قراءات نقدية
الطيب النقر: جدلية الموت والحياة في الآداب الغربية (2)

رواية موت "إيفان إيليتش" لليو تولستوي
إن فكرة التناهي، لا تتخذ في واقع الأمر، شكلاً واحدا في الآداب الغربية، فالموت الذي يقوم الرعب بتعريته، وتقديمه إلى الناس، هو الجملة الأخيرة التي تقول كل شيء، هو الحجة الصادقة، التي زادها التماهي القائم في الوعي الغربي، بين الفلسفة والدين، رهبة واسعة طاغية، في أوساط التيارات الأدبية، التي تعددت منهاج تأويلها، وفكرها المتمحور حول الحتف نفسه، فالمنية صياغة اطارها المنهجي مكتمل الدائرة عندنا نحن، لأن الوفاة في مجتمعاتنا المسلمة، مرتبطة بديمومة الحياة واستمرارها، فنحن نعجب بالفوت، ونأنس إليه، ونسعى أن يتصل شبابنا به، بعد أن تشدقنا بألفاظ التضحية، والفداء، في بيئاتنا العربية الخاصة، فحقيقة الهلاك التي لا نفكر إلا فيها، ولا نعني إلا بها، يخشاها الغرب، ويتوجس منها، ويعتبرها انجراف إلى نمط من المتاهات العصيبة، يصعب التوفيق بين مقتضياتها، فتأويلات الغرب لفكرة الفناء، لا تمضي على وتيرة متشابهة مثلنا نحن، فالغرب يقر بأن الفناء، تأويل واف لتاريخية الإنسان، ودورة تكوينه الأزلي، و يدرك بأن من المستحيل تجاهل الربط التلازمي بين الحياة والموت، ويعينه مخزونه العقدي والثقافي، لئلا يمعن في اتجاهات ومشارب شتى، في تعليل تلك الحقيقة الغائبة الحاضرة، التي لا تطرح أي اشكالات نظرية، ترتبط بمباحث البرهان، والتأويل العقلي، فهو إذن يؤمن بهذا الترابط،ولكنه يخضعه لأدبيات التحسين والتقبيح، فالغرب لا يتدبر في كثافة وحميمية هذه الروابط، التي يزخر بها تصورنا الإسلامي لحقيقة الاندثار، لأن آدابه وما اتصل بها من أساطير وفلسفة، نشأت في منظومة بنيوية، سياقها الأيديولوجي الرائج، يقدس الحياة وينفر من الردى.
إلا أن السؤال المطروح هنا بقوة، إلى أي حد، قد أثرت هذه التيارات العاصفة، والمرجعيات الفكرية والفلسفية، التي شكلت حركة التثاقف والوعي الغربي، على "ليو تولستوي-1828-1910" وهو يخط روايته التي نحن بصددها، المرجعيات التي يجوز لنا أن ننظر إليها كعقبات مقيدة، أزرت بكنه الموت حتى في نسقه العقدي، من المؤكد أن رواية" موت قاضي" كما أسماها صاحبها، لم تتحرر من تبعاتها، أو تخرج من ضائقتها، فنحن لا نستطيع أن نتتبع المسار الاجتهادي الحر، لهذه الرواية التي خلت تفاصيلها من المعاظلة والالتواء، لأنها بتعبير قاطع، مكبلة باشكاليات الأطر والمدلولات، التي تنهض على تصورات مغايرة للالوهية والخلق، فتلك المعاني والمفاهيم البالية، يحتاج الغرب لاعادة صياغة أصولها، وفق مقتضيات عصرنا، وتحولاته المتعاقبة، ومن الحق أن الرواة، ينبغي أن يصطنعوا كل الوسائل من أجل اقصائها، وتحييدها عن الأعمال الأدبية، فما هي هذه المضامين والسياقات، التي كان من الممكن أن يستحدثها " ليو تولستوي" في مستقبل أيامه، وتعينه أن يمضي في هذه الحياة في غير سأم، أو ملل أو فتور؟؟. لقد اتخذ "ليو تولستوي" هذه الرواية أداة قيمة لابلاغ ما يريد أن يبلغه لقرائه، فرواية موت "إيفان إيليتش" التي تم نشرها لأول مرة عام 1886م
