قراءات نقدية

مهيمنة العام على الخاص في مجموعة: الجنوبيون

85 عبد الرزاق صالحالجنوبيون، ما ان يتردد صدى هذه المفردة في ذهنك، حتى تشعر بالوجع، فكل جنوب في العالم مضطهد، الجنوب ذاكرة لجسد محترق بالقهر، دلالة تسهم في تفسير المعاناة، اشارة الى جرح عميق لا يندمل، وما خفي كان اعظم من ألم وتشرد وفقر.

ان الشعر كما هو معروف تجسيد للمشاعر بالكلمات، لكننا وفي بعض الأحيان نقرأ شعراً فنجده لا يرتقي الى المستوى المطلوب، وهذا يعتبر من الفشل لدى الشاعر في ايصال صوته وما يكمنه في داخله الى القارئ المتابع، أي اننا لا نجد ما نتلذذ به وما يدخل في اعماقنا ويذوب، ثم يلتم من جديد ليؤجج احاسيسنا وانسانيتنا بمشاعر تشتعل وفق ما اراده الشاعر من سحر، يحيلنا الى عديد من العوالم تحمل في طياتها ضرباً من الانسجام بهذا المنجز، لذا فاننا نرى ان الحفاظ على جمالية النص الشعري هو ليس فقط باختيار المفردات اللغوية المنتقاة، بل بمعالجة الروح النابعة من وحي الفكرة أو الحدث الذي كتبت القصيدة بسببه، وفي هذا الابحار في مختبرات الروح الحقيقية تكمن صلابة الشاعر في اثبات نصّه في معترك الساحة الشعرية، سواء على مستوى التجربة الشخصية أو مع مجايليه، فالابتكار للذات لا يكفي لترك بصمة خاصة، انما بوجود شاعر حقيقي يجسّد الواقع بصور شعرية، تتلاقح مع الشعور الانساني، بمواقف حقيقية تلفت اليه الانظار عبر الدراسات والبحوث التي تتناول تجربته، ولكي يكتمل المشهد لابد من وجود شعر لكل المواسم، لا لموسم واحد أو مناسبة واحدة أو منبر واحد، فالشعر شعر حتى وان مضى عليه زمن طويل.

من سياق هذه المقدمة نستطيع القول باننا نحتاج الى شعر جدي ومائز لتدوين ما يعيشه بلدنا العراق حالياً من تحطيم للجسد والروح معاً، وما يتلقاه من ضربات في النزوع الفكري الثقافي والسياسي، والذي سوف يشكل مرحلة مهمة وخطيرة في مدونة تاريخ العراق بصورة عامة، ذلك فان من واجب الأديب كونه الأرقى من كل الجهات السياسية بفكره واحاسيسه ورؤياه ان يلتزم بخصائصه الانسانية كي يفشل ما يسعى اليه السلطويون من كسب مادي، وتضييع الثروات في نتائج التوتر والاضطهاد التي تحصل للشعب وكما هو معروف فان الفن الحقيقي يعد من اهم القوى الرابطة بين الشعوب.

ثراء وتميّز

حقيقة ومن خلال قراءتي لمجموعة (الجنوبيون) للشاعر (عبد الرزاق صالح) والتي طبعها في دار الينابيع/ دمشق على حسابه الخاص، وجدته يجيب على العديد من الأسئلة التي اثرتها في المقدمة اعلاه، والتي تنتابني دائماً اثناء جلسات النقاش المحتدمة مع الأدباء الأصدقاء، صراحة ان ما جاء به الشاعر لا يعتبر مجموعة شعرية وحسب، بل مدونة لحقبة زمنية عاشها العراقيون في ظل نظام دكتاتوري عفن، فالسخونة والتصادم للأفكار المطروحة جعلت من هذه المدونة مهيمناً كلياً مؤطراً بفلسفة خاصة، ارادها الشاعر ان تكون من الثراء والتميز في مولوده البكر، فعبر تسع عشرة قصيدة جمعت بين الهمّ الذاتي، الجماعي، قال عبد الرزاق صالح كلمته ومضى، تاركاً وراءه زوبعة من غبار وريح صرصر غير مستقرة، فأسلوبه في الكتابة تفرّد بوادٍ آخر عن مجايليه، سواء من ناحية مستوى الانعكاسات التأويلية أو الانتقائية الواعية في اختيار الحدث، وهو الرفض الدائم للظلم الواقع على الانسان، وايضاً على مستوى التفنن بالبناء، فقد استطاع ان يمازج ما بين روحية ومتن القصيدة بمهارة وبذلك خرجت الينا القصائد مجسدة بواقع عراقي بحت، ومن هذا المنطلق ثبّت شاعرنا وتده الخرساني ليؤشر لنا فصلاً من زمن القتلة الطغاة، ويصور لنا عذابات العراقيين.. بؤسهم وشقائهم في مواجهة الدكتاتورية الفاشية بصرخات مدوية متصلة مرتفعة تنادي :

