قراءات نقدية

يحيى السماوي في محراب الحب والأسطورة والجمال (2-2)

مفيد خنسةقدر الشاعر أنه جاء إلى هذه الدنيا من غير أن يختار إلى أين جاء، ولا إلى عند من جاء، ومع من جاء، لم يختر بلده أو أهله، لكنه يبقى وفيا للمكان الذي ولد فيه، ويبقى معتزا بالأهل الذين عاش معهم، إنه كالطائر مهما تغرب، فإنه يعود إلى بيته الصغير، ومهما ترحل وتنقل يبقى حنينه إلى حيث كانت الطفولة والأحلام الصغيرة التي بقيت معه تختزن الطفل الذي يأبى أن يكبر فيه، لا يدري من اختار الآخر الشعر أم الشاعر؟ .

قدر الشاعر أنه يبقى صاحيا حتى لو تغافل الجميع، قدره أن يعلن مسؤوليته عن العالم الواسع في الوقت الذي يهمله فيه محيطه الأضيق، قدره أن يحزن حين تميل الوردة عن ساق بهائها وتسقطها ريح ظالمة، وأن يفتح نوافذ الأمل حين تغلقها القلوب القاسية، قدر الشاعر ألا يقبل بالمساومة وأنصاف الحلول، وأن يكتب بقلبه عن الأحلام التي أرادها الطفل الصفير في تلك القرية النائية وهو يطير طائرته الورقية على المنحدر، قدر الشاعر أن يرفض كل هذا الركام من الزيف والخداع والمراوغة، وأن يرفض كل أشكال الظلم والقهر والبغي، أن ينتصر للفقراء والمستضعفين، قدره أن يرى ويعرف، قدره أن يكون صادقا حين يكذب الآخرون ولا يعرفون طريقا إلى الصراط، إنه يوغل عميقا عميقا في التاريخ، ويطوف عبر الجغرافيا، ويقلب الأساطير، ويستخلص العبر، إنه لا يهدأ يبحث ويتعلم، يتساءل ويسأل ويقرأ، وهو وحده يعرف كيف يُنطق الصامت ويحرك الساكن، إنه يعيش القلق الذي يملأ هذا العالم ويرفضه، ثم يحاول أن يرسم عالما آخر موازيا وإن كان محض خيال، إنه يغادر الحسي الى المتخيل، ويحيل الحاضر إلى الغائب أو المستقبل، إنه يحاول أن يبدع نصا يحقق له هذا التوازن المفقود بينه وبين العالم الذي يعيش، والعالم الذي يريد، وحين يصطدم بالواقع المرير فإنه يلجأ إلى المجاز للتعبير عن مكنونات نفسه المتألمة، وهو كلما كان أكثر موهبة وأكثر عاطفة كلما ازداد إحساسه بمحنة التجربة الانسانية القاسية، أرى نفسي مدفوعا دفعا وأنا أقدم للحديث عن تجربة الشاعر العراقي يحيى السماوي من العراق الشقيق، سليل الحضارة والتاريخ والأسطورة والشعر، ابن السماوة وحضارة ما بين النهرين العظيمين، وإن كنت أعترف بأن فيضا من المشاعر الإنسانية التي لا أكاد أحسن أن أوقفها من أن تنسكب أمامي بين هذه الكلمات، فهذا العراق، العراق المحنة والحرب، العراق مهد الفراتين، لكنني سأحاول أن تكون دراستي التطبيقية على قصيدته (تضرع في محرابها) التي اخترتها من مجموعته الشعرية، (نهر بثلاث ضفاف):

الفرع الأول:

يقول الشاعر:

(للسومرية ربةِ الأمطارِ / والعشبِ /

الجمالِ / العشقِ – إينانا –

طباعُ النهر حين تسيرُ

تأبى الالتفاتَ إلى الوراءِ ..

ومثل سهمٍ غادر القوس الأصيلَ

تغذُّ سيرا للأمامِ

لها جنون عاقلٌ

فهي الدواء لعقلي المجنونِ

إن عصفت رياحي العاتيةْ) .

في هذا الفرع يبين الشاعر صورة السومرية – إينانا – وهي إلهة الحب والجمال والغواية والجنس والحرب عند السومريين، وعقدته الرئيسة، السومرية إينانا الآلهة، وشعابه الرئيسة: (طباع النهر حين تسير) و(لها جنون عاقل) و(فهي الدواء لعقلي المجنون) أما الشعاب الثانوية فهي: (مثل سهم غادر القوس الأصيل) و(تغذَّ ّ سيرا للأمام) و(إن عصفت رياح عاتية) .

