قراءات نقدية

حيدر عبد الرضا: دراسة في مجموعة: وحيدا على الساحل تركتني المراكب

لحسين عبد اللطيف، المعنى التلويني وحجب مرموزات الأفق الشعري، الفصل الخامس ـــ المبحث (1)

توطئة: تستدعي حالات وظواهر وأساليب بناء التشكيل الشعري، ثمة عمليات استثنائية من خواص الأذواق والادراكات والتخيلات التحليلية الضابطة في التفكير واستقراء مسارات الشعوري واللاإرادي في تكوين (الداخل ــ الخارج) من ملازمات الإجراءات النفسية الباطنة والظاهرة من مستودع الذاكرة والصور والمعاني والدالات اللاشعورية.إذن أن عملية الابداع الشعري عبارة عن إشكاليات حازمة ومضطربة في توليد حالات التجربة الجمالية والأدائية في مداليل القصيدة.. لذا تبقى خيارات الشاعر في تدوينها سوى من خلال ذلك الحلول اللاوجودي / اللاشعوري، من قرار أهميتها في توطيد التذوق للأشياء في أجلى وصولات المعنى أو اللامعنى أو الاستدلال أو اللاأستدلال كدورا أوليا في ملامسة الشعور الاستاطبقي في لذة مخاطبة الذات عبر محاور الأنا الواصفة ضمن متعلقات غاياتها في البحث الدؤوب في مجمل كليات وجزئيات الأوضاع المحسوسة من مواضع المتعلقات ذاتها الأشياء.لعلنا ونحن نطالع مجموعة (وحيدا على الساحل تركتني المراكب) للشاعر الفذ الأستاذ (حسين عبد اللطيف) واجهتنا العديد من الأغراض والملامح الفريدة في تدوين (التصور المقابل) وما تتوقف عليه من مثالات ودلالات قائمة في أشد اللحظات مغايرة ومزاولة في الوعي الشعري عبر حالاته (الباطنة ــ الظاهرة) وما ينبغي التأكيد عليه في ما يخص الغائية القصوى ــ التراكزية ــ في أفعال قصيدة الشاعر، هو ذلك الجهد المعادل في تعيين صفات التسوية الناجزة بين الذات كلحظة انبثاق وتصريح، وبالفكرة كمجاورة في حدود المقاربة الفعلية للقصيدة وما يمكن أن تجده من أوليات القصد والتمثل في ما وراء صيغة المعنى، حيث يبدو الغرض أخيرا من القصيدة هو العملية النواتية الباطنة في ملامح انعطاف الذات الشعرية في معنى التجسيد والاستكمال لغايات أوجه (الربط ــ الانطلاقة ــ الصيغة المعادلة) ومن خلال ما يتحدد به الإيقاظ الشعري من مشروعية دلالات التعيين والمضاف الأحوالي والتحول الداخلي، نستدرك بأن غواية الواقعة الشعرية قائمة بين (أقامة الحلم) أو (العلاقة الإيهامية في ما وراء الحلم) اعتبارا مرمزا لا يتخلى عن مدعومية المعطيات الاستراتيجية للحلم الذاتي بالتمثل التصوري لشتى الانطباعات والحالات المألوفة أو اللاتأكيدية الأداة المتصورة في حاضنة (الصورة ــ الدال ــ الحال) أي بمعنى ما أننا ندرك المعنى حينا من حدود وعي آخر خارج مسارات ماهية التعرف والتصنيف المحسوس أو اللامحسوس في تماثلات أصوات الدال الشعري.

ــ الرؤية المصاغة بأنثيالات المماثلة الحلمية:

يعتقد هايدجر، انسجاما مع فلسفة الفنومنولوجية ــ الوجودية، أن الفن الشعري لا يبدع العالم بل يجمله ويحاكيه أو يعدو به كاشفا. / فلسفة الفن عند هايدجر، ص59 ــ 60. وهكذا على هذا النحو يعطينا شعر حسين عبد اللطيف رؤى دواله انفتاحا بصورة مستترة، تكشف لنا ديمومة الذات، كوجود في (تحولات الوعي) وحقيقة الأفعال المحاكية لأقصى حدود إمكانية اللغة ووسائلها الأدائية المتحققة في كشف (رؤى الحلم):

أنظر إلى الخارطة.. .

