قراءات نقدية

كوثر بلعابي: المرأة في قصائد الشاعر التونسي مختار اللغماني

تقديم عام: يُعَدّ موضوع حضور المرأة في الشعر مسألةً متعاوِدةً ومع ذلك تظلّ متجدِّدةً وغيرَ متكرِّرةٍ تناولها نقاد وباحثون كُثُرٌ منذ القديم.. سلّطوا الضوء على الأبعاد الوجدانية والوجودية والاجتماعية والنفسية والقيمة لصورة المرأة ومنزلتها في القصيد العربي منذ عصر المعلّقات حتى عصر قصيدة النثر.. خاصة وقد اتسم هذا الحضور المحوريّ للمرأة في مدوّنتنا بالثراء والتنوع إلى حدٍّ يصعب ان نجد شاعرا تخلو نصوصه من ذكر المرأة متغزلا بها واصفا لمفاتنها في سكونها وفي حركتها وفي حلاوة حديثها.. او متودّدا إليها او معاتبا إياها او شاكيا جبروت هجرها او مشتاقا توّاقا إلى وصلها... كلّ ذلك مثّل مادّة دسمة للباحثين في هذا الموضوع إلى أن نقف عند شعراء القضايا والمواقف في العصر الحديث.. أولئك الذين استقطبتهم الإيديولوجيات والمدارس الأدبية المنضوية تحتها ومنها بالذات الواقعية الاشتراكية التي نهضت عليها عدة تجارب أدبية هامة في بلادنا العربية وفي تونس.. وأيضا أولئك الذين هزتهم سلسلة الهزائم والخيبات الذاتية والموضوعية في واقعنا المازوم بين الحصار الاستعماري المباشر وغير المباشر وبين منظومات الحكم الاستبدادي وما ألحقتْ به الفئاتِ الاجتماعيةَ الهشّةَ من تفقير وتهميش .. في ظل هذه الملابسات والمتناقضات تغيّر وعي المرأة ووضعها في المجتمع الشرقي فتغيرت النظرة اإليها تبعا لذلك خاصة مِن قِبَلِ المثقفين والأدباء.. فمنذ القباني والبياتي والسّيّاب لم تبق المرأة في الشعر العربي مصدرا للمتعة والسعادة إن تدانت وبحسنها تبدّت ومصدرا للكبَد والشقاء إن تناءت وبهجرها تصدّت.. إنما تعامل معها شعراء عصر الحداثة ادبيا برؤيا منسجمة مع وضعها الإنساني الجديد بمختلف ملابساته الحضارية والنفسية.. بل إنّ مِن الشّعراء تجاوزوا المواضيع الغزلية في استحضار المرأة في تجاربهم الشعرية.. وهنا تكمن جدّة التوظيف والتّطريف في التعاطي مع هذه المسألة التي يعتبر البحث فيها من خلال كتابات المجددين شيّقا بقدر ما هو عسير خاصة منهم الذين انتهجوا الالتزام في كتاباتهم بمواقفهم الثورية وبرؤاهم التحرّرية المتمرّدة ابدا على السائد.. ويعد الشاعر التونسي أحمد اللغماني (1952- 1976) سليل جماعة الطليعة (أو مَن كانوا يصنفون أنفسهم بجماعة "غير العمودي والحر") من أبرز الشعراء الذين اعتنقوا الالتزام نهجا في الكتابة كان فيه شديد الانحياز الي مشاكل الكادحين والمضطهدين ومشاغلهم وخاصّة إلى القضايا الوطنية والقومية إلى درجة أنّنا سجّلنا في شعره حضورا مُقِلّا وباهِتًا للمرأة خلافا لأكثر شعراء جيله بمن جماعة الطليعة.. وكانّنا بمشغل المرأة عنده لا يمثّل أولوية مقارنة بغالبية الشعراء.. فرغم قلّة القصائد التي نجد فيها المرإة مقوّما شعريا جليّ المعالم فإنّ لها في مدوّنة هذا الشاعر الملتزم تجلّيين أساسيين: - المرأة أبجديّة كتابة - المرأة موضوع كتابة

فكيف صاغ اللغماني جوهر المرأة في شعره وبأيّة رؤيا تمثْلها ؟؟

- المرأة أبجدية كتابة:

عرفنا في شعر العصر العباسي وبشكل خاص في أشعار الاندلسيين توظيفات طريفة لأجزاء من جسد المرأة في وصف الطبيعة سواء عبر التشبيه او الاستعارة او المجاز فكانت المرأة في هذا النوع من القصائد مرجعية للصورة الشعرية على درجة عالية من الطرافة والجودة الأدبية وقد يقفز إلينا من الذاكرة في هذا السياق قول ابن زيدون: في قصيدة الزهراء:

و للنسيم اعتلال في أصائله

كأنه رقّ لي فاعتلّ اِشفاقا

*

و الرّوض عن مائه الفضّيّ مبتسِم

كما شققت عن اللبّات أطواقا

ثمّ تبلور هذا التوظيف المعجم الانثوي والغزلي مع الرومنسيين مع جبران والشابي حين يغازلان الحياة المثلى مغازلة الحبيبة في صوفية رامزة مغرقة في التجريد.. إلا شعراء الالتزام ومنهم مختار اللغماني خرجوا عن هذه الدائرة وحوافّها إلى حدّ كبير فجعلوا من المعجم الانثوي وملامح المرأة والذوبان في عشقها لغة رمزية وأساليب بلاغية عبّرت بشكل جمالي مراوغ بالدلالة عن عشقم للوطن وعن شوقهم إلي الثورة والحرية من أجل تغيير الواقع وبناء مستقبل أفضل للإنسان والأوطان.. وهاهو شاعرنا اللغماني في أوج غضبه تجاه أشكال العمالة والتبعية وفقدان السيادة الوطنية يستخدم معجما أنثويا جريئا لا صلة لمقاصده بالمرأة وفتنتها بالمرّة يقول في قصيدة: "الموت مساء أمام رفات مهرة الريح ":

يا مدينة سلّمت مفاتيحها للمشترين

و فتحت فخذيها لبائعها

يا مومسا حزينة مصابة بالشذوذ

و بكلّ أمراض النساء

يا أمّا قاسية ولدتني ذات صباح..

(هذه القصيدة فيها إحالات كثيرة على قصيدة المومس العمياء لبدر شاكر السياب: وكأنّ عارية الصدور / أوصال جنديّ قتيل / كلّلوها بالزهور / وكأنّها درب إلى الشهوات تزحمه الثغور / حتى تهدّم أو يكاد / سوى بقايا مِن صخور..)

هذا وتلتبس الأنثى الأبجدية بواقعية الأوضاع في هوامش العاصمة التونسية يتوسّل بها الشاعر في تجسيد تذمره من انتشار مظاهر البؤس وما تنكشف عنه المدينة من حيف وفوارق اجتماعية .. يقول في قصيدة:" حبيبتي والأمل "

على الطريق الممتدّة بين المنزه والجبل الأحمر

تترعرع حبيبتي. تكبر وتكبر

تقتات من جوع الفقراء في الجبل

تشرب من خمر جباههم

و تعيش مثلهم على الأمل..

و من أكثر توظيفات المعجم الانثوي والضمير الأنثوي حدّة في التلويح بالثورة المشوقة في قصيدته الملحمية " حفريات في جسد عربي" في المقطع الحادي عشر منها:

آه يا معشوقة هذا الزمن المرّ.. خذي بيدي مازلت صغيرا

أحبو في دربك لكن يملأني الإيمان

زادي جوعي للافراح وحبي للأطفال ولقبي إنسان

آه يا منقذة النفط من السرّاق ومنقذة الصحراء

آه يا منقذة الفقراء

أشهد أنّك آتية ذات ربيع أو ذات شتاء

أشهد أنّك آتية ذات صباح أو ذات مساء

و سيكنس نورك وجه الأرض الشرقية

و تكونين لنا.. مِنّا والجنسية عربية..

و كثيرا ما تراءت القيم النضالية والوطنية عند شاعرنا في صورة امرأة معشوقة بعيدة المنال او امّا مفقودة... وكثيرا ما تجلت القصيدة والكتابة كما يراها اللغماني ويعتنقها من خلال الحبيبة الأبجدية..

فهذه ليلى التي تغنّى بها وبعشقها كثير من الشعراء العرب عبر التاريخ منذ جميل بن معمر تختزل موروثا شعريا كاملا نهل الشاعر من كنوزه ورفض البقاء رهين أسواره في ثلاثية مترافقة متفارقة: "الحب والموت " و"الحب والحياة " و" ليلى والليل وأتعاب أخري" عبّر الشاعر خلالها عن جدلية الثابت والمتحوّل في نظرته الي الموروث الشعري وطريقته الخاصة في التعامل معه حفظا لبقاء القصيدة على قيد الحياة .. يقول في قصيدة الحب والحياة:

حبك يا ليلي حلمي

عندما أحلم أني أحيا

و ألحّ على أن أحيا

حبك بعْثُ الروح في روحي

و إحساس يمنحني حريتي في ان أفرح

حبك ملح على جرح

لمّا أجرَح ألحّ على أن أحيا

و ألحّ على ان لا أِقتل..

فأنا ومعي عيناك اتحدى الليل الأليل..

فإذا بليلي في رؤيا الشاعر صالحة لكل زمان ومكان.. دوما باعثة لتجربة غير التي كانت..