في المعنى والبيان:

الأسلوب في هذا الفرع خبري، وقوله: (للسومرية ربة الأمطار / والعشب / الجمال / العشق - إينانا – طباع النهر) يشير في الأهمية ليس لأنها – إينانا- وإن كانت ربة الجمال وإنما إلى سومر والحضارة السومرية التي تعتبر أقدم حضارة إنسانية في التاريخ البشري، وهذا التقديم ليعني أن الشاعر هو سليل تلك الحضارة العريقة، وهو وريثها الشرعي وهو الشاعر القادم من عمق التاريخ المجيد ويليق به أن يستحضر معه ذلك الإرث الأصيل، إينانا، التي عرفت بجمالها الذي يسحر القلوب ويسلب العقول، ومن غير الشاعر يحسن وصفها واستحضار حسنها؟ إنها إينانا، التي من يقترب منها تصبه لعنة الموت أو الحزن العظيم، لكن الشاعر سيغامر ويقترب ويفعل ما يريد فإنْ كانت آلهة الجمال، فالجمال نفسه يحتاج إلى من يراه ويقدر قيمته، فما نفع الجمال إن لم يتمتع به العشاق وأهل الذوق الرفيع، والشاعر هو سيد الكلام في الجمال والغزل والحب، إن التعظيم لصورة إينانا في الحقيقة هو إعلاء لقيمة الشاعر والشعر، فهو وإن بدا عاشقا لها، فإنه العاشق المقابل في الضفة الأخرى، والضفاف الثلاث للنهر في معنى من المعاني هي إينانا والضفة الحضارة والشاعر، لكن أن يكون لإينانا (طباع النهر) هنا يكمن سر التعبير الشعري، فكما أنه من طبيعة النهر إظهار صورة اللطف والجمال، حيث الماء والخضرة والخير للناس، فكذلك من طبيعته أيضا إظهار صورة الغضب، حيث الفيضان والخراب وأذى الناس، وقوله: (حين تسير تأبى الالتفات إلى الوراء) يبين هنا أنه اختار من طباع النهر ما يريد وصفا لها، ليجعلنا نستبعد الصفات الأخرى التي استحضرتها الجملة الشعرية السابقة، ونبقي على صفة السير في اتجاه واحد من دون أن تتراجع أو تلتفت إلى الوراء مهما كان الأمر، وهذا يتعلق بطبيعة حركة النهر حقا لذك استخدم الشاعر مفردة (الطبع)، والطبع صفة ملازمة أصيلة وليست صفة مكتسبة و(الطبع) للعاقل والمقصود هنا إينانا، أما الصفة المشتركة فهي السير في اتجاه واحد، وهذه الصفة الأساسية للزمن، فمحور الزمن متجه دوما نحو المستقبل ولا يمكن له أن يعود إلى الوراء، وقوله: (مثل سهم غادر القوس الأصيل) يفيد في وصف سرعة السير باتجاه واحد، ولكن لماذا وصف القوس هنا بالأصيل؟ وماذا أضافت هذه الصفة؟ لقد جاءت الصفة هنا داعمة لتثبيت المعنى، فحركة السهم وسرعته تتوقف على بنية القوس من جهة وعلى قوة الذي يطلق السهم، والشاعر استبقى ما يخدم المعنى الشعري المراد، وهو أن يكون القوس أصليا وأصيلا بما يضمن قطع المسافة التي تظهر سرعة السهم، وقوله: (تغذ سيرا للأمام) والمقصود هنا إينانا، وملخص معنى القول: مشيتها تشبه جريان النهر، سريعة وباتجاه واحد نحو الأمام دوما، إن استخدام كلمة سيرا مفصلية هنا، فهي ذات دلالة هامة، وتعتبر مفتاحا أساسا في فهم القصيدة بما تتضمنه من معنى، كيف؟، إذا عرفنا أن إينانا هي ذاتها عشتار عند البابليين ورثة الحضارة السومرية , وهي عشتاروت عند الفينيقيين، وهي أفروديت عند اليونانيين، وهي فينوس عند الرومانيين، وهي إيزيس عند الفراعنة، وإذا عرفنا وصف إينانا أنه يعتلي رأسها التاج المقدس الإلهي، ولها جناحان كبيران تطير وتهبط بهما من وإلى السماء، إذا إينانا ربة الحب والجمال والغواية والجنس والحرب لا (تسير .. سيرا) إنا تطير طيرانا، وإن كان المعنى الشعري واضحا من حيث الكناية على السرعة بالمشي، فإن المعنى الأكثر وضوحا هو أن إينانا الشاعر، هي ربة الجمال الأرضي، إينانا تلك التي من شحم ولحم ودم وإن كانت رمزا للحب والجمال والغواية والجنس،

وقوله: (لها جنون عاقل) يشير إلى تناقض ظاهري بين الجنون والعقل، وهذا ما لا يعنيه الشاعر، والقصد هنا إنها في ذروة الغضب والثورة والجنون يبقى العقل هو المسيطر وهو سيد الموقف، فالجنون هنا يعني التحرر من المألوف والاندفاع إلى الحالات القصوى عن قصد ووعي، وقوله: (فهي الدواء لعقلي المجنون) لأن عقله مجنون بحبها وبهاء جمالها فهي الداء والدواء، وقوله: (إذا عصفت رياحي العاتية) هي رياح الحب والإثارة والشوق .

الصور البيانية:

قوله: (للسومرية ربة الأمطار /والعشب / الجمال / العشق - إينانا - / طباع النهر) تمثيل، يشبه طباعها بطباع النهر والتشبيه هنا لا يحتاج إلى تأويل،

وقوله: (حين تسير تأبى الالتفات إلى الوراء) تمثيل، وقوله: (مثل سهم غادر القوس الأصيل) تمثيل، وهو كناية عن السرعة في السير، وقوله: (إن عصفت رياحي العاتية) استعارة، وهي صورة أحادية البعد .

الفرع الثاني:

يقول الشاعر:

(ترفو فتوق حماقتي بخيوط

حكمتها ..

