قراءات نقدية

محمد محفوظ: الرؤية الإسلامية في العلاقة مع الآخر (3)

محمد محفوظالتجدد الذاتي ونظريات الآخر

بدون الدخول في مضاربات إيديولوجية وفكرية مختلفة نقول: إن الممارسة النظرية التي يقوم بها الباحثون والمفكرون العرب والمسلمون، من الضروري أن تنطلق من أرضية صلبة وليست معادية إلى تاريخنا وخصائصنا الحضارية، حتى تؤدي هذه الممارسة النظرية، دورها في التجديد الحضاري لعالم العرب والمسلمين.

وبطبيعة الحال فإن بلورة منهجية، ذات معالم واضحة وعناصر علمية، للممارسة النظرية المستقلة، عملية شاقة، وتحتاج إلى تضافر جميع الجهود الفردية والمؤسسية في هذا السبيل.

وهذا في كل الأحوال لا يعني الانحباس في المفاهيم الذاتية، وصرف النظر عن إنجازات الآخرين ونظرياتهم المكتشفة.

وإنما هذه الإنجازات النظرية بحاجة إلى فحص ودراسة عميقة في محتوياتها وعناصرها النظرية والفلسفية، لعزل ما هو خاص ومحلي في هذا الإنجاز عمَّا هو إنساني وعالمي.

وعن طريق كشف العلاقة بين المنجز النظري وجذورها الفلسفية والعقدية، يتم التفاعل والاستفادة من مكتشفات الآخرين النظرية والعلمية ومثل هذه المفاهيم أو المكونات إذا استخدمناها باعتبارها عالمية (أي عند مستوى عالٍ من التجريد) ستتخذ مضامين خاصة بنا وفق شروط نسقنا النظري المستقل المتأثر بأسئلة واقعنا الاجتماعي الموضوعي، وهذا طبيعي فاستخدامها عندنا، أي في مستوى مجتمع - أمة معين هو استخدام لهذه المفاهيم عند مستوى أقل من التجريد، ولذا فإن مضمونها ووزنها النسبي وعلاقاتها المتبادلة في نسقها النظري تختلف كثيرًا أو قليلًا عن وضعها في النسق النظري الغربي[29].

وهذه العملية التي نطالب بها ونراها ضرورية لعملية التجدد الذاتي، وعلاقة هذه المسألة بنظريات الآخرين واكتشافاتهم العلمية.

هي العملية ذاتها التي استخدمها الغرب إبَّان انطلاقته التنويرية والصناعية؛ إذ إنه أنشأ (مستفيدًا من إنجازات الحضارات الأخرى) نظريات تلائمه، وتجيب عن أسئلة واقعه.

وبالتالي فإننا نمارس في إطار مشروع التجدد الذاتي، تطويع المكتشف النظري والعلمي الغربي وفق شروط عمل هذا المنجز في إطار النسق النظري الذاتي، وتبقى مجموعة الأنساق النظرية الإنسانية محل الاستفادة من أجل تعميم نسق نظري مستقل.

والمقصود بمفهوم التجدد الذاتي:

1- أن القيم الذاتية تتضمن كل مبادئ التجدد والتطوير عادل حسين، وبالتالي فإننا لسنا بحاجة إلى استعارة قيم التطوير من الأمم الأخرى، وإنما نحن بحاجة إلى إزالة ركام التخلف عن عقولنا وأفهامنا، حتى تمارس هذه القيم الذاتية دورها في حفز الهمم، وبعث المقاصد تجاه التجديد والتطوير، وهذه القيم لا تغفل عمَّا حولها، ولكنها تتفاعل وتتمثل حسب منطقها الداخلي.

2- أن التجارب الحضارية الإنسانية تؤكد لنا وبلا مواربة أن منجزها الحضاري لم يتحقق إلَّا وفق انبثاق وانبعاث من داخل الأمة ومن التطور الطبيعي لمجتمعها.

وإن روح الأمة إذا لم تخمد، هي التي تمتلك القدرة اللازمة لعملية الخلق الحضاري، وهذه الروح والقيم التي تشكلها والمحيط الذي يتمحور حولها، هو ما نطلق عليه بالتجدد الذاتي.

ولا شك أن هذه المهمة شاقة، وتحتاج إلى كل الجهود، لكي يتكرس منطق مشروع بناء الأمة في إطار المحددات الموضوعية، وهذا بحاجة إلى توافر محيط ثقافي - اجتماعي مؤاتٍ للتجدد الذاتي، عبر ممارسة الحوار وتنشيط التفكير والإبداع؛ وذلك لأن كل شيء قابل للاستيراد والاستنبات والتكييف إلَّا روح الأمة ومشروعها الحضاري، فما لم تستشعر الأمة الحاجة التاريخية إلى هذا المشروع فإنها لن تحققه؛ لأنه عملية تاريخية غير قابلة للإعارة والاستيراد.

إنه «قد يكون العمل دون نظرية عامة أكثر ضمانًا من العمل بنظرية متحيزة وخاطئة»، كما يقول مبردال، وذلك لأن العمل وفق نسق نظري متحيّز لا يؤدي إلَّا إلى المزيد من الابتعاد عن مفهوم التجدد الذاتي، بل يزيد من تبعية الذات وتواكلها على المنجز النظري الأجنبي.

وإن مسيرة الممارسة النظرية المستقلة لا يمكنها أن تتكامل عناصرها وتتجاوز صعابها بدون المحيط الاجتماعي الفعّال، الذي لا يتوقّف عن الحركة والمساءلة والفعالية في سبيل إبراز المكنون الاجتماعي، وبلورة السياق النظري المستقل.

فلولا حركية المجتمع وفاعليته وإشكالياته النظرية المتتابعة، لما بنى المجتمع الإنساني أي نسق نظري متكامل، يجيب عن أسئلة الواقع، ويبلور مقصد الإنسان فردًا وجماعة.

وليس مقصودًا بالتجدد الذاتي الشروع في الانعزال عن المنجزات العلمية والنظرية الغربية، وإنما المقصود هو التحرك نحو التعامل مع هذه المنجزات والأنساق الفكرية والنظرية، في إطار ثبات نفسي قادم من خلال وضوح الرؤية النظرية الذاتية، وتوجيه إمكاناتنا نحو تشكيل بنيتنا الاجتماعية والحضارية على النحو الذي يتفق وتلك الرؤية ومصالحها.

ويبدو أن إنجاز هذه المسألة يتطلب التفاعل الخلاق بين مختلف العلوم والعلماء والتخصصات للوصول إلى تصور متكامل وممكن ومتسق قولًا وفعلًا؛ لأن التجدد الذاتي عملية مستديمة، تطال الفكر النظري ومفاهيمه، بحيث تنسجم ومنطق المكونات الأصيلة لأمتنا، وتتطور وتتفاعل في واقعها المعاصر الحي، لاستيعاب أثر التغيرات الموضوعية في المحيط الاجتماعي داخل النسق النظري.

وبهذا فإن التجدد الذاتي كمفهوم يستوعب تجربة التاريخ بأحداثها وقيمها وقواعدها العامة، كما يستوعب تطورات الراهن، في سبيل تأسيس قواعد للسلوك الإنسانية على المستويات كافة، وبهذا يقف مفهوم التجدد الذاتي موقفًا مضادًّا لمفاهيم التقليد والاستيراد والاستنساخ الحرفي لتجارب الآخرين ونماذجهم الكاملة، سواء على مستوى التاريخ أو الراهن، ويتم الحشد التام لكل الكفاءات والإمكانات والآفاق في إطار من الانبعاث الداخلي، الذي يتَّجه إلى بناء مجمل الحياة الاجتماعية، على قاعدة القيم الأصلية والتجدد الذاتي، ووفق هذا المنظور. ويتسم بتجديد حياة كل الأطر التقليدية في الكيان المجتمعي، بحيث تدخل هذه الأطر في الحياة الجديدة للمجتمع، على قاعدة التعاون والشراكة مع مختلف القوى من أجل تطوير المجتمع وإنهاضه من الداخل، وبهذه العملية يتأكد منطق الاستمرار والديمومة في حركة الأمة تجاه البناء والتطور، بمعنى ألَّا تكون توجُّهات الأمة في هذا الاتجاه موسمية أو خاضعة لتحديات خارجية، وإنما هي جزء من مسيرتها الطبيعية وحركتها اليومية، وعبر هذه الصيغة يحافظ المجتمع على استقراره دون أن يفقد حيويته أو يصاب بالرتابة والبيروقراطية، وغياب محفّزات النمو والتطوير.

