قراءات نقدية

مفيد خنسه: وفيق خنسة في جمر الحب والغربة

مفيد خنسةالكتابة في نقد شعر من لا تعرف تعطيك الشجاعة الكافية في استقصاء المعاني التي يمكن أن يحتملها النص، لكن الكتابة في نقد من تعرف تجعلك أكثر يقينا من المعاني التي يحملها النص، فكيف وأنا أرتكب هذه المغامرة في الكتابة عن ناقد كبير كوفيق خنسة، كيف وأنا أتجرأ أن أضع بعض شعره في ميزاني النقدي الذي يضعف عن حمل فيض معانيه الواسعة، إنني في موقف لا أحسد عليه، وأرى نفسي كالتلميذ أمام أستاذة، لا بل كالطفل الوجل أمام أبيه، كيف لا وقد بقيت زمنا طويلا من طفولتي ويفاعتي في كتابة الشعر ولم أجرؤ أن أقرأ له شيئا مما أكتب، حتى ولم أجرؤ أن أقول له: إنني أكتب الشعر، لقد كان بعيدا عنا في مدينة الرقة، ولم يكن يزور القرية في العام أكثر من زيارة عابرة، وما زلت أذكر كيف كنت أتبعه أنا وأخي أحمد إلى غابة الأرز حتى نبقى نراه أكبر وقت ممكن من زمن زيارته للقرية، وما زلت أذكر أنني كنت قد أرسلت له عبر البريد قصيدة شعرية لي بعنوان (الطوفان) وأنا في الصف الثامن إلى الرقة، وما كنت أتوقع أنها ستصله، حتى وإن وصلته ما كنت أتوقع أنه سيرد عليها، وذات يوم ناداني موجه المدرسة في ثانوية الشهيد عبد الوهاب حسن في عين قيطة ببيت ياشوط وقال لي: وصلتك رسالة من أخيك الأستاذ وفيق، وقتها أحسست بالفرحة تغمرني، كما أحسست بشيء من الزهو وأسرعت لاستلام الرسالة وبدأت بقراءتها، وإذ بها رسالة توجيهية، وأحسست بمدى الجدية فيها وقد ركز خلال تلك الرسالة على صورتين شعريتين ونصحني بتأملهما، وما زلت أذكرهما حتى الآن، الأولى للمتنبي: (على قلق كأن الريح تحتي): والثانية: (أنا عضلة الريح) . ومر زمن طويل نسبيا وبدأت أنشر في الصحف شعرا من غير أن أستشيره، وظننت بنفسي أنني أصبحت شاعرا، وعندما أعددت مجموعة شعرية للنشر عرضتها عليه وفي نفسي أنني سأدفع بها إلى النشر حتى لو أنها لم تعجبه، وكانت رسالته التي كتبها لي على الصفحة الأخيرة من الدفتر، والتي ما زلت أحتفظ بها حتى الآن مريرة قاسية وقد دونتها  كإحدى مذكراتي المكتوبة وملخصها: أن ما كتبته في المجموعة ما خلا بعض الصور الشعرية القليلة لا يرقى إلى مستوى الشعر، ونصحني بالتريث، وفهمت أنه فضل أن يكتب رأيه لي كتابة حفاظا على مشاعري، ولا أنكر أن ذلك شكل لدي رد فعل، وكاد أن يصيبني الإحباط، لكن منذ تلك الرسالة تولد في داخلي تحد كبير، وذات يوم زرته في بيته في اللاذقية بعد أن كان قد مضى على الرسالة بضع سنوات، وأعطيته قصيدة لي بعنوان " دوائر على خارطة الدم " وأخبرته أنني أنوي المشاركة  بمسابقة شعرية، وعندما بدأ بقراءتها بدأت بالتوجس والخوف، وأنا أتأمل تقاسيم وجهه لأستشف حقيقة انطباعه، وعندما أنهى الصفحة الأولى منها، نزل عن مقعده وجلس على الأرض ومع الورقة الثانية بدا أكثر استغراقا، وحين أنهى القصيدة قال لي: أنت شاعر !

أن يأتي هذا الاعتراف من أخي وفيق، ذلك عندي لا يعادله ثمن في الدنيا، لأنني أعرفه أي نوع من الرجال هو، خاصة فيما يتعلق في الفن والإبداع، شديد وقاس لا يجامل أبدا أبدا، لقد أسهبت في التقديم لأنني أجد نفسي مدينا بكل ما عندي له، فقد كان على الدوام هو الأساس في حبي للشعر والثقافة والفن، ويبقى أستاذي وأخي الأكبر، وسأحاول بقدر ما أستطيع أن أتحرر من مشاعري الشخصية وأنا أكتب عن شعره، وأن أبتعد ما أمكن عن المعرفة الشخصية بظروف كتابته لمجموعته الشعرية (الجمر)، وسأحاول أن يكون النص هو من يقدم نفسه، وسأختار منه الجزء الأول، (قصائد) .

الفرع الأول: (غربة)

يقول الشاعر:

(كالتجاعيد ارتمى

كصواري السنوات

هان حين اغتربا

قمطته الكلمات

عاد في الليل إلى كوخ الطفولة

وجثا وانتحبا

ليس في عينيه قنديل

ولا في ثغره نار الحياة

ضاع حين اغتربا)

يبين هذا الفرع صورة الغربة، وعقدته (كالتجاعيد ارتمى) وشعابه الرئيسة هي: (هان حين اغتربا) و(وجثا وانتحبا) و(ضاع حين اغتربا) أما شعابه الثانوية فهي: (كصواري السنوات) و(قمطته الكلمات) و(عاد في الليل) و(ليس في عينيه قنديل) و(ولا في ثغره نار حياة) .

في مثل هذه القصيدة المكتوبة على شكل مقاطع منفصلة، قد يبدو للوهلة الأولى أن أن أسلوب النقد المتبع لا يناسب هنا، وذلك بسبب ان المقاطع مجتمعة قد لا تحقق وحدة في القصيدة، وأنا لن أستبق في الحكم، ولا أنكر أن هذه القصيدة تشكل امتحانا حقيقيا لهذا الأسلوب النقدي المتبع .

من الواضح أن المقطع الواحد مكثف إلى درجة الشح، وكأن الشاعر يمعن في إزالة السواد عن هذا البياض الكثيف، والمقطع الواحد قد يبدو ليس في حاجة إلى هذا التبويب في فروع وشعاب، فماذا لو اعتبر فرعا واحدا في شعبة واحدة، أو في بضع شعاب !  والجواب يكون:

قوله: (كالتجاعيد ارتمى) سيقودنا إلى التساؤل، من هذا الذي ارتمى؟ هل هو الشاعر؟، لأنه يمكن أن يكون قد تحدث عن ذاته، أم هو الغريب؟ فالعقدة تشير إلى الغريب، وهذا يقود إلى تساؤل جديد، هل يعني أن الشاعر هو الغريب الذي ارتمى؟ ثم لماذا استخدم الشاعر الزمن الماضي؟ هل يعني ذلك أنه ارتمى وانتهى الأمر؟ ثم لماذا كالتجاعيد؟ وماذا تفيد التجاعيد هنا؟  إذن بكلمتين اثنتين تتصدران المقطع الشعري يجعلنا الشاعر أمام عدد من الأسئلة، ويتركنا حيث يقودنا المعنى، وهنا يمكنني القول: إن التجاعيد هنا ذات معنى مجازي، والتجاعيد لا ترتمي إنما الموصوف بالتجاعيد هو الذي يرتمي، واستعاض الشاعر بالصفة عن الموصوف لأن الصفة نفسها تشترك مع الموصوف بصفة أساسية وهي القلق وعدم الاستقرار، فالتجاعيد، أو الموصوف بالتجاعيد إن ارتمى فإن ارتكازه على المكان حيث ارتمى يكون قلقا، ولا يلتقي كامل سطحه على الأرض فيبقى غير مستقر، وهذه إشارة إلى أن الموصوف وهو الذي يعاني من الغربة لا شك، حتى في ارتمائه ما زال قلقا غير مسقر، كما أن الشيء المتجعد إذا ارتمى على الأرض يبقى قلقا من دون أن يستند بكامل سطحه على الأرض، وقد دلت مفردة ارتمى على أن الشاعر لا يفصح عن سبب الارتماء وفضل أن يبقى هذا السبب غائبا في الجملة الشعرية، وأن الأهمية التي تبدو لدى الشاعر هي شكل الارتماء أولا ومن ثم الارتماء نفسه بدليل تقدم الصفة بالتشبيه كالتجاعيد، وقوله: (كصواري السنوات) تأكيد جديد على شكل الارتماء، فإذا كانت التجاعيد قد ترتمي سريعة أو بطيئة فإن صواري السنوات يكون ارتماؤها بمعنى انقضائها، وصواري السنوات في ارتمائها تكون سرعتها بحسب الزمن الذي ينقضي على المرتمي، وهنا يشير إلى الزمن الطويل في الغربة، لنتبين أن الارتماء ذو طبيعة تراكمية كتتابع مرور الزمن، وهو بطيء جدا، وقوله: (هان حين اغتربا)، فهان تعني: (لان، ضعُف، حقر، ذل)، وأنا أميل إلى أن المعنى الأقرب هنا هو: ضعُف، فالرجل حين يسافر عن موطنه ويبتعد عن أهله يضعف، وهذا الضعف هو مقدمة لذلك الارتماء،وقوله: (قمطته الكلمات) أي قيدته، وذلك يعني أن الذي ارتمى كان موثوقا بالكلمات التي تعبر عن المواقف والمبادئ، يعني أنه حر، وأنه ملتزم بمواثيق وعهود إنسانية قوية، وهنا نتبين هذا الترابط في المعنى باستخدام أولا ارتمى، ثم استخدام قمطته لتبدو الصورة جلية، ونكتشف سببا من أسباب الارتماء وهو عالم الفكر والإيديولوجيا، عالم النظريات في الاجتماع والسياسة والفلسفة، لقد ارتمى لأنه ضعف في الغربة، ولم يستطع أن يدافع عن مواقفه  وأفكاره ومبادئه، أو لعله ضعف لأنه لم يجد مناخا مساعدا في بلاد الغربة تتوافق مع تلك الأفكار والمبادئ، ولا أبالغ إن قلت: إن شرح هذه الجملة: (قمطته الكلمات) مهما استفضت في الشرح ومهما توسعت دائرة المعنى ستدفعك إلى المزيد، ولكن الأساس في الأمر أن الذي ارتمى كالتجاعيد، وارتمى كصواري السنوات هو رجل حر يوثق بالكلمة، وتحت هذا العنوان يمكن أن يتعدد القول إلى حيث لا ننتهي، وقوله: (عاد في الليل إلى كوخ الطفولة) يعني أنه عاد سرا بدليل عودته ليلا، وإلى كوخ الطفولة يعني أنه من أسرة فقيرة، وهذه العودة تعني الخيبة التي واجهها بسبب نهجه في الفكر والمبادئ، وتعني أن هذه الارتماء جعله يعيد النظر فيما هو عليه، ويعني أنه خائف ويريد أن يحتمي بالكوخ الذي تربى فيه، ويعني أنه لا يستطيع أن يعلن عن حقيقة ما يعانيه ويكابده، والصورة العامة تشير إلى أن الذي ارتمى، كان قد واجه محنة مصيرية حاسمة في موطن الغربة، وهو الحر صاحب المبدأ والموقف الملتزم بالمواثيق والعهود ونتيجة لضعفه في الغربة وعدم قدرته على الاستمرار فيما هو عليه عاد إلى محيطه الذي ولد فيه خائبا حزينا، أما بالمعنى الأرفع فالعودة إلى الطفولة تعني العودة إلى البراءة الأولى، تعني العودة إلى النقاء والطهر، وقوله: (وجثا وانتحبا) كأنه ما زال طفلا، و(جثا) علامة الاستسلام والقهر، و(انتحبا) علامة الضعف الشديد، أي أنه من شدة هول المحنة وصعوبتها عليه، ومن قسوة ما عانى في موطن غربته، فقد اضطر مرغما للعودة إلى حيث كان قد هجر بسبب فكره ومبادئه، لكن الواقع كان أقوى وأصعب وأمر وفرض عليه أن يرتمي، فيعود صاغرا مقهورا باكيا خائر القوى، وقوله: (ليس في عينيه قنديل) لقد فقد الحلم، فقد الأمل ولم يعد في الأفق نور يبدد الظلام الذي يخيم، وقوله: (ولا في ثغره نار الحياة) فالكلام الذي كان وثاقا له، وكان سببا في ارتمائه لم يعد له معنى حقيقي، فقد فقد معناه ووهجه، فقد حرارة القول، وصدق العاطفة، لقد أصبح الكلام لديه باهتا ضعيفا لا حرارة فيه، بعد أن كان مفعما بالأمل والعنفوان والكبرياء، وقوله: (ضاع حين اغتربا) فتكرار استخدام (حين اغتربا) ، لا يعني تكرار المعنى بل يعني أنهم لم يعرفوا قيمته في موطن غربته فضاع قدره بينهم، كما يعني أن من عاد إليهم لم يقدروا قيمة عودته فضاع قدره بينهم أيضا .

