قراءات نقدية

علاء حمد: فعل القول في الاستعارات النصّية.. الشاعرة السورية هلال شربا

يبدأ فعل القول بأكثر من نصّ من نصوص تحريك اللغة؛ كفعل قولي استعمالي؛ وفعل قولي آني، وفعل قولي متقدّم على أفعال النصّ الحركية والانتقالية؛ ومن هنا تكون الذات قد بحثت عن مستقرّها الدلالي كذات قولية حقيقية، تنتمي إلى النصّ المخالف وذلك عندما تكون اللغة قد اختلفت عن السائد، وهي اللغة الشعرية بحدّ ذاتها، وذلك من خلال التعدّد الفعلي للفعل القولي ذي الاتجاهات المتعدّدة؛ فالفعل يعني لنا مجموعة من الظواهر التي تشتغل على اتجاهات خاصة، وهي التي تكوّن العلاقات النصّية مع عناصر النصّ الشعري، وهذا ما نلاحظه في العديد من النصوص المكتوبة، ولكن لو تقصّينا الأمر أكثر فسوف نكون في منطقة النصّ المقروء أوّلا، وهو النصّ الذهني قبيل الكتابة، وهو المستهل للعلامات والوحدات اللغوية؛ حيث يمدّنا النصّ بفعل الكتابة الذي تبحث الذات عنه مع فعل قولها المناسب.

موضوع فعل القول وعلاقته بالمفاهيم الداخلية والخارجية، هو الذي يشكّل للنصّ محور التحدّث القولي للذات الحاملة للغة الشعرية؛ فيأخذ الفعل شكل التأسيس، كأن تكون مفاهيم اجتماعية، أو تاريخية، أو نفسية، أو فنّية؛ فجميع هذه العناصر ذات علاقة مع فعل القول النصّي، ولكن الذي يهمّنا هو المفاهيم النصّية التي انطلقت منها الشاعرة السورية هلال شربا؛ وبموجبها تحرّكت أفعال الذات بمفهوم اللغة المحمولة التي انعكست على النصّ الشعري، باعتبار أنّ النص المستقبل الوحيد للغة. وأي نصّ ندخله، يعني إعادة المفاهيم الحياتية المحيطة بالباث الأوّل، حيث أنّ المقاصد تشكّل البؤرة الأولى في النصّ، وتلحقها المفاهيم الكتابية التي تكون خلاصة المقروء في الذهنية.

لا يمكننا الاتكاء على معاني رابطة ومعاني نهائية، وكذلك لا يمكننا أن نذهب إلى التبعثر الاستعاري في منظور الخطاب الشعري، دائما المعاني متوازية، ولكنّها لا تنتهي بنقطة معيّنة حتى إذا كانت تلك نهاية النصّ، فالتأكيد الذي يجري هو إطلاق المعاني في الوجود الزمني المفتوح. وعند المقارنة نعتمد عناصر التشبيه، وهي جزء من الاستعارات الوظيفية في الخطاب الشعري (إنّ العامل في تأثير الاستعارة هو المسافة بين المشبّه والمشبّه به أو كما يقول سايس "sayce": زاوية الخيال. وإذا كانت المسافة بين المشبه والمشبه به قريبة نحو: "وردة تشبه أخرى"، فإنّ الاستعارة تكون مناسبة، ولكن دون أي صفة تعبيرية. – الاستعارة في النقد العربي الحديث – ص 11 – الدكتور يوسف أبو العدوس).

أحب شحيح الدمع في عينيك

فهو مشكاة ضوئي..

..

على ضفة من جسدي

كتبت عنوانكَ

ورسمت خارطة للدرب

اشتعلت بهواجس شتّى

..

من قصيدة: عندما تبحث عيناي

ضمن القول الواحد، قوّلت الشاعرة السورية هلال شربا المشهد الإشاري الذي اعتمدته؛ فالفضاء الذي أمامها يتّسع للمنظور البصري، الذي تحرّك من قبل المنظور الذاتي، لذلك عندما استقبلت الإرسال، في الوقت نفسه عملت على حياكته، وهنا أتكلم عن اللحظة الذاتية التي ظهرت ضمن اللحظة الزمنية؛ حيث أن القول يظهر: كمبدأ يتمّ ترجيعه إلى المخاطِب.. أو يتمّ ترجيعه إلى المنظور النصّي، الذي ينوب عن المنظور المباشر، أي تحويل فعل المباشرة إلى قول زمني حسب استحقاق المخاطِب.. فكتابة العنوان، وحضور الجسد، فيكوّن ذلك تعدّداً صامتاً، وهو النصّ بعينه عندما يقفز فعل القول في دواخله لتحريكه. أمّا المتكلم فله العودة بكل تأكيد حسب الشاعرية والثقل الشعري الذي ينوب عن الكلام، ويكون عادة القول الآني أو المستقبلي؛ حيث يندمج الماضي بينهما..