على وجه التحديد، تعبر عن سياقات خارجية، وبنيات اجتماعية، اصطدم بها مؤلف الرواية، وهو يتحدث إلى الكنيسة التي هجر دينها ردحاً من الزمان، ودعاها في صراحة ووضوح، إلى أن ترافقه في أفكاره، أفكاره التي كانت أوسع مجالاً، من الخصائص الصورية التي تؤمن بها كنيسته، أخذ "ليو" يتحدث إلى وجوه "دولتها"، ويدعوهم في عزم لا يعرف الضعف، وتصميم لا يعرف التردد والفتور، لأن يجددوا الصلة "بانجيلهم" الذي بات لا يهضمه أو يستسيغه، فتعاليم كتابهم التي لا يقفون عندها، ولا يفكرون فيها إلا قليلا، تحثهم على نبذ العنف، وبسط السلام، و تحقيق العدل، وهم أنأى الناس عن هذه الخصال، أخذ" تولستوي" ينفق أيامه ناقداً، ساخراً، متندراً على الكنيسة وطابعها الاشكالي المعقد، والكنيسة التي انصرفت عنه، ولم تجبه، استقر في نفسها، أن تسلك معه غداة كل يوم طرقاً جديدة، تكفل لها أن يرعوي ويصمت، فتارة تلقاه رفيقة به، عطوفة عليه، وتارة يجدها نافرة منه، معرضة عنه، ساخطة عليه، فلما أضناها اصراره و تعنته، رمته بفرية الخبل والجنون، لقد كان حقاً نفور "تولستوي" من الكنيسة عاماً شاملاً، يمسه في أشد الأشياء لزوماً له، فطبيعته الإنسانية في مستوياتها المتنوعة، تتدفعها تلك التصرفات الممجوجة، عن الاحجام، والرضوخ، إلى تعاليمها، خاصة بعد أن تجافت عن قيمها الضابطة لسلوكها، واستباحت لنفسها أن تجدد في بنيتها الأصولية الكلاسيكية، بممارسات شاذة، وعسف قضّ مضاجع الأشقياء، هذا الجور المتعاظم، كثافته المطلقة، يجوز لنا حصرها، في الزام الشرائح الكادحة، التي تجد بالكاد ما يقيم أودها، ويسد رمقها، بأن تقتطع من نفقات حياتها اليومية، لتمدها بالمال، اتخذت الكنيسة التي اعتادت على نهب الثروات، هذا المنحى الذي لا ينسجم مع رسالتها، و"ليو" لما رأي كل هذا الحيف والطغيان، لم يخرج أهله من الصمت إلى الكلام، ثار على هذا النظام الطبقي الملتحف بالدين، والقوى الغيبية، وأعلن في سياق محاربته لرهبانها، وقساوستها، وأساقفتها، بأن مبادئهم العقدية والدينية، إضافة لسلوكياتهم الفجة، لا تقنع الناس بأن وضعهم الراهن هو الوضع الأمثل، الذي يجب أن يرضوا به، ويشكروا الرب عليه، هذا شيء، شيء آخر جعل "ليو تولستوي" يوغل في معاداته للكنيسه، وهو احساسه الذي يخامره، بأن الكنيسة لم تجب على أسئلة جوهرية تتعلق بحياته الروحية، وذاته التي تنسجم في جوهرها مع الفلسفة الوجودية، التي تؤمن بأن مدار الغلبة، والقوة هو للنفس، التي يشتد عليها الالحاح، ويكثر حولها الاغراء، وتطوف عليها ألوان الترف، فلسفة تأتلف من الفرد، وتذعن لحقوقه، وتتغاضى عن حقوق الجماعات، فلسفة طابعها الهلامي، هو اقصاء البعد الروحي، والتجرد من كل اعتقاد يقف حاجزاً، وسداً منيعاً، أمام رغبات الذات، وهي فلسفة من ضمن فلسفات الشك والريبة التي اجتاحت المجتمع الغربي، وعملت على تقويض هيمنة التثليث المسيحي في القرن العشرين، و" ليو" الذي أظهرت الكنيسة عجزها عن رده إلى صوابه، ظلّ يدعوها إلى المرونة والتحاور، بين أطياف مجتمعها، دون تكفير أو اقصاء، ولكن الكنيسة التي أيقنت أن "ليو" الذي يقف أمام "أكسيولوجيتها" موقف الهادم، لم تسلك معه أي طريقة ايجابية، ونحن نعد هذا الصراع الحامي بين "ليو" والكنيسة، "آلية مهمة" لفهم الملابسات، والارتباطات، التي حولت هذا النزاع، لنبوغ ذاتي أثمر عن ميلاد هذه الرواية، "فتلستوي" الذي كان قلة من الناس، تفكر مثل تفكيره، وتحس مثل احساسه، كان من الطبيعي، بعد أن ركضت قدماه في مضمار تلك الفلسفات الحداثية المموه التي نحته عن عقيدة التثليث، أن يلجأ للأدب حتى يستأصل "قصعة" الاشمئزاز عن نفسه.