البيان والسياق:

الأسلوب في هذا الفرع خبري، حيث يعتمد الاقتصاد في اللغة إلى درجة تضيق فيه العبارة وتتسع به الدلالة، فقوله: (كالتجاعيد ارتمى) استعارة، وقوله: (قمطته الكلمات) استعارة، وقوله (ليس في عينيه قنديل) استعارة، وقوله: (ولا في ثغره نار الحياة) صورة ثنائية البعد لأنها تتضمن استعارتين .

الفرع الثاني: (حصار)

يقول الشاعر: (حين في مدجنة الذعر أقام

فرخت، واستنقعا

حين في مجمرة الروح تمشى خطوتين

لم في فخذيه قطعان يمام

" أفق يعرج في الغيم

وفي الرعد ينام "

همدت في ثغره حمى الرصيف

وذوى في ثغره غصن كلام

هو أرض هربت أطرافها

تتلاشى كالضباب

عزلة أضيق من عود ثقاب)

هذا الفرع يبين صورة الخوف، وعقدته  ظرف الزمان (حين)، وشعابه الرئيسة هي: (في مدجنة الذعر أقام) و(حين في مجمرة الروح تمشى) و(لمّ في فخذيه قطعان يمام) أما شعابه الثانوية فهي: (فرخت واستنقعا) و(أفق يعرج في الغيم) و(في الرعد ينام) و(همدت في ثغره) و(وذوى في ثغره) و(هو أرض) و(هربت أطرافها) و(تتلاشى) و(عزلة أضيق من عود ثقاب) .

الأسلوب في الفرع خبري، والعنوان ضيق المعنى وأسره، إذ لا بد من عنوان للمقطع الواحد، وسيتضح أنه يمكن دمج هذه المقاطع في قصيدة واحدة، لكن الشاعر أرادها منفصلة وذلك يشير إلى فصل الحالات الشعرية بما يتوافق مع تناقض الحالات النفسية والمعاناة التي يعيشها .

المعاني والدلالات:

نلاحظ أن الشاعر ما زال يتحدث عن غائب، ولم يفصح عنه لكن في مستوى من المستويات بكل تأكيد يعني نفسه أولا، ويعني الأنا بالتعدد الذي تعنيه، فهو المواطن والشاعر والسياسي والكاتب .. الخ، وهو يعنى الآخر بمختلف انتماءاته وأنماطه، فقوله: (حين في مدجنة الذعر أقام) يشير إلى أن الظرف الذي كان يقيم فيه جعل المكان ضيقا كالمدجنة وجعلة يشعر بالخوف إلى درجة الذعر، إلى درجة يجعلنا فيها نحس بأن الشاعر يريد أن يقول: إنه كان يخاف من مصير يمكن أن يكلفه حياته، فإسناد المدجنة إلى الذعر يفيد الخوف باطراد من دون التوقف عند حد، دلالة على قسوة المحنة وصعوبة التجربة، والظرف (حين) يشير إلى فترة زمنية معينه، وقوله: (فرخت، واستنقعا) أي مدجنة الذعر هي التي فرخت، فرخت مزيدا من المخاوف والرعب والهلع، واستمرت تلك المخاوف بمضاعفات لم تقف عند حد، (واستنقعا) أي تغير واصفر لونه، وهو المعنى الأقرب في هذا السياق بالذات، لأن (استنقعا) يمكن أن تدل على معان أخرى في سياقات أخرى، أي في ذلك الظرف، في تلك المحنة التي عاشها في مكان أشبه بمدجنة الرعب جعلته يتغير ويعيد حساباته، يتغير من حيث التفكير والعلاقات والمستقبل، إنها الخيبة المريرة، مما جعله يصاب بالمرض حتى اصفر لون وجهه علامة لذلك، وقد يكون الشاعر نفسه قد عانى من محنة مرضية مرافقة، وقوله: (حين في مجمرة الروح تمشى خطوتين) أي في ذلك الظرف استجاب إلى نداء روحه من الأعماق، وحاول أن يتقدم كمن يخطو على جمر، فلم يستطع أن يمشي أكثر من خطوتين، لماذا؟، والجواب في قوله: (لمّ في فخذية قطعان يمام) في إشارة إلى إيمانه وتمسكه بالسلام بدليل قطعان اليمام، ولكن هيهات .. هيهات، وقوله: (أفق يعرج في الغيم) يشير إلى أن خطاه في عالم الروح أشبه بالأفق الذي يتراءى وكأنه يسير على طريق متعرج كتعرج حركة الغيم فيه، لكنه في الحقيقة هو ثابت في مكانه، وقوله: (وفي الرعد ينام) أي ينتهي إلى حيث يتبدد الغيم بالرعد، وتلك إشارة إلى أصوات الانفجارات التي هي أشبه بأصوات الرعود، التي تمنع الأحياء من النوم، ومجمل القول: إنه لم يستطع حتى أن يهدأ إلى روحه من شدة الاضطراب والقلق والخوف، ولم تسعفه روحه في إيجاد مخرج للفكاك والخلاص مما هو فيه، وقوله: (همدت في ثغره حمى الرصيف) يشير إلى العجز في النطق عن التعبير وكأن الحمى المنتقلة عبر الرصيف قد سكنت في ثغره، فلم يعد يقوى على الكلام، وقوله: (وذوى في ثغره غصن كلام) أي ذبل الكلام في ثغره كما يذبل غصن الشجرة ولم يعد يقوى على الحياة، والمعنى أنه أصبح على درجة من الخوف والحصار لم يعد يستطيع فيها الحديث في شيء، ولم يعد يستطيع الحديث فيها عن شيء، بعد أن كان يملأ المكان ضجيجا وصخبا بالحيوية والعنفوان والحركة والحياة، حتى الكلام الحي الذي يعبر عن المعاني والقيم والمواقف بقي في ثغره عاجزا عن أن يقول منه شيئا، وقوله: (هو أرض هربت أطرافها) ليس دلالة على الامتداد والاتساع بقدر ما تدل على أنه يتداعى ويتبدد، نتيجة الظروف القاهرة المريرة وقوله: (تتلاشى كالضباب) أي الأرض التي هربت أطرافها وهي تتلاشى كما يتلاشى الضباب، فلعل الجسد قد أخذ هو الآخر ينحف ويضمر حتى يكاد ينتهي، وقوله: (عزلة أضيق من عود ثقاب) حين ينكرك الأصدقاء والصحب والرفاق ولأهل والخلان، وحين تعجز عن البوح بالأسرار إلى أقرب المقربين لك، وحين يتنكر لك أقرب المقربين، حين تواجه هذا الانهيار الكبير في القيم والمبادئ والأخلاق، ذلك يعني أن حصار قاهرا قد حل بك، وتكون العزلة طريقك للتعبير عن الرفض والاحتجاج الشامل، ويبقى إحساسك بهذا الحصار يتضاعف حتى يكاد أن يصبح أشد ضيقا من عود الثقاب، ولا بد من ملاحظة أن عود الثقاب على صغره فإن يشير إلى إمكانية احداث الحرائق الكبرى، وذلك يشير إلى أن هذه العزلة هي ظاهرة خطرة في مجتمع وبيئة تعاني من الانهيار الأخلاقي والقيمي الشامل فقد تسبب انفجارا تكون نتيجته إشعار حرائق قد لا تنتهي .

الصورة الشعرية:

هذا الفرع ذاخر بالصور الشعرية، فقوله: (حين في مدجنة الذعر أقام) صورة ثنائية البعد لأن التركيب يحوي على استعارتين بأن معا، وقوله: (في مجمرة الروح تمشى خطوتين) صورة ثنائية البعد أيضا، وقوله: (لمّ في فخذيه قطعان يمام) صورة ثنائية البعد أيضا، وقوله: (أفق يعرج في الغيم وفي الرعد ينام) صورة ثلاثية الأبعاد، لأن التركيب يحوي على ثلاث استعارات معا، ومثل هذه الصور في تقديري يعد مؤشرا أساسا على الإبداع الشعري، ومثلها في الشعر عموما قليل، وقوله: (همدت في ثغره حمى الرصيف) صورة ثنائية البعد،وقوله) وذوى في ثغره غصن كلام) صورة بيانية ثنائية البعد، وقوله: (هو أرض هربت أطرافها) استعارة، وقوله: (تتلاشى كالضباب) تمثيل .

