قراءات نقدية

الرؤية الوجودية في قصيدة محمود درويش: لا شيء يعجبني

فيصل عبدالوهابلا شيء يعجبني

يقول مسافرٌ في الباصِ لا شيء يعجبني، لا الراديو

ولا صُحُفُ الصباح ، ولا القلاعُ على التلال.

أُريد أن أبكي ..

يقول السائقُ: انتظرِ الوصولَ إلى المحطَّةِ،

وابْكِ وحدك ما استطعتَ ..

تقول سيّدةٌ: أَنا أَيضاً. أنا لا

شيءَ يُعْجبُني. دَلَلْتُ اُبني على قبري،

فأعْجَبَهُ ونامَ، ولم يُوَدِّعْني ..

يقول الجامعيُّ: ولا أَنا ، لا شيءَ

يعجبني. دَرَسْتُ الأركيولوجيا دون أَن

أَجِدَ الهُوِيَّةَ في الحجارة. هل أنا

حقاً أَنا؟ ..

ويقول جنديٌّ: أَنا أَيضاً. أَنا لا

شيءَ يُعْجبُني . أُحاصِرُ دائماً شَبَحاً

يُحاصِرُني ..

يقولُ السائقُ العصبيُّ: ها نحن

اقتربنا من محطتنا الأخيرة، فاستعدوا

للنزول ..

فيصرخون: نريدُ ما بَعْدَ المحطَّةِ،

فانطلق!

أمَّا أنا فأقولُ: أنْزِلْني هنا .

أنا مثلهم لا شيء يعجبني، ولكني تعبتُ

من السِّفَرْ.

 

النقد:

نعرف محمود درويش شاعرا مقاوما في مطلع شبابه  واندفاعه  مع زخم الثورة  الفلسطينية  ومقاومتها للإحتلال . لكن ذلك بدأ بالتراجع شيئا فشيئا وخاصة بعد سلسلة من المساومات والإتفاقيات التي حجمت من زخم الإندفاع نحو القضية.، بالإضافة إلى تقدمه بالعمر وإحساسه أن الموت أقرب إليه من حبل الوريد. ويتجلى ذلك في هذا النص الذي يوحي برؤية وجودية تتعدى حدود القضية الفلسطينية باعتبارها حدثا عابرا ليتسع المدى ليشمل الكون وفلسفة الوجود.

يطالعنا النص بعنوانه الذي يشي برؤية الوجودي المتقزز من كل شيء يصادفه فلا شيء في الكون يعجبه. ثم يبتدئ النص بتقديم "الباص" كرمز متعارف عليه ليمثل رحلة الحياة للشاعر أو المتحدث والمسافرين الذين نتعرف عليهم كمجموعة وأفراد يتحدث كل منهم ليمثل جانبا حياتيا أو فلسفيا. فالمسافر الأول لا يعجبه " الراديو ولا صُحُفُ الصباح ، ولا القلاعُ على التلال" وهذه التشكيلة تضم الإعلام والعسكر. فالراديو يردد أخبار السلطة وينطق بلسانها وكذلك صحف الصباح التي لا تحتوي صفحاتها سوى الآلام والكوارث والإنتفاضات ومن هنا تأتي الرغبة للمسافر في أن يبكي ، حينها يجيبه السائق الذي يصفه المتحدث ب"العصبي" لاحقا وهو يرمز ربما للقدر:

 انتظرِ الوصولَ إلى المحطَّةِ،

وابْكِ وحدك ما استطعتَ

أي لا أحد يهمه بكاؤك والقضية الفلسطينية أصبحت خبرا عاديا في الإعلام ولا أحد يهتم بها مثلما كان في السابق.

