قراءات نقدية

شمس الدين العوني: قراءة في رواية "2160" للكاتب الهادي جاء بالله

تظل الكتابة عموما ومنها الكتابة الأدبية ذلك الفعل النبيل تجاه الذات والعالم وفق الوعي والرغبة في القول والافصاح عن الدواخل حيث الفكرة المشيرة الى الجمال الذي يكتب الكائنات والأشياء والعناصر والتفاصيل في تنوع أحوالها وتلوينات عوالمها وأمزجتها وتحولاتها..انها الكتابة الحالمة والمتقصدة في واقعها رغبة وافصاحا وتشوفا...

والكتابة الأدبية والتي نخص منها وهنا الكتابة الابداعية وتحديدا الرواية هي في هذه المناخات المعلومة زائد توقها الى ابداعية مخصوصة تتطلبها استحقاقاتها الجمالية كجنس له ما يميزه كثيرا من شحنات السردية العالية والتي يتقبلها المتلقي على اختلاف درجات وعيه وثقافته باعتبار ما توفره له من سحر وبهاء في التناول والتعاطي سواء كان ذلك في لباسها الواقعي أوالوثائقي أو الكلاسيكي أو السيرذاتي أو الخيال علمي.. أو الفانتاستيكي.. وهكذا.

ولعل الرواية العربية التي هي حديثة كجنس أدبي فاق القرن على انبعاثه كأدب له فنياته قد مرت بمراحل متعددة لنشهد والى الآن تنوعا وتطورا في هذا النشاط الروائي نشرا وترجمة وبروزا للجوائز المهمة التي زادت من  نسب نشرها وانتشارها حتى خيل للبعض بأنها حلت محل ديوان العرب الشعر في ترتيب أدبي متداول منذ القدم وهو أن الشعر ديوان العرب...

الا أن هذا الفن الروائي شهد خاصة في السنوات الأخيرة ومع تصاعد وتيرة النشر بفعل الجوائز العربية والدولية تراجعا من حيث الجانب العميق والأصيل في الأسلوب وفي صياغة الأحداث وابتكار التيمات وما يسمى بفكرة الرواية ومسارات سردها وغلبت على عديد الروايات المنجزة حالات من التسرع والافتعال واللعب على اتجاهات واشتراطات الجوائز والمؤسسات المانحة لها وعلى غرار السينما تماما صارت الرواية بعيدة بل انحرفت عن بيئتها فكأننا أمام نصوص مبتورة وغريبة عن ذاتها ولا تمنحنا ونحن نعالجها بالقراءة غير هذه النزعات المنبتة بدعوى العالمية وما الى ذلك ولم يبق من تسميتها الروائية غير السرد..انها افتعالات وانفعالات متسرعة فقط..صحيح ان الكتابة تطلب الانفعال ولكن لا بد لهذا الانفعال من أسس وتركيز جمالي في النص ومتعة شاملة تماما كالشعر.. ان الرواية الحق هي التي تسرد أحوالها من شخصيات وأزمنة وأمكنة وتعقيدات وانتظارات وفق سحر بين جمال...و ما الى ذلك في عمق ووعي سردي جمالي فائق وبهاء كامن في عناصرها المذكورة بعيدا عن الافتعال المكشوف... وكل ذلك جميل أن يتوفر أيضا في شعرية هي صميم وجوهر العمل الروائي..3507 الهادي جاء بالله

هذا كله.. وغيره ولا نروم هنا التفصيل أكثر..يقودنا الى محاولات البعض من الكتاب في مجال الرواية الى تمثل طبيعتها كفن سردي والسعي للمضي في أرضها ضربا وتخييلا وكتابة ولكن بنوايا مختلفة مهمة للخروج عن المألوف والمعتاد من تعاطي بعض كتاب الرواية معه وذلك قولا بأن الابداع في الكتابة الروائية هو شأن خاص ويكون خارج القطيع باعتبار روح المغامرة المعنية بها الكتابة الأدبية بصفة عامة ومنها الرواية.

من ضمن هذه المحاولات الجادة التي أخذتنا طوعا وكرها الى ما لمسناه فيها من سعي ورغبة في الخروج ونزوع نحو المبتكر وفق الواقعي والمربك فيه والمشير الى ممكنات متخيلة بحسب الكاتب عبر استقرائه للأحوال في التاريخ والأحداث والأرقام ليكون كل هذا في سياق من شعرية النظر وغرائبية في التعاطي وذهاب في اتجاهات شتى يمتزج فيها الواقعي بالسياسي بالاجتماعي في تلوينات من الخيال والعلم والفنتازيا.. وهكذا...

و نعني هنا رواية الشاعر والكاتب الهادي جابالله الصادرة مؤخرا عن دار عليسة للنشر والتوزيع وعنوانها "رواية "2160 "..