هذه تاهيتي

التي تخمخ جسدها

برائحة الأناناس

وتتدلى من أذنيها

أقراط الموز./ص349، قصيدة: خريطة

غالبا ما تتحول آليات الكشف الشعري لدى الشاعر إلى واصلات مرهونة بالتماهي إزاء غايات مشحونة بتوجيهات فردية، إذ إننا نعلم من ثريا عنونة (خريطة) هو المبثوث الوصولي إلى مواقع وعلامات ومحددات ناجزة، تأثرا بذلك المقترح الجغرافي الذي يحدد مكونات إقليمية ما.ولكننا عندما نتعامل مع خريطة الشاعر، نجدها بوصلة في تحريك الحالات عن مواضعها المقرورة، وليس قولنا أن الشاعر هنا يحرف المواقع عن مواضعها الجغرافية، بل إنه غدا يستنبط من خلالها جمالياتها الصفاتية وهواجسها الكيفية في مساع خاصة من دلالات الكشف الصفاتي: (أنظر إلى الخارطة:هذه تاهيتي) المشار إليه هنا يشكل قراءة بالمعاينة الحرفية، ولكن آلية الحلم إجرائيا تتعدى توكيدية الموضع التعييني: (تضمخ جسدها، برائحة الأناناس، وتتدلى من أذنيها، أقراط الموز) لذا هنا تكمن غائية استدعاء الحلم بموجب (اختصار الزمن ـ تقيد الحال ـ ذاكرة الليل) ويمكننا تبني مقاطع شعرية أخرى تحمل في شاهدها ذات الخاصية من (استقصاء المشهد):

هذه هاواي

تتقلد عقدا من الزهور

وهي بسمرتها وألوانها

ترقص عارية. /ص349

إن الحالة الذهنية لدى الشاعر تدعونا إلى علاقات شكلية، أراد لها الشاعر الوصول من ناحية (النظر ــ التأمل ــ الذاكرة ــ التخييل ) دورا يتم بالتلقي الترسيمي في الصفة والحال والوجود والتذوق، والإنتقال من هنا إلى هناك لا يتم دون الإيقاع الحلمي الكامن في علاقة (الشاعر ــ المكانية ــ الزمانية ــ الاندماج) وربما تنتج آليات هذه الحركة الحلمية في الذات نحو الأشكال إلى تجاوز المحدد الموقعي الراهن للذات، فيصبح الزمان والمكان والموضوع الحقيقي للذات هو ما كان مستغرقا فيه من قبل الذات:

أطفىء المصباح

لأنام حالما. /ص350

لاشك أن أبعاد الحلم الأول من مشاهد النص، كانت دليلا عن حلم الشاعر المحاكاتي الذي طاف فيه فلك الحواس، ليتلمس تحرير فعل ذاكراتي مبثوث بالحلم الصفاتي للأشكال والأغراض في عالم الخريطة، وعلى هذا النحو أصبحت حواس الشاعر قارئة في ظهورها المسكوت عنه في اللازمن المحدد بالخطوط والنتواءاتعلى امداد الخارطة.أما بخصوص النتيجة الختامية فقد جاءنا صوت الشاعر بـ (أطفىء المصباح ــ لأنام حالما) إذن هناك مستويين من الحلم الأول هو (أقامة الحلم) أما الثاني فهو (العلاقة الإيهامية في ما وراء الحلم) أي ما وراء عالم غيبي إيهامي، بالاعتبار الآخر من طبيعة اللاوعي للنوم.ولو كان الشاعر عالما في اللاوعي لما قال منذ بداية النص: (أنظر إلى الخارطة) إذ حالة الحلم بالصفات كان بدءا من جملة (هذه تاهيتي.. التي تمضخ جسدها.. برائحة الأناناس) وجملة اللاحق أيضا (وتتدلى من أذنيها.. أقراط الموز) وبهذا يمكننا معرفة أن الانفتاح الحلمي الأولي لدى الشاعر، كانت بوصفة التمثل الحلمي في التطور، أما بخوص الآخر فهو بوصفه ما وراء الحلم الاستقبالي والثبوتي.وبالرغم من تحرك كل منهما من داخل عتبة فضاء آنوي واحدة، إلا إن وسيلة المتلكم والأداء حتما سوف تكون مرتهنة بمؤولات تتنكبها حضورية أو اللاحضورية لحقيقة الحلمان ذاتها.