وتنسج لي قميصا

من هدير هديلها ..

فأنا وإينانا لثغر واحد

شفتان ..

نخبز من طحين العشق

خبز العافيةْ

 

وأنا وإينانا لنا

صبر الرمال على هجير الباديةْ

 

ولنا معا نفس العناد

ونفس إصرار الحمام على الهديل

إذا شدونا أو بكينا ..

لا نرى سببا

لنطوي نحو ميناء السماء شراعنا

فأنا السفينة والحبال

وجيد إينانا فناري والمدى

والصاريةْ

 

نغتاظ أحيانا لندفع فديةً

ثوبا من القبلات ..

عقدا من زهور اللوزِ

طوقا من عناقٍ

رحلة في اللامكان

نعود منها جدولين

وداليةْ) .

تبدو في هذا الفرع صورة الحب المتماهي مع الطبيعة في رحلة الوجد والألفة والانسجام، وعقدته الرئيسة : (ترفو فتوق حماقتي بخيوط / حكمتها) وشعابه الرئيسة هي: (وتنسج لي قميصا) و(نخبز من طحين العشق) و(لا نرى سببا / لنطوي) و(نغتاظ أحيانا) و(لندفع فدية) و(نعود منها جدولين ودالية) أما الشعاب الثانوية فهي: (فأنا وإينانا لثغر واحد / شفتان) و(وأنا وإينانا لنا صبر الرمال) و(ولنا معا نفس العناد) و(فأنا السفينة والحبال) و(جيد إينانا فناري والمدى والصارية ) . وهذا الفرع استكمال لصورة إينانا ملهمة الشاعر ومحبوبته، فهي الحضن الدافئ والملاذ، وفيه تتداعى صورة إينانا الأسطورية، وتقترب من صورة إينانا الشاعر التي يهوى .

معاني الحب:

الفرع مليء بصور الحياة والعشق والحب، فقوله: (ترفو فتوق حماقتي بخيوط حكمتها ..) فيه عطف واضح وربط مع نهاية الفرع الأول، فإن عصفت رياحه العاتية تكون هي الدواء، حيث تلملم تللك الحماقات وتجمعها كما يجمع الخيط الثوب بعضه إلى بعض وتمتص غضبه بحكمة وروية، وفي هذه إشارة إلى الصبر والتعقل، وقوله: (وتنسج لي قميصا من هدير هديلها)، (تنسج لي قميصا)، الرصف هنا منسجم وموفق لتجانس النسج مع القميص، لكن (هدير هديلها)، التنافر واضح والتجاور غير موفق أبدا، وأن يكون نسج الثوب من هدير الهديل، فهذه الصورة غير مستساغة وسأوضح ذلك في المكان المناسب، وقوله: (فأنا وإينانا لثغر واحد شفتان ..) يشير إلى أن أحدهما يكمل الآخر، وقوله: (نخبز من طحين العشق خبز العافية) وإن كان المعنى مفهوما فالتركيب غير مدروس، بسبب استخدام (نخبز.. خبز) فأصبح المعنى أضيق لكون المفعول من جنس الفعل، و(طحين العشق) هذا الاسناد غير موفق أيضا، وأرى فيه ثقلا في تجاور الطحين والعشق، فكيف وقد أسند الطحين إلى العشق؟ !، أما المعنى فواضح، فالعشق بينهما سر السلامة والحياة الرضية، وقوله: (وأنا وإينانا لنا صبر الرمال على هجير البادية)، أي صابران صبر الرمال على شدة حرارة الشمس في البادية، وقوله: (ولنا معا نفس العناد) أي الثبات نفسه، وقوله: (ونفس إصرار الحمام على الهديل) أي مثلنا مثل الحمام في إصراره على الاستمرار في إصدار صوته مهما كانت الظروف وأيا كانت النتائج، وقوله: (إذا شدونا أو بكينا / لا نرى سببا / لنطوي نحو ميناء السماء شراعنا) أي في حالات الفرح العميق، وكذلك في حالات الحزن العميق، لا نطلب أن يفارق أحدنا الآخر لنبقى معا في مختلف ظروف الحياة، وقوله: (فأنا السفينة والحبال وجيد إينانا فناري والمدى والصارية) فإذا كان يمثل السفينة وحبالها فإينانا هي عمودها ومدى حركتها والمصباح الذي يرشدها لتجنب مواطن الخطر أثناء سيرها، وقوله: (نغتاظ أحيانا لندفع فدية / ثوبا من القبلات ..) أي يفتعلان المشكلات والخلافات البسيطة من أجل التراضي فيقدم لها ثوبا من القبل، وقوله: (عقدا من زهور اللوز / طوقا من عناق) أو يقدم لها بعد الخصام المؤقت عقدا من زهر اللوز أو طوقا من القبلات !، هكذا يكون خصام الشاعر الرومانسي مع محبوبته، وهكذا يكون الصلح احتفالية عشق ومواسم خصبة من القبل، وقوله: (رحلة في اللامكان / نعود منها جدولين / ودالية) أي: وقد تكون الفدية المقدمة لها رحلة حيثما اتفق وأينما كان، حيث تتعانق روحاهما وتشفان في لحظات من الوجد والهيام وحين تنتهي بهما الرحلة يعودان كأنهما جدولان وقد نبتت بينهما دالية الحب العالية .