الفرع الثالث: (شهوة)

يقول الشاعر: (خالها كالكستناء

خلعت فروتها، وانفردت في شفتيه

خالها فوضى

وكانت شهوة ترغل في الفخذ

وتأوي في يديه

حين، في نافورة الوجد، أتاها

سقطت كالمومياء)

يبين هذا الفرع الصورة المتخيلة المشتهاة، وعقدته (خالها كالكستناء) وشعبته الرئيسة هي: (خالها فوضى)، أما شعابه الثانوية فهي: (خلعت فروتها) و(وانفردت في شفتيه) و(كانت شهوة) و(ترغل في الفخذ) و(تأوي في يديه) و(حين في نافورة الجد أتاها) و(سقطت كالمومياء) .

صدمة المعنى:

الأسلوب في هذا الفرع كما هو واضح خبري، والمعنى العام يشير إلى شهوة جسدية جنسية بحته، ولكن كيف عبر عنها الشاعر؟ وأين الصدمة؟ أما

قوله: (خالها كالكستناء) بما يوحي لباسها البني، لعلها فتاة حانة، أو لعلها أنثى في احتفالية خاصة أو عامة، أو قل أنثى جاءت إلى لقاء عابر، فقد خالها العاشق طرية شهية كالكستناء، وقوله: (خلعت فروتها وانفردت في شفتيه) يشير إلى أن الطقس شتوي لأنها ترتدي فروة، ويشير إلى أن الفروة بنية بلون الكستناء، وخلعها للفروة يشير إلى أنها كانت غير ما تخيل، إذ أخذت تبادله القبل، وقوله: (خالها فوضى) يشير إلى أن سلوكها المفاجئ يدل على فوضويتها والاستجابة السريعة لشهوة جسدها، وقوله: (وكانت شهوة ترغل في الفخذ) يعني أنه استجاب هو الآخر إلى الرغبة إذ كانت تنبت ثم تصعد من فخذه، وقوله: (وتأوي في يديه) أي يداه طافحتان بالشهوة الحارة، وقوله: (حين، في نافورة الجد، أتاها) أي في الوقت الذي باشرها بالحب وفيض المشاعر، في ذلك الوقت الذي عبر لها عن شدة هيامه وحرارة شوقه وفيض هيامه، في تلك اللحظة يقول عنها: (سقطت كالمومياء) كأنها جثة محنطة، والصدمة في المعنى تتمثل في أنه تخيل أن تلك الأنثى شهية طرية ناعمة كالكستناء وكاد أن يظفر فيما ظنه بها حين بادرت واستجابت، وظنها أنها تمثل حالة من فوضى الجسد كالتي كان يعيشها ويحتاجها ويتمناها، لكنها في الحقيقة كانت جسدا فارغا من الحياة، لا مشاعر فيه ولا أحاسيس أو عواطف مثيرة دافئة . اما الصور البيانية فواضحة .

الفرع الرابع: (علاقة)

يقول الشاعر: (لف ساقيه على قامتها حوض سخونهْ

سقطت في ركبتيه

طاف في أطرافها السفلى ليونة

سقطت في شفتيه

قاد في كفيه قطعانا من الجمر

وغطى الشرفتين

لم يذق رائحة اللحم الذي مر عليه )

الاستدراك أول:

" أين سافرت، وفي أي رنين ستقيم؟

ولماذا ضعت في وهم الطنين؟

أيها المفرد كالدرب إلى القعر،

تشعب كالظنون " .

يبين هذا الفرع سر العلاقة التي تربطه بها، وعقدته (لف ساقيه)، وشعابه الرئيسة: (طاف في أطرافها) و(قاد في كفيه) و(غطى الشرفتين)، أما شعابه الثانوية فهي: (سقطت في ركبتيه) و(سقطت في شفتيه) و(لم يذق رائحة اللحم) و(أين سافرت) و(وفي أي رنين ستقيم) و(لماذا ضعت في وهم الطنين) و(ايها المفرد كالدرب) و(تشعب كالظنون) .

البيان في الأسلوب:

الأسلوب كما هو واضح فهو خبري في قسمه الأول، فيما هو إنشائي في قسمه الثاني، باستخدامه الاستفهام والنداء، أما المعاني فمجازية، ففي قوله: (لف ساقيه على قامتها حوض سخونه) يعطي الأساس في هذه العلاقة وهو الجانب الحسي، بدليل التفاف الساقين حول القامه، وهذا لا يكون في علاقة حسية بين رجل وامرأة، ليجعلنا نبتعد في فهم الرمز هنا، فالمشاكلة بين التفاف ساقي الطفل حول جذع الشجرة مشكّلة حلقة حوله مثلا، أو بين التفاف ساقي مثلث ليصبحا على شكل الحوض الذي يشير إلى الدائرة أيضا، يساعد في ملاحظة أن المعنى الحسي هنا ينقلنا إلى ما هو أبعد من ذلك، إنه يقود إلى العقلي، فكلمة الساق هنا تشير إلى الاستقامة، والحوض يشير إلى الاستدارة، وهنا سر العلاقة التي يتحدث عنها الشاعر وإن بدت بعيدة شيئا ما، فما سر العلاقة بين الاستقامة والاستدارة؟، أو المستقيم والدائرة، إن حركة الدائرة (الدولاب) على المستوي (الارض) تشكل خطا، وإذا كان الخط مستقيما مثّل المستقيم حركة دائرة على مستويه، وهنا لا أريد أن أدخل في بحث فلسفي عن علاقة الأشكال الهندسية بعضها ببعض ودلالاتها الفلسفية في نظرية المعرفة، بقدر ما أريد أن أوضح أن العبارة الشعرية في سياق النص يمكنها أن تختزن طاقة دلالية تجعلها تتجاوز القريب إلى الأبعد، وتجعلها تتجاوز الحسي إلى المجرد، وتجعلها تتجاوز الواقع إلى الماوراء، والأمر يتوقف على قدرة الشاعر نفسه في إحداث علاقات متشابكة في بنية النص، وقدرته على التكثيف في التعبير عن نقاط ارتكاز تلك العلاقات بحيث يمكّن قارئه من الكشف عنها، وإلا ستبقى مبعثرة أو دفينة لا يمكن الوصول إليها فيضيعها ويضيع القارئ، وهذا النص الجملة الشعرية فيه مكثفة قصيرة،ونصوص القصيدة عموما قصيرة وكأنها دعوة الشاعر لكتابة النص الشعري القصير والمكثف بما يتناسب مع العصر وما من شك أنه نص متعب، وأنه يحتاج إلى مزيد من التأمل وأنا بكل صراحة سأبتعد معه إلى أبعد إمكانية أستطيعها لسبره وكشف سره، لأن وفيق بالإضافة إلى أنه شاعر فهو ناقد، وبالإضافة إلى أنه ناقد فهو مفكر، وبالإضافة إلى أنه مفكر فهو مثقف كبير ومجاله الفلسفة والسياسة، وهأنذا لن أضيع الفرصة في الاجتهاد لإعطاء هذا النص حقه بقدر ما أستطيع، إذا الالتفاف يتجانس مع الحوض، والاستقامة متجانسة مع القامة ولكن هنا (سخونة) ماذا تفيد؟ ، هل تعني الحرارة؟، ثم من الذي كان ساخنا؟ هل الساقان الملتفتان كالحوض حول القامة؟، أم أن القامة هي التي كانت ساخنة فتحولت الساقان إلى حوض سخونة بفعل الالتفاف وتبادل التأثير؟ الاحتمالات كلها واردة والعبارة عليها دالة، ومجمل القول فإن العلاقة كانت ساخنة لجهة الالتفاف والملتف، أما عن القامة !، فقوله: (سقطت في ركبتيه) يدفعنا للتساؤل  لماذا كان السقوط؟ هل كان السقوط بسبب السخونة؟ أم بسبب الاختلاف وعدم التوازن بين طرفي العلاقة، التفاف الساقين واستقامة القامة ! ولماذا السقوط في الركبتين تحديدا؟ لعل الأمر محير ! أو أنه عصي عن الفهم، ومهما يكن من أمر فلا يمكننا أن نقول أن المعنى ليس مستقرا لدى الشاعر، أو أن الدلالة ضبابية غير واضحة لأن النظم لم يحسن حمل المعنى على النحو الذي يستقيم فيه الفهم، كما يحلو لبعض النقاد الكلاسيكيين أن يبرر في مثل هذه الحالات، فالنص الشعري ذو معنى بلا شك، وكذلك التركيب الشعري، هذا مبدأ يستحسن أن يقرره النقد أولا، ولا يمنع أن يقوم النقد بمناقشة الأوجه الممكنة، فالسقوط هنا كان بسبب عدم التوازن، ولكن عدم التوازن هذا ربما يكون بسبب سخونة الحوض، أو بسبب عدم التكافؤ في شكل العلاقة، وقد يكون السبب أن القامة كانت على النقيض، لعلها كانت باردة، وتلك السخونة جعلتها تتداعى وتسقط، وقد يكون بسبب حرارتها الزائدة وسرعة الاستجابة المعبر عنها بالسقوط، ولكن لماذا كان السقوط في الركبتين، ثم لماذا استخدام (في ركبتيه) و(ليس على ركبتيه) ؟ إن هذه الأسئلة أساسية من أجل المناقشة والمشاركة في التفكير في مثل هذه التراكيب، إنها أسئلة تقارب الأسئلة الفلسفية، لأنها الطريق الأقرب إلى فهم المعنى الفلسفي، وبالتالي الكشف عن إمكانية الإجابة الفلسفية، وقد تكون المناقشة الفلسفية نفسها وإعادة طرح الأسئلة بصيغ مختلفة اختلاف الإمكانات نفسها إحدى أشكال الرياضات الذهنية لإعمال الفكر والوصول إلى القاع في العمق، والوصول إلى الذروة في الأعلى، والآن لو تخيلنا الساقين ملتفتين كالحوض مع قامة الرجل، وتخيلنا قامتها محور ذلك الحوض، وأن تلك القامة قد سقطت، بكل تأكيد سيكون السقوط نحو الأسفل إلى القعر وسيكون القعر نقطتي الارتكاز للشكل المفترض وهما الركبتان من دون شك، وهكذا نكون قد عرفنا لماذا استخدم الشاعر (في الركبتين) وليس (على الركبتين)  لأنهما على الشكل الذي قدمته في الصورة الشعرية فإن الركبتين تمثلان القاع والسقوط فيهما، وأما إمكانية اعتبار أن قوله (سقطت في ركبتيه) يعني (سقطت على ركبتيه) فذلك ممكن ووارد فإن القول: (سقط على الماء) قد يعني: (سقط في الماء)، والأمر يتوقف على ثقل الجسم الساقط، وقوله: (طاف في أطرافها السفلى ليونة) أي طاف طوافا ليّنا على أطرافها السفلى، وبالعطف على الجملة السابقة يعني: جرب الشكل الأول من العلاقة فكان السقوط إلى الأسفل، دليل الفشل فيها، ثم جرب الليونة في استثارتها من أطرافها، فكانت النتيجة السقوط  والفشل أيضا، وباختصار كل هذا يشير إلى العقم في العلاقة، وقوله: (قاد، في كفيه، قطعانا من الجمر)، أي كان حارا مقبلا بكليته بتلك العلاقة، وقوله: (غطى الشرفتين) أي غطاهما بكلتا يديه الملتهبتين بجمر الرغبة، وقوله: (لم يذق رائحة اللحم الذي مر عليه) يشير إلى أنه على الرغم من كل هذا الإقبال، والمحاولات لإيجاد صيغ للعلاقة فقد بقي جسدها لحما لا مشاعر فيه ولا حياة، بقي جسدها لحما عقيما لا لون له ولا طعم ولا رائحة .

