قراءات نقدية

جورج مسعود: قراءة في المجموعة الشعرية "نحت على الهواء"

للشاعرة الدكتورة أ. دورين نصر بعنوان: أنثى الحلم

من العنوان نبدأ، وكلمة نحت وتعني فن وعمق وإظهار، ولكن هذا النحت هو على الهواء، ربما أرادت أن تقول غداً لن يبق منا سوى ذكرى وبضع كلمات، ولكننا نعلم علم اليقين أن الحياة ذاتها مجرد كلمة وإن كلمةٌ تحيي، وكلمةٌ تميتُ، ومن أجل هذا تهدي شاعرتنا كتابها إلى أمها باعتبارها أول الكلمات وتهديه إلى أبيها ذلك الحنين المعتق ولهفة الخريف. والمرأة في المحصلة كلمات من لهفة وحنين وترنيمة حياة.

تغازل دورين في قصائدها مثل بوح النسيم ورقة البراعم الغضة فتقول:

"فأنا حين أحببتك

رميت أحزاني

وصارت الشمس تشرق

من عيون القصيدة."

ولأننا جميعا نحتفظ في أعماقنا بطفلٍ أبدا لا يكبر، نكبر ولا يهرم، طفل يقودنا بكل يسرٍ إلى البَدء إلى سويعات الفجر، يستيقظ في لحظات الفرح ليدغدغ أمانينا، تقول في قصيدتها:

"وأنت تهمس في قلبي

فتنضج الحروف على شرفة الحياة.

وأعود طفلة صغيرة."

وما نلبث أن نكتشف فيها تلك المرأة الأنثى التي تحرص على ألا تبوح بالمكنونات كي لا تُبَكِّتُها التفاسير الفجَّة، فهي لا تصرِّحُ له بالحب علانية وتترك له جلاء كلِّ الألغاز:

"لعلي أخاف من لحظة تأتي

 أعرف فيها ما أقول."

هذه هي دورين، عطرٌ من كُلِّ الألوان، وغيرةٌ وغزلٌ وعشق وبحارٌ من هُيامٍ، ولكن حين يصير الواقع مُعتماً، وحين تتوه ابنة الحكاية، لا تجد بُداً من السَّفر عبر حلمٍ إلى وجه الابنة إنانا تستعير منها تفاصيل الحلم، وشروط اللعبة المدهشة، ومن أَولى من ملكة السماء كي تحقق لها الحُلم المستحيل لا فرق كبير في الاسم إنانا أو عشتار فالمهم هو الوصول إلى محطة الحب والجمال والصفاء والنقاء بسلام.

ولكن الويل كل الويل إن يصيب المرأة مللٌ أو يعتريها سأمٌ حينها ستصرِّحُ:

"سئمت التراتيل والغناء والضوضاء

مللت من المرآة ومن العبور."

تستمد دورين من عبق الماضي لهفةً مختبئةً بين السطور، تمشطها بخيوط الروح، تهياها للسفر في رحلة الأمل، هي تعلم أن المرء مجرد عجينة من لون الحزن تتناثر فوقها بضعة حبيبات من فرحٍ ومن سكرٍ.

تبدو مرتبكة خَجْلى، هل تبوح له بحبها علانيةً وتصرح بعشقها وحبها، وتستجمع كل شجاعتها لتهمس له

أحبك، فقط حينها تنفتح كل الزنازين ويخرج المارد من القمقم، وتتغير فصول الحكاية فتقول:

"عندما همست أحبك

صرخ المدى

واهتز صمت الليل

نام الصَّدى فأدركت حينها

أنها تبتسم"

في كلٍ منَّا جراحات لا تندمل فالوطن جرحٌ والشوق جرحٌ والهجر جرحٌ وجراح الروح أقسى الجروح

والحياة في كل معانيها صليبٌ محمولٌ على أكتافنا الممزقة، لا تنتهي عذاباتها إلا في يوم الرحيل البعيد.

ولا أطن أنها كانت مصادفة أن تقع قصيدتها "لن يكون هذا الخريف رومانسياً" إلا إشارةً ضمنيةً إلى انزياح الضوء لصالح العَتمة.

