قراءات نقدية

علي ماجد شبو: الاغتراب الثقافي ودلالاته في المسرح

"الى نادرة عمران"

ثمة ثقوب في هيكلية وأنظمة المجتمعات تتسلل من خلالها الثقافات والهويات، غير المتآلفة مع المجتمع الواسع، الى خارج أسوار تلك الهيكليات الاجتماعية، مما يُنشأ ذلك الإحساس المرير المُسمّى بالاغتراب الثقافي Cultural Alienation. الاغتراب شعور يتلبس معظم الناس بصور مختلفة، وبدرجات مختلفة، ويمس أيّاً من أفراد المجتمع، فقيراً كان أم غنياً، مثقفاً واعيا ومدركاً، أم بخلاف ذلك، ولكن بأعماق متغايرة في إدراك ذلك الاحساس. وعليه، فإن الاغتراب ينسحب من حالة الاحساس والشعور الإنساني الى مدارك الوعي والتفكّر، أي الى حالة المفهوم الذي يستوجب التوقف عنده، وفهم أسبابه، وإدراك نتائجه. فالاغتراب، في نهاية الامر، مفهوم فلسفي شائك تمّ تناوله، من أوجه عدّة، عبر تاريخ الفلسفة. وبقيَ هذا المفهوم يثير الأسئلة الجوهرية حول طبيعة الوجود الإنساني وحرية تحقيق الذات والهوية الثقافية. أما في سياق المسرح فإن العلاقة بينه وبين الاغتراب الثقافي تحمل دلالات وسمات ديناميكية متعددة ودقيقة، حيث إن المسرح يُجسّد بشكل حيّ لحظات زمنية من الحياة العامة، للأفراد والمجتمعات، تعكس مشاعر الاقصاء والمرارة والانسلاخ عن المحيط الإنساني. غير ان المسرح بحيويته، وبليونته، وبقوته على تجسير الفجوات قادر على أن يستجيب الى هكذا مشاعر وأحاسيس وأفكار، فضلا عن إمكانية أن يعرض خيارات من أساليب وحلول تمكّن من تفهم مسببات الاغتراب الثقافي والتعمق بمدلولاتها، من أجل تضييق الفجوة بين أحاسيس الاغتراب التي يعاني منها الفرد أو الجماعات وبين المجتمع الواسع المُنتج لهذا الاغتراب.

يتضح من ذلك بأن المسرح، عبر تجسيده لسرديات تراجيدية أو كوميدية مختلفة، يبرز كمنصة مثالية لطرح القضايا المتنوعة في مسار الاغتراب الثقافي، وإثارة التفكير النقدي حول مجمل القضايا الاجتماعية والثقافية المسببة له، والمفجّرة للوعي. فالمسرح يوفر الفضاء المحرّض لنقد، واستكشاف، وطرح الأسئلة حول ما هو قائم من معايير وقيم ثقافية، واجتماعية وأعراف، سواء في تفاصيل الحياة الاجتماعية اليومية، أم في أنظمة العمل، أم في هياكل السلطة والسياسة، أو في فضاءات الطموح والأمل والخيبات المتكررة. وسأستعرض لاحقاً، بشكل سريع، مفهوم وتنوع الاغتراب من خلال عشرة نصوص مسرحية عالمية.

الخلفيات الفكرية لأشكال الاغتراب

الاغتراب في الفلسفة العربية، مثلاً، يشكل موضوعاً هاماً، لأنه يلتصق بالمسافات وبالبعد، والانقطاع عن الوطن، أي الهجرة التامة عن بلد المنشأ، والبيئة الحياتية المنتجة للذكريات والحنين. حيث يرى الفيلسوف ابن رشد أن الاغتراب يمكن ان يكون سبباً في التيه، والتشتت والضياع الفكري. لأنه يرى أن الانتماء للوطن هو أحد مكونات الهوية الفردية، ولأن الاغتراب يصبح عنصراً فاعلا بالإحساس بفقدان الانتماء، فهو سيكون فاعلا في تشويه أو فقدان الهوية. من جانب آخر ينظر الفيلسوف أبو نصر الفارابي الى الاغتراب من حيث كونه سبباً لتوسيع المعارف، وتعميق المدارك، كما هو محرّك للتطور والتقدم الفكري والثقافي. لذا فإن الفارابي لا يعتبر الاغتراب حالة سلبية تُضعف من قدرات الفرد، بقدر ما هو حالة إيجابية، وفرصة للتعرف على ثقافات وأفكار أخرى، أي أنه وضع مفهوم آخر، غير ما هو شائع في مجتمعه، مفهوم يرى الاغتراب كإمكانية لتوسيع وتطوير آفاق الفرد المغترب وإثراء هويته. وفي مفهوم آخر للاغتراب قال العالم اللغوي الجليل عبد القاهر الجرجاني وقد أتعَسَه عقلُه، وأجاعَه عِلمُه: العقل النبيه يُشعِر صاحبَه بالاغتراب وإن كان بين جموع الناس، وهذا النوع من الاغتراب هو وجه من وجوه الاكتئاب.

فضلاً عن أن الاغتراب يشكل مفهومًا مركزيًا في الفلسفة عموماً، ولا سيما الفلسفة الغربية، فهو يشير إلى حالة من الإقصاء الذاتي، وتفتت هوية الفرد، وانحسار حريته، وإختياراته، وقمع ثقافته. والاغتراب يمكن أن ينتج عن حالات مختلفة، سواء كانت ثقافية، أو اجتماعية أو نفسية، أو حتى اقتصادية، او سياسية. ففي الفكر والفلسفة اليونانية القديمة، فإن الاغتراب متعلق أساساً بالشرط والوجود الإنساني. ولذلك فإن فلاسفة مثل أفلاطون وأرسطو كانوا يؤمنون بأن التأمل في الأفكار الثابتة والابدية تساعد الانسان على تفهم وجوده الأرضي كفرد، كما تساعد على تفهم الوجود بمفهومه الكوني، مما يقود الانسان الى إدراك وجوده في هذا الكون. هذا التفّهم والوضوح، والذي بدوره يخفض مناسيب القلق والخوف عند الفرد، يؤدي الى تحقيق الإدراك الذاتي المطلوب للابتعاد عن طبيعة الفرد الحقيقية - المنتجة لاحاسيس الاغتراب - والتي تتمثل بوجوده الأرضي من جهة، ومن أحاسيس وعواطف وغرائز تمثل رغباته المادية من جهة ثانية.