(هناك صياح المعذبين

قاعات التعذيب وصراخ

الوافدين للموت

في المقابر المتوالية

في الثانية :

صخب انفلات المعدودين

صباحات جهنم

سوط في يد الأسود العنسي) ص 170 قصيدة الجحيم.

احساس بآلام الآخرين

نستشف من ذلك بان ذات الشاعر لم تبتعد عن الواقع المرير، فلا احزان فردية ولا طموحاً شخصياً في تأمل ما يحيط به، سلسلة متصلة من التفاعل العميق بين تجربته الحياتية الواحدة وهموم الوطن، وهو بهذا يعزز الصلة بين موضوعته التي يشتغل عليها والاحساس بآلام وفجيعة الآخرين، في الداخل حيث السجون والمقابر الجماعية والخارج حيث المنفيون في بلدان الغربة، التواقون للعودة الى وطنهم المتعب الجريح والحلم بالحرية والسلام.

(احصي المقابر الجماعية

التي بلا عدد

لأبنائك العائدين من المنافي

سيلتم شملنا ــ عما قريب

لابد ان نعود

ونزرع الورود) ص 67ـ 68/ قصيدة الناجون ـ صرخة في ليل المنفى.

سنوات القلق

يعرف المقربون من عبد الرزاق صالح انه لم يركع قط امام جبروت الطاغية، ولم يهتم لفتات هباته الرئاسية ومنحه التي كان يتصدق بها على مروجي بضاعته الفاسدة، لذلك اضطر سلوك البعض الى تجاهل نتاجه الشعري، فاضطر الى الانزواء في صومعته الرطبة في احد فنادق سوق (العشّار)، لسنوات قلقة بشظف العيش من جهة، ومطاردة زبانية الحكومة البعثية من جهة اخرى، الا انه وبعد سقوط الصنم لم يأتنا خالي الوفاض بل انجز خمس مخطوطات، تنوعت بين الشعر والدراسات النقدية وبهذا يؤكد مدى اخلاصه للخلق الأدبي مهما كانت الظروف.

ان قصائد عبد الرزاق صالح هي المرآة العاكسة لحياته الشخصية في ظل اصطداماتها المتلاحقة، مفردات تتطاير مع ريح الجنوب ليس لها مستقر، فمن حياة الفنادق الرخيصة الى سجن (الرضوانية)، ثم الاعتقال في سوريا حيث قضى في سجونها فترة من الزمن، بعد ان اجتاز الحدود بطريقة غير قانونية، نجد ان التمرد هو سمة ملاصقة له دائماً، رفض الظلم وتحمل قساوة وتبعات ما يصبو اليه في بحثه الدائم عن متنفس للحرية :

(كاد ان ينسى جناحيه

وعصاه

مدخل البوابة

التفت الى الوراء

رأى الكلاب قريبة من كاحله

الأيمن

اطلق ساقيه للريح

قفز ــ بوثبة طويلة ــ بركة ماء

التوى كاحله الأيمن

شعلة بين القرى الحدودية. (حصيبة ـ البوكمال ـ دير الزور) ص 157. قصيدة كشافات.

ان السفر في (جنوبيون) ينقلنا الى عوالم متشعبة بالكثير من الحميمية والانتماء للوطن، اذ ان هذه الثيمة شكلت الأفق السائد لمعظم القصائد، وهذه الظاهرة المخضّبة بالألم وكطرف فاعل مهيمن على الانموذج العام فتحت باباً من ابواب تجربة الشعر الذي استطاع تحويل الخصوص الضيق الى العموم المنفرج، في فضاء لا متناه عبر نصوص ابداعية حملت ابعاداً فكرية فاقت طرق التوصيل التقليدية.

 

نبيل جميل - العراق/ البصرة

 

 

في المثقف اليوم