قراءات نقدية

حسني التهامي: الهايكو.. موسيقى الصورة وشغف الحواس

تعد الحواس الخمس من أهم الأدوات التي تمكننا من إدراك ما حولنا؛ فهي العتبة الأولى نحو العالم الخارجي، بتلك الحواس يقيم شاعر الهايكو شراكة فاعلة بين عالمه الداخلي ومحيطه البيئي؛ فتحدث اللحظة الجمالية. ينقل الهايكو، كونه مشهدا حسيا في الأساس، تجربة الشاعر الإنسانية المعاشة من خلال شغف الحواس الخمس: البصر، السمع، اللمس، التذوق، والشم. تسهم الحاسة البصرية بالنصيب الأكبر والأهم في إدراك العالم، يليها السمع، مع ذلك لا غنى عن الحواس الأخرى لفهم العالم بشكل تام. يقوم الهايجن بدور المراقب عبر حواسه لينقل تجربته المشتركة دون أن يبوح بمشاعره التي أثارتها تلك التجربة. يؤكد هذه الحالة مقولة جوزيف كونراد: "إن فن الكتابة يجعلك تسمع وتشعر، وقبل كل شيء ترى"، التي تشير إلى أهمية الوعي، الناتج عن الإدراك المفاجئ للحقائق الكامنة في الوجود، في نشوء شرارة العملية الإبداعية.

ما يميز كاتب الهايكو عن غيره من كُتَّاب الأنماط الشعرية الأخرى قدرته الاستثنائية في استخدام حواسه لتشكيل صورة أو صورتين متجاورتين تنقلان جوهر التجربة الإنسانية بكلمات غاية في الإيجاز، وأحيانا عبقريته في تجاوز هذه التجربة عبر إحداث صدى جمالي أو وميض أو إحساس مفعم بالدهشة.

أمامنا خمسة نصوص لتلميذ باشو، كيكاكو، استطاعت، عبر الحواس الخمسن، تحقيق جمالية الاستنارة (حالة الوعي بالعالم):

(1)

غروب الشمس

فراشة ترفرف

وسط المدينة

(2)

طائر الدخلة

يتشقلب

أغنية العالم الجديد

(3)

متعرضا للطعن

في حلم يبدو واقعا

مسارات البراغيث

(كيكاكو)

(4)

جنبا إلى جنب

مع عربة تجميع السماد

أزهار الكرز الجبلية

(5)

عند بوابة العشب

ألتهم فلفل الماء -

يراعة!

The Haiku Foundation[1]

يعرض النص الأول لوحة حسية واضحة المعالم، تعتمد بشكل أساسي على الحاسة البصرية. تمكننا الألوان المتنوعة في اللوحة رؤية غروب الشمس.، كما يمدنا كيغو الفراشة بألوانها الفاتنة بصورة الموسم. يحدث تآلف حاستي الصوت والحاسة البصرية من خلال رفرفة الفراشة، فيشكل لوحة شعرية نابضة وزاخرة بالألوان والحياة.

في النص الثاني هناك مشهد مفعم بالحيوية والحركة ( شقلبة طائر الدخلة )، يلفت انتباه الرائي، لكن غاية النص في الأساس هي التركيز على أغنية الطائر التي استرعت الحاسة السمعية لدي كيكاكو.

في النص الثالث يصلنا إحساس الشاعر، من خلال حاسة اللمس، (الحكة الناتجة عن قرصة البراغيث)، حيث كان عالم الحشرات جزءا عاديا من الحياة اليومية في اليابان آنذاك. نجح الشاعر في تجسيد معاناته مع تلك الحشرات، لا سيما أن هاجس الخوف والإحساس بالمعاناة تسللا إلى الشاعر في حلمه، فأصبح الألم في الحلم لا يقل حدة عن الواقع.

في نص (4) يوظف الشاعر حاسة الشم من خلال الجمع بين رائحتي روث البهائم وأزهار الكرز البرية، في محاولة منه لنقل صورة واقعية تتشكل من عالمين مختلفين (الجمال والقبح)، وهي ذات الطريقة التي انتهجها معلم الهايكو في كثير من أعماله الخالدة. بالطبع هناك حواس أخرى فاعلة بالنص كحاسة البصر، لكن الحاسة السمعية، على الآكد، هي المهيمنة على جو النص.

في النص الأخير تبدو حاسة التذوق جلية، حيث يتناول كيكاكو عشبة لاذعة وحارة للغاية تسمى "فلفل الماء". ينتقل إحساس الشاعر إلى القارئ، وقد يصل حد القشعريرة، لكن كلمة "ألتهم" قد تخفف هذه الحدة، فهي تشي بتقبل الشاعر لطعم هذه النبتة اللاذعة.