أما في الفلسفات الحديثة، فقد اتخذ الاغتراب مفاهيم فلسفية وفكرية متنوعة. فقد رأى كارل ماركس بأن عدم المساواة، وفقدان العدالة الاجتماعية، كانتا دائما نتيجة لفرز الفرص الاقتصادية بشكل غير متساوي وغير عادل فيما يخص أفراد المجتمع المنتج. هذا التفاوت في الفرص داخل المجتمع ولّد حالة من الإقصاء الاجتماعي لأفراد ولجماعات داخل المجتمع الواسع والواحد. كما إن هذه الحالة هي بالتحديد ما وصفها ماركس "بالإغتراب الاقتصادي" Economic Alienation التي شكلت مفهوما ذو أبعاد اقتصادية ونفسية ناتجة عن الطبيعة التي تتحرك بموجبها عجلة ودورة الاقتصاد. أوضح كارل ماركس مفهوم الإغتراب الاقتصادي عبر بيع العامل لقوة عمله مقابل أجر، ولكن هذا الأجر لا يوفر له الرفاه الاجتماعي أو التمتع والإبداع في صلب عمله، وذلك لإن قوانين العمل كانت سبباً في إحساس العمال بالإغتراب تحت نظام من الجشع المادي والاستغلال الرأسمالي. أي أن حجم قوة العمل، والزمن اليومي اللازم لتنفيذه، إضافة الى الروتين الذي تفرضه طبيعة العمل، والذي يحدّ، غالباً، من الطاقات الإبداعية الفردية للعامل، جعل كل ذلك، لا يتناسب مع الثمار الناتجة عن هذا الجهد، مما يُولّد حالة من الانسلاخ عن التركيبة العامة للمجتمع. أي الإحساس بالاغتراب الاقتصادي.

أما حالة التوافق، التي يتظاهر بها الفرد، مع القيم والأخلاق الاجتماعية السائدة، بالضد مما يؤمن به، أي بالضد من أخلاقه، ورغباته، وسلوكه وغرائزه فهي، أي حالة التوافق الوهمية، تُنشأ ما سمي "بالإغتراب الذاتي" Self Alienation وفق الفيلسوف الألماني فريدريش نيتشه. أي أن يُجبَر الفرد على أن يحيا حياة مزدوجة، ومنفصمه عن طبيعته، وعن ذاته الأصيلة، ويمارس حياة تتناقض مع ما يؤمن به. بمعنى آخر أن يُجبَر الفرد على أن يحيا حياة على هامش حياته الطبيعية. وللخروج من مأزق الإغتراب هذا، يؤكد نيتشه بأن تحقيق الذات لا يتم الاّ بالعودة الى الأصالة الفردية والتوافق التام مع الذات. غير أن ذلك يستوجب توفر الإرادة التامة والقوية لمواجهة الواقع المجتمعي عبر سلسلة من سلوكيات التمرد، ورفض قيم وأخلاق وسلوكيات وأعراف المجتمع السائدة، ومحاولة تجسير الفجوة الشائكة بين ما يؤمن به الفرد، وما يؤمن به المجتمع، دون التنازل عن قيم الفرد الاصيلة.

ومن حالة التمرد ضد ما يؤطره المجتمع من معتقدات، وسلوكيات، وأخلاق، كما وصفها نيتشه، أنتقل الى عالم الفرد وأصالته مقابل الوجود برمته. فحالة الفرد الذي يعاني من صعوبة التجانس مع الحياة، لافتقادها للمعنى والجوهر، تدعو الى تلمس هذا الفرد عبث وجوده، لافتقاده لمنطق يتناغم مع ما هو مألوف وسائد. هذا هو " الإغتراب الوجودي" Aliénation Existentielle الذي بحث فيه كل من الفيلسوفين جان بول سارتر والبير كامو. يرتبط هذا الإغتراب بشكل وثيق بكينونة وصيرورته الإنسان، حيث إن الوجود الخالص للإنسان محاط بالغموض، وعدم الفهم وغياب المعنى، وفقدان الجوهر الذي يُنتج عبثية الحياة. كذلك فإن تموضع الانسان في مواجهة الحرية كمبدأ حياة، إضافة الى تحميله المسؤولية في مواجهة تسرب تلك الحرية، وضياع الاختيار من صلب وجوده الإنساني، هما عاملين يدفعان الى نشوء الاغتراب الوجودي إنطلاقاً من حياة الانسان الجافة، ووجوده الفاقد تماماً للمعنى وللجوهر.

أما فيلسوف الحداثة ميشيل فوكو، وعبر تحليلاته النقدية للسلطة والمجتمع، فقد تناول، في مجمل أعماله، موضوع الإغتراب بأشكال مختلفة مع التركيز، بشكل أساسي، على الاغتراب الاجتماعي Aliénation Sociale واغتراب الجسد Aliénation du Corps. فهو يري بأن الإغتراب الاجتماعي يحدث عند خضوع الفرد لقواعد وأُطر ومؤسسات تتحكم به وتحدّ من مساحة حريته. هذه القواعد تتجلّى من خلال هياكل السلطة المختلفة مثل الدولة وتفرّعاتها، والأنظمة التعليمية، والمؤسسات الدينية، وغيرها. إن وظيفة هذه الهياكل هي أن تخلق حالة من الهيمنة، وكذلك حالة من الخضوع. والحالتين لهما تأثير فاعل ومباشر في تهميش الافراد وقمع حرياتهم والحد من التعبير عن رغباتهم.

