دراسات وبحوث

إنما النسيء زيادة في الكفر

منى زيتونوصلني استفسار تعجبت له من إحدى قريباتي التي تعيش في دولة أجنبية، تسألني فيه عن صحة اعتبار أول هلال في برج الميزان هلال رمضان الحقيقي، ومن ثم بدء صيام شهر رمضان فيه! وعلمت منها أن هناك قوائم سنوية يعدها بعض الناس لموعد الصيام الصحيح على قولهم، ويعقدون الندوات لشرح وجهة نظرهم ولإقناع غيرهم بالصيام وفق منهجهم.

وأنا وإن كنت قد تعجبت عندما علمت بأن هناك من يصومون وفقًا لحساب النسيء، فالنسيء ذاته أمر ليس بأمر غائب عن علمي، وإن كنت أوقن أن كثيرًا مما يتعلق بالزمن وحساب الأيام والسنين لا يعلمه أغلب البشر في عصرنا رغم بساطته، وسبق أن تطرقت إلى بعض تلك الموضوعات في مقال سابق لي بعنوان "أيام وليالٍ".

وفي هذا المقال سأحاول شرح معنى النسيء، وكيف ولماذا كان العرب وبعض الأمم التي تعتمد السنة فيها على دورة القمر يضيفونه، ومنذ متى تم استبعاده من حساب السنوات القمرية عند العرب، وغيرها من الأمور التي لم أحسب أبدًا أن لها قيمة لتُحكى، رغم أني لم أقرأ لأحد تحدث عن النسيء ووجدته يفهم الكيفية التي كان العرب يضيفونه بها، لكن طالما الأمر صار إلى أن هناك من يتبع تقويم النسيء فقد أصبح الحديث واجبًا ومتطلبًا.

بدايةً، فكلنا نعلم أن الفصول الأربعة ترتبط بدوران الأرض الحقيقي حول الشمس، وحركة الشمس الظاهرية في البروج الاثنا عشر، وتكون عدد أيام السنة الشمسية الإجمالية 365 يومًا في السنة البسيطة أو 366 يومًا في السنة الكبيسة التي يتم فيها جمع الكسور المتبقية من حساب السنوات البسيطة.

بينما القمر يتم دورته الحقيقية حول الأرض في 27 يومًا وثلث اليوم، ولكن نظرًا لأن الأرض ليست ثابتة، وتغير موضعها باستمرار بدورانها حول نفسها وحول الشمس، فإن القمر يلزمه يومين إضافيين وسويعات ليتم الحركة الظاهرية حول الأرض، ليبدو للراصد من نفس المكان على سطح الأرض أن القمر أكمل دورة كاملة، فيستغرق إجمالي ذلك 29 يومًا ونصف يوم، ثم يُولد هلال جديد، ووفقًا لموعد ميلاد الهلال كل شهر وموعد غروبه في يوم مولده يتحدد ما إن كان الشهر السابق عليه سيُحتسب 29 يومًا أم 30 يومًا.

وينشأ من دوران القمر حول الأرض الأشهر القمرية، وكل اثني عشر شهرًا قمريًا يعادل سنة قمرية واحدة، عدد أيامها 354 يومًا، وبذا فهي تقل عن السنة الشمسية حوالي 11 يومًا، لكن عدة كل منهما 12 شهرًا بعدد البروج. وقد يبدو ظاهريًا أن السنة القمرية لا علاقة لها بالبروج، ولكن الحقيقة أن الهلال الجديد يولد بعد اقتران الشمس مع القمر في البرج الذي تكون فيه الشمس.

والآن نأتي إلى النسيء، تقول العرب: نسأ الشيء ينسؤه نسأً ومنسأةً ونسيئًا إذا أخّره تأخيرًا، والمقصود بالنسيء تأخير شهر المحرم فلا يبدأ مباشرة بعد نهاية شهر ذي الحجة، فلا تكون هناك ثلاثة أشهر حُرم متتابعة –من بين الأشهر الحُرم الأربعة- يحرم على العرب الإغارة والعدوان فيها، على عكس ما أراد الله عز وجل، ومن ثم فهو كفر بالله تعالى.

اختلف المؤرخون في شرح الكيفية التي كان يتم احتساب النسيء بها، والصحيح أن العرب قبل الإسلام كانوا يضيفون شهرًا واحدًا يُسمى النسيء مرة كل ثلاث سنوات قمرية، كما لو كانت كل سنة من الثلاث سنوات أُضيفت لها عشرة أيام، بحيث تكاد تساوي الثلاث سنوات القمرية إضافة لشهر النسيء (37 شهرًا قمريًا) ثلاث سنوات شمسية، وكان من المفترض أن يحافظ هذا النظام على توافق الشهور القمرية مع الفصول الأربعة.