و في قصيدة "حب الكلمة" نجد مناجاة كاملة بمقومات غزلية غاية في التأثير العاطفي موضوع الغزل فيها ليس المرأة إنما الكلمة:

عانقيني.. عانقيني

و اطفئي او أشعلي فيّ حنيني

إذ انا لم أستطع خلقك فأتي ....

لا تكوني في هواي ملزمة

لا ولا ملتزمة

و اخلقيني يا حياتي الكلمة..

و ها هي معشوقة أخرى تدبج لها بلغة الغزل وبتقنية المخاتلة اللغوية ترنيمة تمجيد:

زرقاء.. زرقاء

تحملينني بحرا

تتسكعين في بصري سماء..

في الحُجرة كنتِ

و كنتُ أنا

و الحجرة في البيت

و بيتي في حي الفقراء....

زرقاء... زرقاء

ألبسها وأدخل خصب موت الأحياء

فأقرا في كتاب الإخصاب

أليف... باء

إقرأ باسم الجاكيت الزرقاء

إقرأ باسم.. لا..

و مثل هذه المخاتلات اللغوية اعتمدها الشاعر في صياغة كثير من قصائدة خاصّة منها تلك التي قامت علي السخرية..

فكان بهذا الاستثمار للمرجعيات الغزلية مسايرا ومغايرا في ذات الآن بما يجعلها مكوّنا فنّيّا من مكوّنات القصيدة تتداخل مع سائر بُنى اللغة التركيبة والأسلوبية فيها .. وذاك كان أيضا شأنه في التعامل مع:

- المرأة كمضمون كتابة:

لم ينزّل اللغماني المرأة في مضامين شعره مصدرا للفتنة والجمال وموضعا للحبّ والأشواق فقط.. إنّما حضرت برؤيا متأثّرة بمبادئ المثقف الإنسان والمناضل الملتزم وبروح ابن الجنوب الحسّاسة والشّفافة .. فمن البداهات الأدبية ان نجده وإن في عدد قليل من القصائد كغيره من الشعراء يكتب عن الحبيبة والحبّ ويدمج تبعا لعصره الأدبيّ وخياراته هذا الموضوع مع موضوعات أخرى متشابكة أخرجت صورة المرأة بالمواصفات الاجتماعية والثقافية والاقتصادية التي تجعلنا ندرك انّ الشاعر أراد لها ان تكون المفاعل الكيميائي المنشئ لأسرار الحياة وجوديا واجتماعيا..

فهذه لطيفة تلك السمراء بمواصفات ابنة الجنوب التونسي يشدو الشاعر بتأثير حبها الحلم في أكثر من قصيدة منها "طيفها" حيث يقول:

لطيفة..

و وجدتك يا قلبي المضني الحزين

قد زدت شوقا وحنين

رحماك يا طيفها

زرني قليلا كل ليلة.....

و امنحني خضر القبل

و لا تكن على عجل..

ثمّ في قصيدة "قلبي سيغامر":

عيناك يا لطيفة

يطاردان قلبي

بنظرة مخيفة

في الليل والنهار

أرى بها البحار..

و في قصيدة "بكاء" نجده يخاطب لطيفة قائلا:

يا معاتبتي لِحبي / من قريب أو بعيد

ما عرفتِ سرّ قلبي / مخنوقة من لهيبي

قد كواه حبّ وجه / أسمر كالعندليب

في الصباح بي اشتياق / وبكاء بالمغيب

فلطيفة احاطها الشاعر بجملة من المعاني الوجدانية برومنسية حالمة دون وصف جسدي تشفّ عن انتصار الشاعر لذاك الحبّ اللّامادي الخالد الذي لا يقف عند سطحية المتعة الجسدية المؤقتة.. وفلسفة الشاعر في الحب هذه تتجلّى أكثر وضوحا في قصائد أخرى نابضة بالعاطفة العميقة في بعدها الثابت حتى بعد الموت وبالحبِّ القائم على التّعلّقِ الروحيّ سعيا إلى الارتقاء بالإحساس بدلا عن الالتقاء بالحسّ.. منها قصيدة "إلى روحها" التي تشيد بقيمة الوفاء حبّا حتى بعد الموت وقد ورد فيها قوله :

لم أفقد منك شيئا كي أبكيك

و ما كان جسدك عزيزا كي أرثيه

وجهك مازال يُطِلّ عليّ في ليلي

بسمته عريضة كالأمل

عيناه تزرعان نورا حولي...

و أنا لا أطلب أكثر

فإن تكوني صعدت فوق

فما الذي تغير

في قلبي زاد الشوق وصار حبي أكبر..

