قراءات نقدية

الوصايا رواية تدعو إلى تحمّل الألم والتخلّي عن المُتع العابرة

عدنان حسين احمدمن روايات "القائمة القصيرة" لجائزة "بوكر" العربية

تنتمي رواية "الوصايا" الصادرة عن "الكتب خان" للكاتب المصري عادل عصمت إلى "رواية الأجيال" أو "الرواية النهرية" بتعبير الكاتب والروائي الفرنسي رومان رولان، وثمة أمثلة كثيرة على الرواية النهرية في الأدب العربي مثل ثلاثية نجيب محفوظ، ورباعية شمران الياسري، وخماسية عبد الرحمن منيف. وهذه الرواية هي أشبه بالنهر الكبير الذي تصبُّ فيه فروع وجداول كثيرة تجعله يتدفّق بقوّة من المنبع إلى المصبّ. وعلى الرغم من أنّ "الوصايا" رواية واحدة وليست سلسة من الروايات كما هو الحال في "البحث عن الزمن الضائع" لمارسيل بروست، أو "الكوميديا الإنسانية" لبلزاك، إلاّ أنها رواية أجيال متعددة، وشخصيات وأحداث متنوعة تمتدّ من عشرينات القرن الماضي حتى الوقت الحاضر، ولعل شخصيتي الجد والحفيد تستشرفان المستقبل، وتقدّمان تعريفًا منطقيًا للحياة من خلال بحثهما المتواصل عن الحقيقة أو سعيهما للخلاص عن طريق تحمّل المشقّة، ومحاربة المتع الجسدية الزائلة، والتخلي باعتباره أعظم الفضائل.

تكتظ الرواية بالأحداث والشخصيات الرئيسة مثل الجد عبد الرحمن سليم، وحفيده الذي لا نعرف اسمه على مدار الرواية لكنّ المدقق في قراءة النص سيكتشف أنّ هذا الحفيد هو ابن عبدالله الذي ارتأى والده الشيخ عبد الرحمن أن يعمل في "الغيط" بعد أن انقطع ولداه صالح ونعيم إلى الدراسة وتحصيل العلم. لم يشأ عادل عصمت أن يخوض في السياسة أو يتورط فيها لأنها تشدّه إلى الواقع كثيرًا وتحرمه من ملَكَة الخيال. وبما أنّ الروائي خرّيج قسم الفلسفة ومُدرك للكثير من معطياتها فقد ارتأى أن يرصّع نصّه السردي بشذرات فلسفية بعضها صعب وعويص من قبيل "نحن مجرّد سديم، يتجمع ثم يتبدّد"، وبعضها الآخر سهل يسير الفهم يرسم صورة منطقية يستوعبها عقل العامة من الناس، يحضّهم على التفكير، ويساهم في إعمال أذهانهم خاصة حين يتحدث عن التاريخ ويصفه بأنه "عبارة عن ناس تُولَد وتنجُب وتتعب ثم تموت".

يحتاج النص السردي الناجح إلى شكل متفرّد يوفر للقرّاء عنصر الإقناع الفني، فالمسافة التي تفصل بين بوح الجد لحفيده وموته هي يوم واحد فقط، ففي يوم الأربعاء المصادف 20 ديسمبر 1978 استدعى الشيخ عبدالرحمن سليم حفيده وأخبره بأنه سوف يموت يوم الجمعة الموافق 22 من الشهر ذاته، وليس أمام الجد سوى يوم واحد يتيح له أن يكشف كل الأسرار التي خبأها عن الجميع على مدى سبعة عقود تقريبًا. وبما أنّ هذه المهمة مستحيلة فقد لجأ الكاتب إلى حيلة فنية تتمثل بنقل خلاصة تجاربه الحياتية الواسعة على شكل وصايا عشر تبدأ بالخلاص في المشقّة، وتنتهي بالتخلّي، وما بينهما هناك وصايا أخرى تتعلّق بالفرح، والحزن، والمحبة، والمُتع العابرة وتحمّل الألم، وما إلى ذلك.

تشكِّل الوصايا العشر الهيكل المعماري للرواية لكنها لا تشترط زمنًا خطيًّا، ولا تفترض أحداثًا تتابعية لأن الكاتب أراد أن يلّم بالكثير من الأحداث التي تأخذ أشكالاً دائرية مثل البذرة التي تموت لتصبح نبتة وغصنًا وورقة وزهرة ثم تتحول إلى ثمرة تحتوي بداخلها على بذرة جديدة، وهي أقرب إلى دورة الإنسان الذي يولد طفلاً، ثم يشبّ، وينجب، قبل أن يهرم ويموت لكنه يستمر من خلال ذرّيته وإنجازاته التي يخلّفها وراءه قبل أن يمضي إلى المجهول.

تعتبر "الوصايا" رواية ريفية بامتياز رغم أن بعض الوقائع تحدث في مدن وبلدات متعددة، وقد ترك هذا التنوع المناطقي أثره على لغة الرواية التي استعانت بالكثير من المفردات الريفية التي وجدت طريقها إلى النص السردي من دون أن تُخلّ باشتراطات اللغة الفصحى.