يُشير الاغتراب الجسدي الى الوسائل التي يُجبر بها الفرد على الامتثال لمعايير جسدية معينة ومحددة يفرضها المجتمع. ولهذا فقد أهتم فوكو كثيرا بمفهوم " السياسة الحيوية " Biopolitics، وهو مفهوم يُشير الي السيطرة التي تمارسها الدولة على حركة وأجساد الأفراد من خلال المراقبة عبر الكاميرات المثبتة في مختلف شوارع المدن، وسن القوانين التي تضمن حالات إنضباط الافراد، وتطبيع حياتهم مع مجمل الهياكل السلطوية والمجتمعية القائمة. غير أن فوكو شدد أيضاً على أهمية التمرد ضد هذا الإغتراب ومقاومته من أجل تحرير الافراد لأنفسهم، وذلك عبر التشكيك في معايير السلطة المضطهِدَة وهياكلها. ويمكن لهذا التمرد أو المقاومة أن يتخذ أساليب متنوعة تبدأ بالعصيان المدني وتنتهي بخلق ثقافات مبتكرة وجديدة ومضادة لما هو سائد، وإنشاء حركات إجتماعية فاعلة وقادرة على التغيير الاجتماعي.

من جانب آخر، ينظر فيلسوف ما بعد الحداثة جان فرانسوا ليوتار الى الاغتراب بإعتباره مفهوماً متطوراً ومتحركاً، ولذلك فقد شغل هذا المفهوم حيزاً مركزياً في فلسفته وأفكاره. فالاغتراب كما يراه ليوتار هو حالة يفقد، من خلالها، الافراد استقلاليتهم وقدرتهم على تحقيق وجودهم الإنساني الكامل نتيجة لضغوط إجتماعية، واقتصادية، وسياسية، وثقافية، ودينية مختلفة تعيق من تحقيق حرية الفرد وتحد من تنمية وازدهار وجوده الذاتي. لذلك فإن ليوتار يجادل بأن الإغتراب الأكثر شيوعاً في المجتمعات الحديثة، هو الإغتراب الاقتصادي، لإنه عند إحساس الافراد بالإجبار على العمل، من أجل العيش، دون التحفيز على الإبداع والمتعة في العمل، يؤدي ذلك الشعور بهم الى الإنسلاخ عن ذواتهم، وبالتالي الاغتراب عن جوهر كينونتهم، حيث أن هذا الشعور يقودهم الى إعتبار أنفسهم مجرد أدوات آلية، وروتينية للإنتاج، محرومة من الابداع والمتعة، في مجتمع استهلاكي رأسمالي ضاغط.

كذلك يرى ليوتار الاغتراب، بإعتباره مفهومآً سياسيا Aliénation Politique. ويبرز هذا المفهوم بشكل واضح في الأنظمة الشمولية والمجتمعات الاستبدادية التي تُخضع الافراد الى سلسة من القيود القمعية التي تحدّ من حرية التعبير، ومجمل الحريات الفردية، كما تعيق إمكانياتهم على الاشتراك في القرار السياسي. هذا الانسلاخ عن الحياة السياسية يقود الافراد الى الشعور بالعجز وباليأس، حيث إنهم مسيّرين وغير قادرين على المشاركة أو التأثير في السياسات التي لها نفوذ مباشر على حياتهم. كما يشير ليوتار الي المجتمعات التي يتم فيها تعريف الثقافة، غالباً، وفق معايير وقيم محددة مسبقاً تُلزم الافراد على التمسك بها، مما يفضي الى الإحساس بفقدان الهوية والاغتراب عن ذواتهم، أي الى الشعور بالإغتراب الثقافي بالتحديد. ويناقش ليوتار، ضرورة التصدي الى الإغتراب عامة، بإعتباره مشكلة أساسية في المجتمعات الحديثة، بضرورة ان يكون الاهتمام الاساسي، في وضع أولويات لتحقيق العدالة الاجتماعية، وتحرير الذات، وذلك بتبني أساليب وأشكال متنوعة من التمرد على أنظمة السلطة، ومختلف الأطر الاجتماعية التي تُنتج عناصر الإغتراب، بهدف إنشاء مجتمع متجانس وعادل يرتكز الى مبادئ المساواة ويعزز الكرامة الإنسانية.

الاستلاب الثقافي والأصالة في المسرح

إن ما تقدم من مفاهيم فكرية وفلسفية واجتماعية وذاتية لوصف الإغتراب الثقافي، وإشكاليات الهوية، والاصالة، كانت دائما من الموضوعات الرئيسية التي نوقشت بكثافة في عالم المسرح، وعلى مدى قرون من الزمان. وفي منطقتنا العربية، ظلّت هذه المواضيع تشغل العاملين في المسرح على امتداد العقود الماضية، بشكل صريح وواضح، أو بتضمين وتلميح داخل ثنايا العرض المسرحي. إنما يحدث أن يتحول الإغتراب الثقافي في بعض العروض المسرحية الى استلاب ثقافي أو الى استيلاء ثقافي، وفي الحالتين يتم اختطاف الأصالة وتشويه الهوية، مما يترتب عليه دراسة الآثار الفكرية، والسلوكية، والأخلاقية لهاتين الحالتين وضرورة التمسك بالأصالة الثقافية التي تنتج خصائص الهوية.

