قراءات نقدية

فؤاد الجشي: قراءة انطباعية عن رواية.. مائل بخطّ الرُّقْعَة

أعتقد أنّ الكتابة ليست سهلة في بعض نصوصها، إنّها نصوص اجتهدت لتكون قطعة مميّزة في قصة مميّزة ناضجة من حيث البناء السردي الفني المتناغم عن شخصيات عاش معها الكاتب ومؤثرة فيه عن أفراد مجتمع في ذهن الكاتب التي كوّنها واختلقها إبداعيًا واقعيًا بامتياز. تنحني بها أمام ذاكرة الراوي عندما تقرأ النصوص كأنّها صف مرصوص لا يختلف بنيانه في الكثافة المخصصة للسرد.

خارج الصالة تبدأ الحكاية، يصف الراوي القرية التي جمعتهم بين الأزقة الضيقة التي يسكنان بها مع وهب حيث، دخول الكاتب في دهاليز الاسترجاع " الفلاش باك" بين وصف الحياة الطبيعية التي يعيشها المجتمع في ذلك الزمان، قبل الدخول في هندسة السرد والمجاديف التي استخدمها الكاتب في الإبحار تحمل معها بوصلة شمالية محددة بين البداية والنهاية، لكن قبل الوصول، دوّن بخياله الواسع النصوص الأدبية المتعاركة بين وقوف واستشهاد لهذه العبقرية التي نسجت هذه الخيوط الذهبية في البيئة التي كانت مسرحًا لأحداث القصة.3693 رواية مائل بخط الرقعة

وهب حمل هذه القصة بأكملها مع صديق عمره، وهو الراوي، جمعت تارة بضمير الغائب وتارة بضمير المتكلم بين وصف مبدئي، يقصد عبد الوهاب الذي طالما ينادى باسم "عبد" بين الساباط والشوارع الضيقة وبين الاسم الأصلي "عبدالوهاب" الذي يتوجس منه إحسانًا عندما يراد منه خدمة مجانية. في بداية حياته كان يعمل حارس مقبرة، وبين قراءتي للأدب منذ عقود إلّا أنّي لم أجد وصفًا جميلًا يحمل نصه الموجة العالية حين يصف الكاتب وهب "فعين مفتوحة على اتساعها دائمًا ولا شيء يجعلها ترفّ، والعين اليسرى تهجع تحت لحاف جفنه المتغضّن فهو لا يحتاجها عادة" يجعلك الكاتب تفيض بأنه أعور "أي ذهب بصره، هكذا يأسرك النص بقوة عباراته وجمال المعنى وحسن الصياغة في فنّ البلاغة.

لقد استخدم الكاتب العدسة من الزاوية الواسعة التي تضبط المشاهد ذات الطول البؤري الذي تستطيع أن تحصل على المشهد كما في الخيال المرسوم خارج نطاق المونتاج الذي نعرفه عندما أنتج هذا المشهد الذي يقول: "وقبلها قبل أن تنحني السكة ثم تستقيم ملتويةً بجدران قرض في طينها الزمن وبانت نتوءات أحجارها الكلسية البيضاء يكاد يمسكها الطين وترفد نهرها جداول السمك الفرعية، وفتات الكلس يصبغ التراب أسفل الجدران بالأبيض ليخفف من اللون الرمادي لتراب السكة".

أناقة الكاتب كانت في النسيج المخيط بإحكام بعيدًا عن الإسهاب الممل في سرد الأحداث، مما جعله في انتقاء الألفاظ المعبّرة عن معانيها في الذاتية الواضحة عن فكر صاحبه وهب وخواطره النفسية.

يذهب الكاتب أكثر في المتعة الأدبية المتجسّدة بنقل الأحاسيس والمشاعر في زمن الطفولة التي عاشها بين الأزقة للأطفال الذين يلاحقون قطةً شقية والغبار المنبعث من تلك المناورة التي تنظر صاحبها وهب وبين التداخل الوقتي المختلط بين الصالة التي يعمل بها وهب بعد حارس المقبرة بوصفهم الغربان السود الذين يمتصون أعوادًا من القصب في الديوانية "القدو"، وتلك كانت إحدى مهامه في صغره.

لقد استرجع المؤلف الذكريات مع الملاية وصرامة عصاها التي وفرت مخرجات معرفية كما يقول الكاتب، وهنا يسترسل الكاتب في الأثر النفسي الذي وقع عليهم في وفاة الصديق العزيز أحمد وهو في التاسعة من عمره بسبب أمراض تلك الحقبة. واصل وهب حرفته مع (أم رزاق) في الطب الشعبي الذي ينسب إلى ابن سينا، لكنه يكتشف الجانب السري لـ (أم وهب) وهو عالم الجنّ والأرواح الشريرة الجالبة للمشكلات والأمراض، لكنه تأثر بهذه الأرواح والأسطرة التي خدعت بها الناس في الحي، مما جعله لا ينظر إلى المرآة لفترة من الزمن اعتقادًا بأنّ روحها تحوم حول البيت وتجول في غرفته محاولة التلبس في صورته.

لقد نسج الكاتب كاظم خليفة المجموعة القصصية معتمدًا فيها على ذكاء القارئ حتى يدفعه إلى النتيجة التي يهدف إليها من وجهة نظر أدبية التي مثلت الكاتب، ليدوّن كلمات وتأملات عن الحياة وشعورها، لكنّها تمثل شعور كاتبها استوحاها من الثقافة الشعبية التي أحاطته يوم كان طفلًا وشابًا، مكونًا مشهدًا آخر من جمال القصة التي تستحقّ أن تكون في الصفوف الأولى للقصص العالمية التي تستدعي الانتباه لهذا الكاتب مع السرد النصي الأخير واصفًا جدته واحتفائها بأوراق السدر بعد تجفيفها وسحقها وخلطها بالماء، إذ تعتقد الجدة أنّ شجرة السدر مباركة وأمان من الشياطين معتقدة بأنّ الأرواح الطيبة تغفو فوق أغصانها، تمتمات قليلة تنجده من المراد.

مع الوداع شعر الراوي أنّ وهب قيمة إنسانية ما زالت راسخة في الحالة الروحية. اقترنت هذه القصة مع ست وعشرين قصة ذهبية في العنوان السريالي الذي أضاء للمؤلف "مائل بخط الرقعة". إنّها حزمة الكاتب التي تجلّت بعناوين مختلفة، سهلة القراءة، ممتعة، لا تستلزم الكثير من الجهد والتركيز وإنّما يكفي تتبع الأحداث لمعرفة نهاية كلّ قصة، وسوف يكتشف القارئ أجمل النصوص المبتكرة في عالم الأدب.

***

فؤاد الجشي

 

في المثقف اليوم