أحبّ شحيح الدمع في عينيك + فهو مشكاة ضوئي..

على ضفة من جسدي + كتبت عنوانكَ + ورسمت خارطة للدرب + اشتعلت بهواجس شتّى

نميل إلى المتعلقات التي طرحتها الشاعرة السورية هلال شربا، والمتعلّق هنا، تعلّق مقامي إخباري، حسب فعل القول الذي قادنا إليه ونحن نقرأ ما تشير إليه من خلال الجمل التواصلية. وقد أكدت بحوث (علم المعاني، وحسب ما جاء به الباحث المغربي د. رشيد بلحبيب) على المقامات وحول التأخير والتقديم في الجمل؛ وبما أنّ الجملة التي تسندنا جملة شعرية، فهذا يعني أنّ للمعنى الأثر والفعّالية وكيفية الدخول إليها من خلال المقامات والمتعلّقات.

أحبّ شحيح الدمع في عينيك = جملة فعلية مسندة إلى فعل القول، فإخبار الشخص الآخر المغيّب، تعني أنّ هناك حواراً جرى بين الشخص الآخر والباث، ولكن ليس كأيّ حوار نعتمده، فالموقع المعتمد، موقع إشاري؛ فقد أشارت الشاعرة إلى نوع الخبر المندمج مع الدمع، وعندما نشير إلى الدمع، نشير إلى مصدرها أيضاً، وإلا فالاختلاف اللغوي يكون قد سيطر بشكل فعّال على الكلمات وأبعد التجانس اللغوي؛ فالشاعرة هلال شربا أخرجت الداخل الذاتي وتمتّعت بالكلمات بكلّ أريحية وهي تطلق وترسم أجزاء الربط بين جملة وأخرى:

أحبّ شحيح الدمع في عينيك + فهو مشكاة ضوئي..

على ضفة من جسدي + كتبت عنوانكَ + ورسمت خارطة للدرب + اشتعلت بهواجس شتّى

نسعى إلى التفكيك، ونتّصل بالعالم، العالم الذي يحيط بالشاعرة، وهو ضمن عدّة عوالم تعوم حول الذات الحقيقية؛ ولكن نتوقّف أمام عالم واحد، وهو الخبر الضمني حول ضفة الجسد الذي انتقل من الداخل الذاتي إلى الخارج الذاتي، وكأن فعل الإشارة هو الذي ظهر لتكوين الدلالات التي اعتمدتها الشاعرة. ومن خلال الجملة وما تحمله من معنى دلالي دلّت إلى أنّ المطالع التي اعتمدتها هي لوحدات لغوية. ولكن في حالة الفعل الكتابي يختلف المنظور عن الفعل الكلامي، فقد اعتمدت على تأويل الجملة؛ ووظفت الشاعرة بعض المفردات والتي لها مركزيتها في الجمل الشعرية ومنها: الجسد، العنوان، خارطة والهواجس، وما يشغلها هي الكتابة على شكل رسالة، وهنا تعتمد حالة التشبيه التي أشرت إليها أعلاه أيضاً.

أتشبّث بحبال السراب

تقذفني كرة ثلج

تذوب في

وهج الحمّى

الحمّى التي تعالت

من حولنا:

تزدحم الطرقات

الأيائل التي مازلنا نودّعها

هجرة الأولاد

وفتنة القياسات التي

مازالت قيد التنفيذ...

.....

من قصيدة: عندما تبحث عيناي

نعتمد على فعل القول الذاتي من خلال المقطع الذي رسمته الشاعرة هلال شربا، فنلاحظ أن أصغر بنية دلالية هي الحركة، وقد بدأت بالفعل (أتشبّث)، وأكبر بنية دلالية هي اللفظ، ولكن عندما نكون مع فعل القول الذاتي، فإنّ الذي يخرج أمامنا يطابق المعنى اللاحقيقي، وتتكوّن إشارات استندت عليها الشاعرة، وهي توحي إلى التقديرات؛ حيث استطاعت أن تكون ذات مساحة ملائمة من الانزياح في جملها، معتمدة على نظرية الاستعارة، والتي تعد إحدى النظريات المهمّة؛ ومثل هذه الجمل تعدّ من الجمل التنشيطية للنصّ الشعري الحديث، وهي تقودنا إلى الصور الشعرية.