في هذه الرواية يمضي الكاتب تجاه قارئه المهموم بأسئلة العالم في عقوده الأخيرة في تشوف نحو ممكنات حافة هي من قبيل القراءة التاريخية والعلمية لما حدث من تحولات وأحداث كبرى ليقول من خلالها بطبيعة الما يحدث ووحشيته لدى الكائن والطبيعة في سياق من ادانة بينة للانسان..هذا الانسان..انسان هذه الأزمنة ومخاطر والممارسات التي تنسبها هذه الرواية اليه في مجالات الحياة بين السياسي والاجتماعي والحضاري عموما حيث الا|برز هما هذه الجناية على ما هو جميل وطبيعي ونعني الطبيعة بشكل عام..

يذهب الكاتب الهادي جاب الله هنا في روايته ووفق رمزية تخيرها الى مسافات زمنية لحوالي قرن ونصفه ليقول وفق العنوان الدال ودون تفصيل أو تفسير "2160" تاركا هذه العتبة بدلالاتها الى القارئ الذي يعيش زمنه هذا ويتوغل في تفاصيل الرواية وشخصياتها وأحداثها المجال شاسعا ليوائم بين الواقعي والخيالي وقد عايش جانبا مهما من تفاصيل واردة في هذا العمل السردي الذي يرمي من ورائه الهادي الى محاولة الخلخلة فيمستوى الثيمة والنوع الكتابي بعيدا عن الاجترار والمسايرة لما يكتب فقد كانت رغبته بينة في الخروج عن المكتوب الروائي بروح فيها من مغامرات الكتابة الشعرية الكثير والموضوع المتعاطى معه من ذلك بساطة الحكاية المتخيلة والمبتكرة وشخصياتها واطار حواراتها وحكاياتها وأحلامها وذاكراتها لتشمل تنوعا في الشكل  والخطاب وهنا نشير الى ما وقفت عنده الكاتبة والناقدة نور الهدى باديس تجاه الرواية قائلة بأنها "مختلفة عن السائد يحتار قارئها في تصنيفها من حيث توارد الأشكال والأجناس الخطابية...."

كم من المعلومات والمعطيات والاحصائيات العلمية تزخر بها الرواية ويحسن مؤلفها استثمارها في كل مرة حيث يقدم لشخصياته وحكاياتهم المراوحة بين الواقعية والعجائبية وما هو علمي وانساني فالعالم يقبل على متغيرات رهيبة وبحسب الكاتب جاب الله وتبدلات عميقة هي من جوهر تعاطي انسانه (انسان هذا العالم) مع واقعه وأحواله يذهب به كل ذلك نحو الآلة بعيدا عن الحالة تجاه واقع الروبوت والبرمجيات بمختلف تفاصيلها وأدواتها وتمظهراتها..والكاتب هنا وهو يسرد صفحاته ال 138 انطلاقا من كلمات هي " ماذا تعني لي عصارات الأسئلة ومعانيها والاجابات حول كل ما يدور برأسي ورؤوس الآخرين أشباهي الذين ينتسبون الى الكائنات البشرية..." انتهاء الى وبهذه الكلمات بالصفحة 138 "...غير أنهم صنفوها ضمن الوثيقة (انها مدرجة  في الخانة العجائبية التي تطرأ على كوكب الأرض) وسماها آخرون (انها نزر قليل من رائحة الأبدية زارت الأرض في لحظة خاطفة وفارقة قبل أن تعود أدراجها الى مناخاتها الأصلية).. فانه يفصح عن شواسع الحيرة والأسئلة والقلق الناجم عن هذا الذي يدور بخلد الانسان المتجه الى أزمنة 2160 كما أرادت الرواية في نهجها السردي الذي تضمنته وهو يعايش كما من الأحداث الدالة والأرقام المفزعة حيث الانطلاق من عوالم البيئة والمتغيرات المناخية في كل صلة بالإنسان المعاصر ف"خالد" من شخصيات الرواية وهو رجل 170 سنة يأحذنا الى كون الأسئلة في رواية 2160 ومنها  مثلا : ماذا تعني الحقيقة بالنسبة إلي، مقارنة بهذا الرصيد الضخم للبشرية وأفعالها التي تأسست منذ أول ظهور للإنسان المفكر قبل ملايين السنين أسئلة تفضي الى أسئلة أخرى تعري شيئا من حقيقة الواقع لتدين بعضه وتتنوع بتنوع شخصيات الرواية في أسلوب من المزج بين الخيال العلمي  والواقعي والطريف  في نسيج درامي قدام زمن "2160" الذي يشهد تغيرا في الحياة وتفاصيلها كغيرها من أحداث قديمة عبر العصور وفق ما ذكره الكاتب بناء على تحولات شتى وتداعيات مربكة ومنها حدوث "الكارثة الكبرى" بمدينة "رودة" ويأخذنا جاب الله  وبحسب سرديته هذه الى ما يقوله مثلا :  …) لقد أكدت مخابر العلوم الطبية منذ النصف الأول للقرن التالي للحادثة أن إفرازات الحادثة الكبرى الانفجارية في أجزاء مهمة من شمال الكرة الأرضية تمثلت في مادة نتجت من جراء التفاعل الكبير الذي تداخل وفقه الفضاء الخارجي وجزء من باطن الأرض وعمق البحار. هذا التداخل العجيب أنتج مناخا هوائيا جديدا احتوى على مادة جديدة توسطت "الإيدروجان والأكسيجان" وهي المادة التي استنشقتها الكائنات التي بقيت على قيد الحياة والتي كانت مادة وراء تغيير كلي لجسم الإنسان وغرائزه ومذاقاته وجسر حياته المفترض...).