فهو (المجتمع) على قاعدة الاستقرار يبحث عن التطور ويعمل إليه، ويمتصّ نقاط القوة في التجارب الإنسانية المعاصرة. وعلى هذا يصبح مشروع التجدد الذاتي مشروعًا يستنفر إمكانات الأمة تجاه البناء والعمران، بدل أن تكون معطّلة أو متّجهة نحو الهدم المجرّد.

فالتجدد الفكري والثقافي من القضايا الجوهرية والملحَّة، والتي تساهم في علاج الكثير من المشاكل التي يعانيها مجالنا العربي والإسلامي؛ وذلك لأن العديد من المشاكل هي جراء توقُّف حركة الإبداع والتجديد الفكري والثقافي، مما أصاب حياتنا كلها باليباس والجمود والترهل الفكري.

لذلك فإن الحاجة اليوم ملحَّة لعملية التجديد والتطوير والتغيير. وإن أيَّ تردد على هذا الصعيد سيُكلِّفنا الكثير على الصعد كافة. والتجديد الفكري والثقافي الذي نتطلَّع إليه ونطالب به، لا يعني العمل على الاستنساخ الحرفي لتجارب الآخرين في عملية التجديد والتطوير، وإنما هو تجدد ذاتي وينطلق بدينامية ذاتية دون أن ينحبس في صومعة الأنا، بل ينفتح ويتواصل ويتفاعل مع كل التجارب الإنسانية على هذا الصعيد. فنظريات الآخر لا تلغي حاجتنا إلى إبداع رؤية فكرية أصيلة، تحضرنا للتطوير، وتبلور لنا برامج العمل، وتشحذ همم كل الطاقات صوب البناء والعمران.

فالتجديد الفكري والثقافي الذي يخرجنا من حالة الرتابة والجمود، ليس مقالة تكتب، أو خطبة تقال، بل هو جهد فكري وثقافي ومنهجي متواصل يؤسس لرؤية جديدة، ويجيب على تحديات المرحلة، ويخرج الجميع من نفق اللاأبالية والاستقالة من تحمل المسؤولية.

لذلك فإن التجديد ليس مسؤولية شريحة اجتماعية واحدة، بل هو مسؤولية جميع الفئات والشرائح، وكل فئة من موقعها الاجتماعي والوظيفي تستطيع أن تمارس دورها ووظيفتها في هذا المضمار. فالتجديد المعرفي والمنهجي الذي يتَّجه إلى صقل طاقات الإنسان، وتنمية مواهبه، وإنضاج مداركه، ويحمّله مسؤولية واقعه، هو الذي يُؤهِّل الإنسان للتفاعل مع مسيرة التطوير الحضاري في المجال العربي والإسلامي، ويعمل على ترشيد حركته وتعميق تجربته. وبهذا يتحوِّل هذا الإنسان، الذي هو الثمرة العملية لمشروع التجديد الثقافي والفكري، إلى طاقة خلَّاقة، مهمتها صناعة الخير العام باستمرار. وبهذا يتبلور الهدف الأسمى لمشروع التجديد في الدوائر الثقافية والاجتماعية، وهو صناعة وبناء ذلك الإنسان الصالح، الذي يتحمَّل مسؤولياته الاجتماعية والوطنية على أكمل وجه. ومن هنا فإن الساحة العربية والإسلامية اليوم، بحاجة إلى مشروع ثقافي تجديدي، يحمل استراتيجية عليا تنبع من ذاتنا الحضارية، وتتناغم مع متطلبات العصر وضروراته، وتحدث تغييرًا بنيويًّا في الواقع الثقافي العربي والإسلامي، بما يخدم المستقبل الثقافي وثقافة المستقبل.

ثقافة الكراهية والموقف من الآخر

لعل من الظواهر الإنسانية الثابتة، والتي تتطلب قراءة عميقة لمعرفة العوامل والأسباب المفضية إليها، والطرق المناسبة لتجاوز التأثيرات السلبية والمدمرة لهذه الظاهرة، أو التقليل من حدوثها وبروزها في الفضاء الإنساني. هي ظاهرة الكراهية والعداء والعداوة بين بني الإنسان. حيث تشترك عوامل عدة، موضوعية وذاتية، داخلية وخارجية، في بروز حالة العداء والعداوة بين الإنسان وأخيه الإنسان. وفي إطار سعينا الحثيث في إرساء ثقافة الحوار والتسامح وحقوق الإنسان في فضائنا الاجتماعي. من الأهمية بمكان، تفكيك هذه الظاهرة، ومعرفة العوامل المباشرة لحدوثها، وما هي الكيفية أو الآليات المناسبة للتقليل منها في فضائنا الاجتماعي والوطني. فهل من الطبيعي أن يقود الاختلاف الأيديولوجي أو السياسي إلى العداوة والكراهية؟ أم أن هناك عوامل وأسبابًا أخرى، تتدخل في هذا الأمر، فتحوّل الاختلافات بكل مستوياتها إلى مصدر من مصادر العداوة والكراهية؟ إننا بحاجة ماسة اليوم إلى قراءة هذا الواقع، وإزالة كل موجبات الكراهية والعداوة من فضائنا الاجتماعي.

وذلك لأنه حينما يسود العداء الواقع الاجتماعي، فإن الأخطار الحقيقية تتلاحق علينا. ولا يمكن بأيِّ حال من الأحوال أن تستقر أحوالنا وأوضاعنا، ونحن نحتضن ثقافة تدفعنا إلى ممارسة الكراهية ضد الآخر المختلف عنا والمغاير لتصوراتنا وقناعاتنا؛ وذلك لأن هذه الثقافة بتأثيراتها وانعكاساتها قادرة على شحن النفوس بشكل سلبي ضد الآخر المختلف والمغاير.

والسلوك العدواني هو في جوهره حالة نفسية سلبية ضد الآخر بحيث تنفيه وترفضه في وجوده ونفسه أو في موقعه ومنصبه أو في مصالحه وعلاقاته، وتتحرك نحوه بطريقة عدوانية - تدميرية. والعلاقة جدُّ قريبة بين الثقافة التي تؤسس لمقاولات الإكراه والإلغاء والنفي، والسلوك العدواني تجاه الآخر. فالثقافة التي لا ترى إلَّا ذاتها وتلغي ما عداها هي المقدمة النظرية لذلك السلوك العدواني الذي لا يرى إلَّا قناعاته ومصالحه، ويعمل على تدمير الآخر بمستويات متعددة.

فالعلاقة بين الثقافة التي تبثُّ الكراهية بين بني الإنسان لدواعي أيدولوجية أو سياسية، وبين السلوك العدواني بكل مستوياته والذي يستهدف تدمير الآخر وإلغائه، هي علاقة السبب بالنتيجة. فلا يمكن أن تنتج ثقافة الكراهية والبغضاء والإلغاء واقع المحبة والألفة والتسامح، بل تنتج واقعًا من سنخها ومن طبيعة ماهيتها وجوهرها، وهو العدوان بكل صوره ومستوياته.