ثم يستدرك: والاستدراك هو مسار اعتراضي ثانوي قاطع للفرع، يريد الشاعر من خلاله أن يركز على حكم أو مزايا أو قيم أو مقولات أو خلاصات يريدها ويؤمن بها ويتبناها، أي أن الشاعر هو المعترض مستدركا، فيقول: (أين سافرت وفي أي رنين ستقيم؟) متسائلاً: عن الأمكنة التي سافر إليها في إشارة من الشاعر إلى أن الأمكنة التي قصدها كلها والتي حاول فيها أن يقيم علاقات حميمة عمادها الصدق والحرارة والإخلاص والتضحية، إنما كانت من جهته فقط وقد سقطت بسبب الآخر الذي لم يكن وفيا صادقا فيها، وعلى وجه الخصوص علاقته مع الأنثى، أما عن تساؤله في أي رنين ستقيم؟ أي على أي إيقاع من إيقاعات الحياة ستمضي ما تبقى لك؟ أو على أي نمط من أنماط العلاقات ستكون؟ وقوله: (ولماذا ضعت في وهم الطنين؟) يشير إلى الوهم الذي كان يعيشه من الخاص إلى العام، وهم الفكر والثقافة والقيم والمبادئ والمعتقدات، وهم العلاقات، ويختم بالقول: (أيها المفرد كالدرب إلى القعر) أي لم يبق غيرك وحيدا على طريق الحق الذي يوصلك الجوهر، (تشعب كالظنون) فلتكن علاقتك بالأشياء والمحيط وفي المستويات كافة متشعبة كالظنون التي تتولد باتجاهات شبكية لا نهاية لها . والمعنى العام للمقطع كما يوحي به النص، إن هذه العلاقة بمختلف أشكالها وصيغها، وخاصة العلاقة الجنسية بين الرجل والمرأة التي تمثل سر التجدد واستمرار الحياة تعاني من عقم في حقيقتها، والشاعر في أعماقه يحتج عليها ويرفضها . ولكن هذا الرفض يرتبط بالظروف التي يعيشها الشاعر، من دون أن تكون قطعية ونهائية . بدليل أنه مازال على أمل باستمرار الحياة وتجددها .

الصور البيانية:

قوله: (لف ساقيه على قامتها حوض سخونة) استعارة، وقوله: (سقطت في ركبتيه) استعارة، وقوله: (طاف في أطرافها السفلى ليونة) استعارة، وقوله: (سقطت في شفتيه) استعاره، وقوله: (قطعانا من الجمر) استعارة، وقوله: (غطى الشرفتين)، والتركيب: (قاد، في كفيه، قطعانا من الجمر وغطى الشرفتين) صورة ثنائية البعد لأنها تتضمن استعارتين، وقوله: (في أي رنين ستقيم) استعارة، وقوله: (ضعت في وهم الطنين) استعارة،  وقوله: (تشعب كالظنون) استعارة .

الفرع الخامس: (شاعر)

يقول الشاعر: (مترعا بالحضور

هب يرعى الطيور

ويغاوي بعيد البحار الطليقة

كان بالأمس يطوي الرصيف

ويلم الشوارع عن كتفي بردى

أو يطير

كان يبكي على قبر من خالها أمه

ويحه

جن خلف الحديقة)

الاستدراك ثان:

" في التعاريج مضى يهذي

وفي ثدي التفاصيل ينام

كوكب مشتعل في ثغره

شاعر يخلع عينيه على الدرب

ويرعى في البحيرات الطيور

شاعر حرّ الكلام) .

يبين هذا الفرع صورة الشاعر، وعقدته (مترعا بالحضور) وشعابه الرئيسة هي: (هب يرعى الطيور) و(يغاوي بعيد البحار الطليقة) و(يطوي الرصيف) و(يلم الشوارع عن كتفي بردى) و(او يطير) و(وكان يبكي) و(مضى يهذي) و(وفي ثدي التفاصيل ينام) و(يخلع عينيه على الدرب) و(يرعى في البحيرات الطيور) أما شعابه الثانوية فهي: (جن خلف الحديقة) و(في التعاريج مضى يهذي) و(كوكب مشتعل في ثغره) و(شاعر حر الكلام) .

التخييل الشعري:

صورة الشاعر هنا تعتمد على التخييل أكثر مما تعتمد على الواقع، وهي صورة الشاعر التي أنتجتها مخيلة شاعر أيضا، وهذا ما يجعل الصورة لها مبراتها، ولها معانيها ودلالاتها، فقوله: (مترعا بالحضور) يعني حضوره بكليته، وهو بكامل ملكاته النفسية والجسدية والمعنوية، وقوله: (هب يرعى الطيور) إشارة إلى نهوضه السريع كمن عليه واجب وقد فرض على نفسه أن يقوم به من غير تأخير، وما هو هذا الواجب؟ هو كما يقول الشاعر: (يرعى الطيور) وعدم وجود فاصل بين الفعلين هب ويرعى يشير إلى أنه شرع بالرعي والرعاية فور هبوبه، و(يرعى الطيور) يعني إعلان مسؤوليته عن حمايتها، والأصل أن الراعي يكون للحيوانات الأليفة، أما الشعر هنا فيرعى الطيور الحرة، أي الشاعر هو من يدافع عن الحرية، فيحمي حرية المتحررين أصلا، ويدافع من أجل الحرية لمن كان محروما منها، وقوله: (ويغاوي بعيد البحار الطليقة) أي يحاول أن يغوي بحار اللغة البعيدة بما يملك من القدرة على استحضار المعاني والدلالات، وقوله: (كان بالأمس يطوي الرصيف) أي يتسكع ويقطع المسافات سريعا كأنه يطويها طيا، وقوله: (ويلم الشوارع عن كتفي بردى) أي يريد نهر بردى أن يتدفق بكل راحة وانسيابية من دون أن ترهقه الشوارع المنتشرة على ضفتيه، إنه يحس بتعب النهر ووجع الأرصفة وخوف الطيور وغربة البحار، وقوله: (أو يطير) لأنه لا يريد أن يشكل ثقلا إضافيا على نهر بردى وهو يتجول على أرصفة تلك الشوارع، فيطير طيرانا أو يكاد، وقوله: (كان يبكي على قبر من خالها أمه) أي أنه كان يبكي على كل قبر يمر به، لأنه يخال أن قبر أي امرأة هو قبر أمه، وهو يبكي كل امرأة تركت طفلها ورحلت، لكأنه بمثابة ذلك الطفل، وقوله: (ويحه) أي: يا ويحه: ما أروعه وما أدهشه ! وقوله: (جن خلف الحديقة) أي كم كان مدهشا ورائعا حين بدا كالمجنون خلف الحديقة، ولا بد من التوقف عند معنى هذا القول، أولا لماذا جن؟ ولماذا خلف الحديقة؟ إن السياق لبنية هذا الفرع تشير إلى صورة الشاعر الذي يتصف بصفات لا يتصف بها العامة من الشعراء، على الرغم من أن الشعراء عموما يكونون على درجة عالية من الحساسية والعاطفة، وعلى درجة عالية من الإحساس بهموم ومعاناة العامة من الناس، أما هنا فالشاعر أشبه بملاك محبة وقديس انسانية استثنائي، فهذا الشاعر حين لم يستطع أن يرعى الطيور التي هب يرعاها وحين لم يستطع أن يلم الشوارع عن كتفي بردى، وحين خال أن أمه قد رحلت إلى غير رجعة أصيب بالجنون، وهو لم يظهر ذلك في الحديقة أمام العامة إنما ابتعد خلف الحديقة وهو يعلن رفضه لعجزه عن تحقيق ما يريد، فكانت تلك الصورة رائعة مدهشة .

ثم يستدرك فيقول: (في التعاريج مضى يهذي) أي هذا الشاعر الموصوف على النحو الذي تقدم يمضي في الطرقات المتعرجة وهو يردد كلاما غير معقول، كالذي تقدم في صدر الفرع، ويبدو كأنه في حالة مرضية أو يعاني من اضطرابات حادة توحي باللاعقلانية وعدم التوازن، وقوله: (في ثدي التفاصيل ينام) أي يضخم التفاصيل حتى تنتفخ ويصبح كأنها الثدي، ويمعن في تضخيمها من دون أن يمل حتى يتملكه النعاس ويدركه النوم، وقوله: (كوكب مشتعل في ثغره) أي كلامه كالأنوار المتلألئة في استمرار توهجها من دون انقطاع كالكوكب السيار، وقوله: (شاعر يخلع عينيه على الدرب) لتصبحا كالعدسة التي تلتقط أدق تفاصيل أحوال المارة، وقوله: (ويرعى في البحيرات الطيور) فالتكرار هنا بالقول: (يرعى الطيور) لا يعني التكرار بقدر ما يعني الاستدراك، فقوله  في صدر الفرع: (هب يرعى الطيور) يفهم منها طيور البر أو الطيور عموما، أما هنا بقوله: (ويرعى في البحيرات الطيور) يعني طيور الماء، وفي الحالتين هكذا هو الشاعر كما يقدمه الشاعر ويصفه بقوله: (شاعر حر الكلام) أي جعله مختلطا عن طريق إحداث علاقات متداخلة بالدلالات ومتشابكة بالمعاني حتى بدا وكأنه ضبابي على الرغم من حرارة الأحاسيس وصدق العواطف .