ورغم الوداعة والرِّقة التي غلَّفت معظم قصائد المجموعة لكنها حينما يتعلق الأمر بحقوق المرأة لا تجد غضاضةً في أن تكون قويةً متمردةً وحتى عنيفةً فتطلب من أمها قائلةً لها:

"لا تكوني امرأةً مطيعةً

أجمل مافي الريح

أن تكون عاتيةً

 لن أكون مثلك طائعةً."

تتأرجح عواطفها بين الشَّوق واليأس، فهي مازالت تحن إليه وتتوق إلى لقياه، ولكنها تعلم أن ذلك صار أقرب إلى المستحيل فتقول:

"عندما يهرب اللقاء من موعده

ويغرد الرَّحيل بين شظايا الفراق

وعندما يتعثر العمر بخطوته

وتبقى قوافل الشعر عالقة في زحمة الانتظار

قد ألقاك."

ورغم هذا يعتمل الشَّكُ في داخلها فيحتل اليأس أعماقها فتقول:

"غرابٌ فوق السطور يحومُ

يصغي إلى خريرِ الضوء

ويقتاتُ من دمي."

ذلك الأنا القابع في دواخلنا، توأم روحنا، والذي نتكئ عليه كلما ارتكبنا هفوةً، مثل طفلٍ في مدرسة، نلقي الَّلومَ عليه ونتحجج به كي نواري عثراتنا وزلاتنا وحتى أحزاننا، ربما ننساه في فترة فرحنا القصيرة لكنَّه لا يتركنا ولا يهجرنا، بل يبقى دوما هناك قابعاً في انتظار أوامرنا وحتى قصاصنا وتحمل كلّ خيباتنا وهزائمنا وانكساراتنا تقول دورين:

"تلك المرأة التي تراقبني لا تشبهني

 مع أن ملامحي مرتسمة على جبينها

 قد يكون وجهها حزيناً كوجهي

 لكنها تكتفي بمراقبتي."

تتكرر بضع كلمات في القصائد كأنها تحكي عن أسرارٍ ما عادت بالأسرار، فعندما يُباحُ بالسرِّ تموت كل الألغاز وتفنى، فتتكرر مراراً كلمات: المطر والوطن والحلم والقبلة والضوء والورد والشمس والليل والعتمة، فإذا أردنا أن نسقطَ ذلك على الجوهر والمضمون، نستخلص رغبةً في الوضوح والتقهقر مُكرهة نحو العتمة حينما يتوارى لون الضياء، إنه توق للفرح والمتعة والحياة، في ظل هجوم لا ينكفئ لجحافل من الأحزان. تقول دورين مرةً جديدةً:

"أدركت أني نسيت حلمي

منشوراً على حبل الغسيل

فيما كنت أنام بعينين مفتوحتين

وكل المعابر إلى أعماقي مغلقة."

يشكل الحلم مهرباً وحلاً سهلاً لنا أمام تعقيدات الحياة وانكسارات الأمل، فنلجأ للحلم لعلَّه يحقق لنا بعضاً من الامتيازات حتى ولو على شكل حُلمٍ يتبخر ويتسرب من نافذتنا عند فتح الجفون عند الصباح.

أو يكون مثل النحت على الهواء كما هو عنوان المجموعة ويخامرنا سؤال ملح على الدوام : هل الحلم عند دورين دواءٌ وشفاءٌ أم هو مجرد جُرعة مورفين؟

بالطبع يموت المرء حينما يتوقف عن الحلم، يموت المرء حينما يموت الضوء في أخر النفق، وحينما ينتحر الأمل، وتُرجم بالحجارة كُل أمنياتنا.

ربما هي دعوة لكي نبقى نحلم، لكي نبقى نحب ونعشق، ولكي نبقى نحيا ونحيا، رغم كل عصور الخيبات.

أختم بسطورٍ من قصيدة الدكتورة الأستاذة دورين نبيل سعد:

"على ضوء الحلم كنت أشعلُ أخر شمعة

فوق باقة زهور

أنا أهوى الأحلام

التي تقيم في رحم الحياة."

***

بقلم جورج مسعود عازار

 ستوكهولم السويد

في المثقف اليوم