فالسلوك العدواني هو عبارة عن فكرة في العقل، وغريزة في النفس، وممارسة تدميرية والغائية في الواقع والموقف. لذلك نجد أن المجال الإسلامي المعاصر يعيش هذه المحنة في صور ومستويات متعددة، فالأفكار والأيدولوجيات التي تلغي الآخر المختلف والمغاير، ولا تعترف بحقوقه، أوصلتنا في المحصلة النهائية إلى انتشار ظاهرة العنف والتطرف والإرهاب، والتي تعمل على معالجة خلافاتها مع الآخرين عن طريق استخدام القوة العارية، فتحسم اختلافاتها عن طريق ممارسة القهر والعنف.

والمشروعات السياسية التي سادت في مجالنا الإسلامي بصرف النظر عن أيديولوجيتها وشعاراتها، والتي كانت تحمل مضمونًا سيئًا من الآخر. قادتنا هذه المشروعات وأوصلتنا إلى أنها تحوَّلت إلى مصدر من مصادر العدوان والعنف في الواقع الاجتماعي والسياسي. فالمشروعات الأيديولوجية والسياسية، التي لا تحمل موقفًا حضاريًّا وتعدديًّا من الآخر المختلف والمغاير، فإنها ساهمت بشكل أو بآخر في نشوء ظاهرة العدوان والعنف والتطرف، فالذي يرفض الآخر على مستوى الشعور والفكر، هو الذي يؤسس للحرب وممارسة العنف تجاهه في الواقع الخارجي.

لذلك فإن المدخل الحقيقي لعلاج ظاهرة العنف والعدوان في الفضاء الاجتماعي، هو إعادة تأسيس العلاقة والموقف من الآخر المختلف والمغاير. فالأنا لا تقبض على كل الحقيقة، والآخر ليس شرًّا وباطلًا بالمطلق.. إن تأصيل هذه الحقيقة هو ما يزيل من نفوسنا وعقولنا كل المسوغات النظرية والنفسية لمعاداة الآخر باعتباره مخالفًا لنا في الأيديولوجية أو الموقف الثقافي أو السياسي.

فالآخر هو مرآة ذواتنا، وإذا أردنا أن نتعرف على خبايا وخفايا ذواتنا، فعلينا أن نتواصل مع الآخر فهو مرآتنا الذي نكتشف من خلالها صوابية أفكارنا أو خطئها، سلامة تصوراتنا أو سقمها.

لهذا كله فإن إعادة تأسيس العلاقة بين الذات والآخر على أسس القبول بالتعددية والاعتراف بحق الاختلاف ونسبية الحقيقة، هو الذي يزيل من ذواتنا وفضائنا الاجتماعي الكثير من موجبات العدوان على الآخرين.

فالاختلاف الأيديولوجي أو السياسي أو الثقافي ليس مدعاة لانتهاك حقوق الآخرين، بل على العكس من ذلك تمامًا، حيث إن الاختلاف بكل مستوياته ينبغي أن يقود إلى التواصل والتعارف ومعرفة الآخرين على مختلف المستويات.. إذ يقول تبارك وتعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ}[30]. فإلغاء الخصوصيات لا يمثل نهجًا واقعيًّا في التعاطي مع الواقع؛ لأن الإلغاء من أي طرف كان لا يغيّر شيئًا من المسألة في طبيعتها الذاتية، أو من تأثيراتها الموضوعية، باعتبار أنها تمثّل بعدًا في عمق الذات، لا مجرد حالة طارئة على الهامش، مما يجعل من مسألة الإلغاء مشكلة غير قابلة للحل.. والرؤية القرآنية تؤكد على ضرورة أن تحرك الخصوصية في دائرتها الداخلية في الجانب الإيجابي الذي يدفع الإنسان للتفاعل عاطفيًّا وعمليًّا مع الذين يشاركونه هذه الخصوصية في القضايا المشتركة.. ويبقى التعارف غاية إنسانية من أجل إغناء التجربة الحية المنفتحة على المعرفة المتنوعة والتجربة المختلفة للوصول إلى النتائج الإيجابية في مستوى التكامل الإنساني.

ويقول عزّ من قائل: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ * وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ}[31].

فحينما يختلف الناس في مواقع الفكر أو في مواقع الحياة الخاصة والعامة، فتثور المشاعر، وتتعقَّد المواقف، حتى تتحوَّل إلى خطر كبير على العلاقات الإنسانية في المجتمع، عندما يتَّجه الموقف إلى الصدام الذي يهدِّد الجميع، ويقطع التواصل في أفراده.. فهناك أسلوب السيئة الذي يعمل على إثارة الانفعال الذي يتحرك بالحقد والعداوة والبغضاء ويدفع بالموقف إلى القطيعة والصراع، وذلك بالكلمة الحادة والنابية، والموقف الغاصب، واليد المعتدية.

وهناك أسلوب الحسنة الذي يعمل على تحريك الموقف والرؤية على أساس الدراسة العقلانية - الموضوعية لكل المفردات المتناثرة في ساحة الأفكار والمواقع والمواقف، ومحاولة اكتشاف العناصر والمفردات الداخلية والخارجية التي تضيق الهوة بين هذا الموقف أو ذاك، أو تردمها، وتجمع العقول والقلوب على قاعدة فكرية وحياتية واحدة، وذلك بالكلمة الطيبة والنظرة الحانية والموقف الموضوعي واليد المصافحة والالتفاف على كل المشاعر السلبية بالمشاعر الإيجابية التي يختزنها الفكر والواقع.

فـ{ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} ليتحوَّل العدو إلى صديق، والبعيد إلى قريب، والخصم إلى رفيق؛ وذلك لأن الإيمان يفرض على الإنسان أن يختار الأحسن في حركة العلاقات، كما يريد منه اختيار الأحسن في حركة الحياة.

ولعل هذا الهدف يحتاج إلى الكثير من الجهد النفسي والفكري والعملي، الذي يتجاوز الكثير من الضغوط الداخلية والخارجية التي تريده أو تقوده إلى الاستسلام إزاء المشاعر الانفعالية والعدوانية. لذلك يقول تعالى: {وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا} على مشاعر الحرمان التي يفرضها الانفتاح على الآخرين، في مجاهدة النفس ضد رغباتها الذاتية الضيقة، وضد نزواتها العشوائية، وعلى بعض الأوضاع الصعبة التي قد تحصل للإنسان من خلال ذلك، وعلى الوقت الطويل الذي يحتاجه الفكر الموضوعي - المتزن للوصول إلى الحلول العملية التي تتناسب مع طبيعة المشاكل الموجودة في الساحة.. {وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} من الإيمان والوعي والإنسانية النابضة بكل معاني الخير والإحسان.

إن وأد ثقافة الكراهية من مجتمعنا وفضائنا الوطني، بحاجة إلى إعادة الاعتبار إلى الآخر وجودًا ورأيًا ومشاعر، حتى يتسنَّى للجميع صياغة العلاقة بين الذات والآخر، بين مكونات المجتمع وتعبيرات الوطن المتعددة على أسس الاعتراف بحق الآخر في التعبير عن وجوده وأفكاره بعيدًا عن ضغوط الإكراه وموجبات النفي والإلغاء.

فالاختلاف مهما كان حجمه لا يُشرِّع للحقد والبغضاء وممارسة العدوان الرمزي والمادي، بل يؤسِّس لضرورة الوعي والمعرفة بالآخر. وعيًا يزيل من نفوسنا الأدران والأحقاد والهواجس التي تُسوِّغ لنا بشكل أو بآخر معاداة المختلفين معنا.