الصور البيانية:

هذا المقطع رومانسي بامتياز، حيث يتجلى تماهي العاشقين بالطبيعة ومكوناتها، ويخفت الرمز وتتحول الأسطورة إلى حقيقة حية، إنها إينانا التي أحب وعايش وعاشر، إينانا الضفة والنهر وحكاية الحب، إينانا الفنار والمدى والصارية، إينانا الحكمة والصبر والأمان، ويمكن أن أتوقف عند أهم الصور البيانية:

قوله: (ترفو فتوق حماقتي بخيوط حكمتها) استعارة مكنية، فالأصل ترتق بخيوط النسيج،حيث شبه الحكمة بالنسيج فحذف المشبه به وهو النسيج وترك الخيوط دالة عليه، و(توقى الحماقة) استعارة أيضا لأنه شبه الحماقة بشيء له واق فحذف هذا الشيء وترك الوقاية دالة علية، والصورة ثنائية البعد لأنها تتألف من استعارتين معا في العلاقة المكونة للعقدة الرئيسة في الفرع، وقوله: (تنسج لي قميصا / من هدير هديلها) استعارة، وقوله: (نخبز من طحين العشق خبز العافية) لا شك أن التجانس واضح بين المفردات، (نخبز.. طحين .. خبز .. العافية) والرصف لا لبس فيه، والعشق يمكن أن يتجانس من حيث المبدأ مع هذه المفردات ولكن وفق صياغة أقل خشونة لأن تعبير (طحين العشق) فيه تنافر واضح، والتجاور غير مناسب، والإسناد يزيد الصورة خشونة، وهذه هي الصورة الوحيدة التي رأيتها في القصيدة مبنية على هذا النحو، ثم، قول: (نخبز .. خبز) تضعف الصورة وتخرجها من إطار البلاغة هذا إذا لم نقل: إن هذا الاستخدام يضعف البيان الشعري ويعطي انطباعا غير إيجابي، والشاعر بريء من هذا لأن البلاغة لديه واضحة والصورة الشعرية تصل إلى درجة الحرية في بعض حالاتها وهذا ما سيتوضح خلال الدراسة، وقوله: (وأنا وإينانا لنا / صبر الرمال على هجير البادية) تمثيل، حيث يمثل صبرهما على الشدائد بصبر الرمال على شدة حرارة الشمس العالية في الصحراء، وقوله: (فأنا السفينة والحبال) تشبيه، وقوله: (وجيد إينانا فناري) تشبيه لعنق إينانا بالمصباح القوي الذي يوضع على برج عال لإرشاد السفن وهي كناية على أنها بالنسبة له هي بوصلة الأمان، و(المدى) تشبيه أيضا للجيد بالمدى كناية عن اتساعه، و(الصارية) تشبيه الجيد بعمود السفينة، وهي كناية عن طول عنقها،والمؤدى أنهما صنوان، كل منهما لا يمكنه العيش من دون الأخر، وقوله: (ثوبا من القبلات) استعارة، وقوله: (طوقا من عناق) استعارة أيضا، وقوله: (نعود منها جدولين ودالية) وتفصيلها (إينانا جدول) تشبيه بليغ، و(الشاعر جدول) تشبيه بليغ، وتجمعهما صفة جريان الماء واستمراره كجريان الحب واستمراره، والدالية ثمرة تدفق الحب والعطاء، وهنا تتجلى صورة التماهي بالطبيعة، حيث يتمثل العاشقان بالجدولين كضفتين، والضفة الثالثة دالية الحب الضاربة جذورها في الأرض وفروعها باسقة في السماء، وهذه الصورة هي إحدى أشكال الصور الشعرية التي تتجاوز الصورة ثلاثية الأبعاد التي تتضمن ثلاث استعارات في علاقة واحدة بين شعاب الفرع الواحد .

الفرع الثالث:

يقول الشاعر: (جربت يوما

أن أغازل غيرها

فاعتابني شرف الهوى

ووشى علي فمي

وكادت تهجر

البستان من خجل

قطوفي الدانيةْ

 

قالت:

تخصك بالعتاب سمائيَ الأولى

فحاذر/ من عقاب لن تطيقَ

لظاه / لو غضبت سمائي الثانيةْ

 

لا تنتظر عفوا جديداً

إن غويت بغير نهري وانهممت

بساقيةْ

 

فأنا سماواتي إذا غضبت

ستمسك عن حقولك غيثها

فيعود نهرك محض أخدود

وحقلك باديةْ

 

أسكنتك الست الطباق

فإن جنحت

تعد نزيل الهاويةْ).

في هذا الفرع يبين الشاعر الصورة التي يصبح عليها واقع الحال إن تحول الغزل عن المحبوبة إلى غيرها وأي مصير يمكن أن ينتظر العاشق؟! وعقدته الأساسية هي (جربت يوما أن أغازل غيرها) وشعابه الرئيسة هي: (فاعتابني شرف الهوى) و(وشى علي فمي) وشعابه الثانوية هي: (كادت تهجر) و(تخصك بالعتاب) و(فحاذر من عقاب لن تطيق لظاه) و(لا تنتظر عفوا جديدا) و(إن غويت بغير نهري وانهممت بساقية) و(فأنا سماواتي إذا غضبت ستمسك عن حقولك غيثها) و(فيعود نهرك محض أخدود وحقلك بادية) و(أسكنتك الست الطباق) و(فإن جنحت تعد نزيل الهاوية) .