ــ فعالية الصراع الأحادي وانقطاع سلطة الحلم:

إذا كان الخطاب الشعري ــ جمعا ــ بين وحدات الأضداد أو ذلك المستوى البنائي للشكل الدوالي الذي يكون كمحتمل من أوجه حيثيات ثنائية (الانفصال ــ الاتصال) حيث أن التواصل يغدو داخل الخطاب كآلية تفترض لذاتها انقلابا أحواليا في تصورات المعنى الانفصالي الختامي:

أتى المساء

والمساء قد ذهل

وفوق التل ذلك البعير ما يزال

والليالي ترتعي سنامه./ص351، قصيدة: الذي بقي من التل

من الواجب هنا مراعاة العملية الشعرية وهي تتجاوز محدودية حركة الأحوال النوعية للموضوعة بدءا.فالجمل الشعرية الاستهلالية والعنونة للنص، تأتي من حيث سياق (بقي على التل) والأشارة فيها تردنا إلى الدليل الذاتي المتوحد، وصولا إلى إعطاءه علاقة إجرائية، تتلخص في حال جملة (أتى المساء) إلحاقا بجملة (والمساء قد ذهب) وهاتان الجملتان تعدان بدأتهما حلقة التمركز الأولي المحتملة من تركيبة القابلية المرسلة من (الذي بقى على التل) فيما تبقى النزعة الظرفية في تركيبة الزمن (أتى المساء.. والمساء قد ذهب) بمثابة البوصلة المؤشرة على اعتبارية تدخل (الذات الراوية) في صيغة وصفها عن حالها الواقف كحال (ذلك البعير) وعند معاينة مستويات الماثلة الدلالية نتبين أن الذات الفاعلة متخيلة تماهيا مع دلالات المعادلة الأحوالية المشتركة بين (الذي بقي على التل: البعير= سباق ماثولي/ الأنا = الطرف المعادل) وعلى هذا النحو فإن جملة (الليالي ترتقي من سنامه) توكيدا على حجم الاستنزاف الزمني الذي راح يمخر من الطرف الآخر جل طاقاته الديمومية، محولا من وجوده الاعتباري إلى محض بؤرة خاوية تتغذى من رغيف جوعها ومرارة.التمثل بلبوس التعطيل الأحوالي (ويرتعي هو السغب) إن المحرك التصويري لهذا الاستقدام المعادل، قد حل حلولا مشابها إلى أوضاع الأنا بالمقارنة مع حال ذلك البعير الواقف على التل، تتولى عليه من كل جهات علامات الأسى، فيما يقوض نموذجه الإحيائي ذلك الفعل الدهري بالهلاك والغلبة (قد تأبد إلى الأبد) وقد تطول الجمل الشعرية في موصوف حال الأنا المعادل (وقد أسن.. أو أصابه الجرب!) بفرائض أوجه المحتمل التقريبي أو ما هو مكتظا بالحساسية المقاربة بالنموذج المشار إليه (ذلك البعير؟) اقترانا بكونات مشتركة الطرق تغالب حال وتصور عدمية الذات الواصفة.

