قراءات نقدية
سمير اليوسف: قراءة لقصيدة "أنا لا أكتب حسب الطلب" للشاعرة مجيدة محمدي

"الكتابة كفعل وجود: قراءة في تمرد القصيدة على الطلب"
في قصيدة "أنا لا أكتب حسب الطلب" للشاعرة مجيدة محمدي تسجّل الشاعرة موقفًا وجوديًا من فعل الكتابة، موقفًا يعيد ترتيب العلاقة بين الشاعر ونصه، بين الكلمة وسياقات إنتاجها، بين الصدق الشعري ومتطلبات السوق، فتأتي القصيدة عنوانًا وصرخة، وموقفًا لا يحتمل التأجيل. العنوان ليس مجرد مفتتح للنص، بل هو لبّ القصيدة كلّها، جوهرها وشكلها في آن. إن عبارة "أنا لا أكتب حسب الطلب" تحمل في طيّاتها رفضًا معلنًا للامتثال، وإعلانًا صارخًا للحرية الإبداعية، وترسيخًا لرؤية ترى في الشعر ضرورةً داخلية لا تُقاس بمقاسات الذوق العام، ولا تُكيّف نفسها وفق الطلب الخارجي، بل تنبع من الداخل، من ذات تعي ما تكتب، وتكتب لأن الكتابة وحدها تتيح لها أن تكون.
منذ السطر الأول، تخلع الشاعرة قفازات المجاملة، وتدخل النص حافية الوجدان، لتعلن أنها لا تعبّئ المعاني في علب أنيقة بمقاسات السوق، فالتشبيه هنا يفضح الاستهلاكية التي غزت اللغة، ويُعرّي مفهوم الشعر المُعدّ مسبقًا كسلعة تُقدّم في غرف قياس اللغة لزبائن مترددين. هي لا تكتب كما يُفصّل القميص على ذوق المستهلك، بل تنسج القصيدة كما تُنحت الذات، بكامل تمردها ونتوءاتها. فاللغة لديها ليست قالبًا يُصبّ فيه المعنى، بل هي الجمر الذي تسير عليه، والشظايا المغروسة في عمق اليوميّ.
وفي هذا السياق، ترفض الشاعرة أن يكون الشعر خاليًا من الصدق، مفضّلة الانحياز لما هو حيّ حتى وإن كان موجعًا، على ما هو مُصطنع وإن بدا جميلًا. تقول: "فأنا لا أؤمن بالـ 'خالٍ من'، ولا أعترف بالمواد الحافظة في نصوصي، ولا أستخدم أدوات التجميل اللغوية". هذا التعداد الثلاثي يختزل موقفها الشعري: إنها لا تلجأ إلى الزينة، ولا تستخدم القناع، بل تضع الحقيقة كما هي، ببثورها، بندوبها، وبملامحها التي صنعها التاريخ على وجه الحقيقة. ويأتي هذا الرفض كتجلٍّ لرؤية أخلاقية قبل أن تكون جمالية، فالنص ليس مرآةً ناعمة للواقع، بل خنجر يعرّي سطح الأشياء.
يتحوّل الشعر، في منطق مجيدة، إلى فعل مقاومة، إلى يقظة في وجه النسيان. فهي لا تكتب حسب رغبة الآخرين في نسيان ما لا يُنسى، ولا وفق جدولهم الأسبوعي لمواعيد الانفصال عن الواقع. هي لا تكتب لترضي، بل لتقلب وسائد القارئ قبل النوم، فتوقظه على شظايا النهار التي بقيت مغروسة فيه. هذا التصوير الشعري ليس عاديًّا؛ إنه يجعل من القصيدة حجرًا صغيرًا في حذاء الطمأنينة، ومسمارًا في نعش الركود. فالكتابة لا تستكين، بل تفجّر المخبوء، وتهتك ستار الراحة الزائفة.