فالاستلاب الثقافي Cultural Appropriation هو الصورة القاتمة للاغتراب الثقافي، لأنه يقود الفرد أو الجماعة الى الشعور بالعزلة والانفصال ثم الاستبعاد القسري عن الثقافة السائدة. يحدث ذلك حين يتبين للفرد أو للجماعة بأن ثقافتهم، وقيمهم، وسلوكياتهم، وممارساتهم، غير محترمة من المجتمع بشكله الواسع. ينجم ذلك عن عوامل مختلفة مثل التهميش المجتمعي، والتمييز بين الافراد والجماعات، أو حتى الحالات المعنيّة بالاندماج القسري ثقافيا، ومجتمعيا. اما الإستيلاء الثقافي فهو يشير الى تبني أو تقليد عناصر من ثقافة أخرى دون فهم أو احترام أهميتها الثقافية، أو قدرتها على الانصهار ضمن ثقافة المجتمع السائدة، مثل استيراد القيم الأخلاقية والموجات الفكرية التي يصعب تضمينها في أفكار وقيم المجتمع، كالأفكار التي تختص "بالحق في التحول الجنسي" عند الافراد، أو قيم مشابهة تناقض تماما القيم والاخلاقيات والسلوكيات السائدة، كذلك حالات تتبع ونقل أزياء الموضة من المجتمعات الأخرى، أو تبني موضات تسريحات الشعر، أو تتبع ونقل موجات الموسيقى والأغاني والرموز والطقوس، كتلك المتعلقة في الهالوين وما شابه من طقوس، وحقنها في مجتمع غريب عن قيمها.

أما الاستيلاء الثقافي في سياق المسرح فيمكن أن يتضح من خلال تشكيل الشخصيات على المسرح، أو من خلال استخدام الأزياء التقليدية أو التاريخية أو من خلال تصوير الطقوس والممارسات الثقافية لمجتمعات أخرى دون دراسة وفهم عناصر التاريخ والثقافة اللذان أنتجا هذه الشخصيات أو هذه الطقوس والممارسات. هذا الانحراف في فهم ثقافة المجتمعات التي تدور أحداث المسرحية حولها تعزز الصور النمطية، وتهمّش عناصر الإصالة الثقافية، وتخلّ بالتوازن الثقافي والمجتمعي القائم، مما يؤدي الى تحريف وتهميش أو محو الثقافات التي يتم الاستيلاء عليها. مثال ذلك، الأزياء التي تستخدم في المسرح لتعبر عن حقبة تاريخية معينة، من مجتمع معين، دون فهم رمزية النقوش والألوان لتلك المجتمعات في تلك الحقب، بل وتُفسّر من منظور الأزمنة الحديثة. كذلك نرى المسرحيات التي كانت تتضمن شخصيات إفريقية سوداء، حيث كانت تقدم من قبل ممثلين تصبغ بشرتهم البيضاء لمحاكاة شخصية الافريقي الأسود، بما في ذلك شخصية عُطيل في مسرحية شكسبير، أو كما في المجتمعات المغلقة حيث نرى تشخيص الأدوار النسائية من قبل ممثلين ذكور مع المكياج الملائم للشخصية. وهكذا تتحول الشخصية الدرامية بخلفية كاريكاتورية ونمطية لا تحترم ثقافة الشخصية الافريقية السوداء، أو شخصية المرأة، فالأصالة هنا تتطلب أن يلعب هذا الدور ممثل من هذه الثقافة، أي ممثل أفريقي أسود، كما تلعب امرأة دور الشخصية المناسبة لها، لتعميق المصداقية الدرامية، ولإعطاء صوت للثقافات الممثلة بشكل مهمّش أو ناقص.

من المهم أيضاً الاعتراف بان الاصالة لا تعني التجانس في الثقافة الواحدة، بل العكس فهي تعني ثراء التنوع من مجموع عناصر كل ثقافة. أما الأصالة في المسرح فهي تعزيز أصوات المجتمعات المهمشة في العروض التي تشتمل درامياً على سرديات من هذا النوع، حيث إنه يمكن إبراز وجهات نظر متنوعة، من خلال هذه السرديات، متجنباً الغرق في الرمزية بهدف عرض الثقافات المغايرة والمختلفة على المسرح، بشكل واضح ودقيق ويحترم كل ما تشتمل عليه من عناصر. أما بخلاف ذلك فإن الإستيلاء الثقافي يُلغي أهمية المجتمعات المهمشة وتجاربها، ويعزز الاشكال النمطية الضارة بوجود الثقافات الأخرى. فالمسرح فضاء خطير، وقوي، وفاعل في مجال التفاهم الإنساني وتبادل الثقافات وتحدي ديناميكيات السلطة القائمة، لذلك فإن عمل المسرح يعكس دائماً آثاراً أخلاقية، خاصةً، حين يتصدى المسرح لمختلف القضايا من منظور ثقافي واسع الشمولية والأصالة.

ولكن كيف يُجسّد الإغتراب الثقافي في العمل المسرحي؟ المسرح يملك قوة فذّة لتشخيص النماذج الدرامية العالقة بين ثقافتين، أو لكـشف تلك النماذج التي تناضل من أجل تحقيق وجودهم ضمن سياقهم الثقافي الخاص في المجتمع الواسع. لإن من قدرات المسرح أن يوفر، للجمهور، منصة كاشفة لتصارع هذه النماذج مع هوياتها المتناقضة، ومع ما تفرضه الأعراف المجتمعية من قيم لا تتوافق وثقافة هذه النماذج، أو الإحساس بالخيبة من عدم تحقيق آمالهم الثقافية. كما يوفر المسرح منصة للأشخاص، ضمن الجمهور، الذي يعانون من الإغتراب الثقافي لكشف تجارب مختلفة من هذا الإغتراب ومدياته وأحيانا نتائجه. فالدراما المسرحية قادرة على معالجة الإغتراب الثقافي من خلال تسريب مشاعر التحريض على التمرد ضدّ الثقافة السائدة، والقيم والأعراف المجتمعية المتسلطة، أي من خلال تعزيز الفرص لمنح الثقافات المهمشة صوتاً مسموعاً، أي تعطيل مبررات الوضع المجتمعي الراهن بمعارضة وبنقد قدرات هياكل السلطة التي تتبنى وجود وممارسة الإغتراب الثقافي عبر تعزيز الممارسات العنصرية والتمييز الطبقي أو الأثني أو الجنسي.