هي فكرة الكاتب ضمن لعبة السرد والأزمنة الغابرة والراهنة والمقبلة ليقول بهذا الانسان المأزوم  الذي يعيش حال ووضع الضحية ولما نجم عنه وعن سابقيه من تعد على الطبيعة ليعايش بالتالي وبالنتيجة مآلات الصنيع والسلوك ولكل ذلك ارتداداته ومنها الأمراض والمآسي والأوبئة والكوارث...انه العجز حيث يقف الانسان حائرا أمام الكوارث والأرقام والتقنية...لينعدم المعنى والاحساس وما هو رمزي وقيمي...

وامام كل حالات التدهور والفراغ لم تعد تنفع المكتشفات ومنها دواء السال سال ففي هذه السردية ورمزيتها العالية يأخذنا الى الفكرة وهي الانسان في أزمنته بين الحالة والآلة..بين الوردة والسكين...

أسئلة حافة بسردية ممتعة تذهب الى الجوهر والكنه وما في أعماق الانسان خوفا عليه ومنه ومن أن يناله الانقراض والاندثار لفعله المشين المنكل بالطبيعة في احالة الى الانقراضات بكوكب الأرض: انقراض العصر الأردوفيسي وانقراض الديفوني المتأخر وانقراض العصر البرمي المتوسط والمتأخر وانقراض العصر الترياسي المتأخر..الروائي والشاعر الهادي جاب الله في هذا العمل السردي لم يعنه حجم الرواية ليكتفي بحوالي 140 صفحة ايمانا منه بكون الكتابة ليست بالكم بل بالفكرة والجوهر وذلك قطعا مع الموضة الوافدة من حيث الروايات ذات مئات الصفحات أيضا هو كتب رواية بقلق مخصوص هو قلق الشعر والشعراء ليضع كل ذلك في اطار جامع لشخصيات وأسماء تبدو غير نمطية على غرار روايات أخرى دارجة وهذه من لعب الشعر والكتابة الشعرية التي تذهب في ثنايا البحث والسعي للابتكار والخروج عن الطرقات الآمنة والمطمئنة..مناطق الرعب على عبارة الدكتور محمد لطفي اليوسفي..

كذلك التعاطي الذي انتهجه الكاتب في هذهالرواية مع ما هو من الأحداث السياسية والاجتماعية حيث ابتعد عن المباشراتية ليرصدفقط ما تناغم مع نهجه الروائي وبذكاء السارد والكاتب.. وجملة عناصر لم نأت عليها جعلت من رواية "2160" للكاتب الهادي جاب الله محاولة نحو الخصوصية والجدية في النظر والوعي والتخييل ضمن الكتابة الروائية الراهنة في تونس فغنم الكاتب عموما والمسكون بهاجس الابداع خصوصا هو السير في هج فني أدبي مختلف ترنو فيه الذات الكاتبة الحالمة القلقة الى الامتاع والاشباع وهي تواجه قارئها..قارئها الشغوف بالجديد.. وما هو متجدد مستفز ومربك ومحير ولكن في غير تكلف وافتعال..

ان الكتابة حية تتطلب النظر بعين القلب لا بعين الوجه حيث الحواس والعناصر والأشياء في تمام يقظتها ووعيها بالعالم وبالانسان وبما هو بينهما من أحوال.و الكتابة هنا وفي رواية الحال التي نحن بصددها أبانت عن تزاحم أسئلة عند السارد في متن"2160" وهي أسئلة باعثة على القلق ودالة علية حيث الاشارة الى صعوبة الامساك بهذا الواقع المتحرك عند الانسان للنأيبه عن عواقبه الوخيمة ولكن قدر الانسان هو السيطرة على ذلك حفاظا على طبعته وطبيعة الأشياء والحياة قتلا للتوحش وما به ومعه وفيه ينتهي الانسان الى رقم..الى مجرد أرقام بلا روح وهوية وذات..رواية "2160" للكاتب الهادي جاب الله هي سفر سردي يروم الاختلاف قولا بالانسان وهو ينتصر للحالة...لا للآلة.

***

شمس الدين العوني

في المثقف اليوم