ومعرفة تضيء كل محطات العلاقة بمستوياتها المتعددة، وتحول دون إطلاق الاتهامات الجوفاء والشعارات الصفراء.. إننا اليوم وفي ظل الأوضاع الحرجة التي نعيشها على أكثر من صعيد، أحوج ما نكون إلى تلك الثقافة التي تدفعنا إلى تجسير الفجوة مع المختلفين معنا، وتحثّنا على التعارف والتواصل والتفاهم والحوار المستديم، وتلزمنا باحترام الإنسان وحقوقه، وإلى تلك المبادرات الاجتماعية والسياسية التي تستهدف إزالة كل ما من شأنه أن يشين إلى بعضنا بعضًا، ويعمّق أواصر التلاقي والمحبة، ويجذّر خيار التعايش والسِّلم الأهلي.

فلتتكاتف كل الجهود والطاقات والإمكانات من أجل الخروج من شرنقة التعصُّب الأعمى إلى رحاب التواصل والحوار، ومن ضيق التطرُّف والغلو إلى سعة الرفق والتيسير، ومن دائرة الجمود المميتة إلى فضاء التجديد والاجتهاد والكدح المتواصل من أجل الحق والحقيقة.

إن الظروف الحساسة التي نعيشها تتطلَّب منا جميعًا الانعتاق من أسر الجمود والتعصُّب والأنانية القاتلة، وذلك حتى نتمكَّن من مجابهة هذه الظروف والتحديات التي تستهدفنا جميعًا.

فلنأخذ جميعًا بأسباب العدالة في تعاملنا مع الآخرين، في نطاق الرؤية التي تقول: عامل الناس بما تحب أن يعاملوك به.

في معنى الاعتراف بالآخر

عند الحديث عن التنوع والتعددية في الحياة الاجتماعية والإنسانية، دائمًا ما يتم تداول مصطلح ومفهوم ضرورة الاعتراف بالآخر.. ويتم تكرار هذه المقولة في كل لقاء اجتماعي أو فكري، يتم فيه تداول طبيعة العلاقة بين المختلفين والمغايرين دينيًّا أو قَبَليًّا أو عرقيًّا أو مناطقيًّا أو ما أشبه ذلك.

فماذا نقصد بمقولة (الاعتراف بالآخر)، وما هي محدِّدات هذه المقولة؟

هذا ما سنحاول أن نتعرف عليه خلال هذا المقال.

لكل ذات إنسانية آخر، ومن خلال تحديد معنى الذات، تتحدد -بطبيعة الحال- نوعية الآخر.. فإذا كان الحديث بعنوان ديني فإن الآخر هو كل من ينتمي إلى دين آخر، وإذا كان الحديث بعنوان مذهبي في الدائرة الإسلامية، فإن الآخر هو كل من ينتمي إلى مذهب إسلامي آخر.. وهذا ينطبق على مقولات القومية والعرقية والمناطقية والجنوسة وما أشبه ذلك.. فالآخر يتحدد من خلال تحديد معنى الذات.. والاعتراف به في صورته الأولية يعني الاعتراف بوجوده وكينونته الإنسانية وبحقوقه الآدمية بصرف النظر عن مدى قبولنا أو اقتناعنا بأفكاره أو قناعاته العميقة والشكلية.

فلا يمكن لأيِّ إنسان أن يدَّعي الاعتراف بالآخر على المستوى الديني أو المذهبي أو القومي، وهو يهدّده في وجوده وكينونته الإنسانية.. فالذي يعترف بالآخر يحترم وجوده، وكل متطلبات حياته الإنسانية.

الاعتراف بالآخر الديني والمذهبي ينبغي أن يقود إلى التعايش، الذي يضمن حقوق الجميع بدون تعدٍّ وافتئات من قبل أيِّ طرف على الأطراف الأخرى.. وحينما نفشل نحن العرب في حماية تنوعنا الديني والمذهبي فإن عدونا الصهيوني هو المستفيد الأول من عملية الفشل.. وهو المناخ المؤاتي على المستويين الاجتماعي والسياسي للمزيد من تفسُّخ واهتراء الواقع العربي.

لهذا فإن مفهوم الاعتراف بالآخر يناقض بشكل تام، استخدام وسائل القسر والقهر لإقناع الآخر أو دفعه إلى تغيير قناعاته.. فأنت ينبغي أن تعترف به كما هو، بعيدًا عن المسبَّقات الأيديولوجية أو القومية أو ما شاكل ذلك. وحينما نندفع إلى التوسُّل بوسائل قهرية للتغيير أو تبديل قناعات الآخر المختلف، فهذا ينمُّ عن عدم التزام عميق بمفهوم الاعتراف بالآخر.. فلا يمكن أن ينسجم هذا المفهوم مع نزعات القهر والفرض والدفع بوسائل مادية لتغيير المواقع الأيديولوجية والفكرية وتبديلها.. فالاعتراف بالآخر في صورته الأولوية يعني احترام حياته الإنسانية وكينونته الذاتية ومتطلباتهما، بعيدًا عن أفكاري الخاصة تجاهه.

ويحاول البعض في سياق الحديث عن مقولة الاعتراف بالآخر، أن يحدد بعض الشروط لكي يقبل الآخر.. وحين التدقيق فيها نجدها تقتضي أن يتخلَّى الآخر عمَّا هو عليه كشرط لقبوله.

وهذه من المفارقات العميقة، والتي تكشف عن رفض الكثير من الناس لهذا المفهوم.

فليس مطلوبًا من أحد أن يتخلَّى عن قناعاته من أجل أن يقبله الطرف الآخر. للجميع حق رفض قناعات الآخر، والتعبير بوسائل سلمية عن هذا الرفض، ولكن ليس من حق أحد توهين أو تشويه قناعات وأفكار الآخر، كما أنه ليس من حق أحد أن يطلب من الآخر تغيير قناعاته كشرط لقبوله. فالاعتراف بالآخر لا يلغي حق أحد في امتلاك وجهة نظر نقدية عن أفكار وقناعات الطرف الآخر، ولكن في الوقت ذاته فإن مقتضى مفهوم الاعتراف بالآخر القبول به كما يريد هو وليس كما تريد أنت.

فحينما نخلق مسافة عقلية بين قناعات الإنسان وضرورات التعايش مع الآخرين بصرف النظر عن قناعاتهم وأفكارهم، حينذاك يمكننا جميعًا إنجاز مفهوم الاعتراف بالآخر في فضائنا الاجتماعي والثقافي، ودون ذلك سنبقى نلوك هذه المفاهيم في ألسنتنا، ولكن واقعنا ومسيرتنا الاجتماعية والثقافية مناقضان لمضمون هذه المفاهيم. والذي يفاقم من الأزمات والتوترات بين المختلفين على هذا الصعيد، حينما يقوم أحد الأطراف باستخدام وسائل التفجير والقتل بحق الآخرين بسبب اختلافهم الديني أو المذهبي لا غير. فما جرى من تفجير إرهابي آثم أمام كنيسة القديسين للأقباط في مدينة الإسكندرية بمصر بعد دقائق من دخول العام الجديد يؤكد هذه الحقيقة، وما يجري في العراق يوميًّا بحق الأبرياء من قتل وتفجير يؤكد هذه الحقيقة أيضًا، حيث تقوم فئة إرهابية خالية من الأخلاق والضمير بقتل الأبرياء وزرع العبوات الناسفة التي تستهدف الجموع البشرية المحتشدة لقتل أكثر عدد ممكن، لا يخرج عن هذا السياق. فالاختلاف العقدي والديني بين المسلمين والمسيحيين لا يُشرِّع لأحد قتل الآمنين من المسيحيين، وإبقاء سيف القتل على رقاب شركائنا في العروبة للاختلاف في شأن هنا أو هناك، يعدُّ جريمة كبرى نكراء، ينبغي أن تدان من الجميع، ورفع الغطاء عن كل الحوامل الثقافية والدينية، التي تبرر عمليات القتل والتفجير.

كما أن عمليات القتل والتفجير المتبادلة، والتي تتم بعناوين مذهبية، ينبغي أن تدان ويرفع الغطاء الديني والسياسي عن مرتكبيها.

