قراءات نقدية

رحمن خضير عباس: وطن في تاكسي

عن دار السومري للطباعة والنشر والتوزيع، صدرت مجموعة قصصية للكاتب ماجد زغير بعنوان (وطن في تاكسي)، شحن فيها تجربته عن الحياة الكندية من خلال إقليمي أدمونتن وأونتاريو الكائنين في غرب ووسط كندا، وذلك من خلال عين سائق التاكسي المبصرة والتي تكشف طبيعة المجموعات الإثنية التي انصهرت في هذا المُناخ السوسيولوجي المتعدد، والذي يؤطر بالكيان الكندي، سواء من سكانه الأصليين أو المجموعات البشرية التي هاجرت منذ عقود. لقد كانت عيون ماجد زغير ترصد هذه الأجيال وهي تعيش أفراحها وأتراحها، وتتعايش مع هذه البيئة الشرسة في ظروفها وتضاريسها، والتي تمتد إلى القطب الشمالي المتجمد، مما انعكس على طبيعة الفرد الكندي،حيث جعلته هذه المعطيات منكفئا على نفسه، محاطا بعزلة ووحدانية ، وكأن ذلك انعكاس لحدة ما يحيط به ، حيث الأبعاد الهائلة لأرض غير مأهولة، يغمرها الثلج في أغلب أشهر العام، بدرجات من البرودة الشديد التي تنعكس على العلاقات الاجتماعية ،وكأنها تستمد من الطقس برودته.

وقد التقط الكاتب تلك الهموم اليومية من الناس أنفسهم، من خلال علاقاتهم ببعضهم. وقد سجل هذه الحكايات والمواقف الطارئة، والتي يقتضيها صعود الراكب من نقطة انطلاقه من البيت أو العمل أو البار والمقهى حتى وصوله إلى غايته.  ويبقى الكاتب شاهدا على الأحداث، مراقبا للسلوك البشري وهو في حالة ضعفه أو قوّته، يأسه أو فرحه. وقد احتوى الكتاب على أكثرَ من خمسين قصة قصيرة،  ضمنها في كتابه الذي عنونه (وطن في تاكسي).

وإذا توقفنا عند عتبة العنوان باعتباره نصّا موازيا، فلا نرى علاقة بين الوطن ومعظم القصص، سوى بعض الإشارات العابرة بين الزبائن( وأغلبهم من الكنديين) وبين الراوي الذي هو من أصل عراقي، ولو كان الوطن حاضرا في القصص التي تضمنتها المجموعة، لامتلك العنوان ذريعته.

تعتمد القصص في أغلبها على المكان، والذي يتمثل في مقاعد سيارة التاكسي، وعلى طرفين: السارد وهو سائق التاكسي، والشخص الآخر، أي الزبون، والذي يتكوّن عادة من شخص أو مجموعة أشخاص. أما الزمن فلم يحدده الكاتب ولم يشر إليه، ولكنه في أغلب الأحيان لا يستهلك إلا حيزا قصيرا. أما أغلب أبطال القصص فهم من القاع الاجتماعي؛ شباب محبطون يبحثون عن المال بأية طريقة ولا يتورعون عن ارتكاب الجرائم في سبيل تلبية حاجاتهم، أو مجموعة من سماسرة ومتعاطي المخدرات، أو النساء اللواتي يَخُنّ أزواجهن، أو عن سكارى يطلقون العنان لمشاعر غير أخلاقية.كما تناولت بعض قصصه موضوع المثلية في المجتمع، وصدور القوانين التي تحمي المثليين وتجرّم من يتعرض لهم. ولم يكتف بذلك بل تصدى لثروة رجال الدين، والذين يعظون الناس بالزهد ولكنهم يتمتعون بقصور الرفاهية والفخامة.   أحيانا يسمي أبطال قصصه بأسمائم، وأحيانا أخرى مجرد نماذج أو هياكل بشرية عابرة، مثل أوليفيا الفتاة اللعوب التي تنجرف لعواطف رخيصة مع رجل تتعرف عليه للتو،وتريد أن ترتمي بين أحضانه، ولكنّ أمه الخائفة عليه طردتها بإشارة بليغة بقولها مخاطبة ولدها :" أوليفيا رائعة لا تنس أن تعرفها على زوجتك حينما تعود من إمستردام".

كما تحدث في قصة أخرى عن شخص كهل وحزين، يندب حظه، لأن زوجته استولت على نصف ممتلكاته وانفصلت عنه للبحث عن عشيق أو شريك يلبي رغباتها، وقد تبين من خلال القصة أن الرجل يحسدنا – نحن الشرق أوسطيين- بأن المرأة الشرقية لا تفعل ذلك، لأن القانون سيقف مع الرجل بعكس كندا، حيث الحقوق بجانب المرأة،مهما أخطأت.

كما يترشح للقارئ أن ثمة الكثير من الحكم والمواعظ التي تظهر أحيانا في ثنايا النصوص كموقف الأم التي طردت ابنها من البيت كي تعلمه، الاعتماد على نفسه، أو كما قالت:

"الولد يحتاج إلى جهد كي نصنع منه رجلا "

أو تلك المرأة المسنة التي أهدرت الكثير من الوقت الثمين لسائق التاكسي، وهو في عجلة من أمره للحاق بزبائن آخرين، وحينما لاحظت تبرمه من بطء حركتها وهي تنزل من سيارته، فقالت له عبارة كبيرة في مدلولاتها:

"إياك أن تكبر في السن ".

وعلى نقيض الشخوص السلبيين الذين اختارهم، فهناك بعض النماذج الإيجابية، ومنهم تلك الفتاة التي استقلت سيارته التاكسي في يوم شديد البرودة، وحينما رأت من خلال الزجاج أن طيرا جريحا ينازع في مساحات ثلجية، فخرجت تطارده من أجل إنقاذه، متحدية الصقيع، لتمسكه، وبعد ذلك تصر على نقله إلى دائرة إسعاف الحيوانات، تاركة مواعيدها وعملها.

ورغم الصيغة القصصية التي تبناها الأستاذ ماجد زغير في مؤلفه، ولكنها  تخلو من الأخيلة التي يقتضيها الأسلوب القصصي، مما يوحي بأن تلك القصص شكل من أشكال اليوميات،وإذا شئنا المذكرات التي تتناول تجاربه في العمل، وهذا لا يقلل من شأنها، لأنه حاول الاندماج في المجتمع الجديد، متطامنا معه، راصدا لأسراره وخفاياه التي لا تبدو أنها بارزة في حياتنا اليومية، ولكنها تتجسد واضحة في الليل، حيث وسائل اللهو والبارات ونوادي الرقص أو التعري والتي تتركز في مدن كندا الكبرى ، والتي تنطوي بدورها على الكثير من الخفايا والأسرار. وقد كان الكاتبُ صادقا ودقيقا بنقل الكثير منها حرفيا. ولكن ذلك يؤثر على عملية الإبداع الأدبية، التي تقتضي تلوين العمل القصصي بأدواته الجمالية،  ومنها الصور الفنية ورسم المواقف والملامح وإبراز المشاعر ،كي تظهر القصة وهي تنضح بالحياة.

ومع ذلك فقد جاءت القصص حافلة بالمتعة من خلال سيل من المواقف الطريفة والمتناقضة والحادة،وبعضها ذات صيغة تحاكي القصص البوليسية، والكثير منها يُثير فضول القارئ غير الكندي، كما أنها تقدم له بعض الجوانب غير المرئية عن طبيعة الحياة الكندية.

***

رحمن خضير عباس

في المثقف اليوم