أتشبّث بحبال السراب +   تقذفني كرة ثلج + تذوب في + وهج الحمّى + الحمّى التي تعالت + من حولنا: + تزدحم الطرقات + الأيائل التي مازلنا نودّعها + هجرة الأولاد + وفتنة القياسات التي + مازالت قيد التنفيذ...

طرحت الشاعرة هلال شربا المعنى الوجودي في المنظور الاستعاري في كلّ جملة شعرية تواجهنا؛ وذلك من خلال الصلات الدلالية التي عمّقت المعاني من جهة، والبدائل لبعض المفردات المختلفة من جهة أخرى، فقد جاءت مثلاً جملة: أتشبّث بحبال السراب، فالسراب لا حبال له، ولكن الصلة الدلالية عمّقت المعنى وكذلك اختيار بعض الكلمات التي ابتعدت عن المباشرة، وأيضاً جملة: تقذفني كرة ثلج، فقد جعلت من كرة الثلج حياة أخرى قد تمتطيها عندما قذفتها أو كانت متدحرجة عندما واجهتها وأبعدتها من خلال الدحرجة. الكرة الثلجية لا تشبه السراب، فقد كان المطلع النصّي كافتتاح، بينما التواصل اللغوي بدأ من الجملة الثانية، وجميعها تؤدي رسالة عن الألم السوري الآني وهجرة الأولاد من البلاد التي انجبتهم.

تعتريني شهقاتُ الموت

في اللحظة لحظاتٍ

حتى يغادرَني ثقلُ الهواءِ الذي

لن يفهمَ رسالة وجودي...

اضطراباً لأنسام محنّطة

في كبد الفضاء

...

من قصيدة: رائحة اللحظة

فلسفة الأنا أقوى من الـ (هو)، أي أنّ للمنظور الآني نشاطاً لغوياً أقوى من الغائب وكذلك من الماضي، فتحضر هذه الأفعال من خلال المنشّط الحاضر لفلسفة الأنا، وما نلاحظه بالفعل الذاتي الحركي هو الذي نشّط الفعل اللغوي في النصّ الشعري الحديث؛ ومن هنا ينتظم الخط التواصلي بين الفعل الذاتي الحركي، والفعل النصّي والذي يصبح موضوعاً تعيينيا بلغة تعيينية في النصّ المكتوب.

عندما نذكر القول الدال الذي يشير إلى الكلمات كمنبّهات متواصلة إلى المتلقي، نشير في الوقت نفسه إلى الجملة بأجزائها، ولا نستطيع أن نتخلى عن أجزاء الجملة والتي نعني بها جملة شعرية انتهت بنا إلى حد التواصل كمركبات لمفردات وذلك لكي نتوصّل إلى الجنس التام.

تعتريني شهقاتُ الموت + في اللحظة لحظاتٍ + حتى يغادرَني ثقلُ الهواءِ الذي + لن يفهمَ رسالة وجودي... + اضطراباً لأنسام محنّطة + في كبد الفضاء

بين القصدية الآنية، والقصدية الأخرى، يكمن الدال عندما أطلقوا على الدلالة بين الشيء والشيء الآخر، فقد كان الشيء هو الدال والآخر هو المدلول، لذلك لو تقصّينا النصّ الماثل أمامنا، فسنى أنّ هناك الشيء، وهناك الشيء الآخر، أي أنّ الشهقة تعدّ من الأشياء، والآخر هو الذي يتبيّن من خلال التفصيل النصّي، هو الموت، ومن هنا نؤكّد بأنّ الشاعرة هلال شربا أرادت أن تبلّغ عن شهقات الموت، وهي الخطوات التي تؤدّي إلى الموت؛ لذلك ظهرت الخطوط الرئيسية الدلالية للمعنى اللغوي من خلال الاختلاف أوّلا ومن ثمّ دلالة اللفظ ثانياً.

أنا شيفرةٌ لم تجدْ بعدُ من يفكُّ رموزِها

لم يأتِ أوانُ فهمِ هذا الوجيب

والقمرُ آيلٌ للسقوط

مضيتُ كعشتار

عندما أصبح الوجودُ حديقة

وأنا أسقيها

بماءٍ الأقحوان

...

من قصيدة: رائحة اللحظة

هناك ثلاث باقات من المعاني، فهي تبدأ من النصّ، وتنتهي به، ونستطيع أن نضيف لها مفهوم (التمثيل) والذي يمثل المعنى الأحادي، باعتبار العنونة حالة مستقلة؛ وسوف أدمج ما تبقى من النصّ كمعنى اعتمد اللامألوف وما قدمته الشاعرة السورية هلال شربا في رحلتها النصّية:

الباقة الأولى:

الأنا المتمثلة بالوعي الذاتي؛ كما جاء في جملة: أنا شيفرةٌ لم تجدْ بعدُ من يفكُّ رموزِها

والتي تمثلت كمطلع للوحدة الدلالية، وهي بداية المعنى الذي أقصده، حيث تنسب شخصيتها للشيفرة التي لا يمكن فكّها، لنقل ليس بهذه السهولة تفكّ الشيفرات والتي تعتمد الرمزية النصّية، ولكن في الوقت نفسه اعتمدت الشاعرة التوضيح الدلالي في دلالاتها للمعاني المعتمدة.