الصور البيانية:

الفرع ذاخر بالصور البيانية، فقوله: (مترعا بالحضور) صورة ثنائية البعد لأنها تتضمن استعارتين بآن معا، وقوله: (هب يرعى) استعارة ، و(يرعى الطيور استعارة، والتركيب: (هب يرعى الطيور) صورة ثنائية البعد، وقوله: (يغاوي بعيد البحار الطليقة) استعارة، وقوله: (يطوي الرصيف) استعارة، وقوله: (يلم الشوارع) استعارة، وقوله: (كتفي بردى) استعارة، ويصبح التركيب: (يلم الشوارع عن كتفي بردى أو يطير) صورة ثلاثية الأبعاد، وهذه ميزة الشاعر المبدع حقا، وقوله: (في التعاريج مضى يهذي) استعارة، وقوله: (وفي ثدي التفاصيل ينام) استعارة، (كوكب مشتعل في ثغره) صورة ثنائية الأبعاد، وقوله: (شاعر يخلع عينيه على الدرب ويرعى في البحيرات الطيور) صورة ثنائية الأبعاد، وقوله: (شاعر حر الكلام) استعارة .

الفرع السادس: (نبأ وهرولة وريف)

الشعبة الأولى: (هروله)

يقول الشاعر: (هرولت في المثابرة

قرية، وتداعى الهواء إلى الذاكرة

حين، في الزمهرير، انبرى العاشقون

سقطت غيمة في العيون )

الشعبة الثانية: (نبأ)

يقول الشاعر: (حين غادرت السباحة

أنبتني الشجرة

حين، في ساقية السفح، تعريت، ونمت،

سورتني الشجرة)

الشعبة الثالثة: (ريف)

يقول الشاعر: (الصبايا في الممرات تسللن

وفي الحقل تحامى العاشقون

والمحاريث على ناصية السهل سؤال:

كيف لا يندلع القمح من الأرض

ولا يقفز في الثلج الجنون؟)

في هذا الفرع ثلاث صور في صورة القرية النائية على الجبل، فالشعبة الأولى عقدتها (هرولت)، وشعابها الثانوية هي: (تداعى الهواء إلى الذاكرة) و(انبرى العاشقون) و(سقطت غيمة في العيون)، والشعبة الثانية عقدتها (حين غادرت السباحة)، وشعابها الثانوية هي: (أنبتني الشجرة) و(تعريت) و(نمت) و(سورتني الشجرة)، والشعبة الثالثة عقدتها (الصبايا في الممرات تسللن)، وشعبها الثانوية هي: (تحامى العاشقون) و(المحاريث على ناصية السهل سؤال) و(يندلع القمح من الأرض) و(يقفز في الثلج الجنون) .

في المعنى:

في الشعبة الأولى والثانية الأسلوب خبري، أما في الثالثة فالأسلوب خبري وإنشائي، والمعنى مجازي، فقوله في الشعبة الأولى: (هرولت في المثابرة) أي مسرعة مستمرة بيقين وثبات، (قرية) كذلك كانت القرية النائية على السفح، وقوله: (وتداعى الهواء إلى الذاكرة) يشير إلى أن هبوب الريح في تلك القرية أعاد إلى الذاكرة صور الرياح القوية العاتية التي كانت الأشجار حتى تقتلعها من جذورها أو تكاد، الرياح الغاضبة تصفق الأغصان، وتحمل الغبار والبقايا الخفيفة عن السياجات ومكادس الحطب، الرياح التشرينية أو رياح شباط قبل أن يودع الشتاء تلك السفوح الباردة، وقوله (حين، في الزمهرير، انبرى العاشقون) يشير إلى مشهد العشاق في ذلك البرد الشديد بسبب ذلك الطقس المخيف، حيث يتكسر الكلام على الشفاه التي تكاد أن تتجمد فلا تستطيع الأيدي ان تنقل حرارة اللهفة، ولا يمكن للشفاه أن تسرق الورد عن الخدود، إنه البرد القارس الذي يجعل الأسنان تصطك، كما تجعل الوجوه شاحبة والأنفاس متعبة، وقوله: (سقطت غيمة في العيون) أي في الزمهرير حين انتصب العاشقون ووهبوا أنفسهم للعشق، كانت الدموع تنهل من اعينهم بسبب ذلك البرد وكأن فيها غيمة مترعة بالأمطار، وهذه الصورة يشهدها ويعرفها عشاق قريتي وعشاق القرى المماثلة كلها، لأن قوة الرياح وما تحمله من غبار تملأ العيون وتأخذ تدمع بغزارة، لكأن العشاق يبكون من شدة حزنهم لأن الطقس جعلهم يفشلون في مهمة العشق التي نذروا أنفسهم لها .

وقوله في الشعبة الثانية: (حين غادرت السباحة، أنبتني الشجرة) ، الصدارة هنا لوقت مغادرة السباحة، وإن كانت الجملة (حين غادرت السباحة) غير مكتملة المعنى وقوله: (أنبتني الشجرة) أي لامتني لوما شديدا، وهنا لا بد من التساؤل لماذا أنبته الشجرة؟ وما دلالة ذلك في سياق القول؟ نلاحظ أن الشاعر يعطي مستويات للمعنى في السياق، فالسباحة بالنسبة لفتى  القرية دليل النشاط والرياضة والحركة والحيوية، إنها العنفوان وتجدد الطاقة، والشجرة رمز الحياة وتجددها، فكأن هذا الانسجام بين الرمزين الدالين على صفات أساسية مشتركة تشير إلى الحيوية والتجدد، هذا من جانب، وإذا لا حظنا أن الشاعر لم يذكر سبب مغادرة السباحة وترك الأمر مكتوما، لعله الخوف من أحد سباحي القرية الظالمين، أو لعله استاء من سلوك بعض زملائه أثناء السباحة، أو لعله غادر السباحة لرد فعل لم يكن يستدعي منه المغادرة، فغادر في توقيت غير مناسب، وبما أنه لم يوجد من يلقي عليه اللوم من الأحياء وقت المغادرة، فأراد الشاعر أن يستخدم معادلا  طبيعيا متجانسا مع طبيعة الفعل وصفته الأساسية الملازمة وهي الشجرة لتأنيبه وتوبيخه، والمهم أن النص يبين أن الشجرة التي هي رمز الحياة وتجددها تتنافى طبيعتها مع مغادرة فتى القرية السباحة فكان التأنيب منها دالا ومعبرا، وقوله: (حين في ساقية السفح، تعريت، ونمت، سورتني الشجرة) وهنا تتضح الصورة وتكتمل، ونتبين أن تأنيب الشجرة في الشعبة السابقة كان بدافع الحب والحرص، وليس بدافع التوبيخ والإهانة، لأن المشهد هنا يبين ذلك ويوضحه، ففي الساقية يسبح أطفال القرية، ويكون الوقت صيفا فيتعرى الصبي وقد يحصل أن ينام في ذلك السفح وهذا ما يعنيه النص، حين تعرى الصبي ونام في ساقية السفح، الشجرة هي من حمته من شر محتمل في ذلك المكان البعيد عن القرية، كما أن الشجرة هي التي أنبته حين غادر السباحة، والمعنى الأعمق الذي يعنيه الشاعر هنا هو: إن لكل شيء طبيعة، فكما لجسم الإنسان طبيعة ووظيفة، فكذلك للنبات طبيعة ووظيفة، ولكن الإنسان يمكنه أن يعبر عن طبيعته وعن وظيفته عن طريق وسائل الاتصال المختلفة، ولكن النبات ليست لديه القدرة على التعبير عن طبيعته ووظيفته، لكن المعرفة بتلك الطبيعة وتلك الوظيفة تجعل الشاعر قادرا على التعبير عن التجانس في الطبائع والوظائف، وإيجاد علاقات جمالية فيما بينها، كما يمكنه إيجاد قواسم مشتركة فيما بينها، إنه يجيد لغات الأشياء الجامدة حتى لو عجز عن محاورة  الكائنات الحية . لأن الشاعر له طبيعة وله وظيفة أيضا .

وقوله في الشعبة الثالثة، (الصبايا في الممرات تسللن) يبين صورة الصبايا في تلك القرية البعيدة النائية وهن يذهبن خلسة عبر الممرات فيها إلى حيث العشاق، وقوله: (وفي الحقل تحامى العاشقون) يبين كيف أن العشاق يصدون عن المواعيد معهن بحجة انشغالهم بالعمل في تلك الحقول، وقوله: (والمحاريث على ناصية السهل سؤال) إشارة إلى أن محاريث العشاق التي تشق الأرض على أطراف السهل تتساءل باستغراب، بقوله: (كيف لا يندلع القمح من الأرض ويقفز في الثلج الجنون؟) مادام الشباب العاشقون يحرثون الأرض بمحاريثهم، وكيف لا يصيب الصبايا العاشقات الجنون من برودتهم وتغافلهم عنهن، وفي هذا التوضيح نكون قد ابتعدنا عن المعنى، مع أننا أعطينا تفسيرا للتركيب الشعري، لنصل إلى نتيجة هامة مفادها أن الشعر لا يمكننا بلوغ معناه بالتفسير فقط، لا بل على العكس فقد يزيد تفسير الشعر النص غموضا  وربما تناقضا كما هو الحال هنا، لأن السؤال يشير إلى ان الأرض جدباء لا ينبت فيها القمح على الرغم من حراثتها بالمحاريث، وأن العلاقة بين الصبايا العاشقات اللواتي يتسللن عبر المرات إلى حيث العشاق وبين العشاق أنفسهم هي علاقة عقيمة أيضا، لأنهم أي العشاق يتحامون بالعمل في الحقول في انشغالهم عنهن والذي يشير إلى هذا المعنى ويعتبر أساسا فيه هو استخدام كلمة (تحامى) وهذه الكلمة هي التي تعتبر الأصل في توليد المعنى المراد هنا، وأهميتها تكمن في سياقها عبر التركيب الشعري.

الصور البيانية:

يبدو الحضور في هذا الفرع للمعنى وإن كانت الصورة الشعرية حاضرة فيه، فقوله: (سقطت غيمة في العيون) صورة بيانية ثنائية البعد لأنها تتضمن استعارتين معا، وقوله (أنبتني الشجرة) استعارة، وقوله: (سورتني الشجرة) استعارة، وقوله: (والمحاريث على ناصية السهل سؤال) استعارة، وقوله: (يقفز في الثلج الجنون) استعارة .