وسبب إضافة شهر النسيء مرة كل ثلاث سنوات، وليس 10 أيام كل سنة، أن الشهور العربية ترتبط بظهور الهلال، فلا يُعقل أن تضاف 10 أيام متفرقة في كل سنة! فهل سيبدأ الشهر العربي يوم 11 بعد النسيء؟! قطعًا لا يصح.

وكان المفترض أن تتم هذه الإضافة للنسيء بين الأشهر الحُرم، وتحديدًا بين شهري ذي الحجة والمحرم، أي بين نهاية إحدى السنوات الثلاث وبداية السنة التالية لها، فمن ثم يتأخر شهر المحرم لتوسط النسيء بينه وبين ذي الحجة، فبعد ذي القعدة وذي الحجة من نهاية السنة يأتي شهر نسيء، ثم يتبعه المحرم بداية السنة التالية! ولكن صار يتم التلاعب في الجاهلية ويكاد يضاف النسيء عامًا ويُترك عامًا! بدلًا من أن يُضاف عامًا ويُترك عامين! رغم أن الإضافة عام والترك عام تكون استثناءً لتصحيح كسور الأيام المتجمعة من فرق عدد من السنوات، ولكنها صارت القاعدة عندهم وليس الاستثناء.

والسبب في هذا التلاعب أن العرب كانوا يحللون النسيء، فيحاربون ويغيرون ويعتدون فيه، على عكس الواجب اتباعه في الأشهر الحرم التي يتوسطها.

وفي أواخر السنة الثامنة للهجرة النبوية الشريفة، نزلت آيتان كريمتان متتابعتان في سورة التوبة، إحداهما تحدد أن عدة الشهور اثنا عشر شهرًا، وتؤكد على حُرمة الأشهر الحرم -فالحديث عن السنة القمرية لا الشمسية-، رغم تأكيد الآية أيضًا على ضرورة قتال المشركين في غيرها ﴿إِنّ عِدّةَ الشهُورِ عِندَ اللّهِ اثْنَا عَشرَ شهْراً فى كتَبِ اللّهِ يَوْمَ خَلَقَ السمَوَتِ وَ الأَرْض مِنهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِك الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلا تَظلِمُوا فِيهِنّ أَنفُسكمْ وَقَتِلُوا الْمُشرِكينَ كافّةً كمَا يُقَتِلُونَكُمْ كافّةً وَاعْلَمُوا أَنّ اللّهَ مَعَ الْمُتّقِينَ﴾ [التوبة: 36]، والآية الأخرى التالية لها تتحدث عن النسيء وتلفت نظر المؤمنين للضرر المترتب على إضافة العرب النسيء وما يفعلونه من استحلال الأشهر الحرم ﴿إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا لِيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فَيُحِلُّوا مَا حَرَّمَ اللَّهُ﴾ [التوبة:37].

والحقيقة أن الآيتين تقبلان أي من التفسيرين؛ فإما أن يُفهم منهما أن هناك ذمًا عامًا لإضافة النسيء، ومن ثم النهي عن إضافته بوجه عام، وإما أن الزجر الذي وجهه الله سبحانه وتعالى كان مخصوصًا بسبب التلاعب فيه، وإضافته وحذفه وفقًا لأمزجة العرب بغرض استحلال الأشهر الحرم.

الرأي الثاني يتبناه من يدّعون أن الآيتين رغم نزولهما في السنة الثامنة للهجرة إلا أن النسيء بقي يُحتسب حتى سنة 17هـ، ويستدلون على ذلك بمواقيت المعارك التي حدثت مع الروم وفقًا للتقويم اليولياني كمعركة العسرة ومعركة اليرموك، ويقولون إنه لو كان المراد بالآيتين تحريمه لحرّمه الرسول صلى الله عليه وسلم ومنع إضافته، ولكن تم الإبقاء عليه واستمرار إضافته ما بين عامي 8هـ و 17هـ، ما أبقى الارتباط بين شهور السنة القمرية والفصول الأربعة.

وفي السنة السابعة عشرة من الهجرة، وكانت في خلافة سيدنا عمر، تم وضع التقويم الهجري، احتسابًا من عام هجرة الرسول، وظلت السنة الهجرية القمرية تبدأ بالمحرم، رغم أن هجرة الرسول كانت في ربيع الأول بالاتفاق، واعتبر المحرم من العام الأول لهجرة الرسول بداية التقويم، كما اتفق رأيا سيدنا عمر وسيدنا علي على أن استمرار إضافة النسيء مرة كل ثلاث سنوات سيخرب التقويم، وربما عاد العرب للتلاعب في إضافته في أعوام لا يلزم إضافته فيها لأجل استحلال الأشهر الحرم، فتم استبعاده، وصار الوضع على ما هو عليه إلى يومنا هذا، فكل سنة هجرية قمرية تتكون من 12 شهرًا قمريًا فقط، وصارت الشهور القمرية تتقلب وليست ثابتة مع فصول السنة الأربعة.

