة والتميّز والقدرة على الاستمرار. أمّا وأن تظلّ القصة القصيرة جدّا مجتثّة من كلّ جذر، خالية من التّصوّر المسبق والتّنظير الكافي لصناعتها، ترتكز على هوى صاحبها ومزاجه وأفقه الضيّق، فهي لن تتعدّى أن تشكّل ظاهرة عابرة مصيرها الزّوال والتّلاشي.

وبالعودة إلى استنطاق قوانين الكون، نرى أنّ ثنائيّة الثّابت والمتحوّل ملازمة له، ضامنة لبقائه من الذرّة الضّئيلة وما دونها، إلى المجرّة الكبيرة فما فوقها. بيد أنّ الاعتصام بالثّابت وحده موت وجماد، والتّعويل على المتحوّل وحده موت واندثار ولكن من طرق مغايرة. السرّ في جمعهما معا ضمن معادلة موزونة لا تحرم القصّة القصيرة جدّا من أجنحة تجوب بها الآفاق، ولا تحرمها في نفس الوقت من السّمت الذي يظلّ لها دائما، مهما اختلطت وتداخلت في عالم الأشكال والأجناس والدّلالات.

والسؤال هنا، ما هو الثّابت؟ وما هو المتحوّل في القصّة القصيرة جدّا؟

أين موضع كلّ واحد منهما على خارطة جسدها الغضّ الذي لا نكاد نلمسه حتّى السّاعة؟

أرى أنّ الثّابت فيها يعود إلى أصلها الذي بدأت منه. لا يمكن تحت أيّ مسمّى أن تنسلخ عن مكوّناتها الأولى، وإلّا انتهى بها المصير إلى الخاطرة والحكمة والطّرفة وأضرابها... الزّمان والمكان والشخصيّة والرّاوي والحدث، أعمدة ضروريّة لا تقوم للقصّة قائمة من دونها. قد نغيّر من بنى تلك العناصر، ونحوّلها إلى أنماط جديدة. قد نفجّر المكان والزّمان ولكن لا يمكن اجتثاثهما على وجه الإطلاق. وقد نعبث بالشخصيّة ونختزلها في مفردات مجنونة أو نحوّلها إلى مجرّد طيف باهت وصوت خافت، غير أنّها تظلّ ملازمة للقصّة لا تنفكّ عنها. كذلك ينسحب القول على الرّاوي والحدث، قد نغيّر من شكلهما ونسقهما، بيد أنّه لا مناص منهما البتّة.

ولقائل أن يقول: إنّ القّصة القصيرة جدّا تقوم على الاختزال والانتشار على مساحة جدّ محدودة، تقاس بالملّيمتر فما دونه. وحضور تلك العناصر مجتمعة قد يضّيق عليها الخناق، وقد يربكها ويوقعها في سوء التّوظيف. هذا كلام حسن، غير أنّ القصّة لا تقوم على الإظهار فحسب، بل تقوم على الإضمار ومعناه تلك المساحة الخفيّة التي ترحّل إليها القصّة عالمها وفق شفرات معينة. هناك بإمكانها أن تسجّل حضورا لتلك العناصر أو أحد منها في ذهن القارئ ودون أن يكون لها أثر على الورق.

تلك هي اللّعبة، وذلك هو سرّها!

أعود فألخّص، الثّابت والمتحوّل قانونان متلازمان، ليس في بنية القصّة القصيرة جدّا فحسب، بل يتلازمان في أدنى وحداتها، وفي أصغر ذرّاتها. أو ليست كونا صغيرا، قوانينها من قوانينه؟

والآن أعود إلى المتحوّل فأصوّب النّظر إليه من زاوية أخرى.

إذا كنّا قد سلّمنا أنّه بإمكانه التّواجد مع الثّابت في بنية القصّة القصيرة جدّا بمقدار، فإنّه يجد حظّه وافرا في الشّكل الذي تتميّز به. وأعتقد أنّ هذا المعطى هو الذي يعطيها سمتها الذي تتفرّد به عن سائر بنات جلدتها (الرّواية، القصّة، الأقصوصة، القصّة القصيرة...) بيد أنّ شكلها لا يخضع إلى نمط واجب التّكرار كلّ مرّة أثناء كتابتها. بل تحضر عناصره على حسب ما تؤدّيها من وظيفة. فاللّغة المشعّة المتألّقة مثلا لا تكتسب القداسة دائما. إذ يمكن للوظيفة أن تفرض عليها النّزول من عليائها وتجعلها تجنح إلى البسيط المتناهي. وقس على ذلك سائر العناصر الأخرى من مثل الرّمز والقفلة والإظهار والإضمار والنّسق والنمّط والتّكثيف والإيحاء والإدهاش والمفاجأة والصّورة والالتزام بعدد مسبق لألفاظها ونحو ذلك.

إنّ الذي تقدّم ما هو إلّا مدخل إلى القصّة القصيرة جدّا. محاولة في لفت انتباه القارئ إلى ضرورة إفراد هذا الجنس بهويّة واضحة المعالم تميّزه عن سائر الأجناس الأخرى، حتى يتمكّن من الصّمود والاستعصاء على الذّوبان والتبّخر. ولئن بدا شيء ممّا تتقدّم فضفاضا عاما يصلح لهذا الجنس وغيره فإنّ الفارق لا يكون إلّا بعد تنزيله منزلة الّتطبيق. ومهما يكن من أمر فإنّ القصّة القصيرة جدّا ما زالت في صدف مكنون وهي بعد تهمز كتّابها إلى مزيد الغوص في بحرها المترامي؟

من جهتي أحيلكم إلى الكون مرّة أخرى. إلى استنطاق قوانينه. وهذه المرّة أحيلكم إلى الذرّة.

نعم الذرّة. أليس بينها وبين القصّة القصيرة جدّا شبها في صغر الوحدة وتناهيها؟

الذرّة وكما يعرّفها لنا العلم، تتكوّن أساسا من الإلكترون والنترون والنّواة. هذه العناصر جميعها توجد في الماء والخشب والقطن والحجر... فلا تخلو جميع الأشياء منها. بيد أنّ السّرّ في اختلاف أجناسها وأنواعها وتباينها في عدد الإلكترونات والنترونات التي تسبح حول المركز. فضلا عن أنّ عددا معيّنا لذرّات الأشياء عندما تلتقي بعدد معيّن لذّرات أشياء أخرى تفرز جنسا ثالثا بحجم وخصائص مغايرة.

أفلا يحيلنا هذا إلى فكرة مّا؟

 

بقلم حسن سالمي/ تونس

 

 

في المثقف اليوم