الفرع السابع: (الحلم)

الشعبة الأولى: يقول الشاعر: (كان مختبئا في الهواء

حين عاد البنفسج من غيمة في الجبال

كان منتشرا في النسيم

والفراشات مخمورة بالضياء

حين قمّطني، وانتشى )

الاستدراك الأول: يقول الشاعر (عاد للبيدر اليتيم

نيزك يرتدي معطف المهرجان

عاد نجم القرنفل والأقحوان)

الشعبة الثانية: يقول الشاعر: (كان يرعى قطيع الغيوم

حين طوقته بالكلام المضيء

حرني واختفى)

الاستدراك الثان: يقول الشاعر: (... من صبايا السنابل

يلبس الضوء والندى

والمواويل حوله

عاشق يسكن الصدى)

الشعبة الثالثة: يقول الشاعر: (وتجمعت صحوة

قلت: لا بد أن نلتقي

حين قابلته في النهار

سقط الريش والغبار)

الاستدراك الثالث: (بذار)

يقول الشاعر: (كما العشب، حين يرتجل المزامير

كما الشيخ، حين يتفقد ذكرياته

كما العيون حين تقود عشاقها

أبدأ البذار العظيم)

هذا الفرع يبين فيه الشاعر صورة الحلم وكيف يتجلى له، فالشعبة الأولى عقدتها، (كان مختبئا) وشعابها الرئيسة هي: (كان منتشرا في النسيم) و(حين قمّطني وانتشى) أما شعابها الثانوية فهي: (حين عاد البنفسج في غيمة في الجبال) و(والفراشات مخمورة في الضياء) . أما الاستدراك الأول فعقدته الرئيسة، (عادر للبيدر اليتيم) وشعابه الرئيسة: (يرتدي معطف المهرجان) و(عاد نجم القرنفل والأقحوان)، والشعبة الثانية عقدتها الرئيسة، (كان يرعى قطيع الغيوم ) وشعابه الثانوية: (حين طوقته بالكلام المضيء) و(حرني) و(واختفى) . والاستدراك الثاني عقدته: (من صبايا السنابل)، وشعابه الثانوية هي: (يلبس الضوء والندى) و(والمواويل حوله) و(عاشق يسكن الصدى) . والشعبة الثالثة عقدتها الرئيسة (وتجمعت صحوة) وشعبيته الرئيسة هي: (قلت: لا بد ان نلتقي) أما شعبتاه الرئيستان فهما: (حين قابلته في النهار) و(سقط الريش والغبار)، والاستدراك الثالث عقدته (كما العشب ؛ حين يرتجل المزامير) وشعابه الثانوية هي: (كما الشيخ ؛ حين يتفقد ذكرياته) و(كما العيون ؛ حين تقود عشاقها) و(أبدأ البذار العظيم) .

في المعنى:

من منا لا يحلم، من منا حين ينام لا يرى أشياء وأمكنة لم يرها من قبل، في الحلم قد ترى الأشياء ليست على الشكل التي تراها في اليقظة، وهنا في هذا الفرع سنمضي مع الشاعر وهو يتحدث عن الحلم، فقوله: (كان مختبئا في الهواء) هذا افتراض يضعه الشاعر وسنقبل به مادام قد وضعه في سياق القصيدة، إذ ليس المهم في الحقيقية بالمعنى الشعري أين كان الحلم بقدر ما هو المهم المكان كما يريد الشاعر أن يوظفه الشاعر في سياق التركيب الشعري، عندها يمكن أن نقبل أو لا نقبل مكان وجود الحلم، وهنا تتجلى حرية الشاعر الفنية، الأشياء كلها بين يديه وهو حر في إحداث المعاني وإنشاء التراكيب وبناء القصيدة، والشاعر يحدد زمن اختباء الحلم بقوله: (حين عاد البنفسج من غيمة في الجبال) وهذا الربط بقدر ما يجعل الزمن مجهولا بقدر ما يبدو المعنى متسعا ولا يمكن القبض عليه في الشرح، لماذا؟ لأن عودة البنفسج تشير إلى دورة الفصول وعودة الربيع إلى تلك الجبال حيث ينبت البنفسج الجميل على أحقاف الصخور وبين أحراج الغابات والحقول، لكن عودة البنفسج من غيمة في الجبال، ذلك يعني أن البنفسج يسكن الغيم، وهل يوجد نبات لا يسكن الغيم؟ فالشاعر بهذه المقاربة بين عودة البنفسج للانبعاث والنمو نتيجة دورة الفصول وانهمار المطر، وبين اختباء الحلم في الهواء يشير إلى أن الحلم كان سببا في انبعاث البنفسج، فالهواء كما هو معلوم في الجبال يكون قويا ولا يمكن للبنفسج الضعيف أن يقاوم الهواء فيذبل ويموت، لكن حلم الطبيعة يتحقق حين تتوفر الأسباب في سكون الهواء في الربيع بعد الشتاءات القاسية في الجبال العالية ليصبح المناخ ملائما لعودة الحياة وانبعاث الأزهار فيها، وقوله: (كان منتشرا في النسيم) والحديث عن الحلم، أي يملأ الفضاء، فهو متسع لا حد له ولا نهاية، وقوله: (والفراشات مخمورة بالضياء) يشير إلى ذلك الطقس الربيعي لتجدد الطبيعة وانبعاث الحياة فيها من جديد، والدليل أن الفراشات التي تملأ المكان هي الأخرى في حالة من النشوة في ذلك الجو الدافئ، حيث أشعة الشمس تملأ البساتين والحقول والهضاب والسهول ضياء وبهاء وروعة، وقوله: (حين قمطني وانتشى) أي في ذلك الجو المفعم بالحياة والتجدد والجمال، في ذلك الطقس الربيعي المعطر بروائح البنفسج الزكية، في ذلك الوقت قيد الحلم الشاعر، وبدلا من أن ينتشي الشاعر بهذا الحلم، فإن الحلم نفسه هو الذي انتشى ! فما دلالة ذلك وما معناه؟ المعنى أن الحلم في هذا المستوى الذي يقدمه الشاعر في هذا الفرع هو الواقع والحقيقة عينها، إن الطبيعة تحقق حلمها بدورة الفصول والمناخ، الطبيعة لها قانونها وفلسفتها، الطبيعة لها سرها، وانتشاء الحلم يعني السرور بالحرية، التي أكثر ما تتجلى في مظاهر الطبية البديعة !، لذلك يستدرك الشاعر فيقول في الاستدراك الأول: (عاد للبيدر اليتيم) البيدر الذي أمضى هذا الوقت الطويل في انتظار الحلم، وبقي صابرا على هذا الهجر للقمح ومواويل عشق الصبايا،وبقي يتوق لهمس العشاق على مكادس الزرع في تلك المساءات البريئة، ذلك البيدر الذي تيتم بعد هذا الهجر القاسي، يتحقق حلمه بالعودة من جديد، وقوله: (نيزك يرتدي معطف المهرجان) يشير إلى المواسم التي يجتمع الناس فيها حول البيادر في جو احتفالي أشبه بمهرجانات الفرح العميق، تلك المواسم يعرفها أهلها في القرى البعيدة على سفوح الجبال العالية، وهنا مهما حاولنا أن نفلسف العلاقة بين الشاعر ونصه، تبقى التجربة عاملا حاسما، إذ لا يمكن لمن لم يعش مثل هذه المواسم وهذه الذكريات على بيادر القمح تحت ضوء القمر في تلك الليالي الحالمات لا يمكنه أن يجيد الحديث عنها، وها هو الشاعر على الرغم من أنه قد عاشها حقا فهو يصفها في الشعر على أنها الحلم، حلم الطبيعة الذي يرتبط بحلم الإنسان فيها وعليها، وقوله: (عاد نجم القرنفل والأقحوان) أي عاد الحلم في تفتح الأزهار، خاصة الأقحوان الذي يملأ المروج والحقول في تلك القرى أما ذكر القرنفل وإن كان هذا النوع غير مألوف في قرانا الساحلية في زمن طفولة الشاعر فإنه يشير إلى الجمال والبهاء، وانبعاث حلم الطبيعة في التجدد والعطاء، أما قوله في الشعبة الثانية: (كان يرعى قطيع الغيوم) فيشير إلى المستوى الآخر للحلم، ففي حين كان الحلم مختبئا في الهواء في الشعبة الأولى من هذا الفرع نرى الحلم هنا قد أخذ مستوى آخر ومعنى آخر، فالحلم هنا هو من كان يرعى الغيوم، أي يسوقها ويتحكم بحركتها ويحرسها، أي الحلم يمثل لدى الشاعر العلاقة السببية المتخفية في ظلال تمظهرات الواقع، فحلم الماضي هو صورة الحاضر ومقدمات المستقبل، وقوله: (حين طوقته بالكلام المضيء / حرني، واختفى) أي لا يمكن القبض عليه، يبقى غائبا وإن تجلى في صور شتى، وهذا ما يشير إليه المعنى في التركيب، فحين أراد الشاعر أن يقبض عليه ويتحدث عنه مفصحا عن معناه العظيم، انتابته حالة من الفوضى والخوف والقشعريرة والاضطراب، حالة من العجز واليأس والقنوط، حالة من الخيبة والارتباك والقلق، لأنه عجز عن أن يحصره أو يطوقه أو يحده أو يعبر عنه بكليته، وحين أمعن في ذلك غاب واختفى حتى أنه كاد ألا يكون شيئا . وقوله في الاستدراك الثاني: (... من صبايا السنابل / يلبس الضوء والندى) يعني الحلم أيضا، و(صبايا السنابل) إشارة إلى الخضرة، والضوء والندى إشارة إلى عملية التركيب الضوئي، التي تمثل كيمياء النمو، فالحلم لدى الشاعر يعني النمو، والازدهار والنضاخة، ونحن لا نرى النمو كما أننا لا نرى الحلم في اليقظة، ولكن نرى آثار النمو، إنك إذا نظرة إلى السنبلة وهي تنمو لن تراها كيف تنمو ولكنك تستدل على النمو من خلال آثار والتبدل الذي يطرأ عليها، وهذه مقاربة موفقة إلى حد كبيرة بين الحلم وبين النمو الطبيعي، وهذا يعطي الحلم بعدا إضافيا لمعناه الشائع، وقوله: (والمواويل حوله / عاشق يسكن الصدى) أي حول الحلم، حيث الفرح الكبير بالمواسم والحب والعطاء، كأنه العاشق المدنف الذي يسكن صدى، تلك المواويل، فهو وإن كان غائبا ولا يمكن أن يحد أو يقبض عليه، فهو دائم الوجود ما دامت الحياة مستمرة بعطائها وجودها، وما دامت الطبيعة تكمل دورتها مع تجدد الفصول، إنه يمجد الطبيعة ويمجد مواسم الخير والحب والجمال . وقوله في الشعبة الثالثة: (وتجمعت صحوة) أي في حالة من الصحو بعد أن كان مشتت التفكير قلقا، وقوله: (قلت لا بد أن نلتقي) أي أن الشاعر يتمنى ويرجو أن يحظى بحلمه، ويتمنى أن يحقق حلمه، فما هذا الحلم الذي يريد أن يلتقيه فيحققه؟ إنه الحلم الكبير الذي تحدث عنه، انتصار الطبيعة، واستمرار قدرتها على التجدد، وهذه الفكرة تنصب إطار نظرة الطبيعيين إلى قدسية الطبيعة نفسها، وقوله: (حين قابلته في النهار / سقط الريش والغبار) يعني أن الحلم لا وجود له في حقيقة الوجود العيني، إنما هو غائب، يتخفى في أجنحة الليل، وفي الظلال المتوارية، وحين قابله في النهار أظهر الحقيقة، بأن هذا الحلم لم يعد قادرا على التجوال والطيران، كي يرعى قطعان الغيوم، ولم يعد قادرا عل الاختباء في الهواء، وقد أظهرت مقابلة الشاعر للحلم  الحقيقة آنذاك أنها غير ممكنة وأنها قبض ريح، لأنهما من طبيعتين متباينتين، أما الغبار فيشير هنا فيشير إلى الضبابية وعدم وضوح الرؤية، وقوله في الاستدراك الثالث: (كما العشب، حين يرتجل المزامير) أي مثل العشب الذي يتضرع بالأدعية عن ظهر قلب ويتلو الأناشيد على أمل أن تتجدد خضرته، ويتجدد نباته ونموه في الأرض، وقوله: (كما الشيخ ؛ الذي يتفقد ذكرياته) فيكون حريصا على ألا ينسى منها شيئاً، ويكون حريصا على ذكر أدق التفاصيل، وقوله: (كما العيون، التي تقود عشاقها) فتكون قادرة أن تلتقط اللحظات الصادقة من العشق، وقوله: (أبدأ البذار العظيم) أي هكذا الشاعر يبدأ في غرس كل ما من شأنه أن يجعل هذا الحلم مستمرا، كما في الطبيعة فكذلك بين البشر .