المعنى واضح ولا حاجة للتوضيح لكن أتوقف عند أهم الصيغ البيانية: فقوله: (وشى علي فمي) استعارة، وقوله: (كادت تهجر البستان من خجل قطوفي الدانية) والمعنى أنه كاد أن يصبح مجردا من جميع قيم الحب والوفاء التي كان يحملها خجلا منها على ما فعل، فشبه ما يكنفه من شيم وأصالة في حبه لها إلى ثمار البستان اليانعة وهي استعارة، كما شبه مشاعره وأحاسيسه للبستان وهذه استعارة أيضا، وتشبيه هجر القطوف للبستان كهجر قيم الحب للنفس وهي استعارة أيضا وتصبح الصورة البيانية ثلاثية الأبعاد . وهذا النوع من الصور الشعرية هي نادرة في الشعر العربي . وهي متوفرة لدى الشاعر السماوي في كثير القصائد الشعرية، ويبقى أن أشير إلى أهمية استخدام (من خجل) فالخجل هو المسبب الأساس لهذا الهجر الذي كاد أن يحصل، لتصبح الصورة أكثر توازنا من حيث الترابط في المعنى حيث أن تلك القيم والشيم كادت أن تسقط نتيجة فعل داخلي في النفس وهو الخجل، كالثمار اليانعة التي تكاد أن تسقط نتيجة فعل داخلي وهو النمو، إن الصور ثلاثية الأبعاد في كثير من التراكيب يصعب التفصيل في توضيحها خشية قتلها وفقدان القيمة الجمالية لها، ولو أمعنا في التوضيح أكثر، ألا يفيد قوله: (قطوفي الدانية) أن لديه قطوفاً أخرى غير دانية، بكل تأكيد، وذلك يعني حين حاول أن يغازل غيرها وعرفت منه فجأة بزلة لسان ودليل ذلك قوله: (وشى علي فمي) في تلك اللحظة الحرجة التي انكشف أمره تجاهها كان تصويره لها أدق من عدسة الكاميرا، كادت أن تهجره تلك القيم المسلم بها ناهيك عما يكنه لها من القطوف الأخرى التي ستبقى مقيمة من غير هجر، أما استخدام (كادت) تفيد اللحظية والآنية خلال الموقف الحرج . وقوله: (تخصك بالعتاب سمائي الأولى) استعارة، وقوله: (غضبت سمائي الثانية) استعارة، وقوله: (إن غويت بغير نهري) استعارة وقوله: (وانهممت بساقية) استعارة، والتركيب من الاستعارتين معا كناية إلى الفرق كبير بينها وبين غيرها كالفرق بين النهر والساقية، وهذه بلاغة في التركيب، وقوله: (فأنا سماواتي إذا غضبت) استعارة، و(ستمسك) استعارة، (عن حقولك غيثها) استعارة، و(سيعود نهرك) استعارة، و(حقلك بادية) استعارة .

والتركيب مجملا (فأنا سماواتي إذا غضبت ستمسك عن حقولك غيثها، فيعود نهرك محض أخدود وحقلك بادية) أفضل تسميته بالتركيب الحر لأن عدد الاستعارات فيه يزيد عن الثلاث، لاحظ هذا الترتيب في التقابل بين مكونات التركيب (الرضى، الغيث، النهر، الحقل) و(الغضب، الإمساك، الأخدود، البادية)، ومفردة الرضى غائبة لشدة حضور معناها في مجمل القول، والمعنى يشير إلى أن هذا كله لا يتجاوز التحذير فهي ما زالت راضية، لا بل لا تريد الغضب أصلا كما توحي دلالة النص . بقي أن نتساءل لماذا استخدم السماوات؟ والجواب واضح إنه يعطيها بعدها الأسطوري المقدس في الحضارة السومرية التي كانت تمثل فيها إينانا آلهة الحب والجمال، وهي اللات عند العرب، وهي الجزء من الثالوث الإلهي الأنثوي عندهم، اللات والعزى والمناة، ومن المفيد ذكره هنا أن سكان بلاد الرافدين كانوا يقيمون لها مراسيم احتفالية كبيرة عند توجههم للحرب، وقوله: (أسكنتك الست الطباق / فإن جنحت / تعد نزيل الهاوية) يشير إلى تلك المنزلة الأسطورية العالية، فهي من رفعته ووضعته في الدرجات العليا لديها وهي من تستطيع أن تنزله إلى الدرك الأسفل إن مال أو انحرف .

الفرع الرابع:

يقول الشاعر:

(مولاتي القديسة الشهوات إينانا

غويتُ

وقد أتيتك تائبا /

فلتسرجي قنديل عفوك

وامنحيني فرصة أخرى

لأثبتَ

أنني قلب نقي ناسك ..

طفل ..

وإن كانت عيوني

زانيةْ

 

فلرب داء صار مفتاحا

لقفل العافيةْ

 

لا خيط بين الصبح والليل ..

الزمان تغيرت ساعاته

أما تضاريس المكان

فباقيةْ

 

فلتدخليني /

خدرك الضوئي توابا

لأثبت

أن محراثي يصون كرامة التنور

رب خطيئة تغدو فنارا للمضلِّ

تقيه نارا حاميةْ) .