الشاعرة هنا تنفي عن نفسها صفة التاجر اللغوي، قائلة: "أنا لا أبيع الحروف، ولا أملك دكانًا في سوق البلاغة، ولا أفتتح عروض 'اشترِ واحدة واحصل على استعارتين مجانًا'". هذا السخرية المريرة من بلاغة السوق، ومن عروض الشعر المغشوش، لا تمس اللغة وحدها، بل تطعن المؤسسة الشعرية المعاصرة، تلك التي جعلت من النص حدثًا تسويقيًا، ومن الكلمة طُعمًا للضجيج. بينما الشاعرة ترى في الكتابة حاجة تنبع من الداخل، من خفقة القلب، من ضغط الهواء على الصدر، من نبض الكينونة: "لأنني لو لم أفعل، لنفى الهواء نفسه من صدري، وتحول القلب إلى رصيف مهجور".
وتتخذ اللغة بعدًا أخلاقيًا حين تقول: "أنا أكتب لأن الكلمات تطالبني بالعدالة، وتضع على طاولتي فواتير الأيام المنهوبة". هنا تتحول المفردة إلى شاهد في محكمة الذاكرة، وإلى صوت يُعيد صياغة الزمن المنهوب. الكتابة ليست ترفًا، بل ضرورة وجودية، محاولة أخيرة لإنقاذ الصدق من الاختناق في زحام عناوين لا تقول شيئًا، وصورٍ لا تنظر إلا إلى نفسها. وكأن القصيدة هنا تفكك لغة الاستعراض الفارغة، وتعيد الاعتبار للمعنى بوصفه أداة كشف، لا مرآة زائفة.
ولا تكتفي الشاعرة بهذا القدر من التمرد، بل تُشهر رفضها لأن تكون "صالحة للنشر"، وتستخف بأن تُعلّق على جدار مهرجان، لأن الكتابة لديها لا تشبه عرض الأزياء، ولا تخضع لمعايير لجان التحكيم. إنها فعل شبيه بزلازل الأرض، بصراخ الخشب تحت منشار الفقد، بانفجار حبة الرمان في وجه السكين. هذه الصور المجازية، على كثافتها وبلاغتها، لا تأتي من فراغ، بل من واقع داخلي ملتهب، من تجربة معيشة لا تحتمل الزيف.
وهي حين تقول: "أنا لا أكتب كي أمر عبر بوابات الرقابة بسلام، ولا أضع كمامة على فمي حين أكتب"، فهي تُعلن صراحة أن النص فعل حرية، وأنها تكتب بوجهها الحقيقي، لا بنسخة مفلترة منه. هذه المواقف ليست شعرًا فحسب، بل فلسفة في الكتابة، فلسفة تُجذر الشعر في الأرض، في الألم، في الوقوف حافيًا على جمر الأسئلة. وحين تقول: "أنا أكتب بمبادئي، التي لا تدخل المصعد مع أصحاب الياقات البيضاء"، فإنها تعزل نفسها عن نخبوية مزيفة، وعن تصفيق المصالح، وتعيد للكتابة طهرها الأول.
وفي آخر النص، لا تتوسل التصفيق، بل تُعلن: "أنا لا أكتب كي تصفقوا لي، بل لأصرخ، لأعترف، لأشهر وجعي علنًا، وأتركه يمشي في الشوارع، بلا خجل، بلا أقنعة، بلا تخفيضات موسمية". هي تكتب لأن الصمت خيانة، ولأن التنكر للوجع جريمة. تكتب كي تحرّر الكلمات المعلقة في غرف التحقيق، الكلمات التي قُمِعت لسنوات، وعُلّقت كما تُعلّق الحقيقة في دهاليز السلطة والرقابة.
ويأتي الختام سؤالًا فلسفيًا يلخّص كل هذا الموقف: "لأنني لو كتبت كما تريدون، فمن سيكتبني كما أنا؟". في هذا السؤال، تكمن كل معاناة المبدع مع الذائقة العامة، وكل صراع بين الذات والمعايير، بين الحرية والقوالب. إنه ليس سؤالًا بلاغيًا، بل صيحة وجودية، تكثّف قلق الهوية، وتُعيد الاعتبار لفعل الكتابة بوصفه فعلًا للنجاة.