فالتعددية الدينية والمذهبية في العالم العربي هي الضحية الكبرى لعملية القتل التي تجري اليوم لاعتبارات دينية أو مذهبية؛ لأن هناك جماعات تكفيرية وإرهابية تريد وتعمل من أجل إفراغ وإنهاء ظاهرة التنوع الديني والمذهبي من الواقع العربي، وتستخدم في سبيل ذلك كل الوسائل والممارسات الإرهابية التي لا تنسجم مع أيِّ دين سماوي أو أخلاق إنسانية.

فالاعتراف بالآخر الديني والمذهبي ينبغي أن يقود إلى التعايش، الذي يضمن حقوق الجميع بدون تعدٍّ وافتئات من قبل أيِّ طرف على الأطراف الأخرى. وحينما نفشل نحن العرب في حماية تنوعنا الديني والمذهبي فإن عدونا الصهيوني هو المستفيد الأول من عملية الفشل، وهو المناخ المؤاتي على المستويين الاجتماعي والسياسي للمزيد من تفسُّخ واهتراء الواقع العربي؛ لهذا فإن وجود مبادرات مؤسسية وطنية وقومية لحماية حقيقة التنوع الديني والمذهبي والقومي في العالم العربي، هو أحد المداخل الأساسية لصيانة الأمن القومي العربي، وتعزيز قوته، وسد الثغرات التي قد ينفذ منها خصوم الأمة لأغراضهم ومصالحهم الخاصة.

فالوحدات الوطنية في كل دول العالم العربي لا تُحمى بالخطابات الرنَّانة والمواعظ الأخلاقية المجرَّدة، وإنما بالوقائع الميدانية والمبادرات المؤسسية، التي تستوعب جميع أطياف الوطن وتحمي تنوعه بقانون وإجراءات دستورية، تحول دون بقاء الفجوات والهواجس المتبادلة بين مكوّنات التعدد والتنوع سواء على المستوى الوطني أو المستوى القومي. فالقوى التي تتربص بالعالم العربي عديدة ومتنوعة، ولا سبيل لنا جميعًا لإفشال مؤامراتها وتربصها إلَّا بالمزيد من الخطوات العملية التي تستهدف استيعاب حقيقة التنوع الموجودة في العالم العربي، وحمايتها قانونيًّا وسياسيًّا.

فالمسيحيون والسنة والشيعة وغيرهم، هم حقائق ثقافية تاريخية واجتماعية، لا يمكن استئصالهم. وإن ممارسة الإرهاب والقتل بحق بعضهم -لأيِّ سبب من الأسباب- لن ينهي هذه الحقائق، وإنما سيزيدها صلابة ومتانة وقوة.

ولا خيار أمام الجميع إلَّا الاعتراف بهذا الوجود المتعدد والمتنوع في العالم العربي.. التعدد الذي إذا أحسنَّا إدارته والتعامل معه سيزيدنا قوة وثراءً على مختلف الصعد والمستويات. وإن وجود توترات وأزمات في طبيعة العلاقة بين هذه المكوّنات لا يعني أن المشكلة هي في طبيعة التعدد والتنوع، وإنما في طبيعة الخيارات السياسية والاجتماعية والثقافية، التي أوجدت تصنيفات حادَّة بين أهل الوطن الواحد تحت عناوين ويافطات دينية أو مذهبية أو قومية أو عرقية.

إن السبب الجوهري الذي أدَّى إلى بروز توترات بين تعبيرات الوطن والمجتمع الواحد هو في الخيارات المستخدمة مع هذه الحقائق والعناوين العميقة في الجسم العربي.

فخيارات القتل والإرهاب والاستئصال تفضي إلى توترات أفقية وعمودية بين مجموع المكونات، أما خيارات الحوار والحرية والتسامح والمساواة وصيانة حقوق الإنسان واحترام خصوصيات جميع الأطراف فإنها تفضي إلى نسج علاقات إيجابية بين جميع الأطراف والمكونات، وبناء استقرار سياسي واجتماعي عميق، لا تهدمه عواصف السياسة ومتغيرات الراهن، بل تزيده صلابة ووقوفًا في وجه كل المؤامرات التي تستهدف تفتيت العالم العربي وضرب وحداته الوطنية.

والاعتراف بحقيقة التعدد والتنوع في الفضاء الاجتماعي والثقافي، وتوفير مقتضيات ومتطلبات حمايتها، هو الخطوة الأولى في مشروع إنهاء التوترات الاجتماعية وصيانة الأوضاع العربية من الداخل، لكي نتمكن جميعًا من إفشال مؤامرات ومخططات من يتربص بنا الشر في السر والعلن.

ومطلب التجانس الوطني بين جميع الأطراف لا يتحقق بالعنف وعمليات الاستئصال، وإنما من خلال ثقافةٍ تحترم التعدد وتدافع عن مقتضياته، وخياراتٍ سياسية تقوم بعملية الاستيعاب والدمج.. انطلاقًا من مفهوم المواطنة، بعيدًا عن النزعات الضيقة التي تحول دون بناء فضاء وطني مشترك وجامع.

رؤية في العلاقة مع الآخر

أن إلغاء الآخر أو العمل على نبذه أو الانتقاص من حقوقه الأساسية لا يفضي إلى الوحدة والاستقرار، وإنما على العكس من ذلك تمامًا، حيث إن غياب العلاقة الإيجابية والسوية بين مختلف مكونات وتعبيرات المجتمع يؤدي إلى زعزعة الاستقرار، وزيادة وتيرة التوتر، وارتفاع منسوب الاحتقان.

عديدة هي المشاكل والأزمات، التي يعاني منها الواقع الإسلامي المعاصر، إلَّا أن من أهم هذه المشاكل وأخطرها، والتي تُلقي بظلها الثقيل على مجمل حركة المسلمين المعاصرة، وفي تقديرنا إنها ستحدد طبيعة المستقبل السياسي والحضاري الذي ينتظر المجال الإسلامي، هي مشكلة العنف وممارسة القهر والإكراه والقتل والإرهاب باسم الدين الإسلامي.

حيث كثرت في الآونة الأخيرة، ولاعتبارات عديدة، تلك الأعمال والجرائم وسفك الدماء الذي يراق باسم الجهاد في سبيل الله والدفاع عن الإسلام ومقدساته. فأضحى العنف من عنف القول، الذي يحثّ على الكراهية والقهر والقتل، إلى عنف الفعل والممارسة، حيث الاغتيالات والجرائم الجماعية والتفجيرات وإراقة الدماء البريئة من المشاهد المألوفة في العديد من بلداننا الإسلامية. وهذا بطبيعة الحال، ينذر بكوارث وخيمة على الصعد الثقافية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية والحضارية. لذلك تتأكد الحاجة اليوم إلى الأمور التالية:

1- رفع الغطاء الديني والشرعي عن تلك الأعمال الإرهابية والإجرامية التي تُمارس باسم الدين، والدين بكل قيمه ومبادئه وتشريعاته بريء منها.

فالإسلام دين الرأفة والمحبة والرحمة وصيانة حقوق الإنسان، فلا يعقل أن تمارس كل هذه الفظائع باسم الدين الذي يقدّس الحق والعدل والحرية.

لذلك من الأهمية بمكان اليوم، العمل على تعرية كل هذه الأعمال العنيفة التي تمارس باسم الإسلام، وفضحها ورفع الغطاء الديني عنها.

2- الوقوف بحزم ضد ظاهرة التكفير والغلو في الدين. إذ إننا لا نبالغ حين القول: إن من أهم أسباب معاناتنا الراهنة هو من جراء شيوع ظاهرة التكفير والغلو في الدين. وذلك لأن هذه بمتوالياتها العديدة هي البيئة الخصبة لبروز ظاهرة العنف الديني وبثّ الحقد والكراهية بين المسلمين. فإطلاق حكم التكفير على أي شخص أو فئة يقود إلى إهدار دمائها، واستحلال أموالها، وشحن النفوس ضدها وجودًا وحقوقًا.

