قراءات نقدية

أنسنة الوطن في رواية البحر والسراب للكاتب علي فضيل العربي

يعتبر الوطن عند الأدباء قضية كبرى يقاوم من أجلها الفساد والظلم ويبحث عن الحرية لشعب يعاني الفقر وهو الورثة الشرعية التي تركها الاستعمار خلفه.

بطل علي فضيل العربي هو عمار الشاب الجامعي الذي يحرق تاركا وطنه الجزائر بسبب البطالة نحو الضفة الأخرى من البحر الأبيض شمال أوروبا (اسبانيا) والحرقة هي الهجرة التي يحرق بها الحراق أي المهاجر أوراقه من جواز سفر وغيره عند وصوله ذلك البلد ومن هنا جاءت التسمية.

يغادر عمار مدينته حيث ينضم إلى مجموعة من الحراقين يقودهم سماسرة البحر إلى مخاطر المغامرة تحملهم أحلام كاذبة تراءت لهم كالسراب للظمآن تاركا خلفه أم وأب ألزمه المرض الفراش وخطيبته خدوجة التي أقسمت أن لا تخضب يديها وقدميها بالحناء إلا لعينيه وأنها ستنتظره مهما طال الغياب. موهما أمه بأنه مسافر إلى الجنوب ليجد عملا هناك. ويترك لها وصية مع صديقه معمر.

وعمار البطل في رواية البحر والسراب إنما جاء كاستعارة تحاكي ما يعاني منه الشعب الجزائري من فقر وجوع وعدم قدرة على تأمين العلاج لمرضاهم.

ومن العتبة الأولى للرواية البحر والسراب نكتشف المقاصد الدلالية التي تتصل مباشرة بفكرة العمل فكان العنوان تكثيفا واختزالا لما أراد العمل قوله فالبحر كان الوسيلة التي سيسلكها البطل في رحلته أو حرقته والسراب هو النتيجة الحتمية لهذه الرحلة وهو الموت.

أما العتبة الثانية للرواية فقد كانت الإهداء الذي لم يخلو عند الكاتب من قصدية سواء في اختيار المهدى إليهم أو عبارات الإهداء فقد تضمنت بعض الحقائق التي أراد الكاتب إيصالها للمتلقي فخرجت له وهي بكامل زينتها.

وقد كتب علي فضيل العربي الإهداء كالتالي ..

 (إلى كل أم فقدت فلذة كبدها بين أمواج البحر الأبيض المتوسط...

إلى أؤلئك الشباب الذين أغراهم السراب فإذا هو الردى بعينه ..إلى الذين استنفدوا بضائع التهريب فراحوا يهربون أزهار الجزائر وأفريقيا..اصرخ. كفى دموعا..كفى موتا..كفى خداعا..) ص5

فالإهداء كان فيه تعزية إلى الأمهات اللواتي فقدن أولادهن في البحر وإلى الأولاد الذين أغراهم السراب وهو الحرقة وبلاد أوروبا في هذه الرواية وإلى سماسرة البحر الذين يهربون الحراقين..ثم يبعث برسالة رفض لهذه العملية أي عملية الحرقة لتكف دموع الأمهات وينتهي موت الأبناء وهذا لن يحصل إلا عند الكف عن خداع الأولاد من قبل أؤلئك السماسرة..وهي رسالة ناجحة يبعث بها الكاتب إلى الحكومة الجزائرية.

ونلاحظ بأن العربي أولى مفهوم الوطن والوطنية اهتماما بالغا في روايته البحر والسراب ويشير علانية بأصابع الاتهام إلى الاستعمار وأنه السبب في تشظي الحكومات وإفراز الفساد والسرقات وأنها السبب وراء تفكير الشباب مغادرة أوطانهم التي ولدوا بين أحضانها وترعرعوا واشتد عودهم بها.. فلا يفتأ يذكر في كل فقرة من فقرات روايته بالوطن ويصفه ويعمل على أنسنته.

 فقد وصف الوطن بالأم التي أرضعت وهنا يقدم على تأنيثه ويصنع له ثديين لممارسة فعل الرضاعة وهو فعل من إحدى غرائز الأمومة.

 فيتهم السارد عمار بالعقوق بتركه لوطنه وأرضه من خلال توجيه العبارة ص80 له ( ثلاثون حولا على وجه التقريب وأنت ترضع من ثدي الوطن).