هناك تطبيقات درامية كثيرة، في المسرح، يُمكن الإشارة اليها، تتراوح بين التراجيديا والكوميديا من مختلف المدارس المسرحية وعلى مدى العصور. مثال الأساليب الملحمية البريختية التي أستنبطها الكاتب المسرحي برتولت بريشت، والتي تستند أساساً على تقنيات التغريب، ومؤثرات الاغتراب للحدّ من مشاعر وعواطف الجمهور، ولتشجيع الإنغماس في بؤر التفكير النقدي من خلال كشف الطبيعة الدرامية المستترة والمبنية على أداء الممثلين، يمكن لهذه التقنيات أن تدفع الجمهور إلى التشكيك في المعايير الثقافية والسرديات السائدة التي تساهم في الاغتراب. سأشير هنا، بإيجاز، الى عشرة نصوص مسرحية كنماذج مختلفة من المسرحيات العالمية والتي تبرز كأمثلة عامة لأشكال غير متماثلة، بل متنوعة من الإغتراب الثقافي، وتفرعاته المختلفة، كالاغتراب النفسي، والوجودي، والمجتمعي، والاقتصادي، والسياسي، مع ملاحظة أن هذه الأمثلة هي فقط عيّنة بسيطة مأخوذة من ثروة هائلة من النصوص والسرديات الدرامية، ولا تمثل إطاراً نهائياً لفهم قضايا الاغتراب الثقافي.

أولاً- "بيت الدمية" لهنريك إبسن A Doll’s House:

تدور سرديات المسرحية حول حياة نورا، وهي امرأة أدركت أن حياتها، وأحلامها، وطموحاتها، كإنسانة، خاضعة لأعراف والتزامات وتوقعات مجتمعية سائدة، إضافة الى إحساسها بالمعاناة من هيمنة وسيطرة زوجها، وفقدان حريتها الشخصية واستقلالها مما يُلغي هويتها الإنسانية كإمرأة. هذا الشعور من الإغتراب الثقافي والمجتمعي يقودها الى التمرد على الوضع القائم، حيث شرعت نورا في السعي لتحقيق هويتها الخاصة والحصول على استقلاليتها الذاتية بقرارات حاسمة بدأت بالانفصال عن زوجها وهجر البيت، بغية استعادة هويتها كإمرأة. هذه المسرحية ذات أهمية كبيرة، لكشف عمق الإغتراب الثقافي في العلاقات الأسرية، وخاصة ما تشعر به المرأة، إضافة الى أنها تثير أسئلة جوهرية وصريحة حول طبيعة العلاقات الإنسانية وتشكيل هوياتها داخل الاسرة الواحدة، ودور المرأة كفاعل في المجتمع.

ثانيا- حديقة الحيوانات الزجاجية The Glass Menagerie لتينيسي ويليامز:

تدور أحداث المسرحية حول عائلة في أمريكا، في فترة الكساد الكبير في الثلاثينيات من القرن المنصرم. تعيش العائلة التي تتألف من الإبن توم، وهو بطل المسرحية، ومن والدته أماندا وشقيقته لورا، في شقة صغيرة. الام أماندا مهووسة بتذكر الماضي، وبالبحث عن خطيب لابنتها لورا، وهي شابة حسناء، وخجولة ولكنها منطوية على نفسها بسبب إعاقة جسدية، ولهذا تقضي لورا معظم وقتها باللعب بتماثيل حديقتها المصغّرة من الحيوانات الزجاجية. ينشأ الصراع المركزي في المسرحية عندما تضغط الأم أماندا علي إبنها توم للعثور على رجل نبيل كخطيب لأخته لورا. يدعو توم صديقه على العشاء للتعرف على أخته، لكن الأمور لم تجري كما مخطط لها، مما دفع لورا الى مزيد من الاعتكاف والانطواء والعودة للانهماك مع تماثيلها من الحيوانات الزجاجية. تنتهي المسرحية بقرار توم بترك البيت والسعي لتحقيق أحلامه الخاصة. تستكشف هذه المسرحية الاغتراب الثقافي عبر هشاشة العلاقات الإنسانية، والصراع بين الآمال والطموحات والرغبات الشخصية والالتزامات العائلية (أو المجتمعية)، إضافة الى استعادة الماضي والاحداث القديمة عبر ذاكرة حية ومتكررة وواهمة.

ثالثاً- "موت بائع متجول" لآرثر ميلر: Death of a Salesman

تكشف هذه المسرحية حياة "ويلي لومان" وهو بائع متجول في الستينيات من عمره، يعمل بجد ويكافح من أجل تحقيق ما يُسمى بالحلم الأمريكي. يفشل ويلي بتحقيق ما يأمله في الحلم الأمريكي من حياة مرفهة وتوفير الأسباب لحياة سعيدة لأسرته. ثم، بمرور الوقت، تبدأ ذاكرة وعقل ويلي بالتدهور، ويزداد إحساسه بالانفصال عن المجتمع والواقع الذي يعيشه، كما يزداد إغترابه الثقافي داخل المجتمع الكبير، و فيما بينه وبين أسرته. لم يعد هناك آمال وطموحات في آفاق ويلي، وتعلّم من تجاربه المتعددة بأن لا شيء في مقدوره أن يفعله لاستعادة حياة كان يأملها، وحارب جلّ حياته من أجلها. ولهذا يستسلم ويلي ويقرّ بفشله التام. كل ذلك يقود ويلي الى إنهاء حياته بالانتحار بشكل مأساوي، من أجل أن يحقق بعض الأمان لأسرته، من خلال الحصول على تعويضات التأمين على الحياة. عمل مسرحي تراجيدي معتم، تزيد أجوبته السلبية على أسئلة الإغتراب الثقافي ارتباكا وحيرة. أجوبة لا تحقق الحرية المنشودة ولا الاستقلال الذاتي ولا تحقيق الهوية.