ــ التقابل الزمني والتماثل الذواتي:

1ــ الحساسية المكانية مضمرة في تخوم الضمير النفسي:

لاشك أن جميع محاور الأفكار والرؤى الشعرية في عوالم تجربة حسين عبد اللطيف، تعد انطلاقة نفسانية ذات نوازع سوداوية وعدمية، تقودنا أحيانا إلى الاستجابة الخالصة منا، بأن للشاعر كيانة المقلق الخاص، لذا كثيرا ما نجد مكونات قصيدته عبارة عن رحلة مأساوية وقاهرة في مفردات الحزن الزمني والمكاني الآسر نقرأ ما جاءت به قصيدة (المحطة) من أوجه ووسائل زمنية لا تذر بغير الفواجع النفسانية والذاتية اللتان أهلكتهما مفارقة الوجود اللاعتباري في تقاويم أسفار قطارات الشاعر الراحلة والعائدة دون جدوى منه تماما:

في الصمت تقع المحطة

وفي انتظارها الملول

تستكين./ص353

إن توالدات الدوال، تخلق في العامل المكاني، ثمة كيفية ذاتية مقاربة في المادة الموضوعية والحسية، أي بمعنى ما أن القابلية الإحالية في الوازع المكاني راح يشكل علاقة ذات نحوا استجابيا بين (الأنا = المكان) دلالة تتكشف أواصرها بما تمليه عليها داخلية حال الذات الراوية (الصمت ــ تقبع ــ المحطة ــ في انتظارها الملول ــ تستكين = أنا القصد) وعلى هذا الحال ترتبط مقاصد الراوي في سفره بالضمير المكاني والزمني إلى خصوصية الأشارات والعلامات في الحمل اللاحقة من النص:

على الصليب تنقضي الليالي

والسنون وهي كالحجر

نقر لا تريح./ص353

ومن السهولة معاينة حيوات الذات المنصرمة عبر أعلى درجات يبوسها وحلبها في الأحوال الانتقالية للذات، وصولا به أقسى مراحل جملة (والسنون وهي كالحجر.. نقر لا تريح) وتتضاعف ضغوطات الأزمنة الناضرة على مقومات الذات التي كادت تشبه فراغ الإعادة الزمنية في شتى محاورها ودوراتها الرتيبة (يغادر القطار.. ويقبل القطار.. وثمة مسافرون يصعدون.. آخرون ينزلون) إن طوعية روابط علاقات الزمن، راحت تخلق في الذات ذلك التضخم بالتكرارية وعبوس إعادة الأشياء ذاتها بذاتها وكأن الحياة تعيد دورتها على مضض وشططا، فليس هناك في ماهية الأحوال الحياتية سوى ذلك الطابع السكوني في ما جربه (ووحدها تنتظر المحطة.. إلى متى ستنتظر؟) إن الكيفية التي يتعامل وإياها الشاعر مع الزمن وحالات الوجود، لا تسعه حيزا ما من الدلالة الإيجابية في واقعة الذاتي والنفسي، لذا ظلت ممارسة الحياة في نظره وكأنه محطة القطار التي لا ندرك منها ذلك البقاء التشخيصي، كما ولا ترتخيه جل الخيارات القادمة من الزمن (وما الذي تراها تنتظر.. وهذه الرياح.. تسف والرمال.. تسفي عليها.. ).

ــ تعليق القراءة:

هكذا وجدنا جميع الاشارات والمقاصد واضحة في قصيدة تجربة الشاعر، فهي كحال اللوحات العدمية التي لا تمسك لها بأي حال من علاقة ما من شأنها اليقظة من حلم الذات السوداوية في شتى أحوالها ومؤولاتها التي راحت تستقيم مع روابط وأواصر وأبعاد شعرية لها من الاستدلالات الظاهرة والباطنة والمسكوت عنها ما يخولها على أن تكون القصيدة الحاوية على الخصائص الإمكانية الكاملة على قبولها كشعرية استقصائية لأدق عوالم الذائقة النفسية والحسية للذات وحالات أفقها الجوهري بمسافات دلالية مباشرة وغير مباشرة من المعنى التلويني أو ما وراء حجب مرموزات الإشارات العلاماتية والإيحائية والإحالية الكبرى.

***

حيدر عبد الرضا

في المثقف اليوم