وص76 (ألست ابن هذه الأرض؟ لحم أكتافك من أكتافها؟). وهنا جعل العربي الوطن كتلة بشرية لها أكتاف تطعم منها أبنائها.

وفي موضع آخر يلغي فضيل العربي صفة الجمادات عن الوطن ويصفه بالروح وهي صفة الأحياء حين يقول له (الوطن الروح التي تسكن سويداء قلبك) ويقدم على اتهام بلاد أوروبا بأنها بلاد الثلج والصقيع وهي صفات الجمادات..

ويذكر السارد عمار بأن الوطن هو الوحيد الذي يهب الحرية لأبنائه والواهب عنده عقل وحكمة ليهب الآخر. أما بلاد أوروبا فهي جماد عبودية وقيد ص96 ( ستظل هاربا من حبل المشنقة بعدما كنت موفور الحرية ومصون الوجه).

ويعود السارد ليذكر عمار في رسالة تحذيرية بسقوط غرناطة على أيدي القشتاليين وأنه أي عمار سيسقط هناك مثلما سقطت ص98 (ستسقط كما سقطت غرناطة ذات ليلة لن يبكيك أحد لن يقيم لك صلاة الجنازة أحد أنت عندهم مجرد هيكل عظمي بلا هوية ولا وطن) وهنا يشير إلى أهم الامتيازات التي يعطيها الوطن لأبنائه وهي الهوية حيث هناك في بلاد الغربة وبعد أن يقدم على حرق أوراقه لن يكون له أية هوية وسيكون مجرد رقم في محاكم التفتيش وهنا يضع الكاتب يده على تاريخ مهم لنا كعرب وهو سقوط الأندلس وتلك المحاكم التي أنشئت من قبل القشتاليين يوم سقوطها للتنكيل بعرب الأندلس وهنا تظهر عروبة الكاتب حين يعاتب السارد عمار ويتمنى لو انه توجه إلى غزة يحمل لهم الحليب والدواء وهنا يغريه بما كانت أمه ستفعله وهو أنها ستزغرد وهذا الفعل لا يكون إلا إذا كان الشخص في خانة الأبطال .فيكمل السارد عتبه قائلا له لكنك يا عمار حرقت إلى بلاد لا تعترف بك تتهمك بالإرهاب لمجرد أنك مسلم تتهمك باللاسامية لمجرد أنك ضد احتلال فلسطين وضد سياستها وسياسة أمريكا التي تقف خلفها وتدعمها ضد أخوة لك هناك نُكِل بهم بعد قتلهم وتشريدهم وتغريبهم.

ويعود السارد ليذكر عمار بالبيت وهو من الاستعارات الدالة على الوطن والأم والأب فالبيت يعني الألفة والاحتواء والعناية .وأبدع علي فضيل العربي في توظيف المكان والهوية الجزائرية وتاريخ الشعب الجزائري ،فلم يفتأ يذكر عبد القادر الجزائري وابن باديس وغيرهم من المجاهدين الذين قاوموا المحتل الفرنسي.

كما أن الكاتب أقدم على توظيف التاريخ توظيفا دلاليا عن طريق الذكريات وتاريخ العائلة وهذه الذكريات استعملها لتكون رمزا يرفض من خلاله ما حدث بعد الاستقلال وخروج المستعمر من ثراء لطبقة معينة وفقر شديد لأخرى.

وهنا يدعونا الكاتب إلى أخذ العبر عن طريق تناول وجبات مشبعة مما استطاع جمعه لنا بفضل ثقافته الواسعة من مشاهد كثيرة من العصور المختلفة حول تاريخ الأمة وما حصل.

وما بين عمار الحراق وغيره من أبطال مثل عباس الحوتي زير النساء إلى عبد القادر البار بأمه الذي عاد من الغربة بعد أن أدرك أنها لا شيء يبقى الوطن هو الوطن بارا لأبنائه محبا لهم مهما قسا عليهم.

رواية مشوقة كصندوق العجب الذي يحوي الكثير في جعبته.

 لذلك لم نستطع حصر كل ما فيها من موضوعات تعكس ثقافة الكاتب الواسعة وفكره الواعي في سطورنا القليلة.

***

قراءة بديعة النعيمي

في المثقف اليوم