ومن هنا فإن موضع الخلاف في تحديد الزمن الذي تم فيه إلغاء النسيء، وإن كان قد تم بدءًا من عام 17هـ وليس من عام 8هـ، وهذا أمر ليس مؤكدًا رغم محاولات الاستدلال عليه.

أما عن سبب طرح القضية من وجهة نظر أصحاب العودة للنسيء وعلاقتها بصيام شهر رمضان المعظم، فهم يقولون إنه بسبب إضافة النسيء –بشكل صحيح، مرة واحدة كل ثلاث سنوات- قديمًا في التقويمات القمرية فقد كان موعد رمضان يكاد يكون ثابتًا مقترنًا بهلال برج الميزان، ولكن رمضان بعد حذف النسيء صار يلف على فصول وشهور العام كلها، وتطول وتقصر ساعات الصوم، بينما ارتباط الصوم بالاعتدال الخريفي يجعل ساعات الصوم تكاد تكون ثابتة وتختلف اختلافًا طفيفًا بين البلدان.

ولكن هناك أمران يجهلهما هؤلاء أولهما: أن العرب –ووفقًا لنص الآية الكريمة- كانوا يتلاعبون في إضافة النسيء، ولم يكن الوضع مثاليًا كما يتصورون. وثانيهما: أن هناك ما يُستدل به في المقابل على أن الأدق والأصح أن يكون المحرم هو المتفق مع أول هلال في الخريف، وليس رمضان، وإنما دار الزمان في الجاهلية بسبب تلاعب العرب في إضافة النسيء، وسبق أن تطرقنا على عجالة إلى هذا الأمر في مقالي عن عاشوراء.

ووفقًا للمتبع حاليًا، فإنه مع عدم إضافة النسيء فإن كل 32 سنة شمسية وستة أيام تعادل 33 سنة هجرية، بمعنى أن الدورة الفلكية ستتم في كل حال. وعلى سبيل المثال فإنه في عام 1973 كان رمضان في الميزان (6 أكتوبر= 10 رمضان).

وأنا عن نفسي أتفق مع اجتهاد سيدنا عمر وسيدنا علي في حذف النسيء تمامًا، وليس فقط ضبطه وعدم التلاعب فيه، وأعتقد أنه الرأي الأفضل، ولولا ذلك لكان النسيء من مساخر العرب عبر التاريخ، ولنتخيل ماذا كان سيكون الوضع لو أراد العباسيون إضافته في عام ليعلن الفاطميون مخالفتهم فيه، وربما رأى الأميون في الأندلس رأيًا آخر لمزيد من تعزيز الخلاف، وحتى في العصر الحديث ما كان العرب والمسلمون ليتفقوا أبدًا، وكنا سنرى أهل بلد يصومون في شهر باعتباره رمضان بينما أهل بلد آخر مفطرون باعتبار أنهم في شعبان لأنهم احتسبوا النسيء قبل المحرم في بداية العام!

وسواء اتفقنا أو اختلفنا مع حذف النسيء تمامًا من السنة الهجرية، وهل تم ذلك في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم أواخر السنة الثامنة للهجرة بعد نزول آيتي التوبة أم عند وضع التقويم الهجري بعدها بسنوات، فاتباع الجماعة في الصوم هو الصحيح، وقد استقر المسلمون على هذا التقويم منذ أكثر من ألف وأربعمائة سنة، وفكرة انتظار أول هلال في الميزان ليصوم فيه بعض المقتنعين بنظرية النسيء باعتباره هلال رمضان الحقيقي لو كان النسيء موجودًا أمر لا أراه صحيحًا.

وأختم بمعلومة سبق وأن ذكرت مقتطف عنها في مقالي عن عاشوراء، بأن التقويم اليهودي يتم فيه إضافة النسيء إلى يومنا هذا، فيبدأ في تشريه، مع السنة المصرية القبطية تقريبًا، وتحديدًا بعدها مع أول هلال في الخريف (في الفترة من منتصف سبتمبر وحتى أوائل أكتوبر)، وتتم إضافة 7 أشهر نسيء بين كل 19 عامًا، ولكن يُضاف النسيء في منتصف الأعوام السبعة الكبيسة من بين 19 عامًا، في الربيع (بين مارس وأبريل)؛ ما يعني أن هناك سنينًا عند اليهود تكون عدتها 12 شهرًا يظهر فيها 12 هلالًا، وسنينًا أخرى كبيسة يظهر فيها 13 هلالًا.

والله تعالى أعلى وأعلم

 

د. منى زيتون

الجمعة 27 سبتمبر 2019

 

في المثقف اليوم