فلا يمكن اليوم أن ننهي ظاهرة العنف وبثّ الكراهية من مجتمعاتنا الإسلامية، بدون تفكيك ظاهرة الغلو والتكفير؛ وذلك لأن الغلو في الدين يقود إلى التكفير، وهذا بدوره يؤدي إلى ممارسة الكراهية والقتل باسم الدين.

لذلك نجد أن النصوص الإسلامية، تؤكد على ضرورة نبذ الغلو في الدين؛ لأن هذه الآفة الخطيرة تجعل الإنسان المسلم يعيش التناقض في حياته كلها. وينقل التاريخ أن رجلًا اعترض على الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم، عند توزيعه للغنائم قائلًا: «اعدل يا محمد، فإنك لم تعدل. فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ويحك، إذا لم يكن العدل عندي فعند من يكون؟ فقال عمر بن الخطاب: ألا تقتله؟ فقال: لا، دعوه فإنه سيكون له شيعة يتعمّقون في الدين حتى يخرجوا منه كما يخرج السهم من الرمية»[32].

وجاء في الحديث الشريف: «ومن قذف مؤمنًا بكفر فهو كقاتله»[33]؛ وذلك لأن التكفير يُفضي إلى إسقاط حرمة ذلك الإنسان. فهو -أي التكفير- المقدمة النظرية لفعل القتل. من هنا لا وقف لظاهرة القتل والإرهاب والعنف إلَّا بتفكيك ظاهرة التكفير والغلو الديني. فكل الإجراءات التي تستهدف محاربة الإرهاب والقضاء على ظاهرة العنف لا تجدي نفعًا إذا لم تفكّك ظاهرة التعصُّب والتكفير والغلو الديني؛ وذلك لأن هذه الظاهرة ساهمت ولا زالت في إنتاج أفواج المتطرّفين والإرهابيين. من هنا فإن الخطوة الأولى في مشروع مجابهة العنف والإرهاب هي نقد وتفكيك ظاهرة التكفير والتعصُّب الديني والسياسي.

3- إننا ومن أجل وأد ظاهرة العنف، واجتثاث جذور الإرهاب، وإنهاء ثقافة الحقد والكراهية، بحاجة إلى بناء حياة اجتماعية وثقافية وسياسية جديدة، قوامها قيم الحوار والتسامح وحقوق الإنسان؛ لأنه بدون هذه القيم والمبادئ، التي تحترم الإنسان بصرف النظر عن دينه أو مذهبه أو قومه، سيبقى واقعنا يعاني من مظاهر وممارسات العنف والإرهاب. إن الرد الاستراتيجي على الثقافة التي تبثّ الحقد والكراهية، هو بناء ثقافة المحبة والتسامح.

ولقد أبانت الكثير من التجارب أن إنهاء ظاهرة العنف الديني بحاجة إلى تضافر كل الجهود والعوامل، من أجل بناء واقع سياسي واجتماعي وثقافي جديد، ينبذ العنف بكل مستوياته، ويحترم الإنسان بكل خصوصياته، ويتواصل مع العصر والحضارة بكل مكاسبها ومنجزاتها. وهذه الكلمات هي صرخة واعية ضد العنف ومحاولات بثّ الكراهية بين أبناء المجتمع والوطن الواحد، ودعوة لبناء علاقة إيجابية وحضارية بين مختلف التعبيرات العقدية والمذهبية والسياسية الموجودة في المجتمع والوطن على قاعدة المساواة والمواطنة والعدالة.

فلتتكاتف كل الجهود لتطهير فضائنا الفكري والسياسي والاجتماعي من كل العناصر الثقافية والسلوكية التي تبثّ الكراهية وتحرّض على الحقد والعنف؛ لأن هذه هي بوابة الاستقرار وسبيل الأمن الوطني والاجتماعي. فالآخر في الرؤية الإسلامية ليس مشروعًا للذبح والقتل والتدمير، بل هو موضوع للتواصل والحوار والمحبة والرحمة وتنمية الجوامع المشتركة. لهذا نجد أن النصوص القرآنية، تؤكد على مفاهيم الأخوة والألفة والرحمة والدفع بالتي هي أحسن، إذ يقول تبارك وتعالى: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ}[34].

و«إن معاشرة الآخر بالحسنى أمر طبيعي، وليس فيها أي محذور شرعي، ولم ترد آية أو سنة صحيحة تصمّم حياة المسلم على أساس القطيعة مع الآخر، وهناك جمع من الأنبياء الكرام، عقد القرآن الكريم بينهم وبين شعوبهم علاقة الأخوة الكريمة من خلال الخطاب النبوي الموجَّه، وذلك رغم انعدام الموالاة، ورغم الاختلاف الصارخ بالعقيدة والسلوك.

إن موالاة الكافر المرفوضة تتمثّل في تقبُّل فكره، والانسياق مع هذا الكفر تحت ضاغط غير موضوعي يدخل في نطاق الولاء المنهي عنه، كذلك الركون إلى الآخر، ومدّه بالقوة والأسرار فيما هو يحارب المؤمنين ويعمل على تصديع المجتمع المسلم، هذه موالاة مرفوضة، ولكن الموالاة بمعنى المعاشرة الجميلة، بمعنى المشاركة بالوطن والمصير، فهي مما أجازه الشرع، ولم ينهَ عنه كتاب الله»[35].

فالاختلاف في العقائد أو الأفكار أو السياسات ينبغي أَلَّا يصنع الحواجز التي تحول دون التواصل والحوار والاحترام المتبادل.

إذ إن هذه المفاهيم والقيم هي التي توسّع من دائرة التوافق، وهي التي تضبط حقائق الاختلاف، وهي التي تُرسي معالم التعددية الصالحة، التي تثري الواقع والمجتمع في آن.

فالآخر ليس شرًّا مطلقًا، بل هو أحد مكونات المجتمع والوطن، ودفع الأمور باتجاه شيطنة الآخر لا يفضي إلَّا إلى المزيد من التشظي والتوتر. فالمطلوب ومن أجل صياغة علاقة حسنة وإيجابية بين الذات والآخر، هو أن نمارس كذوات إنصاف حقيقي للآخر على الصعد كافة، كما نشجّع الآخر وعبر وسائل ومبادرات مختلفة، لكي يعرّف بنفسه بعيدًا عن الأفكار المسبقة وحروب الشائعات والتشويه والأوراق الصفراء. ففسح المجال للآخر الديني أو المذهبي أو السياسي للتعريف بنفسه سيساهم في ردم الكثير من الفجوات التي تحول دون التواصل وبناء علاقة سوية بين جميع المكونات والتعبيرات. كما أن الالتزام بمقتضيات الإنصاف سيوقف الكثير من الترهات التي تسيء إلى الجميع وتدخلهم في أتون الصراعات والنزاعات التي تهدد الأمن والاستقرار بكل مستوياته وحقائقه.

فالمغايرة في الأفكار والقناعات والمواقف لا تُشرِّع للنبذ والإقصاء والحرب، بل إلى ضرورة الإنصات المتبادل والحوار المستديم والتواصل الذي ينمّي المشتركات ويضبط نزعات الصراع.

ولا بد أن يدرك الجميع، ومن خلال تجارب الأمم والشعوب، أن إلغاء الآخر أو العمل على نبذه أو الانتقاص من حقوقه الأساسية لا يفضي إلى الوحدة والاستقرار، وإنما على العكس من ذلك تمامًا، حيث إن غياب العلاقة الإيجابية والسوية بين مختلف مكونات وتعبيرات المجتمع يؤدي إلى زعزعة الاستقرار، وزيادة وتيرة التوتر، وارتفاع منسوب الاحتقان. فلا وحدة حقيقية مع دحر الخصوصيات ومحاولة إفناء التنوعات بوسائل قسرية، كما أنه لا استقرار مستديم مع ثقافة الكراهية ومبادئ النبذ والإقصاء والتهميش.