ليس بوسعنا إذن أيها السادة، أن نشغل موقفاً مغايراً، ونزعم أن "ليو" كانت غايته من وراء تأليف روايتة القصيرة جداً بين رصيفاتها، هو تسليط الضوء على الطبقة الارستقراطية، وعلى مظاهر ترفها ورفاهيتها، كلا، لم تكن تلك غايته، بل كان الهدف الذي ينشده هو أن يكفكف من غلواء امتعاضه، بعد أن ألجئته الظروف، وما اتجه إليه من فلسفة وأفكار، إلى التفريق بينه وبين الكنيسة، لقد كان كل سطر من هذه الرواية، يصدره عن طبع ساخط، فرواية "موت قاضي" إذا دققنا النظر فيها، لوجدناها في مجملها، ناقمة على الحياة التي تتلاشى بالموت والزوال، وعلى عقائدها التي تضمحل بالعبث والتعصب، وعلى حضارتها التي تندثر بالجهل والمحاباة، وعلى قوانينها التي تنتفي بالتعسف والافتعال، وعلى أخلاقها التي تتمحق بالسرف والشهوات، وعلى صلاتها التي تتداعى بالغلول والآثرة، وبطل الرواية "إيفان إيليتشي" الذي استحال طمعه في ملذات الدنيا، إلى دموع غلاظ، تحدرت على عينيه قبل رحيله، هو الشخصية المحورية التي أخفى خلفها تولستوي" شخصه"، فالقاضي إيفان استقى تصوراته وقوانينه، من عقل" تولستوي" الخالص، فالهدف الذي تسعى الرواية من تحقيقه، هو مقصد الفرد، لتحقيق غاية يفترض وجودها على نحو يقيني، وأن ينتحل هذا الفرد، من الشرائع والقوانين، ما يحقق له هذه الغاية التي رسمها لنفسه، وهو في رحلته لتحقيق تلك الغاية، يجب أن يبعد أي طابع ديني، أو تصور عقلي، أو صيغة أخلاقية، تتعارض مع هذه الغاية، التي اشرئبت إليها نفسه، هذا الترابط العام الذي اشتملت عليه تفصيلات رواية "موت قاضي"، وخصائصها التي حيدت الفضيلة، وآمنت بأن يذهب الطموح إلى أقصى مدى، تتوافق صيغها، وعناصرها، ومسلماتها، مع مبادئ ومثل الفلسفة الوجودية، التي خضع لها عقل "ليو"، وعمل على ابراز ما فيها من "سمو وعظمة"، هذه الدوافع التي أشرنا إليها آنفاً، تقضي قضاءً مبرماً، على الفارق النوعي بينها، وببن فكرة الحريات، التي يجب أن تخضع لنظم الأديان، والقوانين الأخلاقية، فالحريات التي تقوم على أساس الشعور، وتحقيق النزعات المسلم بها، نستطيع أن نكبح جماحها، بأطر الدين، الذي يعمل على إشباع هذه النزعات، والميول، وفق رؤية واسعة تراعي الضعف البشري، حتى لا تكون سبباً من أسباب العداوة، وسبيلاَ من سبل الفرقة.
وفكرة الندم التي نعتبرها السمة الطاغية، في محاور رواية موت "إيفان إيليتش" التي تتحدث عن قاضي حاز على نصيب وافر من رجاحة العقل، وسمة الادراك، كانت المملكة الشاملة لغاياته ومراميه، عنوانها هو التدرج في السلم الوظيفي، حتى يصل إلى مكانة مرموقة، تؤهله لأن يتزوج من فتاة بارعة الحسن، رائعة الجمال، وأن ينجب أطفالاً، ويقتني دوراً يعمل الخدم في تنظيف غرفها، وتشجير ساحاتها، وأن يحظى بمكانة اجتماعية رفيعة، وغيرها من الضروريات، التي لا يستطيع شخصاً يريد أن ينتمي للسلالات الارستقراطية، أن يشيح بناظريه عنها، وقد تحقق له قسطاً وافراً من تلك الأماني، شرع "إيفان" بالخطو إلى الأمام، فاكترى بيتاً، في منطقة تعج بتلك الطبقات المخملية، التي يتخذ الناس حيالها ما يلزم من حيطة واحتراس، وبدأ في تأسيس ذلك المنزل الزاهي الألوان، الفسيح الأركان، ولكنه سقط عند تركيب ستائر منزله، سقطة لم يلقي لها بالاً، أردته فيما بعد، قبل أن يصل إلى حافة تلك المرحلة، التي يتعاظم فيها المرض، ويكثر فيها الكلل، ويصدح فيها الأنين، مرحلة الشيوخة التي تستفحل فيها الأخطار التي تحيط بصاحبها،، مكث إيفان ثلاثة أشهر، يغالب هذا الداء الذي