قراءات نقدية

تعدد المصائر في رواية" وادي اللبن" للكاتب المغربي عبد اللطيف محفوظ

4002 وادي اللبناستثمر الكاتب عبداللطيف محفوظ باعتماد التخييل الروائي تاريخ منطقة تيسة باعتباره مادة خصبة، وفاعلة قادرة على إغناء روايته "وادي اللبن " بأبعاد ثقافية ومعرفية وانسانية وجمالية. وقد زاد توظيف الكاتب لحكاية أغراب والفراط مع التاج الملكي كجزء من هذا التاريخ الرواية تشويقا وإثارة . وهي الحكاية التي دفعت بسارد الرواية كمال إلى التنقيب والبحث عن حقيقتها، ومعها البحث عن أمجاد وبطولات تيسة ووادي اللبن، أوماكان يسمى قديما بوادي المطاحن، وهي المعارك التي شارك فيها سلاطين وملوك مغاربة، وأثناء بحث السارد كمال ونبشه في هذا التاريخ وتأويله له. باعتماد تقنية الإسترجاع (الاستذكار) . نرصد مصائر مجموعة من شخصيات الرواية بحكاياتها المتعددة والمختلفة، ومن هذه المصائر:

1- مصير الحاج المانع الحياني خال السارد: خصص الكاتب لمصير خال السارد فصلا كاملا تحت عنوان "المأثم "وجعله منطلق الرواية،وذلك بتوصل السارد كمال بخبر وفاة خاله المانع الحياني، في ليلة الاثنين الخامس من دجنبر كانون الأول ستة عشر وألفين ميلادية. وانطلاقا من خبر موته نتعرف على زوجة السارد، وخاله الحاج المانع الحياني ومكانته عند السارد كمال بطل الرواية وعند أهالي تيسة، ونتعرف كذلك من خلال مصير الخال على تاريخ هذه المنطقة (تيسة) والمعارك والبطولات التي شهدهاوادي اللبن، إضافة إلى حكاية التاج المفقود أوالوسام الملكي مع كل من أغراب والفراط.وكل ذلك تم عن طريق عملية الاسترجاع (الاستذكار) استرجاع ماضي السارد، وماضي أهالي تيسة ووادي اللبن. وفي ظل هذه التقنية الروائية (الاسترجاع) إلى جانب الوصف والحوارنستمتع بتاريخ تيسة، وبمعاركها وبطولاتها وثقافتها، وعادات أهاليها ( الحياينة). وأثناء سفر السارد وحضوره مراسيم دفن الخال تظهرشخصيات جديدة منها حميد الأخ الأكبر سنا للسارد، وعبد الرسول الذي يصغر حميد، وعبد الدايم الأكثر معرفة بتاريخ المنطقة. وبعض أصدقائه ومعارفه كعمر وجلال، والمهدي وكريم ومصطفى بن خالة أمه عبدالله المهياوي الملقب بأغراب، وكذلك شخصية الفراط، وحكايته مع التاج وفيضان وادي اللبن. والتي ستتحول إلى موضوع بحث وتقصي بالنسبة للسارد لمعرفة حقيقة هذه الحكاية.

2- مصير أغراب : أغراب هوابن خالة أم السارد (رجل شيخ هرم) اسمه الحقيقي هو عبدالله المهياوي، ونظرا لانتشار ظاهرة الألقاب بين أهالي الحياينة لقب بأغراب. و قد أشارللسارد كمال أثناء جنازة الخال إلى حكاية التاج أو الوسام الملكي المفقود. وانشغل السارد بعدها بالبحث عن أصول هذه الحكاية والتأكد من صحتها. وبالرغم من اكتشاف السارد من خلال طريقة حديث أغراب معه أو من خلال ماروته بعض شخصيات الرواية كمصطفى، وكريم وعبدالدايم بأن أغراب أصابه الخرف، بزعمه ضياع هدية سلطانية. فقد واصل السارد بحثه عن حقيقة حكاية التاج المفقود.إلا أن خبر موت أغراب نزل على السارد كالصاعقة. فاحترقت بذلك آماله في الوصول إلى حقيقة التاج وصارت رمادا .