فالوحدة بكل مستوياتها تحتاج إلى مشاركة جميع الأطراف والمكونات في بناء لبناتها الأساسية وحقائقها العميقة، كما أن الاستقرار الاجتماعي والسياسي يتطلب رؤية سياسية وثقافية واجتماعية جديدة، لا تمارس النبذ والإلغاء تجاه المختلفين والمغايرين، وتشيّد وقائع التواصل والمحبة والاحترام بين مختلف المكونات والتعبيرات.

ولا وجود على الصعيد الإنساني لمجتمع خالص أو مصفَّى أو صرف. كل المجتمعات الإنسانية تحتضن تنوعات وتعبيرات متعددة، وكل محاولات القهر والصهر باءت بالفشل، وأسست لمعارك خاسرة للجميع. ولا خيار أمامنا إلَّا بناء علاقات إيجابية وحضارية بين مختلف مكوناتنا وتعبيراتنا وأطيافنا؛ لأن هذه العلاقة هي التي تصون حقوق الجميع، وهي التي تعمّق خيار الألفة والوحدة بين الجميع، وهي التي تحول دون تسرُّب أعدائنا لتأجيج الاختلافات والنزاعات.

فهذه العلاقة بتأثيراتها ومفاعليها الإيجابية المختلفة هي التي تقوي جبهتنا الداخلية، وهي التي تمنحنا القدرة والقوة لمواجهة التحديات والمخططات الخارجية. فقوتنا في وحدتنا على قاعدة احترام تنوعنا، وقدرتنا على صيانة حقوق بعضنا بعضًا.

وخلاصة القول: إننا بحاجة إلى رؤية جديدة في العلاقة مع الآخر في الدائرة الوطنية والإسلامية، لا تلغيه ولا تهمشه، ولا تنتقص من حقوقه، بل تحترمه وتشترك معه في صياغة علاقة إيجابية وحضارية، قوامها التواصل على قاعدة المحبة، والنقد البنَّاء والموضوعي على قاعدة الوحدة والشراكة والعدل والإنصاف.

4- ألَّا تعترف الثقافات والأفكار بالحدود والسياج التي يصنعها البشر لمنع تسرب الأفكار من مجتمع لآخر، ومن فضاء معرفي إلى فضاء معرفي مغاير. لهذا فإنه مهما اجتهد البشر في استحداث وسائل وتقنيات تمنع الأفكار الموجودة لدى مجتمع أو أمة ما من التسرُّب والوصول إلى الأمة الأخرى، فإنهم لن يتمكنوا من تحقيق ذلك؛ لأن الأفكار تأبى الحبس والتقوقع في حدود جغرافية اجتماعية معينة.

من هنا فإن تلاقح الأفكار وتفاعل الثقافات من السِّمات الأساسية لعالم الأفكار والثقافات، بصرف النظر عن مصادرها ومنابعها العقدية والحضارية؛ لذلك فإنه من الضروري التفكير الجاد في توفر منهجية معينة لتنظيم علاقة الثقافات بعضها مع بعض، حتى يكون تفاعل الثقافات والأفكار مع بعضها تفاعلًا بنَّاءً وتطويرًا، لا مماحكة وسجالًا عقيمًا يقتل منابع الإبداع، ومكامن التطوير في الثقافات الإنسانية.

ولعل من الأبعاد الهامة في هذه المنهجية التي تربط الثقافات الإنسانية مع بعضها، وتوفّر لها أسباب التفاعل والمثاقفة، هو نمط ومنهجية الاقتباس بين الثقافات الإنسانية.

وبادئ ذي بدء نقول: إن من الأمور الطبيعية أن الثقافة الغالبة والسائدة، والتي تقدم إجابات عن أسئلة وإشكاليات معاصرة، وتستجيب استجابات إيجابية وفعلية لتحديات الراهن، تدفع أصحاب الثقافات الأخرى إلى الاقتباس منها والاستفادة من إبداعاتها ومنجزاتها المعرفية والفكرية.

وهي تؤسس بهذه العملية علاقةً أو نمطًا محدَّدًا في علاقة الثقافة الذاتية والآخر الثقافي.

والاقتباس كعملية ثقافية، تعني الاستفادة من المنجز الثقافي الذي حدث وتطور في فضاء ثقافي مغاير، والعمل على إدخاله وهضمه من قبل أجهزة ومؤسسات الثقافة الذاتية.

وعبر التاريخ الثقافي للشعوب كانت الشعوب المتأخرة حضاريًّا تقتبس وتتلقَّى من ثقافة الشعوب المتقدِّمة حضارياًّ.

والاقتباس هنا يأخذ معنيين:

المعنى الأول: اقتباس تقنية حديثة ومنجز حضاري من الثقافات الأخرى.

والمعنى الثاني: اقتباس مفاهيم وأنظمة معرفية من الثقافات الأخرى، والمشترك الإنساني يشكل القاعدة المهمّة والفعّالة لتفاعل الثقافات مع بعضها، واقتباس المفيد منها، والعمل على هضمه وتكييفه وتبيئته.

والاقتباس الثقافي لا يكون فعّالًا وذا جدوى إذا لم يكن هناك مشروع نهوض ثقافي - اجتماعي؛ لأن الركود الاجتماعي والجمود الثقافي يحوّلان الاقتباس إلى معول هدم للبنى الثقافية الذاتية.

بينما وجود حالة نهضوية يجعل كل بنى الذات الثقافية متحرّكة ويقظة، إلى كل عوامل الهدم والتخريب التي تحملها الثقافات المغايرة.

إلَّا أنه من الأهمية بمكان أَلَّا تتم هذه العملية بشكل فوضوي أو بدون ضوابط منهجية واضحة؛ لأن ذلك يؤدي إلى فوضى مفهومية ومصطلحية، الاستمرار فيها لا يؤدي إلَّا إلى المزيد من التدهور المعرفي، لهذا فإن عملية الاقتباس من الثقافات الإنسانية ينبغي أن تتم وفق الضوابط التالية:

قياس الجدوى الحقيقية

بعيدًا عن المضاربات الفكرية والآراء المختلفة والمتناقضة حول موقع الثقافات الإنسانية في المنظومات الثقافية والمعرفية الذاتية، نقول: إن قاعدة الاقتباس ليس التقليد المحض لثقافات الغير، مما يؤدي بنا إلى إسقاط درجات التطور الثقافي والاجتماعي المتوفرة لدى غيرنا على واقعنا ومجتمعنا.

إننا نرى أن من الضوابط الأساسية لعملية الاستفادة القصوى من ثقافات الإنسان المعاصر، هو قياس درجة الحاجة الحقيقية لهذه الفكرة أو هذا التصور لواقعنا.

ومن خلال هذا القياس نحدِّد موقفنا من تلك الفكرة أو التصور، وعلى حدٍّ تعبير أحد المفكرين المعاصرين: «أن يكون النموذج المطلوب استدعاؤه ما يفيد حقيقة، فلا نستحضره باعتباره محض تقليد لمجتمعات أو لحضارات غازية، ووجه الفائدة الحقيقية نقيسه بمدى حاجتنا لهذا الأمر في اطار بعده الفعال في الاستجابة لواحد من التحديات الأساسية التي تواجه جماعتنا”.

الفصل بين العلم والأيديولوجيا

لعل من المفارقات المنهجية التي تواجه عملية الانفتاح والتواصل الدائم بين الثقافات الإنسانية المغايرة، هو في نقل واقتباس العلم مع خلفيته الأيديولوجية وفلسفته العامة التي تعكس بشكل أو بآخر البيئة العقدية والحضارية لموطن العلم الأصلي.