رابعاً - "بستان الكرز" لأنطون تشيخوف The Cherry Orchard:

تدور أحداث هذه المسرحية في أوائل القرن العشرين في روسيا، وتتناول موضوعات أساسية مثل التغيير الاجتماعي، والخسارات المادية والحالة الإنسانية، كما تستكشف تراجع الطبقة الارستقراطية وقدرة الإنسان على الانكار ومقاومة التغيير الذي يُحدث الإغتراب الثقافي الذي تعيشه شخصيات المسرحية. وتتمحور سردية المسرحية حول مصير عائلة أرستقراطية شغوفة بما تملك من بيتٍ واسع يتضمن بستاناً للكرز. تتصارع الشخصيات فيما بينها لتلافي خسارة ملكية بستان الكرز بحوارات شيقة من الكوميديا الممزوجة بمأساة تنتهي بخسارة البستان وفقدان الترف الارستقراطي. تُمثل المسرحية شكلاً آخر من أشكال الاغتراب الثقافي، وهو هنا ليس فقط خسارة ملكية البستان، بل الانزلاق من طبقة أرستقراطية الى طبقة أدنى لا تتوالف فيها الأعراف الثقافية والسلوكية والترف الحياتي، مما يزيد حالات الانفصال من المجتمع والاغتراب التام في التوافق مع هيكلية ونسق المجتمع الواسع.

خامساً- حفلة اللصوص الراقصة" (أو مرقص اللصوص) لجان أنويّ - Le Bal des Voleurs:

تستكشف هذه المسرحية الاغتراب الثقافي من خلال حضور مجموعة من اللصوص الذين يشعرون بالغربة عن المجتمع ويسعون للهروب من حالتهم. تدور أحداث المسرحية في ثلاثينيات القرن العشرين في باريس، وفي أمسية رقص مقنعة، تلتقي مجموعة من اللصوص ذوي المصائر والمصالح المتقاطعة. هؤلاء اللصوص يشعرون بالاغتراب في التواصل والتآلف مع المجتمع، وبالمقابل ينظر المجتمع اليهم كأفراد غير أسوياء، باعتبارهم لصوص ومجرمين، فيتم إستبعادهم ورفضهم، مما يدفع اللصوص الى ارتكاب أفعال متمردة ضد النظام الاجتماعي القائم. في هذه المسرحية، يتجلى الاغتراب في طبيعة وشكل العلاقات بين الشخصيات، ثم أيضا في علاقتهم بالمجتمع، والأكثر من ذلك علاقاتهم بأنفسهم. تسلط المسرحية أيضاً الضوء على طبيعة وسلوك وحدود المجتمع وتناقضاته، وعما يفرزه الإغتراب الثقافي من شعور باليأس والعزلة مقرون بالتمرد على الأعراف والسلوك والأخلاق القائمة والسائدة في المجتمع.

سادساً- سوء تفاهم، Le Malentendu:

مسرحية كتبها البير كامو، تلقي الضوء على حالة الاغتراب الذاتي من خلال الغوص في عبثية الحالة الإنسانية وإنقطاع التواصل بين الشخصيات مما يقود الى حدوث عواقب مأساوية بسبب حالة سوء التفاهم التي تلف شخصيات المسرحية. تدور أحداث المسرحية في فندق صغير منعزل تديره الأم واختها. ثم تحضر الى الفندق شخصية جان، وهو الإبن الذي غادر المنزل منذ فترة بعيدة وكان متعود على السفر، ومجيئه الى الفندق كان بمحض الصدفة، ولم يتعرف هو على أمه وخالته اللتان تديران الفندق الصغير، كما لم تتعرف أمه وخالته به. وبسبب عدم تعرفهم جميعا على بعضهم البعض، وبسبب الغياب الطويل، إضافة الى عدم قدرتهم على التواصل المتبادل والإنساني الفعال، حدثت سلسلة من حالات سوء التفاهم التي انتهت الى نتائج مأساوية تصل ذروتها في قتل الابن من قبل امه وخالته. سوء تفاهم، مسرحية قاتمة، واستبطانيه تستكشف موضوعات الاغتراب الإنساني والاجتماعي، وحالات العبث والعزلة. كذلك فإن "سوء تفاهم" تفضح التناقضات والمفارقات، المتعلقة بالحالة الإنسانية، مثل الرغبة العارمة في الانتقام والجشع والتسابق نحو الثروة المحرمة، وتبرز العواقب المأساوية للتواصل السلبي الخاطئ الذي يفضي الى حالة من عدم الفهم شديدة الخطورة.

سابعاً: "الأيدي القذرة" لجان بول سارتر، Les Mains Sales

تدور أحداث هذه المسرحية حول سياسي يشعر بالغربة عن مبادئه ومُثُله الثورية واستعداده لخيانة قناعاته للوصول إلى السلطة. تدور أحداث المسرحية في بلد خيالي يُدعى إليريا، خلال فترة الحرب والثورة. يدور الموضوع حول سياسي يدعى هوغو، وهو عضو في حزب ثوري سري. هوغو مثقف مثالي يؤمن بالنضال من أجل العدالة والمساواة، تم تكليفه باغتيال الزعيم السياسي الفاسد هوديرر الذي أصبح عقبة أمام الثورة. ومع ذلك، يواجه هوغو معضلة أخلاقية عندما يدرك أن هوديرر هو في الواقع رجل نزيه ومكرس حياته لمصلحة البلاد، وبينما تتكشف القصة، يتمزق هوغو بين معتقداته الأيديولوجية وضميره. كما أنه يواجه منافسات سياسية داخل حزبه، ولا سيما مع أولغا، وهي عضوة أخرى في الحزب. في النهاية، قرر هوغو عدم قتل هوديرر لكنه تعرض للخيانة من قبل عضو آخر في الحزب وقتل هوديرر، مما جعل هوغو يواجه واقع السياسة والبدء بالتنازل عن مُثُله العليا. تستكشف المسرحية موضوعات المسؤولية الفردية والخيانة والصراع على السلطة. يسلط سارتر الضوء على المعضلات الأخلاقية التي يواجهها الثوار ويتساءل عن حدود العمل السياسي. الايدي القذرة هي مسرحية معقدة وفلسفية تشكك في مفاهيم الحرية والمسؤولية والتسوية. فهي تسلط الضوء على الإغتراب من منطلق التناقضات والتسويات المتأصلة في السياسة ويسلط الضوء على العواقب المأساوية لهذه الاختيارات، وهي في النهاية صورة قاتمة عن الاغتراب العقائدي والأخلاقي بمقابل المصالح الفردية الآنية.