يمثِّل الشيخ عبدالرحمن سليم وشقيقه نعيم الجيل الأول، وقد تزوج عبد الرحمن من خديجة التي أنجبت له ستة أولاد، مات اثنان منهم وبقي أربعة على قيد الحياة وهم عبدالله وصالح ونعيم وفاطمة. وإلى جانب زوجته كان الشيخ عبدالرحمن يحب السيدة كوثر، زوجة صديقه نور الدين، لكنه لم يقترف إثمًا لأنه أيقن ببصيرته الثاقبة أن المتعة عابرة مهما طال أمدها لكنها ظلت مثل الواحة في حياته العاطفية الجدباء، ولولا وجودها الفيزيقي لارتبكت حياته تمامًا.

يحاول هذا الشيخ أن يُخضع الأسرة برمتها لمشيئته، ويروّضها على قبول أفكاره التي تنتمي لزمان غير زمانهم لكنهم يتمردون عليه، وينفضّون عنه تباعًا. يتزوج عبدالله من صفيّة، ويقترن صالح بفادية، ويرتبط نعيم بسعاد البندريّة التي تنقل بذرة الاحتجاج والتمرّد من المدينة إلى القرية. وبموازاة الأولاد هناك علي سليم، ابن شقيقه نعيم الذي يلعب دورًا مهمًا في تصاعد الأحداث. يتزوج علي سليم في بداية الأربعينيات من نبيّة التي تُرزق بثلاثة أولاد وهم فادية وجمال ويوسف ثم يموت متأثرًا بمرض عضال. لم يلتجئ عادل عصمت إلى المعطيات السياسية وإنما لاذَ بمنظومة العقائد والتصورات الخرافية التي تنتعش في المجتمع المصري، وخاصة في الطبقات الاجتماعية التي لم تنل حظًا وافرًا من التعليم، فقدّم لنا شخصية الأم، السيدة خديجة التي تعتقد بأنّ دارهم مسكونة، وأنها تخوض نزاعًا مع "مِنْ لا اسم لهم" لأنهم يريدون أن يطردونهم من الدار ويقيمون فيها.

ينغمس عبدالله بالعمل في "الغيط" إلى جانب علي سليم، بينما يذهب صالح إلى "الكُتَّاب"، ومنه إلى كليّة علوم الدين، ويتزوج على وفق مشيئة أبيه من فادية علي سليم قبل أن يصبح إمامًا ويُبعث إلى نيجيريا في أول تصدّع تشهده العائلة. أما نعيم فقد أصبح مُعلِّمًا لكنّ الحكومة ساقته للجبهة وأصيب بطلقة في كتفه، ثم تزوّج من سعاد، مدّرسة العلوم التي تسكن في الشقة المجاورة لهم في طنطا والتي تجد صعوبة في الاندماج بحياة القرية.

أما الحفيد أو "الولد الساقط" كما يناديه جده لأنه سقط في امتحانات كلية الزراعة، فسوف يصبح مدرّسًا في مدرسة طنطا الزراعية، ثم يحصل على الدكتوراه في علم أمراض النبات.

تتظلّم نبيّة لأن الشيخ عبدالرحمن أخذ منها الحسابات وأسندها وأسندها إلى ابنه نعيم، وترك لعبدالله تصريف شؤون الأرض، أما هو فقد انصرف للتأمل، والعبادة، وتدبير شؤون الناس الاجتماعية والقانونية.

يموت صالح ويُدفن في القاهرة لكن شقيقته فاطمة تقرر دفن جلبابه في مقبرة العائلة التي مات فيها الجد ثم أعقبته السيدة خديجة. الخطأ الكبير الذي ارتكبه الجد عندما هدّم البيت القديم وبنى إلى جواره منزلاً جديدًا. أما الأرض التي ضاعت في الثلاثينات، فقد أعادها الشيخ عبدالرحمن بعد مشقة متواصلة لكنه قرر توزيعها وهو حي يرزق مؤكدًا وصيته الأخيرة التي تقول بأن "التخلّي هو أعظم الفضائل"، وهكذا فقد تخلّى عن البيت، والأرض الزراعية، والمتع العابرة في الحياة لكنه ظل يقاوم شهواته حتى الرمق الأخير لأنه حين مسك يد كوثر أول مرة، وكاد أن يرتكب المعصية "انطلق صراخ وصفير فأدرك أنها علامة" هزّته من الأعماق فعاد إلى رشده من جديد. توحي هذه الرواية بأن شخصياتها ليست ورقية وإنما هي من لحم ودم، ومشاعر وإحاسيس دفّاقة ويمكن تحويلها إلى مسلسل أو فيلم سينمائي ناجح لأنها تتوفر على الصدق الفني الذي يُعدّ من بين اشتراطات العمل الأدبي الناجح.

 

لندن: عدنان حسين أحمد

 

في المثقف اليوم