لهذا فإن من الضوابط المنهجية التي ينبغي مراعاتها في عملية الاقتباس والاستفادة من المنجز الثقافي والمعرفي الإنساني، هو الجهد المكثَّف الواعي والرشيد لفصل العلم عن الأيديولوجيا، حتى نستفيد من المنجز العلمي، دون تسرُّب فلسفة ذلك المنجز المغايرة لفلسفتنا ونظراتنا إلى العلوم والثقافات.

وهذه العملية ليست معادلة رياضية أو مركَّبًا طبيعيًّا، وإنما هي عملية في غاية الصعوبة؛ لأننا نتعامل مع ثقافة أو ثقافات تمتلك إمكانات مادية وعلمية وتقنية هائلة ووصلت بشكل مباشر إلى القواعد الاجتماعية.

لهذا فإننا نرى أن عملية الفصل الموضوعي بين العلم والأيديولوجيا، لا تتم عبر استدعاء المنجز من قبل فئة تدِّعي الأصالة أو تزعم التشبُّث بالقيم والتقاليد، وإنما يتم على قاعدة النهوض العام، فالمجتمع الذي يعيش الجمود والترهُّل العقلي لا يمكنه لجموده وتكلُّسه أن يتفاعل بشكل إيجابي مع المنجز الثقافي والعلمي؛ لأن شرط التفاعل مع هذا المنجز هو الفعالية العقلية والحركة الاجتماعية الناشطة.

وحينما يفقد المجتمع هذين العنصرين، فإن تواصله مع المنجزات العلمية سيخلق لديه شيزوفرانيا فكرية واجتماعية، وسيُصاب المجتمع بفوضى في المفاهيم ومعايير الحكم والتقويم.

لذا فإن الفصل لا يُؤتي ثماره المرجوة إلَّا على قاعدة فعالية عقلية وحركة اجتماعية مجتهدة، تطمح إلى التطوير، وتتطلَّع إلى التجديد، فالمجتمع الحي والحيوي هو الذي يتمكن بحيويته ويقظته وقلقه على حاضره ومستقبله أن يتفاعل مع المنجز العلمي والتقني، دون أن تتسرَّب أيديولوجيته وفلسفته المغايرة.

القدرة على ربطه بالسياق الحضاري

وإننا نرى أن عملية الاقتباس العلمي والمعرفي من الآخرين جزء من عملية التواصل الإنساني، إلَّا أننا نرفض أن نجعل الآخر الغالب هو الأصل الذي يجب أن يقاس عليه؛ لأن لكل مجتمع ظروفه الخاصة وطريقته في التقدُّم والإبداع، إضافة إلى أن طريقة الاقتباس المذكورة لا تبني نظامًا معرفيًّا، ولا تقود إلى تشكيل وعي شمولي حول ثقافة المجتمع العربي ولا حول ثقافة الغرب، وبالتالي فهي لا يمكن أن تقود إلى نقد أيِّ من النظامين أو دراستهما دراسة مقارنة، فلكل أمة الحق في أن يكون لها مشروعها الحضاري المستقل، والذي يعبّر بصدق عن ذاتها وخصائصها العقدية، وليس من المعقول أن نطالب أمة من الأمم أن يكون مشروعها الحضاري مستعارًا من الآخرين؛ لأن هذا استلاب للأمة في أهم خصائصها وقطب مسيرتها. والاقتباس المعرفي والثقافي لا يعني استعارة المشروع الحضاري لأمة من الأمم الأخرى، وإنما يعني الانفتاح الرشيد والتواصل الإنساني القويم، المتَّجه إلى استنفار كل طاقات الذات وإمكاناتها في سبيل هضم منجزات العصر، وإدراك متطلباته والحصول على تقنياته على قاعدة العلم والمعرفة بها لا على قاعدة الانبهار النفسي بها؛ لأن الانبهار النفسي هو الذي يلغي كل عوامل التفاعل الخلَّاق مع التقنية والمنجز العلمي الحديث. ويشير كتاب “هل اليابانيون غربيون؟” الصادر عام (1991م) إلى نمط الاقتباس المتَّبع عند اليابانيين بقوله: إن الأشياء والأفكار الغربية كانت تدخل إلى الجماعة، بعد أن يتم استيعابها وهضمها أولًا ثم تحويلها إلى مادة يابانية.

بهذه الضوابط تكون عملية الاقتباس من الثقافات الأخرى حالة طبيعية، وذات تأثير إيجابي على المسار الثقافي والاجتماعي العام. إن هذه الضوابط هي التي تنقل نخبنا ومؤسساتنا التعليمية والعلمية والبحثية، من واقع النقل الميكانيكي للمفاهيم والنظريات المنتجة في الثقافات الأخرى إلى ممارسة التفكير فيها تحليلًا وانتقادًا مما يتيح التفكير في مدى صلاحيتها، وبهذا تكون عملية الاقتباس مشاركة في الجهد الثقافي والمعرفي وليس انفصالًا وإسقاطًا؛ وذلك بسبب الجهد الذي سيبذل في إطار توفير الظروف الذاتية والموضوعية لعملية الاقتباس والاستفادة من الثقافات الإنسانية الأخرى.

 

محمد محفوظ

........................

[1] سورة الأنعام، الآية 101.

[2] سورة الأعراف، الآية 172.

[3] سورة الفرقان، الآية 44.

[4] سورة التين، الآية 4 - 5.

[5] سورة الذاريات، الآية 56.

[6] سورة سبأ، الآية 20 - 21.

[7] سورة الأنعام، الآية 112.

[8] سورة البقرة، الآية 30.

[9] سورة الإسراء، الآية 70.

[10] سورة التين، الآية 4.

[11] راجع: حسين نصر، قلب الإسلام.. قيم خالدة من أجل الإنسانية، تعريب: داخل الحمداني، ص 14.

[12] الدكتور حيدر إبراهيم علي - الدكتور ميلاد حنا، أزمة الأقليات في الوطن العربي، دمشق: دار الفكر 2002م، ص 281 - 282.

[13] سورة الحجرات، الآية 13.

[14] سورة الحجرات، الآية 11.

[15] سورة المائدة، الآية 8.

[16] راجع: علي حرب، الإنسان الأدنى.. أمراض الدين وأعطال الحداثة، المؤسسة العربية للدراسات 2005، ص106.

[17] سورة المائدة، الآية 8.

[18] راجع: تفسير من وحي القرآن، المجلد الثالث، ص59.

[19] راجع: علي حرب، مصدر سابق، ص243.

[20] سورة الأعراف، الآية 158.

[21] سورة سبأ، الآية 28.

[22] محمد نور الدين أفايه، دراسة الإسلام والعالم، مرتكزات التصور الإسلامي للآخر، ندوة الإسلام وحوار الحضارات، الرياض 17 - 20/ مارس 2002م.

[23] سورة الحجرات، الآية 13.

[24] الشيخ محمد الطاهر بن عاشور، تفسير التحرير والتنوير، المجلد الثاني عشر، ص259.

[25] السيد محمد تقي المدرسي، تفسير من هدي القرآن، المجلد الثالث عشر، ص435.

[26] سورة البقرة، الآية 256.

[27] سورة النحل، الآية 125.

[28] سورة فصلت، الآية 34.

[29] عادل حسين، نحو فكر عربي، ص32.

[30] سورة الحجرات، الآية 13.

[31] سورة فصلت، الآية 33 - 34.

[32] رواه البخاري (3414) ومسلم (1064 - 148).

[33] رواه الترمذي (2636).

[34] سورة فصلت، الآية 34.

[35] غالب الشابندر، الآخر في القرآن، ص 134.

 

في المثقف اليوم