كما نجد هذا النوع من الحب في قصيدة " رسالة حب واقعيةٌ" مبعثا للارتقاء بالوعي أيضا يرى من خلاله حقيقة الأشياء والظواهر والوجود وحقيقة الواقع المختلّ حيث يقول:

صديقتي العزيزة

تحية وبعد

فإنني أحبّك

لا تطلبي التفسير

لا تكثري التفكير

فالحب شيء عادي

و إن يكن يُجهل في بلادي

كالأكل هو كالشرب

يعرفه الصغير كالكبير

يعرفه الغني كالفقير

لأنه لا يعرف التفريق والتعصّب..

و من خلال هذه الرؤيا تبرز صورة المرأة الملاذ التي يلتجئ الشاعر إاليها محتميا بدفء حبّها من مأساته الذاتية والموضوعي.. حبيبة لا يستعرض الشاعر ملامحها الجسدية بقدر ما يتمثلها إحساسا وكيانا وجوهرا وأحيانا أمًّا يُلقي إليها بوزر همومه حين تلفه ظلمات الواقع الذاتي والموضوعي ومثل ذلك ما ورد خاصة في "قصيدة عشق إلى هاني جوهرية" صديق الشاعر وشهيد النضال السينمائي الفلسطيني (1936 -1976) التي يتقاطع فيها التّنويه بإنسانية العشق الذاتي مع قدسية العشق الوطني والقومي.. فإذا بعشق الحبيبة لا يكاد ينفصل عن عشق أرض الوطن والشعب والانسانية ككل وإذا الشعراء هم أصدق العشاق والمناضلين إذ يقول:

و كذا الفنان العاشق

يرسم إذ يصعد جبل العشق

بخطواته أحلى الأطيار

و أحلى الأشجار

و أحلى الأشعار.....

لكن الفنان العاشق

طفل يكبر في العشق

كما يكبر في العش العصفور

نتعلم منك الآن

نتعلم أن الفنان العاشق إنسان..

و في قصائد أخرى نجد الشاعر يصرّح بغضبه على المرأة فيشكو خيبة أمله في حبيبة جفت اوجحدت ويعبر عن نقمته عليها التي لا تقلّ عن نقمته على حيف المجتمع وظلاله.. فتتجلي المرأة في هذا المستوى قضية إجتماعية.. ومن ذلك قصيدة "الحب والفقر" التي ورد فيها:

فقيرا كنت كما ترين

و جئتك أطلب الغنى

سعيت إليك على عيوني

فقطْعتِ جفوني

رفستِني على الارض

و رجمتِني من السماء

و علّمتني ان الحب

ليس حقّا للفقراء..

و مع ذلك تبقى المرأة بكل ابعادها جوهر المعنى وقيمة الوجود تَبِين في صورتها نظرة الشاعر إلى ذاته وإلى علاقتها بما حولها وهذا قد نجده خاصّة في قصيدة" ثلاث ركعات لعينين راحلتين":

عيناك عميقتان عمق البحر

أردت أن أعبّ منهما

فابتلعني البحر........

وبدت حقيقتان سوداوان كالويل

بيديهما الأمر

شقيقتان في السواد: الحزن والليل

يستعصراني عصر

ليقطرا من قلبي.. دمعات الشعر..

فكانت المرأة بذلك مضمون كتابة متنوع الأبعاد  متعدد المستويات يعكس بدوره وجها من وجوه الالتزام في الكتابة. التزاما في الحبّ وفي تلك النظرة الانسانية الراقية للمرأة التي اسّس لها في الفكر قاسم أمين وشبلي الشّميل والطاهر الحداد وتبناها في الأدب الشابي والسياب و نزار قباني مِمّن لم يخل شعر اللغماني من أصداء تأثيرهم..

- خاتمة:

هكذا حضرت المرأة في شعر المختار اللغماني صورة ومرجعية لغوية برموز وعلامات وجوهرا قيميا بأبعاد ودلالات حمّلها رسالة المثقّف العضوى والمناضل التقدّميّ في نظرة إالي الواقع و الوجود مترعة بكثير من الانسانية.. ممتطيا إياها أداة أدبية ووجهة نظر فكرية في التعبير عن نظرته الي الشعر والكتابة: من خلا عصره الأدبي ومن خلال ذاته.. ألم يكتب في قصيدة "هواية"

أحب الخيال لأن الجمال يشده الواقع المؤلم

و أهوى السخافات والعفوات لأنسى الشقاء عند ما أحلم

و دنياي غم وحزن وهم

فكيف أعاني ولا أسأم..

كما جاء له قوله في قصيدة " عباراتي شعبية" قوله:

عباراتي شعبية

تحارب العملاء

و لها سوابق عدلية

تجوع كالفلاحين

تعطش كالعمال

تحسّ كالثوريين

لكنها تبقى مثلهم حية...

***

بقلم: الأديبة كوثر بلعابي

 

في المثقف اليوم