قراءات نقدية

الحنين في رواية صيادون في شارع ضيق لجبرا إبراهيم جبرا

جبرا إبراهيم جبرا هو كاتب ورسام وناقد تشكيلي فلسطيني ولد في بيت لحم عام 1919. كتب جبرا هذه الرواية باللغة الإنجليزية عام 1955 وتم نشرها عام 1960 في لندن. وبعد سبع سنوات على نشرها باللغة الإنجليزية قام تلميذ جبرا في الجامعة الدكتور محمد عصفور على ترجمتها إلى اللغة العربية.وحبذا لو أن جبرا كتب هذه الرواية باللغة العربية لكانت حملت أسلوبه بين طياتها.

يقول المفكر الفرنسي بيير نورا (ما ندعوه اليوم باسم الذاكرة هو ليس ذاكرة لكنه تاريخ. وما نقول عنه جدلا إحياء الذاكرة هو في الواقع رعشتها الأخيرة حينما تستهلكها الموضوعات التاريخية.والحاجة للذاكرة هي حاجة للتاريخ).

عندما يعيش الكاتب حالة الغربة الإجبارية فلا بد بأن المكان سيشكل في الذاكرة حالة حنينية من الصعب التخلص منها.فكيف عندما يكون المكان هو القدس؟

وظروف بطل الرواية جميل فران تكاد تكون النسخة الأصلية لظروف الكاتب جبرا إبراهيم جبرا حتى أن بعض النقاد قالوا بأنها تصلح في كثير من جوانبها أن تكون سيرة ذاتية للكاتب نفسه.

تتحرك أحداث هذه الرواية في شارع ضيق وهو شارع الرشيد في العاصمة بغداد. وتعكس لنا أحداث الرواية الحالة السياسية والاجتماعية والثقافية التي كانت تعيشها بغداد. كما ويكشف لنا الكاتب من خلال المظاهرات المتكررة في تلك الفترة عن الوعي الثقافي الذي كان يتمتع به طلاب الجامعة وسط القمع والسجن الذي يتعرضون له من قبل الأمن. طلاب مشاغبين يعشقون ،يكتبون القصائد للحبيبات ويمارسون السياسة كمواجهة فهم لحقيقة الزمن والحياة التي كانوا يحاولون عيشها كما يريدون لا كما يريدها لهم الساسة.

تبدأ الرواية بوصول جميل فران إلى بغداد للعمل كأستاذ للغة الإنجليزية في إحدى كليات بغداد ،بعد أن يضطره ما حدث في فلسطين عام 1948 من ضيق الأحوال المادية إلى هذا السفر.

يصل إلى بغداد بستة عشر دينارا قاطعا شعث الصحراء باحثا عن فندق تتناسب أجرته ودنانيره. يتنقل من فندق إلى آخر وأثناء تجواله هذا يقدم لنا وصفا لمدينة بغداد ،مقاهيها ،فنادقها،مكتباتها والأهم شوارعها وخصوصا الشارع الذي ستدور به معظم أحداث الرواية وهو شارع الرشيد ويصفه بجوهر مدن التاريخ وهو نفسه الشارع الذي تتوحد به القوى الزاحفة في المظاهرات وتحدث به الاعتقالات وقمع الحريات وقتل الآمال. كما يصف نهر دجلة الذي يشطر المدينة إلى شطرين متناسقين ويحمل في جريانه الوئيد ذكرى حضارات عمرها آلاف السنين.

 وبعد استقرار جميل فران في أحد الفنادق يبدأ أبطال العمل من الصيادين بالتسلل الواحد تلو الآخر للمشاركة في رسم حبكة مكتملة للرواية

فيكون أول المتسللين حسين عبد الأمير الذي يلتقي به جميل فران في شارع المقاهي والبغاء ،وحسين هذا يكتب الشعر. يعرف جميل فران بصديق له يدعى عدنان طالب.

ولن يخفى على جميل المثقف أن يلاحظ الفكر الذي يحمله كل من الشابين اللذين سيصبحا من أعز أصدقائه.

يتسلل فيما بعد برايان الشاب الإنجليزي الشاذ جنسيا، يعمل في أحد البنوك ويدرس اللغة العربية وينتظر اليوم الذي يستطيع فيه قراءة القرآن الكريم بطلاقة العربي.وكانت بغداد وقتها ترزح تحت الحكم البريطاني الطامع بنفط الموصل.

برايان الذي لديه دراية بالآثار كأي مستشرق جاء إلى بلادنا ليعرف ويحفظ كل تفصيلة عندما يسافر إلى إنجلترا ستكون بغداد بالنسبة له كتجربة أو استكشاف أما أهل البلاد فلن ينسوها لأنها ترسخت هناك في الذاكرة كتاريخ متين.

 يصطحبه عدنان ليعرفه على بغداد لا من الخارج كما يراها برايان بل من الداخل حيث المدينة الفقيرة المليئة بالمتناقضات. يشرح له معاناة الشعب الذي عاش على مدى قرون وأنه شعب قبل بالعبودية حيث جاءهم حكام من الخارج واكتسحوا البلد حتى أوشكت آثار المفاخر التاريخية أن تمحى...

تتطور أحداث الرواية فتدخل بقية الشخوص، سلمى العشرينية زعيمة اجتماعية وزوجها الستيني الثري الذي يمتلك آلاف الدونمات وعضو في مجلس الأعيان،صديق للإنجليز ،اشتغل بالسياسة ولم يقرأ كتابين في حياته أحمد الربيضي، وابنة أختها سلافة ووالدها عماد النفوس الثري البدوي المتشدد الذي يرفض ذهاب ابته إلى الكلية فتضطر خالتها سلمى إلى جلب الأساتذة الخصوصيين لتدريسها ومن ضمنهم جميل فران الذي يقع في حب سلافة، ثم يدخل توفيق الخلف أحد أبناء الأغنياء ،بدوي يمتلك مبدأ ويرفض زواجه من سلافة لأنه يكره مجتمعاتهم.

***

بديعة النعيمي

 

في المثقف اليوم