بدأ ينخر في عظامه، وأثر في كليته، التي ضمرت وتقلص حجمها، وأخذ الناس في الكف عن اجلاله وتوقيره، وبات يسمع ضحك أفراد أسرته وابتهاجهم، وهم ينتظرون في نشوة وافتنان، خبر مصرعه، كانت حياته بعد المرض موحشة بما فيه الكفاية، قضاها هو ملقى على فراشه، يستقبل جموع الأطباء، وتقريع زوجته التي أمضى عمره معها في مناكفة مستمرة، على عدم انتظامه في تناول الدواء، لقد فقد "إيفان" معياره القيمي في تلك الأشهر، وتنكرت له كل عائلته عدا ابنه الصغير، وخادمه المخلص، هذه الأشهر القليلة، أخذت تجر وراءها تاريخاً طويلا، تاريخ نشأته، وتطور أشكال حياته، وأخذ الشعور التي يفرض نفسه بشدة عليه، حتى اعتلى منزلة الصدارة عنده، هو الاحساس بالندم، الندم الذي كان أشد وأعمق من علله الحسية، أتاح له التمادي في قدح نفسه وتوبيخها، على العقود التي أنفقها، من أجل مناصب يأمن في حماها، ويستريح في أرجائها، المراكز التي جعلت عقله يتمرس، ويعتاد على نوع من التقييم، كان يجد فيه سعادته، وتدفعه تلك الغبطة، لتقدير أرقى وأرفع، من التعظيم الذي سبقه، ندم" إيفان" على تبديد سنوات عمره، التي أمسى يتكهن بنهايتها، في تحقيق طموحات، لن تحرره من تلك اللعنة التي نزلت عليه، ظلّ "إيفان" عاجراً عن التخلص من الأذى العميق الذي ألحقه بنفسه، وبقى ممتطياً ظهور جياد الندم طيلة تلك الأيام، وتجلت مواهبه في آخر أيامه، في معاتبة ربه على فداحة هذا البلاء، الذي اصطفاه به، لم يكن "إيفان" موفقاً في إظهار بؤسه لربه، حتى غدا هذا العتاب لا يحتمل، ولا يطاق، ونحن لا نعتقد أن هذا العتاب المرير، سببه هو الوهن العميق، والحسرة الرازحة، والكآبة القعساء، ولكن دوافعه هي تخفيف الوطأة عن الوجدان، لقد كان "إيفان"، في ظل شعوره بالضعف، وتوعكه المتزايد، يحتاج أن ينظر لألمه، بوصفه عقاباً وقصاصاً من ربه، حتى ينتزع من نفسه البشرية، تظاهرات الوجع المريع، أمضى "إيفان" آخر ثلاثة أيام من عمره، في استياء، وندم، وامتهان لذاته، ويقينه الراسخ أنه هالك لا محالة، "وليو تولستوي المتخفي وراء ظلال شخصية "إيفان" جعل نشاطه الذهني في آخر ثلث من هذه الرواية، هو رصد انفعالات النفس، وانكساراتها، ويضاف إلى ذلك، إشاراته التي لم تكن موجزة، أو مقتضبة، تجاه تعاطي عائلته، ومحيطه، عندما تنامى إلى أسماعهم خبر وفاة" إيفان"، فزوجته استنزفت طاقتها الفياضة، في الحصول على جنازة قليلة التكاليف، تواري فيها جثمان زوجها، كما أن وفاة زوجها التي لا تتناقض مع رغبتها، أعاقها عن تحصيل راتبه المجز، فالراتب أوفى من المعاش كما نعلم، لهذا طرحت هذه المسألة، بمزيد من العمق والصراحة، إلى صديقه المقرب، حتى يوضح لها ذريعة، تستطيع بها أن تحصل على معاش وافر، أما من أمضى العمر برفقتهم، فقد أظهرت تداعيات تلقيهم لنبأ وفاته، ثغرة هائلة تحيق بقيم الإنسان، فالحزن على "إيفان" لم يصرفهم عن لعبة الورق التي كانت بأيديهم، ولا الكمد الممض، استطاع أن يطرد تلك الآمال الواعدة، التي طافت بأذهانهم، لاعتلاء منصبه الشاغر.
رواية "موت قاضي" الجانب الموضوعي، والمهيمن عليها، هو المتاعب، والصراعات، التي خاضتها شخصية "إيفان" حتى تحقق مقاصدها، وتبرهن أن القيمة المثلى، التي لا تضاهيها أي قيمة، هي قيمة السعادة التي -في وجهة نظري- يجب أن نعتقها من كل قيد، وحتى تتحقق هذه المشاعر الفياضة، التي يمكن تحويلها إلى قاعدة، توزع البهجة على الآخرين، يجب أن تحلق الروح خارج إطار هذا الجسد.
***
د. الطيب النقر
الثلاثاء: 8/7/2025