ثامناً: "وحيد القرن" أو الخرتيت ليوجين أونيسكو، Rhinocéros:

تستكشف هذه المسرحية الاغتراب الثقافي عبر تحوّل سكان المدينة الى خراتيت، أي حيوانات وحيد القرن، إشارة الى فقدان سكان المدينة لفرديتهم وغياب توافقهم مع المجتمع. والمسرحية تركز على عبثية الحياة، واللاعقلانية في المنطق وفي العلاقات الإنسانية، وإنعدام المعنى للوجود الإنساني. تبدأ المسرحية بصديقين، بيرانجيه وجان، خلال محادثة بينهما في المقهى، لاحظا وجود حيوان وحيد القرن يجري في شوارع المدينة مشيعاً الفوضى والدمار. شعر كل منهما بان هذا حدث نادر ومرفوض، إنما سرعان مابدأ المزيد من الناس في التحول الى وحيد القرن. ثم يستسلم سكان المدينة واحدا تلو الآخر لمغريات أن يتحولوا الى وحيد القرن. يرمز وحيد القرن الى القوة التدميرية للحركات الجماهيرية والتجرّد من الإنسانية الذي يحدث عندما يتخلى الافراد عن تفكيرهم النقدي ويتبعون الحشد بشكل أعمى. يصبح رفض بيرانجية بمثابة نضال من أجل الحفاظ على فرديته واستقلاله، إن التمرد ومقاومة تيار التحول الى وحيد القرن هو عبارة عن استعارة لنضال الانسان ضد الفكر الجمعي في التطابق وفقدان قيم الفرد ومعتقداته. المسرحية تكشف عن الاغتراب المجتمعي عبر فقدان الهوية، وتعميم الشمولية ومخاطر الامتثال لها. يبقى بيرنجيه مصّراً في رفضه الامتثال للتيار الاجتماعي في التحول الى وحيد القرن، غير أنه يبدأ في التساؤل في نهاية الامر إن كان عليه ترك النضال والانخراط بتيار المجتمع في التحول الحيواني. المسرحية مثيرة للتفكير، وتتحدى الأعراف المجتمعية وتستكشف تعقيدات الطبيعة البشرية، الاّ أنها تثير شعورا بعدم الارتياح، لإنها تبرر التشكيك في مخاطر الامتثال الساذج للتعميم والشمولية الجمعية المعادية لفردية الانسان.

تاسعاً - "في انتظار جودو" لصامويل بيكيت En attendant Godot:

مسرحية من فصلين دراميين، وشخصيتين، فلاديمير وإستراجون، ومسرح خال من المناظر، باستثناء شجرة جرداء واحدة. تلتقي الشخصيتان بالقرب من الشجرة ويتفاعلان بمحادثات مختلفة لتمضية الوقت، يتحدثان عن بعض عناصر حياتهما، ويفكران في الانتحار وبذات الوقت، تقودهما أحاديثهما الي مزاح وهزال مضحك ومفكك. الواضح من أحاديثهما أنهما يشعران بحالة عميقة من عدم التواصل، والسوداوية وعدم قدرتهما على تلمّس جوهر ومعنى حقيقي للحياة. لذلك فهما يجلسان قرب الشجرة الجرداء ويتحدثان، وكلهم أمل أن يأتي جودو ليعطي لحياتهما الامل والمعنى الذي ينشداه. تستمر سردية المسرحية بذات الرتابة في الفصل الثاني على الرغم من دخول شخصيتين إضافيتين مختلفتين. لكن الامل في وصول جودو يتلاشى في نهاية المسرحية، فهو لن يأتي، ويتساءل كل من فلاديمير وإستراجون فيما إذا كان عليهما الانتظار ثانية أم الرحيل. تستكشف هذه المسرحية الإغتراب الثقافي القاحل الذي تعيشه الشخصيتين الرئيسيتين، وتفضح عبث الوجود الإنساني، وتهمل المسرحية العديد من الأسئلة دون إجابة، كذلك فإن الهوية الحقيقية لجودو وأهميتها الملتبسة تبقى غامضة، فالمسرحية تصور إنعكاس الحالة الإنسانية المحاصرة في دائرة الانتظار والبحث عن المعنى في الزمن والحياة، فالاغتراب هنا يشدّد على أهمية التواصل الإنساني والرفقة المجتمعية.

عاشراً - "من الرماد إلى الرماد" Ashes to Ashes لهارولد بينتر. (أو من التراب الي التراب):

 تقع أحداث المسرحية في غرفة معيشة عادية، وأحاديث بين الشخصيتين الرئيسيتين ربيكا وديفلن، يتضح من مسار الأحداث أن التجارب الحميمية السابقة لربيكا تخييم على واقعها الحالي، مما يصبح واضحاً أن العلاقة التي بينهما باتت بعيدة عن الودّ، بل ومتوترة. تتعرض المسرحية الي موضوعات الماضي، والذاكرة، والحنين المبطّن، والصدمات، والحالات التي يتنكر فيها الافراد عن ماضيهم ومن بعضهم البعض. يصور هارولد بينتر موضوعات الاغتراب والانسلاخ عن التواصل الإنساني بين الشخصيات ببراعة كبيرة، فالمسرحية تستكشف الديناميكيات المعقدة والشائكة للعلاقات الإنسانية عبر الطبيعة المتنافرة، والمجزأة، والمفككة للحوار. حيث صور بينتر الاغتراب الإنساني بقساوة من خلال عدم تسلسل الحوار، وبالصمت وبالتوقف لفترات تبدو أحيانا طويلة، وتجادل المشاهد بمشاعر من عدم الارتياح والانفصال. كذلك تستكشف المسرحية موضوع الاغتراب على مستوى مجتمعي أوسع. فذكريات ربيكا عن الحرب والعنف تنعكس على الآثار اللاإنسانية للصراع الدامي. إن الفظائع المرتكبة أثناء الحرب يمكن أن تؤدي إلى شعور عميق بالغربة، سواء بالنسبة للمشاركين بشكل مباشر أو بالنسبة للمجتمع ككل. إن تصوير بينتر لهذا الاغتراب هو بمثابة نقد للطبيعة المدمرة للحرب وتأثيرها الدائم على الأفراد والمجتمعات.