يوضح هذا الفرع صورة إعلان التوبة وطلب العفو والغفران، وشعابه الرئيسة والثانوية واضحة ولكن أتوقف عند قضايا أساسية أهمها: قوله: (مولاتي القديسة الشهوات إينانا) يشير إليها على أنها آلهة الحب والجنس وإليه التوجه بالاعتراف بالغواية والخطيئة، ليعطيها القداسة، ولتأخذ المحبوبة رمزا علويا ساميا، وقوله: (إنني قلب نقي ناسك ../ طفل.. وإن كانت عيوني / زانية) يعني قلبه نقي طاهر عفيف، أما الزاني هي الحواس، وهذه الفكرة في ظني ذات قيمة وجودية هامة، لأن من طبيعة الحواس أن تتأثر وتتفاعل مع المحيط أيا كان، فكيف إذا كان الأمر يخص الجمال، إن العين سترى الجمال ولا يمكنها الإنكار، وهنا بالمعنى القريب فإنه يريد أن يؤكد لها بعد أن حذرته من خطر عقوبتها الممكنة له، بسبب مغازلة غيرها والتحول عنها، بأن الأمر لم يتجاوز النظر بالعين أو الكلام العابر، ومكانتها محفوظة بالقلب، أما المعنى الأبعد فيشير القول إن الطهارة هي طهارة القلب، والعفة عفة الروح، وطلبه أن يمنح فرصة أخرى دليل على يقينه أن الثابت هو ما عقدت عليه القلوب، وأما الهفوات العابرة التي ترتكبها الجوارح يشملها العفو بالرحمة والمغفرة، وقوله: (فلرب داء صار مفتاحا لقفل العافية) أي رب ضارة نافعة فقد تكون هفوته سببا لعودته إلى الرشد والتخلص من الهفوات المماثلة أو الهفوات الأعظم، كما لو أن مرضا طارئا ظهرت أعراضه كان سببا لاكتشاف مبكر لمرض أكبر وتهيأ السبب للشفاء من المرض الأخطر، وقوله: (لا خيط بين الصبح والليل .. / الزمان تغيرت ساعاته أما تضاريس المكان فباقية) أي يمر الزمان يتغير ويتجدد لكن المكان يبقى من دون تغيير، وقوله: (فلتدخليني / خدرك الضوئي توابا)، يشير إلى نجاة الروح من محنة ارتكاب الجسد، إنه يدفع بالمعاني إلى المستوى الأجل، وإلى المحل الأسمى، مستفيدا من الرمزالذي تمثله المحبوبة إينانا، وقوله (توابا) يعني المبالغة في إعلان التوبة من جهة، كما يعني استمرارية التوبة لاستمرارية الارتكاب، وقوله: (لأثبت / أن محراثي يصون كرامة التنور) يعني أنه أصيل، يحفظ ميراث السلف العظيم في الحفاظ على الشرف والأصالة، وأنه أمين على ميراثه الكبير من المبادئ والقيم، وأنه مستمر في ذلك استمرار المحراث في تقليب التراب وتجهيزها لزراعة القمح حفاظا على كرامة التنور من أنْ ينقطع الخبز عليه فيندثر ويتلاشى، وقوله: (رب خطيئة تغدو فنارا للمضل / تقيه نارا حامية)، أي ربما تكون العظة من ارتكاب ذنب سببا لتفادي خطيئة أكبر تكون عقوبتها النار الحامية، هكذا يعلن التوبة وهذا ينظر إلى الارتكاب في سياق تهيئة الأسباب لتفادي الأعظم لذلك يستوجب الأمر قبول التوبة .

اما الصور البيانية فتتجلى في قوله: (قنديل عفوك) استعارة، والصورة أحادية البعد، وقوله: (عيوني زانية) استعارة والصورة أحادية البعد وقوله: (فلرب داء صار مفتاحا لقفل العافية) يضم استعارتين، والصورة ثنائية البعد، وقوله: (خدرك الضوئي) استعارة، وقوله: (إن محراثي يصون) استعارة، وقوله: (كرامة التنور) استعارة، ويصبح الصورة في التركيب: (إن محراثي يصون كرامة التنور) ثنائية البعد لأنه يضم استعارتين معا .

مسار تقاطعي:

يقول الشاعر: (ما حكَّ جلدي مثل ظفركْ

أو حكَّ صدري مثل صدركْ

وسهاد ليلي مثل خدركْ

وأذاب ثلجي مثل جمركْ

تأبى كؤوسي غير خمركْ

لا تمسكي الينبوع عن عشبي

فناعوري

أبى أن يستقي من غير بئركْ

مدي ل "يوسفك " الضفيرة /

إن أمري طوع أمركْ

كفرت بصبر الرمل بادية

السماوة مذ خلعت

رداء صبركْ) .