الصور البيانية:

الفرع طافح بالصور الشعرية، ذاخر بالبيان، فقوله: (كان مختبئا في الهواء) استعارة، وقوله: (حين عاد البنفسج من غيمة في الجبال) صورة ثنائية البعد لأنها تتضمن استعارتين بآن معا، وقوله: (كان منتشرا في الهواء) استعارة، وقوله: (والفراشات مخمورة في الضياء) استعارة، وقوله: (حين قمطني وانتشى) استعارة، وقوله: (عاد للبيدر اليتيم نيزك يرتدي معطف المهرجان) (فعاد للبيدر نيزك) استعارة، و(معطف المهرجان) استعارة، و(يرتدي معطف المهرجان) استعارة، فتصبح الصورة ثلاثية الأبعاد في التركيب، (عاد للبيدر اليتيم نيزك يرتدي معطف المهرجان) لأنها تتضمن ثلاث استعارات معا، وقوله: (عاد نجم القرنفل والأقحوان) استعارة، وقوله: (كان يرعى الغيوم) استعارة، وقوله: (طوقته بالكلام المضيء) استعارة، وقوله: (حرني) استعارة، وقوله (من صبايا السنابل) استعارة، وقوله: (يلبس الضوء والندى) استعارة، ويصبح التركيب، (من صبايا السنابل يلبس الضوء والندى) صورة ثنائية البعد، وقوله: (والمواويل حوله) استعارة، وقوله: (عاشق يسكن الصدى) استعارة، والتركيب، (والمواويل حوله عاشق يسكن الصدى) صورة ثنائية البعد، وقوله: (كما العشب: حين ترتجل المزامير) تمثيل .

تقاطع الأزمنة:

نلاحظ أن الزمن في الفروع الأول والثاني والثالث والرابع والخامس والسابع، هو زمن ذات الشاعر، وهو زمن ماض عموما، وهذا يشير إلى تجربة مضت، ويمثل الزمن فيها أحد أهم أبعاد تلك التجربة، ويمكننا أن نستنتج أن تلك المرحلة بما فيها من الغربة والمعاناة والقسوة، هي في الزمن الماضي، أي ما مضى قد مضى والمهم لدى الشاعر بعد ان تنقضي التجربة ويمر زمنها أن ننظر إلى الحاضر في تجربتنا المعاشة، لكي نبني عليها وننطلق نحو الغد وهذه خلاصة هامة ونتيجة تدفعنا كي نكون مستقبليين، أما في الفرع السادس فيختلط زمن ذات الشاعر مع زمن المكان وهو القرية، في محاولة لاستحضار زمن الطفولة الماضي أيضا، وفي الحالات جميعا يكون الحضور الأهم للطبيعة وزمنها، من خلال حضور مكوناتها (الأفق، الغيم، اليمام الضباب، الطيور، الحديقة، الدرب، البحيرات، قرية، الشجرة، الأرض، القمح، البيدر ... الخ) أما الزمن الثالث في القصيدة هو زمن الحلم، وهو الزمن الغائب، الذي يقابل زمن الحضور، وهذا الزمن لا نستطيع أن نقبض عليه لكننا نستدل عليه من خلال آثاره، ولا بد هنا من ملاحظة أن الزمن النفسي، أو الزمن الداخلي هو زمن الروح التي تسكن فينا، وهذا الزمن يطول أو يقصر، يهون أو يصعب بحسب قدرة النفس وطاقتها، وبحسب شفافيتها ورقتها، فالزمن الداخلي الذي يمر على العاشق المنتظر بلهفة لحظة وصول الحبيبة المتأخرة هو غير الزمن الذي يقضيه معها على الشط، وقول الشاعر مثلا: (حين في مدجنة الذعر أقام) إنه يشير إلى زمن الخوف الشديد، وهذا زمن يمر ثقيلا ثقيلا على العامة، فكيف يكون مروره على الشاعر؟!، وهكذا بقوله: (كان مختبئا في الهواء) وبقوله: (كان منتشرا في النسيم)، إنه زمن غائب حقا ولكن حضوره يبقى بالآثار التي تنجم عن مروره، والبحث هنا يطول ويطول، ومجمل القول: الزمن في القصيدة بعد أساس في بنيتها وتركيبها، وتعدد دلالاته ومستوياته يشير إلى أهميته على مستوى التجربة الشخصية للشاعر، حتى يغدو زمن النص هو تقاطع للأزمنة التي يشملها بدءا من زمن تشكل القصيدة إلى انتهاء زمن كتابتها مرورا بزمن التجربة التي يعيشها الشاعر وبزمن كتابتها وبنائها . وإذا كان اتجاه الزمن وحيدا نحو المستقبل دوما، فإن زمن النص متعدد الاتجاهات، ومتعدد الدلالات والمستويات، وليس الزمن المعاش سوى محصلة للأزمنة التي نعيشها على اختلاف أزمنتنا الداخلية والخارجية.

التوازن:

التوازن في القصيدة الشعرية عامل هام، حيث يشكل أحد أهم عوامل وحدة القصيدة وتمركزها حول مركز توازن أو محور توازن لها، ولعل مركز توازن القصيدة هنا هي (الغربة) حيث تتمركز معظم فروع القصيدة حولها، ومركز التوازن يمثل النواة المركزية لموضوعات القصيدة، وهي مركز إشعاعها ومحرق عدستها، أما نقاط التوازن الأساسية فهي العقد التي تشكل تقاطعا بين الفروع وهي: (الخوف، الحب، الأمل)، فالخوف عقدة مشتركة بين الفرعين الأول والثاني، وهي تشكل نقطة توازن أساسية، (والحب) عقدة مشتركة بين الفرعين الثاني والثالث فهي تشكل نقطة توازن أساسية، (والأمل) عقدة مشتركة بين الفرع الخامس والفرع السادس وهي تشكل نقطة توازن أساسية . أما نقاط التوازن الثانوية فهي تمثل باقي العقد في القصيدة الواحدة ؛ كما هو مبين في كل فرع، وإذا حاولنا أن نتخيل أن الغربة تمثل النواة المركزية التي ينبثق عنها النقاط المركزية الأساسية وهي (الخوف والحب والأمل) ومثلنا هذه النقاط على محيط دائرة، فسوف نجد أن التوزع لن يكون منتظما على محيطها، لأن توزيع الموضوعات من حيث الحجم لا يكون بشكل متساو فيما بينها، أي حضور موضوعات النقاط المركزية في القصيدة غالبا لا يكون منتظما ولكنه في الغالب يكون قريبا من الانتظام، وهذا يشكل عاملا آخر هاما في وحدة القصيدة والحفاظ على عمودها، وإذا توزعت باقي العقد على محيط الدائرة، ومثلنا الفروع كأشعة منبثقة عن النواة المركزية ومن هذه الأشعة تفرعت الشعاب نكون بذلك قد رسمنا مخططا لبنية القصيدة، وسأحاول أن أرفق كل قصيدة أدرسها بمخططها الرمزي التعبيري حتى تكون الصورة أكثر وضوحا، وهكذا سنرى أن هذه القصيدة وإن كانت مقاطع تبدو أنها متفرقة، لكنها في الحقيقة متجانسة من حيث الشكل والمضمون ويمكن اعتبارها قصيدة واحدة بكل تأكيد ويكون تطبيق هذا الأسلوب النقدي عليها ممكنا وواردا . ولا بد من ملاحظة أن النص الشعري الذي يقدمه شاعر له تجربته الشعرية من هذا المستوى الذي تهتم به الدراسة يميل إلى تحقيق التوازن في بنيته الداخلية والخارجية، لأن هذا النص ينتجه الشاعر من أجل أن يحقق التوازن المفقود بين عالم الشاعر الداخلي وعالمه الخارجي، فالغربة والحصار والحب والعلاقة والشاعر والحلم والطبيعة كلها موضوعات متداخلة مع أنها مكونات أساسية للقصيدة الشعرية، وهكذا سيبدو التمثيل الرمزي للقصيدة شبكيا متداخلا بحيث نراها أقرب إلى الانتظام، فالشكل المنتظم يحافظ على التناظر، فيكون له مركز تناظر وقد يكون له أكثر من محور تناظر، هل نظرت إلى الخطوط والمنحنيات التي تمثل حركات النجوم والكواكب مثلا، إنها تسير على قطوع ناقصة، والشكل الأكمل في المستوي هو الدائرة، وهكذا نجد أن مسارات النجوم والكواكب تطمح أن تكون على الشكل الأكمل، أما الشكل الأكمل في الفراغ فهو الكرة، ولذلك نرى شكل الكواكب أقرب إلى الشكل المفلطح، وكأنها تطمح أن تكون الشكل الأكمل وهي الكروية، ولعل الأشياء تميل بطبيعة حركتها إلى الاستقرار والتوازن، هل نظرت إلى الكرة مثلا إذا دفعتها فستبقى تتحرك حتى تهدأ وتستقر في مكان سكونها، والنص الشعري ببنيته وتكوينه من خلال وعي الشاعر أو من خلال العلاقات المتولدة بين التراكيب والصياغات الشعرية، فيما أرى فإنه يميل إلى الاستقرار والتوازن من خلال العلاقات الشبكية بين مكوناته . والبحث هنا عميق ومعقد يصعب الخوض فيه .