النتائج

يتضح من موجزات النصوص أعلاه التي تُبرز المسرح بإعتباره كيانًا غير متجانسًا، بل هجيناً في مناهجه في التعامل مع الاغتراب الثقافي، والتي تختلف بشكل كبير اعتمادًا على النص المحدد للمسرحية، والسياق الثقافي للمجتمع، والاساليب الفنية المستخدمة. ولعل في ذلك، بالتحديد، تكمن قوة المسرح في أن يلعب دورًا جوهرياً في تعزيز التفاهم، وتحدي الأحكام المسبقة، وتجسير الفجوات التي خلّفتها الانقسامات الثقافية وغيرها عبر بوابة الاغتراب، من خلال التجرؤ في طرح هذه المواضيع المعقدة والأفكار والمشاعر التي تنتقص من الوجود الإنساني، ومن حريته ومن اختياراته.

يشير الاغتراب الثقافي، كما تكشّف درامياً في النصوص المسرحية المذكورة آنفاً، إلى تجربة الأفراد أو المجموعات التي لا تتوافق مع ما هو قائم من معايير وأعراف سواء كانت ثقافية، أو إجتماعية، أو سياسية، أو حتى روحية، لذلك فإن هذه المجموعات تشعر بالانسلاخ التام عن القيم والممارسات والأعراف الثقافية لمجتمعهم، أو بتعميم أوسع، كل ما يمكن وصفه بالثقافة السائدة. فالاغتراب الثقافي هو أيضاً، حالة من الإدراك العميق والوعي بحقائق جديدة تقود الفرد الى القناعة بأنه غريب في ممارسة ثنايا ثقافته الخاصة، أي شعوره بأن هويته الثقافية تتعرض للانتهاك أو للتجاهل والتسخيف من قبل الثقافة السائدة والمهيمنة. ولذلك فإن إحساسه يتزايد بالابتعاد، بل والانسلاخ عن القيم والمعتقدات والتقاليد التي أطّرت شخصيته ذات يوم. هنا يبرز الدور الأساسي للمسرح في تسليط الضوء على ما يتشكل جراء ذلك من شعور مرير، وعميق بالوحدة داخل بيئة الفرد ومجتمعه، هذا الإحساس لا يمكن تجاهله أو علاجه إلا من خلال العودة الى حميمية احتضان الفرد لثقافته وما أنتجته من إرث يعتزّ به. فالمسرح هنا يسلط الضوء بشكل فعّال على الآثار الضارة والمدمرة للاغتراب الثقافي على الصحة العقلية والحياة السوية، سواء للأفراد أم الجماعات.

 ولأنّ المسرح، ومن خلال عرض السرديات وحكايا الافراد أو الجماعات التي تعاني من الاغتراب والانسلاخ الثقافي، يزيد من عمق ومناسيب الوعي لدى الجمهور بهذه القضايا، فهو يؤكد على التعاطف معها ومع معايير التفاهم المتبادل. ومن جهة أخرى، فإن المسرح يمكّن أفراد الجمهور من تلمّس ذواتهم من خلال كشف معاناة الشخصيات الدرامية التي تمثل الاغتراب الثقافي، وهو بذلك يحثهم على التفكّر والتمعن في انتماءاتهم بثقافتهم الخاصة، وبالتوافق والتفاعل مع الثقافات المختلفة. وللمسرح دور أكثر أهمية من ذلك، فهو إضافة الى ما يشيعه من وعي وإدراك لمخاطر الاغتراب الثقافي، فإنه يحرّض على التمرد عليه ومقاومته عبر منح الشخصيات الدرامية المغتربة، وخاصة المهمشة منها، صوتاً قوياً يساهم في دمجها ضمن المسار الثقافي العام، دون فقدان هويتهم الثقافية، وتعزيز احترام الذات. فالمسرح بالتأكيد هو أحد أفضل المنابر الثقافية والفنية التي تمكّن وتشجع الجمهور من الحوار الودي والإنساني بين الثقافات، فالمسرح يمنح الثقافات المختلفة الفضاء الرحيب والواسع للتعايش الحضاري وللإثراء المتبادل.

وأخيراً، فإن الاغتراب الثقافي يُنشأ تصدعات في أسوار زمن الفرد والجماعة، تصدعات يستعصي شفاؤها. لذلك فإن للمسرح دوراً جوهرياً في تشخيص وتبسيط مفهوم الاغتراب الثقافي، وإثارة التفكير النقدي لدى الجمهور حول معايير القضايا الاجتماعية والثقافية الناشئة عنه. ففي المسرح يتحول الاغتراب من مفهوم فكري وفلسفي مجرد، الى واقع مادي ملموس من أشخاص بوجوه إنسانية واضحة الملامح، وإسماء بشرية مألوفة، وأحداث من دوائر الحياة العادية، أي الى أنسنة المفهوم المجرد وإدخاله الى حضيرة ما هو اعتيادي في مجرى الحياة اليومية. فالمسرح هو عالم افتراضي ساحر، ولكنه عالم أليف وملموس. هذا هو جوهر الفن: إنه السحر السرّي، والغامض، والملتبس، ولكن المدرك، والواعي، والمتيقظ، والمحرّض.

***

علي ماجد شبو

 

في المثقف اليوم