يعترض السياق في المعنى وهو أقرب إلى الحكمة، وفيه يتداخل الأسلوب الخبري مع الأسلوب الإنشائي، أما الموسيقا الشعرية والإيقاع الخارجي فيبقى على تفعيلات البحر الكامل بتكراراتها، والمعنى أنه يطلب منها العفو ويتضرع لها من أجل ذلك، لأن عشبه لا يقبل السقيا إلا من نبعها، ويزداد تضرعا في الطلب، لتمد له ضفيرتها وسوف يستجيب وإن كان يخالف موقفه موقف سيدنا يوسف حين رفض أن يستجيب لها عندما راودته التي كان في بيتها عن نفسها، فقد نفذ صبره ولم يعد يستطيع الاحتمال مذ أعلنت غضبها ونفاذ صبرها، لقوله: (كفرت بصبر الرمل بادية السماوة / مذ خلعتِ رداء صبرك)،

الفرع الخامس:

يقول الشاعر: (واعتابني قلبي ..

وقد كفرت بعبقرها القصيدة

مذ مشيت على بساطي

حافيةْ

 

أولست من عاهدتني

منك المداد وخمرة المعنى

ومني القافيةْ)

وفيه يختم صورة التضرع والتوبة، ليتحول الصوت إلى نوع من الاحتجاج والغضب، وشعابه واضحة، وعقدته (واعتابني قلبي)، فقوله: (واعتابني قلبي) لهذا الخضوع وهذا التذلل، وقوله: (وقد كفرت بعبقرها القصيدة) أي احتجت واعترضت، وقوله: (مذ مشيت على بساطي حافية) أي عندما تجلت له حافية بصورة القبول والرضى، وقوله: (أولست قد عاهدتني منك المداد وخمرة المعنى / ومني القافية)، أي قد وعدته في أن تبقى ملهمته ليستمر في كتابة القصيدة ويتجدد الإبداع، أما وقد أعلنت غضبها فإنها تكون بذلك هي التي أخلفت بالعهد والوعد وليس هو لمجرد أنه جرب مغازلة غيرها يوما، والصور الشعرية يمكن إيجازها، في قوله: (اعتابني قلبي) استعارة، وقوله: (كفرت بعبقرها القصيدة) استعارة، وقوله (منك المداد وخمرة المعنى) استعارة .

الموسيقا الشعرية:

تبدو الموسيقا أحد أهم مكونات القصيدة، والواضح أن الشاعر قد حرص على التجديد في تفعيلات البحر الكامل، وهو من البحور الطويلة التفعيلات، وذات الإيقاع السريع لكن تدوير التفعيلات وتنويع الإيقاعات في فروع القصيدة وشعابها أعطت القصيدة حسنا فنيا واضحا، والحفاظ على القافية الواحدة في فروع القصيدة أيضا ساعد في تكامل الوحدات الموسيقية، وكانت أشبه بالمحطات المفصلية لها، إن الشعر العربي ذو طبيعة، وأهم ما يميز هذا الشعر الموسيقا، وإنني لأعجب أشد العجب كيف للشاعر العربي الأصيل أن يقبل بالتخلي عن موسيقا الشعر، وأنا لا أدري إذا تخلى الشعر العربي تحديدا عن الوزن الشعري ماذا يبقى فيه؟، قد يكون مقبولا أن يطور الشاعر في الوزن والإيقاع الشعري وهذا مفهوم وهو في ذلك يبقى محافظا على روح الموسيقا في القصيدة الشعرية، لا أدري لماذا استعجل الشاعر العربي بالقبول بالقصيدة النثرية التي استقدمت استقداما من الغرب، لماذا فرط بهذا الإرث الموسيقي العظيم في القصيدة؟ هل يقبل أن الموسيقا الشعرية تشكل قيدا لحرية الشاعر؟ أنها تشكل قيدا للشعراء عديمي الموهبة، والذين لا يعرفون أصول الكتابة الشعرية، وبالتالي هذا النوع سيكون أكثر فشلا حتى في القصيدة النثرية، وأنا هنا لا أنكر على بعض كتاب القصيدة النثرية موهبتهم في الكتابة، لكنني لا أقبل بأي حال من الأحوال صورة للشعر العربي من غير موسيقا ووزن شعري، فكيف سيكون الحال عند الذين لا يعرفون الوزن الشعري، وليست لديهم القدرة على كتابة بيت واحد من الشعر كيف لي أن أقبل أنه يمكن أن يكون شاعرا، وكيف لي أن أصدق أن سباحا لا يمكنه أن يطفو على سطح ماء البركة في قريته الصغيرة سيكون قادرا على السباحة في عرض البحر، وإذا كان البعض يرى أن الموسيقا الشعرية تشكل قيدا للشاعر في كتابة القصيدة، نقول نعم تشكل قيدا ولكنه قيد معرفي، قد يكون جدول الضرب قيد قيداً للطالب في إجراء الضرب فما رأيكم هل نلغي جدول الضرب حتى نزيل هذا القيد أم يحفظ الطالب جدول الضرب ويتخلص من ذلك القيد، إن الموسيقا الشعرية حين يمتلك الشاعر مفاتيحها تصبح عاملا مساعدا في إظهار قدرته على التكيف بها بحيث تغدو وسيلة لا هدفا، والموسيقا في القصيدة كلها كانت وسيلة من وسائل الإنشاء وقد عبرت عن خبرة وكفاءة كما أنها أثبتت أن الشاعر ذو خبرة ولديه القدرة الواضحة في توزيع امتدادات الموسيقا بما يساعد على إنشاء معان تتناغم مع المواقف الشعرية المناسبة .