ثم ينتقل النص إلى مشهد الأم وابنها الشهيد ويعرضه بطريقة أشبه بما نراه في مسرح العبث لبيكيت وأرابال ويونيسكو وغيرهم. فالأم تأخذ ابنها إلى قبرها ولكن المقام يعجبه فيأخذ مكانها ويتركها دون وداع. نحن نعرف أن الأم بحكم السن تموت قبل أولادها ولكن نداء القضية يستلزم موت الأبناء قبل الأمهات في ميادين المعارك وهم بعيدون عن أهاليهم دون إلقاء تحية الوداع. وقد رسم الشاعر هذه الفكرة على شكل صورة سوريالية جردها من الإغراق في العاطفية ولكنه قدمها بصورة مؤلمة عوضا عن ذلك.

والمسافر الثالث هو الطالب الجامعي الذي يدرس علم الآثار أو الحجارة التي تؤشر التاريخ لكنه لم يجد الهوية في الحجارة:

يقول الجامعيُّ: ولا أَنا ، لا شيءَ

يعجبني. دَرَسْتُ الأركيولوجيا دون أَن

أَجِدَ الهُوِيَّةَ في الحجارة. هل أنا

حقاً أَنا؟ ..

وهنا يثير الشاعر أو المتحدث الشك فينا فهل يا ترى أن الجامعي هنا فلسطيني أم إسرائيلي؟ فإن كان فلسطينيا فلماذا لا يتعرف على هويته في الحجارة وكل الدلائل الآثارية والتاريخية تشير لذلك؟ وإن كان إسرائيليا فربما لا يجد حجارة هيكل سليمان التي يبحث فيها عن هويته حسب عقيدته. ومهما يكن من أمر فالصورة العبثية هنا تشير إلى أنه لا قيمة للحجارة في تحديد هوية الفرد. وهنا يرتقي الفرد عن جذوره ليتماهى مع الإنسانية في بحثها عن وجودها ولغزه المحير.

أما المسافر الرابع فيعود بنا إلى الطالب الجامعي وتحديد هويته ويذكرنا أيضا بقصيدة محمود درويش الأولى عن الهوية "سجل أنا عربي". فالجندي يحاصر أشباحا تحاصره بالنهاية. ولا يمكن تصور هذا الجندي إلا أن يكون من الجنود الإسرائيليين الذين يحاصرون الفلسطينيين لكن هؤلاء الفلسطينيين هم كالأشباح يراهم في كل مكان وبالنتيجة يكون محاصرا بهم:

ويقول جنديٌّ: أَنا أَيضاً. أَنا لا

شيءَ يُعْجبُني . أُحاصِرُ دائماً شَبَحاً

يُحاصِرُني ..

ويتراءى لنا مجموع المسافرين في المشهد الأخير حين يخبرهم السائق بوصولهم إلى المحطة الأخيرة وهي الموت أو النهاية لكنهم يرفضون النزول ويواصلون الحياة باستثناء المتحدث أو الشاعر الذي تعب من السفر والذي يفضل الموت أو الراحة الأبدية:

يقولُ السائقُ العصبيُّ: ها نحن

اقتربنا من محطتنا الأخيرة، فاستعدوا

للنزول ..

فيصرخون: نريدُ ما بَعْدَ المحطَّةِ،

فانطلق!

أمَّا أنا فأقولُ: أنْزِلْني هنا .

أنا مثلهم لا شيء يعجبني ، ولكني تعبتُ

من السِّفَرْ.

والإشارة الأخيرة في النص لا يمكن فهمها على أنها تعب من الكفاح أو النضال في سبيل القضية  وحسب وإنما هي إحساس بعبثية الجهد الإنساني كأنه سيزيف يدحرج صخرته إلى قمة الجبل ولكنها سرعان ما تنحدر نحو القاع ليعاود محاولته العبثية. ومع ذلك فإن المقاربة بين المسافرين الذين يواصلون المسيرة في درب الكفاح والمتحدث اليائس تشير إلى أن الجهد الجماعي مازال يعول عليه وأما الجهد الفردي فلا يمكن أن يكون إلا عبثا.

 

د. فيصل عبد الوهاب حيدر

 

في المثقف اليوم