3- مصير الفراط: ارتبط ذكره بفيضان وادي اللبن في فصل الشتاء، حيث داهمت السيول بيته، وأخذت معها كل شيء بما فيه الصندوق الذي كان سببا في جنونه. لأنه كان يضم التاج الملكي، وكل مايملكه الفراط. وبالتالي المصير الذي لقيه الفراط ارتبط بالمصيرالذي آل اليه الصندوق إن لم نقل آل إليه التاج بعد الفيضان، حيث أدى غرق واختفاء التاج وضياعه إلى جنون الفراط وتطليقه للاعيادة . فالصندوق كانت به كل مدخرات عائلة الفراط إضافة إلى تاج الملك الذي كان موضع بحث السارد للتأكد من صحة قصته وقصة أغراب. والفراط هو ابن عمة أغراب، ولعل الفراط الذي هوبكر أبويه، رأى بينه وبين نفسه، بأن أباه أحق بالتاج من أخواله الذين هم في نفس الوقت أبناء عم أبيه، وقد أدى اختفاء الصندوق والفراط إلى خروج الأهالي برفقة أسرته، للبحث عنه في كل مكان. لكنهم عادوا خائبين. وبعد أن اقتنع الجميع بأن الفراط مات، اكتشف وجوده فجأة في قرية "صدينة "ملتقى وادي اللبن برافده وادي جمعة.حيث مكث الفراط هناك بالمستشفى عدة شهور مع المرضى النفسيين حاملا اسم مريض "صدينة " ليعود إلى أسرته وزوجته. لكنه بعدها ظل يكلم نفسه ويخاطب الوادي كما لو أنه يعاتبه على ضياع صندوقه. وهنا تحضر الأسطورة باعتقاد الأهالي بأن الفراط تزوج جنية من جنيات الوادي. وكانوا يستدلون على ذلك بحكايات تروى، بدون سند أو تاريخ، عن أناس بلا عدد مروابه، ليلا ففقدوا عقولهم إلى الأبد.

4- مصير التاج الملكي ومصير بحث السارد عنه: شغل البحث عن حقيقة التاج الذي أشار إليه أغراب بال السارد كمال، وأصبحت حكايته تقض مضجعه، فالسارد في بحثه عن التاج كمالوأنه كان يبحث عن تاريخ تيسة المهمش والمنسي، معتمدافي تحليله لما يتوصل إليه من معلومات حول حكاية الفراط وأغراب مع التاج على التأويل السيميائي. لكنه في النهاية شعرباليأس، والإحباط نظرا لغياب تاريخ مكتوب للمنطقة وللحكاية .وزاد الأمر تعقيدا موت أغراب في النهاية، بل أكثر من ذلك هو أنه اعتبر هذه الحكاية بمثابة رأس كبة الخيط المخبل، وفيه تصريح بصعوبة فك لغز هذه الحكاية.

إن ما اكتشفناه أثناء قراءتنا" لوادي اللبن "من قصص وأحداث ووقائع تاريخية، هيمنت على عملية السرد، ومن تعدد لمصائر الشخصيات والأحداث؛ لم يكن فقط مجرد فحص روتيني لبعض الوثائق التاريخية، وبعض السرود الشفاهية من طرف السارد كمال، حول حكاية التاج المفقود الذي يرمز لتاريخ تيسة ووادي اللبن، وإنما كان محاولة من الكاتب عبر السارد كمال لاسترداد هذا التاريخ المنسي والمهمش. حيث التزم الروائي بقانون الرواية بتمثيله لتاريخ وادي اللبن، وتذويبه في قالب فني باستثمار عناصر التخييل الروائي، من تناص واستذكار، وتكثيف وحذف، ووصف، وتفكيك للخطاب، وتأويل سيميائي لمعطيات التاريخ وللمرويات والأحداث، وللمحكي الأسطوري المرتبط بذاكرة تيسة ووادي اللبن. مما أضفى على الرواية بعدا جماليا ورمزيا وتاريخيا وأسطوريا.