تعدد الأزمنة:

في القصيدة زمنان متداخلان، الزمن الحقيقي والزمن الافتراضي، أما الزمن الحقيقي فهو الزمن الذي تدور فيه قصة الحب المعاشة، الشاعر وحبيبته إينانا، أما الزمن الافتراضي فهو الزمن الاسطوري، أو الزمن التخيلي، والزمن الحقيقي أكثر ما يتجلى في الفرع الثاني، أما الزمن الافتراضي أكثر ما يتجلى في الفرع الأول والثالث، أما في الفرعين الثاني والرابع فقد بدا الزمن متداخلا، وهنا لا بد من الحديث عن الزمن الافتراضي، وفي الحقيقة هو الزمن الغائب في خضم الفعل الإبداعي، وهو زمن إينانا نفسها، وهنا أتوقف قليلا عند الحضارة السومرية التي كانت إينانا فيها تمثل آلهة الحب والجمال والجنس والغواية والحرب،هذه الحضارة كلها بقيت غائبة ولم يتم الحديث عنها كحقيقة واقعية إلا في بداية القرن العشرين، فهل سألنا لماذا بقيت مغيبة هذه الحضارة كل ذلك الزمن الطويل؟ هل كان ذلك عفوا أم مقصودا، لماذا اقتصر الحديث عن الحضارة البابلية والكلدانية الفرعونية والفينيقية وبقيت السومرية مجهولة؟ لا أستطيع أن أقبل أن يكون الأمر عفوا بل كان مقصودا جدا، لأن الحضارة السومرية كانت حضارة الزمن الإنساني الذي كان مضيعا، ثم من هم السومريون؟، من أين جاؤوا؟، لعلنا إذا عرفنا أن الحضارة السومرية هي أقدم الحضارات الإنسانية على الإطلاق، وهي أصل الحضارة الكلدانية والبابلية سنقبل أن ثقافة بلاد ما بين النهرين كلها ذات أصل سومري، إنه وقت غائب لكنه سيعود ويحضر في الفن والثقافة والإبداع، ليعود الحق إلى صاحبه الأصلي، إن الارتكاز على إينانا في القصيدة هو استحضار شجاع للوجه الحقيقي لتاريخ تلك الحضارة التي نشأت في جنوب العراق، حضارة أسست للنظم الإدارية والقوانين، أسست للتعليم ودراسة الفلك، أسست للزراعة والتجارة ونظام الحكم، في تلك الحضارة كانت إينانا، والآن كانت إينانا والشاعر معا، زمن غائب بالمعنى الشمولي العام وزمن حاضر بكل ما يعنيه هذا الزمن من معنى . وإذا أضفنا زمننا وزمن القصيدة سنحصل على ما يسمى تقاطع الأزمنة، وهو محصلة الأزمنة كلها بما فيه الأزمنة الموسيقية في الإيقاعات والأوزان، وهو الزمن الواقع المعاش.

التوازن:

مركز توازن القصيدة هو(إينانا) أما نقاط التوازن فهي (العشق) و(الخطيئة) و(التوبة) و(الغفران) ونلاحظ أن القصيدة بمعانيها ودلالاتها تتمحور شعابها حول نقاط التوازن في القصيدة، ونقاط التوازن بدورها تتمركز حول الموضوع الأساس إينانا، والتوازن هنا يلعب دورا كبيرا في تحقيق وحدة القصيدة .

النص الاحتمالي:

كما تبين فالقصيدة مؤلفة من خمسة فروع ومسار تقاطعي، وإذا حسبنا إمكانات إعادة ترتيبها نحصل على سبعمئة وعشرين نصا احتماليا واحد منها هو الذي بين أيدينا، وإذا أخذنا بعين الاعتبار عدد إمكانات ترتيب الشعاب في الفرع الواحد نحصل في كل حالة على مضاعفات هذا الرقم، وهكذا بالنسبة للفروع الأخرى، إذاً النص الشعري يكون أمام إمكانات هائلة يفترضها النص ذاته، أقول هذا فقط على مستوي إعادة الترتيب فقط، فكيف يغدو الأمر إذا فعلنا الأسلوب نفسه على مستوى المفردات من النص، إننا في هذه الحالة نحصل على إمكانات كبيرة جدا جدا، وكلها نصوص افتراضية، وكلها ممكنة مادامت قد خرجت على صورتها في النص الشعري، وهنا لا بد من التساؤل عما إذا كانت الموسيقا والوزن الشعري يقفان عائقا أمام إمكانات إعادة الترتيب . وهو سؤال مشروع وبكل تأكيد سيؤثر على عدد إمكانات ترتيب الألفاظ في شعبة من الفروع إذا كنا نريد الحفاظ على الوزن الشعري ولكن سيبقى العدد كبيرا جدا، المهم في الأمر من حيث المبدأ عدد إمكانات ترتيب الفروع لا يتأثر، وكذلك الأمر في عدد إمكانات ترتيب الشعاب، في الفروع أيضا .

المنوال:

إن المفردة المنوالية في القصيدة هي (إينانا)، وكذلك المفردات (سماء) و(نهر) و(سماء) كلها مفردات منوالية لأنها تتكرر في القصيدة، وهذا دليل حضورها في مخيلة الشاعر، وبالتالي يكون حضورها ذا تأثير في بنية القصيدة .

 

مفيد خنسة – اللاذقية - سوريا

 

في المثقف اليوم