المنوال والدلالة:

نلاحظ أن الشاعر قد استخدم (حين) خمس عشرة مرة، عشر مرات منها تتصدر التركيب الشعري، وذلك يعني أن الظرف ذو أهمية لديه، والقصيدة تشيرإلى فترة محددة يعنيها الشاعر، بكل ما فيها من الخوف والحب والأمل، فهذه المفردة تشكل مفردة منوالية، ونلاحظ تكرار المفردات، (الغيم، سقط، ينام، يرعى، حرَّ، الطيور) يشير إلى حضورها في القاموس اللغوي للقصيدة، كما نلاحظ أن استخدام الشاعر للعبارة الشعرية (في الرعد ينام) و(وفي ثدي التفاصيل ينام) و(تعريت، ونمت) يفيد بأن هذا التعبير تركيب منوالي، مع الأخذ بعين الاعتبار أن معنى النوم في كل تعبير مختلف عما هو عليه في التعبير الآخر، ولكن المقصود هنا تكرار شكل التركيب الشعري، والواضح أن نوم الأفق في الرعد غير نوم الشاعر في ثدي التفاصيل، غير نوم الطفل في ساقية السفح .

النص الممكن:

القصيدة كما رأينا مؤلفة من سبعة فروع وعدد إمكانات إعادة ترتيبها من جديد، هو (5040)، أي يمكن أن يتولد عن هذه القصيدة خمسة آلاف وأربعون قصيدة فقط بإعادة ترتيبها، وكلها نصوص ممكنة، ما دامنا نستطيع ذلك، فكيف إذا أحصينا عدد إمكانيات ترتيب الشعاب الرئيسة والثانوية، في هذه الحالة كل فرع مؤلف من سبع شعاب يمكن أن يعاد ترتيبه بنفس الرقم، فهل نتخيل الرقم الإجمالي لعدد إمكانات إعادة ترتيب الشعاب في القصيدة؟!، إنه رقم كبير جدا جدا، وكل نص من هذه النصوص هو نص ممكن، وهنا سأجري تطبيقا واحدا وأرجو أن تصبر معي قارئي العزيز .

سأختار الفرع الأول وهو (غربة)

(كالتجاعيد ارتمى (1)

كصواري السنوات (2)

هان حين اغتربا (3)

قمطته الكلمات (4)

عاد في الليل إلى كوخ الطفولة (5)

وجثا وانتحبا (6)

ليس في عينيه قنديل (7)

ولا في ثغره نار الحياة (8)

ضاع حين اغتربا) (9)

وقد اخترت هذا الفرع بالذات لسهولة التطبيق عليه وذلك بسبب أن الجملة الشعرية قصيرة، وأن الجملة الشعرية في الشطر الواحد تحمل معنى محددا، وأن الفرع مبني بحيث يمكن أن نبدل بين التراكيب بسهولة من دون أن نؤثر على بنية التركيب من حيث الصياغة، وقد رقمت التراكيب الشعرية في هذا الفرع، الآن لو أعدنا الترتيب ووضعنا الترتيب الآتي: (1، 3، 2، 4، 5، 6، 7، 8، 9) لأصبح الفرع على الشكل التالي:

(كالتجاعيد ارتمى (1)

هان حين اغتربا (3)

كصواري السنوات (2)

قمطته الكلمات (4)

عاد في الليل إلى كوخ الطفولة (5)

وجثا وانتحبا (6)

ليس في عينيه قنديل (7)

ولا في ثغره نار الحياة (8)

ضاع حين اغتربا) (9)

لو سألنا ما الذي تغير في الفرع؟ قد تكون الإجابة السريعة للوهلة الأولى: لم يتغير شيء، أي شيء، فالمعنى هو نفسه، ولا فرق في التأخير والتقديم بين العبارتين، (كصواري السنوات) و(هان حين اغتربا) إذ ما الفرق بين أن نقول: (كصواري السنوات، هان حين اغتربا) وبين أن نقول: (هان حين اغتربا كصواري السنوات)، والإجابة واضحة وسهلة وسريعة أن نقول نحن ذلك فهذا شأننا أي شأن من يقول، وله ألا يجد فرقا، لكن الشاعر لن يقبل بأي شكل من الأشكال هذا التبديل، أو التقديم أو التأخير، فلوكان نصه قابلا لذلك لكان الأولى بالشاعر نفسه أن يغير، فيقدم أو يؤخر، المهم في الأمر ما أريد أن أركز عليه أن النص الشعري الذي يقدمه الشاعر هو النص الأصلي وهو الذي يمثل واقع القصيدة ذاتها، مع الأخذ بعين الاعتبار والقبول بأن هذا النص الشعري الذي قدمه الشاعر على هذا النحو بالذات، كان يمكن له أن يخرج بعدد الإمكانات التي ذكرتها، وكلها نصوص ممكنة، وكلها نصوص واقعية، وحين تكتمل الدراسة ويتأسس لأصول هذا المنهج في النقد سأقوم بأسئلة ميدانية للشعراء أنفسهم عن موقفهم من إعادة الترتيب، وأن يوضحوا من موقعهم كمبدعين ما الذي يغير هذا التبديل في الفروع التي تم التبديل فيها، وهنا لا بد من مراعاة أنه ليس من الضروري أن يكون الشاعر ناقدا حتى يجد مبررات مقنعة لعدم القبول في إعادة الترتيب، ويكفيه أن يرفض ذلك جملة وتفصيلا، وهنا لنحاول أن نفهم نحن ما الذي تغير في هذا المقطع بعد التغيير من حيث معناه ومبناه،

حين يقول الشاعر: (كالتجاعيد ارتمى) من المفيد أن نسأل لماذا لم يقل: (ارتمى كالتجاعيد)؟، وما الفرق بين التعبيرين؟ وبذلك نهتدي إلى سبل الدخول الصحيح إلى فهم النص أولا، ومن ثم يمكن لنا التوسع في البحث والمناقشة، أن يقدم الشاعر التجاعيد ذلك يعني أن الأهمية للتجاعيد في الارتماء، ومن ثم تأتي أهمية الارتماء نفسه، وإن كان يبدو للوهلة الأولى أن الأهمية لفعل الارتماء، وفرق شاسع جدا بين التعبيرين، (ارتمى كالتجاعيد) و(كالتجاعيد ارتمى)، وإن قال قائل: هذا لعب في استخدام الألفاظ فما هذا الفرق الشاسع المزعوم بين التعبيرين؟، (كالتجاعيد ارتمى) و(ارتمى كالتجاعيد) أقول: لو بدأنا بالقول: (كالتجاعيد ارتمى) سيتركز الذهن أولا على التجاعيد، وهذا ما يريده الشاعر في التركيب، والتجاعيد صفة، والشعر المجعد أي الملبد المشعث، والوجه المجعد إشارة إلى التقدم في العمر، والمعنى: مثل التجاعيد التي تصيب الأشياء فتجعلها ملتوية بعد استقامة، ومجعدة من بعد ملاسة وملبدة من بعد بسط، ارتمى، ولكن القول: (ارتمى كالتجاعيد) فيكون الارتكاز والأهمية  في المعنى للارتماء، فالارتماء يشير إلى معاني متعددة، قد يعني تعثر فارتمى، وقد يعني بالغ في السرعة فارتمى، وقد يعني اقترب من الحافة فارتمى، وقد يعني بالغ في البغي فارتمى، أو بالغ في الكرم حتى ارتمى .... الخ، والمعاني كما نلاحظ متعددة كثيرا ويكون المعنى في القول (ارتمى كالتجاعيد) قد انتقل من التعدد والاتساع إلى التحديد والضيق، وهذا إضعاف للمعنى المراد، إنه يريد (كالتجاعيد ارتمى) للانتقال من التحديد والخصوصية إلى التعدد والاتساع، وأظن أن الفرق غدا واضحا بين القولين: كالتجاعيد ارتمى) و(ارتمى كالتجاعيد)، والآن بعد أن وضحنا هذا الفرق سنناقش الفرق في المعنى في الترتيب الجديد، أما القول في (2) هان حين اغتربا بعد (1) أي ضعف ولان في زمن اغترابه، والقول في: (كصواري السنوات) وبهذا الترتيب الموافق للتغيير المفترض هذا، يعني أنه هان ولان كما تلين صواري السنوات، وكما نرى المعنى ينقلب ويتغير كليا، فالمعنى في الفرع الأصلي: أنه كصواري السنوات ارتمى بحكم المجاورة بين، (كالتجاعيد ارتمى) و(كصواري السنوات) فيصبح التقدير: كصواري السنوات (ارتمى) والمحذوف يؤكده المعلوم بالتجاور، وخلاصة القول: إن النص الشعري على الصيغة التي يعلنها الشاعر للقارئ العام ويعتمدها، تكون هي الصيغة النهائية لها ما لم يعد نشر صيغتها الجديدة على النحو الذي يريد من التعديل، ولا يجوز لا للناقد ولا لغيره أن يفترض أو يجتهد على التبديل أو التعديل أو التغيير فيها تحت أي حجة أو ذريعة، النص الشعري في الصدارة دوما، أما النقد فمهمته إعادة طرح الأسئلة والدراسة والبحث لتوضيح العلاقات بين المعاني في الشعاب والفروع، والكشف عن الجوانب الفنية والإبداعية في بناء القصيدة ومن ثم الاستقراء المتبصر ومحاولة استخلاص القيم المعيارية العامة من المادة الشعرية المدروسة، والنصوص الناتجة من إمكانات إعادة الترتيب لفروع القصيدة أو شعابها تبقى نصوصا افتراضية وحسب، وتكون دراستها أو عرضها من باب استبعاد أن تكون في نظر الشاعر إلا على الشكل الذي اعتمد ونشره للعامة .

 

مفيد خنسه

شاعر وصحافي من سورية

 

 

 

في المثقف اليوم