ويمكن القول في النهاية بأن جمالية هذه الرواية وسحر حبكتها لا يكمن فقط في توظيفها لأحداث تاريخية مرتبطة بمعارك" وادي اللبن" أو ماكان يعرف بوادي المطاحن، وإنما يكمن في طريقة توظيف هذه الأحداث روائيا كشاهد على أن هذه المنطقة تم تهميشها تاريخيا. رغم انتصارها في معارك طاحنة شهدها المغرب كصدها لحملة قوية للعثمانيين في أوج عظمتهم وهيمنتهم وانتصاراتهم. ومنعهم بالتالي من احتلال المغرب. كما أن حكاية أغراب والفراط مع التاج أو الوسام الملكي ساهمت في منع الرواية من السقوط في فخ الرواية التاريخية، والتأريخ لأحداث ووقائع تيسة بأسلوب المؤرخ. حيث عمل الروائي عبداللطيف محفوظ على خلق قصة ذات حمولة تاريخية وجمالية وفنية ورمزية جعلت الحكي بوجودها يخرج في علاقته بالتاريخ من شرنقة الحكي التقليدي الرواية التاريخية إلى الحكي الروائي الذي يعمل على تمثيل التاريخ بما فيه الأسطوري لمنطقة تيسة بشكل استرجاعي عبر التناص معه. مما يجعلك تشعر بدهاء إبداعي واضح لدى الكاتب محفوظ. بجعله من البحث عن حقيقة التاج وحكاية الفراط وأغراب بحث عن حقيقة تاريخ تيسة المسكوت عنه . باعتماد أسلوب روائي ممتع، يجعل القارئ أحيانا وهو يتملى أحداث الرواية ويتابعها متشوقا ومتلهفا لمعرفة نهاية حكاية الفراط وأغراب مع التاج أو الوسام المفقود، ونهاية بحث السارد كمال وسعيه لمعرفة حقيقة هذه الحكاية. وهل هي حقيقة أم خرافة من خرافات ذاكرة قبيلة الحياينة قبيلة تيسة المرتبطة بالأسطورة والمرويات الشعبية البعيدة عن الواقع . فالكاتب المغربي عبداللطيف محفوظ صاحب رواية"وادي اللبن " حاول عبر السارد كمال الباحث في مجال التاريخ إعادة الاعتبار لهذه المعارك ولمنطقة تيسة، ووادي اللبن، باعتماده مجموعة من التقنيات والأساليب الفنية الروائية كالاسترجاع والاستذكار، والوصف، والوقفات التأملية، والتناص، والحوار وفق رؤيا فنية تربط مابين الماضي والحاضر، في قالب روائي حديث ساهم في تمثيل التاريخ في الرواية باستجلاء أحداث ومعارك وادي اللبن، والإجابة بذلك على مجموعة من الأسئلة التي راودت السارد كمال أثناء بحثه من قبيل لماذا تم السكوت عن معارك وادي اللبن ومعه تاريخ تيسة وبطولاتها في هذه المعارك؟ ولماذا الإهتمام بمعركة وادي المخازن، وإهمال معركة وادي اللبن؟ الشيء الذي يجعل القارئ يعيش بخياله وإحساسه أحداث ومعارك وادي اللبن، وتقاليد وعادات وأساطيرمنطقة تيسة، وهو يقرأ رواية "وادي اللبن " كما لو أنه كان يعرفهامن قبل أوسمع بهاأوقرأ عنها في كتب تاريخية.

***

عبدالرزاق اسطيطو

في المثقف اليوم