قراءات نقدية

قراءة في رواية الطنويلاند لثيودور هيرتزل

كان الأحرى تسمية هذا الكتاب مخططا أو مشروعا لا رواية. أرض قديمة جديدة (الطنويلاند) رواية خيالية لثيودور هيرتزل. كتبها عام 1902 وطرح من خلالها رؤيتة للدولة المستقبلية لليهود على أرض فلسطين وكيف ستبدو بعد مرور 25 عاما.

تصدرت الرواية مقدمة ل ميخائيل آساف استعرض فيها أهم العوامل التي ساعدت على نشأة الحركة الصهيونية. كما تناولت بشكل سريع علاقة الشعب اليهودي بأرض فلسطين قبل نحو 4000 عاما وخروجهم المؤقت منها إلى صمودهم في الشتات وعدم زوالهم برغم الاضطهاد الذي تعرضوا له ولا سيما في أوروبا الشرقية على أيدي الحركة اللاسامية.

عرضت المقدمة أيضا السيرة الذاتية لثيودور هيرتزل كاتب هذه الرواية التي كشفت عن النوايا التي كان يضمرها زعماء الصهيونية تجاه سكان فلسطين العرب.

تسرد الرواية حياة الدكتور فريدريك ليفنبرغ شخصية متخيلة أقرب ما تكون إلى الكاتب. وفريدريك دكتور محام يعيش في فيينا حيث ينتابه اليأس من حياته بسبب فشله في الحصول على حبيبته أرنستينا وهي ابنه لثري اسمه لفلر ويتصادف هذا مع اكتشافه لإعلان عن طريق صديقه شيفمن الذي لفته هذا الإعلان في إحدى الجرائد على طاولة المقهى حيث لم يستطع استكناه الغرض منه. يقول الإعلان ص14( مطلوب شاب مثقف يائس على استعداد لتجربة حياته تجربة أخيرة... يرجى مراجعة نو بدي).

يلتقي فريدريك بعدها بصاحب الإعلان وهو خمسيني يدعى كينفز كورت ألماني الأصل تخلى عن رتبته العسكرية ،جمع ثروة طائلة بعد أن قصد أمريكا. تزوج من فتاة صغيرة ابنة لموظف يعمل لديه ويكتشف فيما بعد بأنها تخونه مع ابن أخ له يعيش في كنفه. ثم يطلق سبيلها ويقرر العزلة بعد أن يتخلى عن فكرة الانتحار.

عاش عزلته على سفينة متنقلا على سطح الماء لكنه أراد رفيقا له لئلا ينسى النطق ويجد من يغمض عينيه عند الموت. يوافق فريدريك على مرافقته ويترك فيينا بعد أن يؤمن عائلة يهودية تجسد معاناة الشعب اليهودي في الشتات بمبلغ ضخم من المال.

تنطلق السفينة إلى حيث مكان العزلة فتمر بجزيرة كريت وهنا يقترح كيفنز على فريدريك زيارة أرض فلسطين فيرد فريدريك بأنها لا تمت له بصلة وأن الساميين هم من ادعو بأنها وطن لليهود.

وبعد أن يقنع كينفز رفيقه فريدريك تتجه السفينة إلى يافا وهنا يحدث تزييف الحقائق من قبل الكاتب حين يبدأ بوصف انطباع البطلين عنها ،حيث يصفها بالإهمال وصعوبة الصعود في الميناء الحقير والأزقة المليئة بالروائح الكريهة القذرة ثم يصف الطريق الموصلة للقدس بأنهما لم يشاهدا سوى الرمال والمستنقعات وحقول القرى البدائية. وهنا تتضح أهداف الكاتب من وراء ذلك الادعاء حينما يقول البطل بأن اليهود من سيقلبونها جنة بالزراعة بعد جلب الماء لأراضيها.. كل ذلك من أجل أن يقنع العالم بأن فلسطين أرض بدائية يسكنها أناس متخلفين عن الحضارة أميالا كثيرة. وبعد أن يشير عليهما طبيب يهودي من أصل روسي في القدس بزيارة المستوطنات يكتشفا بأنها كالواحات في وسط محيط قاحل.

تغادر السفينة بعد ذلك إلى بلاد العزلة في العام 1902 لتعود مرة أخرى إلى فلسطين بعد مرور عشرين عاما وقد تبدل كل شيء حيث المباني الفخمة العالية وأشجار النخيل المعلق عليها مصابيح تضيء ليلا والشركات التجارية والبنوك والأشخاص الذين يرتدون الملابس الشرقية الزاهية والملابس الغربية والمدينة طبعت بطابع أوروبي والشوارع المبلطة والقطار الجوي الكهربائي. لقد تخيلها الكاتب الذي يقف خلفه هيرتزل ويحركه حيثما يشاء دولة مكتملة بدوائرها ووزاراتها. كما تخيل الألفة بين اليهود والعرب عن طريق عائلة رشيد بك الذي يقول ص103 (إن الإنسان الذي لم يأخذ منك شيئا وإنما أعطاك شيئا ،هل تعتبره لصا؟ لقد أغنانا اليهود ،فعلام نتذمر؟ إنهم يعيشون معنا كأخوة ،فعلام لا نحبهم؟

هؤلاء اليهود الذين نعتتهم شخصية هيرتزل المتجسدة بالدكتور فريدريك بالأخوة هم أنفسهم الذين لم يتورعوا من ارتكاب المجازر بحق الشعب الفلسطيني صاحب الأرض ،فأي كذب وتزييف للحقائق رفعها أمام العالم فقط بعدف إثبات نظرية أنهم أصحاب حق وسلام!

وما يلفت النظر في هذه الرواية (المخطط) هو المشروع الذي تحدث عنه وهو مشروع القناة من البحر الأبيض المتوسط والبحر الميت وهي فكرة لمهندس سويسري قدمها لثيودور هيرتزل في أواخر القرن التاسع عشر وهو بالفعل مشروع بدأت دولة الكيان بدراسته عام 1976 لكنه لم ينجح.

وهناك حقائق خطيرة ذكرها السارد وتتمحور حول ما تخيله أو بالأحرى ما وضعه كخطط مستقبلية لزعماء الصهيونية مثل ذكره لوجود مختبرات لتصنيع الجراثيم ص128 (إن مؤسستك كما أفهم أشبه بمطبخ كيماوي فماذا تطبخ يا سيدي البروفيسور؟ وباء كوليرا دفتيريا التدرن الرئوي...) ولا بد للقارئ هنا من التمحيص بهذه العبارة التي تحققت الآن في القرن الواحد والعشرين بأن هنالك ما يطبخ وطبخ بالفعل من فيروسات وبكتيريا قضت على عدد كبير من البشر ..

والكثير من الحقائق التي لا يسعنا أن ندرجها في هذه السطور تم ذكرها في الرواية صراحة للعالم.

لكن في النهاية يظهر خطر هذه الرواية من خلال ما أدرجه الكاتب تحت مسمى خاتمة ص211 وهي بمثابة وصية لليهود (أما إذا لم توطدوا العزم فإن كل ما قصصته عليكم هنا إن هو إلا أسطورة وسيظل أسطورة) لا بد بأن هذه كانت وصية من هيرتزل الأب الروحي للصهيونية من أجل أن يتوحد اليهود في أرض فلسطين وإقامة دولتهم التي كانوا يحلمون بها

وهذا ما حصل فعلا ...

***

بديعة النعيمي

 

 

في المثقف اليوم