ما أجملَ وفاءَ الغيوم

عندما تصرّ على أنّها ستغسل الأرض

والأرضُ تصرّ على الزغاريد

عندما تستقبلُ لحظاتِ الشمس

وهي تظهر من خلف الغيوم

كلحظاتِ طائر تراءت لعينيه

حفلاتُ الجنون!

....

من قصيدة: رائحة اللحظة

إنّ البناء القصدي الذي يؤدي إلى التأمّل، يقودنا إلى التفاؤل أيضاً، وهذا ما قصدته الشاعرة وهي تقودنا إلى القمر، وإلى عشتار، وكذلك إلى الفرحة (الحديقة)؛ هذه المفردات التي اعتمدت البناء، ماهي إلا امتداد للفعل الذاتي من خلال الوعي كنشاط للذات الحقيقية.

الباقة الثانية:

إنّ أي قيمة للمعنى، هي قيمة دلالية، والتغيير الذي يحدث بين المعاني، تغييرات في الأفعال الحركية والانتقالية، ومن هنا من الممكن أيضاً أن يكون اتصال النصّ، اتصالاً دلالياً.

إنّ ما طرحته الشاعرة هلال شربا من مسمّيات مختلفة أدّت إلى وظائف فعلية، وهي متواجدة في المنظور الخارجي، لذلك فالنصّ لم يكن حبيس معانيه: ما أجملَ وفاءَ الغيوم + عندما تصرّ على أنّها ستغسل الأرض... والأرضُ تصرّ على الزغاريد + عندما تستقبلُ لحظاتِ الشمس... نلاحظ الربط بين باقة وأخرى، بين جملتين متواصلتين مع جملتين آخريتين.

الباقة الثالثة:

المعنى كمطلب نصّي، أي نصّ يواجهنا جلّ ما يعانيه هو طرح المعاني ومدى التنسيق بين الجمل التواصلية، فالعلاقة التي نبحث عنها، علاقة النصّ بالعالم الخارجي، وذلك باعتبار أن النصّ يمتلك حالته الفنّية مع حالة المعنى وما يحوي من علاقات والتي تكون على المحكّ إمّا ببيئة الباب، أو بالناس الذي حوله وما يهدف النصّ إليه.

عندما تبحث عيناي

أحب شحيح الدمع في عينيك

فهو مشكاة ضوئي..

..

على ضفة من جسدي

كتبت عنوانكَ

ورسمت خارطة للدرب

اشتعلت بهواجس شتّى

..

أتشبث بحبال السراب

تقذفني كرة ثلج

تذوب في

وهج الحمّى

الحمّى التي تعالت

من حولنا:

تزدحم الطرقات

الأيائل التي مازلنا نودّعها

هجرة الأولاد

وفتنة القياسات التي

مازالت قيد التنفيذ...

..

عند العتبة

أعدّ أصابعي الخمسة

وأقبض على سبابتي

خوفا عليها من التلف

أقبض على منفاي

واجعل الأصفاد كالرمل ذائبة

**

رائحة اللحظة

تعتريني شهقاتُ الموت

في اللحظة لحظاتٍ

حتى يغادرَني ثقلُ الهواءِ الذي

لن يفهمَ رسالة وجودي...

اضطراباً لأنسام محنّطة

في كبد الفضا

أنا شيفرةٌ لم تجدْ بعدُ من يفكُّ رموزِها

لم يأتِ أوانُ فهمِ هذا الوجيب

والقمرُ آيلٌ للسقوط

مضيتُ كعشتار

عندما أصبح الوجودُ حديقة

وأنا أسقيها

بماءٍ الإقحوان

هذا المدارُ فارغٌ إلا منّي

هناك بضعُ كويكباتٍ رامت مرافقةَ

الوجعِ النابضِ بي

ما أجملَ وفاءَ الغيوم

عندما تصرّ على أنّها ستغسل الأرض

والأرضُ تصرّ على الزغاريد

عندما تستقبلُ لحظاتِ الشمس

وهي تظهر من خلف الغيوم

كلحظاتِ طائر تراءت لعينيه

حفلاتُ الجنون!

***

 

في المثقف اليوم