قراءات نقدية

أطياف الذاكرة في مدينة الحجر

392 رواية مدينة حجرقراءة في (مدينة الحجر) القصصية لزيد الشهيد

تقدم "مدينة الحجر" كمجموعة قصصية ذات أفقٍ مشترك مجالاً للقراءة يكاد يكون محدداً وموجهاً إلى مستوى أساس، هو مستوى الوقوع على مكامن المتعة القرائية لا في الانزياح عن المتوقع والمألوف بل فيهما عبر توصيف موضوعات الواقع من خلال دوالٍ وإشارات تختصره وتنتهي إليه بمرجعيتها "وهو ما يتطلب استخدام أدوات تعبر عن الكل من خلال الجزء وعن الأسباب من خلال تصوير النتائج" .

واذا كانت اللغة – كما يقول ديريك والكوت – هي مجال الكفاح وليست منطقة للتراجع، فان القص في "مدينة الحجر" يسعى لتكوين عالم شديد الكثافة يتجاوز الواقع المشار إليه بمستوى هو أكثر ارتفاعاً إلى حد يمكن معه رسم ذلك الواقع وتشريح خفاياه، وصولاً إلى تأطيره وتوجيهه عبر منظومة الخطاب القصصي إلى منطقة الحلم التي تنشدها الجماعة الإنسانية الحاضنة لهذا القص . ويتم تشكيل منطقة الحلم باستحضار الماضي عبر استدعائه من الذاكرة .

إنَّ استحضار الماضي هو دعوة قوية للانجذاب إليه بديلاً عن الحاضر المحاط بالاحباطات والمراد إزاحته . وهذا هو المرتكز الأساس الذي تقوم عليه قصص المجموعة التسع. فالفعل القصصي فيها بمجمله يتحرك وفقاً لهذا المنطلق بعيداً عن المنحى الأيدلوجي المباشر؛ إذ الخلق الفني ليس فعلاً تحريضياً أو تعبوياً، ولا يصلح أن يكون موجِّهاً أو موجّهاً؛ إنما هو فعل مقاومة لضغوط هائلة ذاتية وخارجية مدركة وما ورائية يتعرض لها المبدع باعتباره بؤرة جذب لامّة لكل ما يعتري الجماعة (الحاضن الجغرافي) المحيط الطبيعي والكوني من تفاعل ومتغيرات .

وردُّ الفعل المتحقق في "مدينة الحجر" هو فعل استحضار الماضي بديلاً عن الحاضر وللتغلب على الحيز الزماني والاستبطانات الداخلية المتكررة لجأ الكاتب إلى تقنية الراوي العليم الذي يحيط الشخصية الرئيسية . والأساس في القصص التسع أي الصبي عبر إنطاقه بلغته، إذ يتحدث الصبي مستخدماً لغة ناضجة وتحليلية تتجاوز مدركاته ووعيه كصبي، ممّا يشي بأن الراوي هنا هو رجل ناضج وليس صبياً، وأنَّ ما يقوم به من قص هو استعادة لحياته الماضية .

تتحرك الشخصية المشتركة لجميع القصص _ أي الصبي _ في مسار محدد (من الآن إلى الزمن الماضي) ويتم التحرك عبر عدة محاور :

الأول بواسطة لغة القص التي يستخدمها الصبي .

الثاني من التركيب العام للمجموعة . إذ تأخذ قصة " مدينة الحجر " موقع القصة الأساس التي تقوم عليها أبنية باقي قصص المجموعة كما هو الواقع حيث الوركاء / مدينة الحجر هي الأساس التاريخي للحاضن الجغرافي الذي أنجزت المجموعة ضمن حدوده وإطاره .

الثالث وتجسد هذا المحور في الاتجاه إلى الماضي عبر مجرى الأحداث في جميع القصص تقريباً وفي معطيات القراءة الكلية لهذا المنجز القصصي .

ففي قصة " مدينة الحجر " يتجه الأولاد وبضمنهم الراوي / الصبي إلى آثار الماضي رغم كوابح الحاضر وموانعه متمثلاً بالآباء ومعتقداتهم عن هذه المدينة واستحضار الأولاد لذلك الماضي العميق عبر توقيع أسمائهم على لوحة المنطقة الأثرية لمدينة الوركاء ويبرز دور الحارس كعامل دفع لهذا الكشف مماثلاً لدور الدكتور في قصة " القرار " ودور مدير المدرسة في قصة " نحن والزورق " . ومن منطق نقدي سيميائي فهو يؤدي دوراً معادلاً لما أدّته الوسائط التي ساعدت الصبي في استكشافاته في القصص التسع كالزورق في قصة " نحن والزورق " و" القرار " والباص في قصة " بقايا حلم " وغيرها .

إن ما تقصده القراءة بالاتجاه إلى الماضي لا يعني نكوصاً قدر ما يعني سعياً باتجاه القادم والتمتع باكتشاف مجاهيله . ولعل قصة "الوباء" المكونة من قصتين أو حدثين قصصيين هما حسب ترتيب وقوعهما " القرية والمعدان" ثم "القرية والغجر" . هذه القصة هي الأقرب إلى تشكيل هذا الفهم؛ إذ يمارس الراوي الصبي هنا صنعة كشف الحقائق في حين يؤشر اتجاهه إلى الماضي عبر اتجاه السرد من قصة القرية مع الغجر إلى قصتها مع المعدان . إن نجاة الاولى في قصة " (آه نجاة) تمثل ماضياً يحاول الصبي استرجاعه من نجاة الثانية ؛ المرأة التي استحوذ عليها كريم المتمدن . ولعل كريم هنا اشارة موحية إلى المدينة المخيبة والتي اطلعنا عليه في قصة (بقايا حلم) و تبّون في قصة (تبّون والحصان) الذي يرفض بيع تمثال الحصان المعدني إلى المرأة الأجنبية رغم إغراء السعر الذي قدمته له ؛ يقدمه إلى الشاب المحلي بما يقارب المجان ومع هذا الفعل ينفتح الحدث القصصي باختراق المألوف وطيران الحصان المعدني وتحليقه كما حلقت الطيور بعد أن نالت خلاصها من الصياد على يد " سعد " . إنَّ هذا الخلاص التي تتصاعد نغمته في القصص الأخيرة من المجموعة يشي باقتراب الخلاص الكلي وتحقيق يواوبيا الماضي المنشود . في قصة (ذاكرة الأرض) خلاص آخر يتحقق من " جبار السمسار " والذي يحاول سلب ارض القرية ؟ ولا شك أن عمل "جبار" كان ابتعاداً عن الأرض / أي عن أساسها الأول / مدينة الحر، وتحقق إزاحته / قتله، استحضاراً آخر للماضي المتجه إليه .

إن الفن "الفن الحقيقي هو الذي يسلط الضوء على الوجه القبيح المتراجع"، هذا قاله كافكا. ونقول في ختام لا بد منه من لقراءتنا لهذا المنجز القصصي الجاد والذي حددت موجهاته القرائية المجال الذي تم تناوله مع افتراض بل تأكيد وجود مجالات غير ما تم تناوله في هذه القراءة الموجزة مما يستدعي التأمل ويقترح التأويل .

 

جابر خليفة جابر

 

في المثقف اليوم