قراءات نقدية

قراءة نقدية في قصيدة : يا موت للشاعر جمال مرسي

منذ بدء الخليقة والموت يتربّص بالإنسان ويقوّض أحلامه في عالم موعود بالغياب والفقد والتلّاشي.

موت ليس يأبه بالأحلام والأمنيات ولا يهتمّ للمواقيت ولا للمواعيد. كوحش يأتي على الأخضر واليابس.

ويحصد السّنابل الغضّة والنّاضجة لا فرق. وأمام هذا المارد الأعمى لم يجد الإنسان غير الفنّ يقارع به العدم. نحتا كان أو رسما أو نغما.

وكان الشّعر عند العرب خير ملاذ يبثّه الشاعر شجونه وأحزانه ويتصدى به صولة الفقد والغياب .فيسعى إلى تخليد الرّاحلين عبر القوافي والأاشعار

وها نحن إزاء نصّ شعريّ ...مرثية للشاعرد.جمال مرسي .... بثّ فيها عصارة أحزانه وأشجانه تخليدا لذكرى فقيده وبن عمّه

"رحمك اللّه يا هشام "

القصيدة رغم حداثتها استجابت لرّوح الشعر العربي الصّميم واستبطنت بنية المرثية العربية التقليدية والتي يتوزعها التفجع والرثاء والعزاء او السلوان ,لان الموت في نهاية الأمر يبقى مستجيبا لقوانين انسانية تقتضي أن يملكنا الجزع والحزن لفقد من نحب ويحتم علينا التذكر ان نسرد مناقب الفقيد وماثره .ولابد في نهاية الأمر من الّببر والتّسلي لأنّ الانسان كائن هش لا حول له ولا قوة أمام جبروت الموت وصولته..واذا تأملنا القصيدة ألفيناها قابلة إلى مقاربات شتى .

فالقصيدة يتوزّعها معجمان بيّنان

الأول ينتمي إلى السّجل الوجداني الإنفعالي من قبيل"أشكو...أـشتكي حزني .. الحرمان... الأسى ...دمع العين ...دماء تسفك. تفجعني. بحور ادمعنا ..ادمى الأسى الجمر"...

أمّا المعجم الثاني الذي حذا فيه الشاعر حذو أسلافه من الشعراء المفجوعين الرثاة فهو معجم التأبين أي ذاك الذي يهرب فيه الشّاعر من لحظة الحاضر الموسوم بالفقد إلى الماضي المطبوع بالحضور وفيه سيجد الشّاعر ملاذ التّذكر والامتلاء الوجداني بما يعدّده من خصال المفقود ,خصالا من شأنها أن تخلّده وأن تجعل منه أيقونة قيّم ومُثُل لا تبيد وهذا بين نلمسه في ذلك الانتقال الزّمني من اليوم إلى الأمس....

بالأمس قد غرست يمناك بذرتها

واليوم نحصد ما خلفت من غرس

واذا تأمّلنا الصّورة التي رسمها الشّاعر للفقيد ألفينا المعجم ينهل من معين أخلاقي صرف وهو ما يضمن لسيرته التّواصل والخلود.

فهو لئن باد جسدا فإن بستان أخلاقه ظل مزدهرا رييّنا يهرب رواءه للناهلين

اللّسان رطب بالاذكار متعفّف عما يشين

والنفس مترفعة عن الصغائر ما يرتقي بها لتعيش بجوار النبيين والشهداء

والخير هو النذهج الذي اختطه لنفسه لبس يحيد عنه ابدا.

وما كان الشاعر لينسى أن يضمّد جراح نفسه وشعره بما يسمّى عزاء في قصيدة الرثاءوهو قسم بطول ويقصر ويأتي عادة بعد التأبين ,وهو ترجمة عن واقع الحال البشري ازاء الموت ذلك ان التّفجّع مهما كانت حدّته وسوْرتُه فإنه لا يدوم وما على الفاقدالا أنْ يتأقلمَ مع رحيل مفقوده لأن ذلك من سنن الوجود

والموت ما هو الا الوجه الآخر للحياة لذلك لا بد من الصّبر والاصطبار وهو ما نلمسه في قوله

"أستغفر الله قد ادمى الاسى لغتي. "

وفي قوله أيضا

"ليس اعتراضا على أقدار من خضعت

له الجبابر من عرب ومن فرس"

ويبلغ التّأسي ذروتهَ عندما يتحوّل البكاء والنّشيج إلى دعاء بالرحمة في ثقافة إسلامية وعدَتْ بالنّشور وجنّات النّعيم خاصة لمن زرع بذور الخير وظلّ لسانُه رطبا بالذّكر كحال الفقيد.

لكننا نلمس ان التّفجّع ظل يصاحب الشاعَر لم يغادره في مختلف اقْسام النص وهو ما يعبّر عن منزلة المرثي في نفس الراثي .

فرغم محاولة الشاعر ركوب صهوة العقل والتبدي بمظهر الحكيم المؤمن بقضاء الله وقدره فإن القلب ظل جذابا له مسيطرا على معجمه المفعم بالمشاعر والأحاسيس

.

لَــكِـــنَّـــهُ الــفَـــقـــدُ للأحبابِ أرَّقني

و وَقْــعُ آثَــارِهِ كالجمر فِـــي نَـفـسِـي

فالمقطع يشوبه احساس موجع والكلمات التي استعملها الشاعر نابضة بالأسى ..

فعندما يكون للفقد آثار الجمر في النّفس يعي المتلقي عمق حزن شاعرنا ايزاء هذا المصاب الجلل

بِــالأَمــسِ كُــنـــتَ أيا ابن العمِّ تؤنسنا

و اليومَ نحيا على ذكراكَ بالأمسِ

وعندما يُدوي الفقد والغياب ويستأثر "اليوم "بما حفل به الأمس تصير ذاكرتنا في الغائبين والرّاحلين زاخرة من معين متدفّق بهم ..

أختم بالقول أنّ مرثية د.جمال مرسي في بن عمّه قد استجلت الحس والشعور المرّ بالموت والفقد ..واعتبرها من اقوى المراثي التي أشاع في مقاطعها فيض حزنه وشجنه بما أكسبها بذاخة الوجع ....

رحم الله فقيدكم شاعرنا القدير ..وإنّا لله وأنّا إليه راجعون

 

منوبية غضباني – تونس

..............

للاطلاع على القصيدة

 ياموت / جمال مرسي

http://www.almothaqaf.com/b/nesos2019/946306

 

 

في المثقف اليوم