أخذ باشو موسيقى أشعاره المبكرة من كلمات وإيقاعات الـ"كوتا"، وهي أغان شعبية كانت سائدة في عصره. أدى التركيز على الشكل الموسيقي بشكل كبير إلى افتقار هذه الأشعار إلى العمق والإبداع الفني، لكن خفتت تلك الخاصية في الكثير من الأعمال اللاحقة مع تعميق وتطوير جمالية الكارومي. ذات مرة قال باشو لتلاميذه: "القصيدة الجيدة في نظري هي التي يبدو فيها شكل النص واتصال جزئيه خفيفين كنهر ضحل يتدفق فوق قاعه الرملي". هكذا أدرك باشو أن الموسيقى الخفيفة والخفية يمكنها أن تحقق جودة الشعر وعمق التجربة بدلا من الإيقاعات الصاخبة. في نص البركة الشهير يجمع باشو بين عدة حواس في صورة شعرية متآلفة المشاهد تتميز بالانسياب الموسيقي:

بركة قديمة

ضفدع يقفز . . .

صوت الماء

يعرض النص ثلاثة أنواع من المشاهد تتفاوت فيما بينها ما بين الثبات والحركة والصوت: (1) سكون صورة البركة، (2) حركة الضفدع في قفزته الديناميكية، (3) صوت تدفق المياه الضحلة في البركة. هكذا تتشكل الصورة السمعية عبر الصوت الناتج عن قفزات الضفدع في الماء وحركة تيارات الماء الصافية وتموجاتها الهادئة. يعكس إيقاع الصور في النص إحساسا بأهمية اللحظة التي نعيشها، ومدى تناغمنا مع أبسط الأشياء التي تقدمها لنا الحياة.

تلك التقنية التي استخدمها باشو يطلق عليها "تحول الحواس"، وهي بمثابة انتقال مفاجئ يؤدي إلى إبهار القارئ، وإحداث صدى في ذهنه. انتقل الشاعر من المرئي في المشهد الأول ( البركة القديمة وصورة الضفدع وهو يقفز فيها)، ولم يستمر المشهد في تصوير التفاصيل المرئية، لكنه فاجأنا بانتقاله إلى السمعي "صوت الماء"، وعن طريق تقنية التجاور "التوريوازة" الناجحة، استطاع باشو ربط عناصر القصيدة ليقدم نصا غاية في التماسك والإدهاش.

يقول الشاعر السوري ماهر حرامي في النص التالي:

شفتاها ترتجفانِ

إذ تدنو من أصابعي:

قطةٌ مبلّلة.

اعتمد الهايجن على حاستي السمع والبصر لخلق مجموعة متنوعة من الحالات المزاجية والمشاعر والعواطف. أسهمت حاسة البصر، وهي أكثر الحواس شيوعا في الهايكو، في تكوين المشهد وتصور موقع الحدث، بالإضافة إلى خلق حالة من الوعي والاستنارة لحظة الالتقاطة الجمالية. تنشا موسيقى الحركة من ارتجافة شفتي القطة المبللة وهي تدنو من أصابع الشاعر، كما تسهم حاسة البصر، بغض النظر عن أي من الحاستين أسبق في رسم المشهد. تثير هاتان الحاستان مشاعر الألفة والشفقة تجاه الكائن، وتعكسان حالة التماهي بين الذات الشاعرة وتفاصيل هذا العالم الذي يحرك حواسنا.

هناك نص آخر للشاعر العراقي سرهد هوزايا:

شجيرة خضراء

الزهرة الملتصقة بها،

من شجرة تظللها

انتقلت إلينا مشاهد النص عبر حاسة البصر بشكل أساسي، فألوان الشجيرة الخضراء والزهرة، مع حركة ظل الشجرة الكبيرة، تشكل صور الطبيعة المتناغمة التي تعكس حالة الهدوء الداخلي لدي الهايكست لحظة التقاط المشهد الجمالي. يلفت انتباه الرائي (الهايجن) التصاق زهرة الشجرة الكبيرة بالشجيرة في مشهد حان، يضفى نوعا من البهاء والجمال الآسر. يخبرنا هذا المشهد المفتون بالتفاصيل الكونية اللافتة أن العالم الطبيعي من حولنا لا يمتلك فتنة الإدهاش فحسب، بل ايضا تتبدى من خلال جزئياته لحظات الخلود والكمال الروحي. ترمز تلك الشجرة التي يمتد فيئُها وتتناثر أزهارها إلى العطاء الأبدي للطبيعة.

تلك النصوص المختارة من منتدى هايكو مصر اكتسبت جماليتها من تقنية تحول الحواس:

رفيف

بين الثابت والمتحرك

تترنح اليعاسيب

(لخداري عيسى)

*

حفيف

فقط قفزة الجندب

في سماء اللزورد

(عبدالله هدى)

*

رائحة التفاح

أشعر بأنبوب النرجيلة

بين أصابعي

(إدريس العميري)

*

موسم القطف

دوران الرحى

بأهازيج أمازيغية

(فتيحة بنزكري)

*

شائكة،

تتخطى حدود الحديقة

رائحة الجوري

(كبرياء إبراهيم)

*

لا شيء في الزرقة

سواها

رائحة البارود

(سامية بنعسو)

*

بحيرة جافة

على رائحة المطر

تعود الطيور

(محمد شداد شداد)

*

المطر الغزير ..

يجترح من الحديقة

رائحة النعناع !!

(زيا يوخنا)

***

حسن التهامي

...................

[1] https://thehaikufoundation.org/new-to-haiku-imagery-in-haiku-with-joshua-gage/

 

في المثقف اليوم