وهكذا، تتحول القصيدة من مجرد نص شعري إلى بيان شعري وجودي، ومن تجربة لغوية إلى موقف أخلاقي وجمالي. تتقاطع فيها البلاغة مع الفلسفة، ويتصاعد فيها الصوت الشعري حتى يصير صرخة تتردّد في الذاكرة، لا تنسى، ولا يُراد لها أن تُنسى.
***
بقلم: سمير اليوسف
...............................
أنا لا أكتب حسب الطلب
مجيدة محمدي
أنا لا أكتب حسب الطلب،
ولا أعبّئ المعاني في علبٍ أنيقةٍ بمقاسات السوق،
ولا أطبع القصيدة كأنها قميصٌ صُنع ليُرضي ذوق الزبائن المترددين ،
في غرف قياس اللغة.
أنا لا أكتب شعراً خالٍ من الصدق،
فأنا لا أؤمن بالـ "خالٍ مِنَ"،
ولا أعترف بالمواد الحافظة في نصوصي،
ولا أستخدم أدوات التجميل اللغوية كي أخفي البثور
التي صنعها التاريخ على وجه الحقيقة.
أنا لا أكتب حسب رغبتكم في نسيان ما لا ينسى،
ولا حسب جدولكم الأسبوعي لمواعيد الانفصال عن الواقع،
أنا لا أكتب كي أريحكم،
بل لأقلب وسائدكم قبل النوم،
وأتأكد أن كل شظايا النهار ما زالت مغروسة في أعماقكم.
أنا لا أبيع الحروف،
ولا أملك دكاناً في سوق البلاغة،
ولا أفتتح عروض "اشتر واحدة واحصل على استعارتين مجاناً"،
أنا أكتب، لا لأنكم طلبتم،
بل لأنني لو لم أفعل،
لنفى الهواء نفسه من صدري،
وتحول القلب إلى رصيفٍ مهجور.
أنا أكتب لأن الكلمات تطالبني بالعدالة،
وتضع على طاولتي فواتير الأيام المنهوبة،
أنا أكتب كي لا يموت الصدق اختناقاً
في زحام عناوين لا تقول شيئاً
وصورٍ لا تنظر إلا إلى نفسها.
أنا لا أكتب كي أكون "صالحة للنشر"،
ولا كي أُعلّق على جدار أحد المهرجانات،
أنا أكتب كما تصرخ الأرض حين تلد زلزالها،
أكتب كما يئن الخشب تحت منشار الفقد،
كما تنفجر حبة رمان في وجه السكين.
أنا لا أكتب كي أكون على مقاس قلقكم،
ولا كي أمرّ عبر بوابات الرقابة بسلام،
أنا لا أضع كمامةً على فمي حين أكتب،
وأخلع قناعي ولا أخشى من أن النص "لا يحتمل" وجهي الحقيقي.
أنا أكتب حسب قناعاتي،
التي تسير حافية القدمين فوق جمر الأسئلة،
أنا أكتب بمبادئي،
التي لا تدخل المصعد مع أصحاب الياقات البيضاء،
ولا تنتظر دورها في طوابير المديح.
أنا لا أكتب حسب الطلب،
بل حسب النبض، حسب الألم، حسب الرؤيا،
أنا لا أكتب لإرضاء "اللجنة"،
بل لأُرضي الغصة في حلقي،
وأحرر الكلمات التي عُلّقت لسنوات
في غرف التحقيق.
أنا لا أكتب كي تصفقوا لي،
بل لأصرخ، لأعترف، لأشهر وجعي علناً،
وأتركه يمشي في الشوارع،
بلا خجل، بلا أقنعة، بلا تخفيضات موسمية.
أنا لا أكتب حسب الطلب،
أنا أكتب لأنني لا أعرف أن أكون غير ذلك،
لأنني لو كتبت كما تريدون،
فمن سيكتبني كما أنا؟
...من سيكتبني كما أنا؟