دراسات وبحوث

التأمل في القرآن الكريم

"كتاب انزلناه اليك مبارك ليدبروا اياته وليتذكر اولوا الالباب"..ص 29

 والتدبر لغةهو تامل بنظر الاستنباط، و اصطلاحا هو تصرف القلب بالنظر بالدليل ..

والتامل هوتركيز الحواس والطاقات الكامنة فيها نحو شئ ما، وهو تمرين روحي يعتمد على الايمان الراسخ بهدف ما عن طريق تفعيل العقل الباطن الذي ينعكس على سلوكيات الانسان بطريقة ايجابية تتحدد من خلالها طريقة حياته ونهجه السليم لتحقيق غاياته.

ان البحث عن الايات التي تدعونا الى تاملها فيه الكثير من التفكر والتدبروالتامل بهذا الخلق العظيم ومافيه من دلائل وعلامات وهي براهين دامغة على ان الله جل وعلا هو الخالق لكل شئ، فتتجلى قدرة الخالق ومعاني التوحيد في نفس المتفكر المتدبر لكُنه الاية التي تعكس معنى الوجود والغاية التي خلقت لاجلها من خلال الايمان المطلق بوحدانية الله.

ولعل المتامل في هذا الكون العظيم والمتعمق والدارس لكل فرع من العلوم كعلوم الفضاء مثلا بما يحوي هذا العلم من ايات اعجازية تختص بدراسة الاجرام السماوية، الشمس، القمر، النجوم والكواكب تتجسد امامه الكثيرالكثير من الدلائل التي ترسخ فيه الايمان المطلق بوحدانية الله وقدرته الاعجازية، كما ان دراسة علوم الطب والتشريح تفتح الباب على مصراعيه اما الانسان ليتامل بديع خلق الله المتجسد بجسم الانسان ومايحوي من ملايين الخلايا وتلك الاجهزة المعقدة الدقيقة التي تقوم بواجبها على اتم وجه..

ان الكون بما رحب هو عبارة عن كتاب مفتوح يدعونا لتامله بعين مبصرة وبقلب مؤمن بالحقيقة، لاستنباط العظة والحكمة من الخلق التي دعانا اليها الله لنتدبرها وقد خاطب العقل فينا لان العاقل من ادرك تلك الحقيقة فتعلم منها وعلم غيره"ان في ذلك لايات لقوم يعقلون" ..النحل 12 اي يدركون كنه الوجود وقضية الخلق وحقيقة الكون ومافيه من ايات انما خلقت لتدل على عظمة الخالق والاقرار بوحدانيته"انما يتذكر اولو الالباب" الرعد 19، والانسان اللبيب هو الانسان المدرك لعقله المبصر لحقيقة خلقه الشاكر لنعم الله وفضله "الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم ويتفكرون في خلق السموات والارض" ال عمران 191، فمحور الموضوع هو قضية النظر الى الكون بعين البصيرة تلك النافذة التي فتحها الله امامنا ودعانا فيها الى تامل بديع خلقه للوصول الى الحق، فخلق السموات بكل ماتحوي من اجرام بتلك المجرات العظيمة الخلق بحساباتها الدقيقة، بابعادها، بسحابها التي تمطر خيرا ورحمة "والسماء ومابناها" الشمس5

والارض بما رحبت، كيف مهدها وذللها للعباد وجعل فيها ارزاقهم واقواتهم، برواسيها وماحوت من كنوز"والارض بعد ذلك دحاها" النازعات30، وانهارها، ببحارها التي جعل فيها ماشاء من الخيرات والكنوزليغترف منها الانسان رزقه وليركب امواجها مسافرا من مكان لاخر"وهو الذي سخر لكم البحر لتاكلوا منه لحما طريا وتستخرجوا منه حلية تلبسونها وترى الفلك مواخر فيه"..النحل 14، بكمية املاحها التي تؤثر بشكل مباشر على كثافة المياه لما لها من دور في حدوث التيارات البحرية بين المناطق الاستوائية والقطبين والتنوع الحيوي للكائنات البحرية

-سبحان الله-"هذا عذب فرات سائغ شرابه وهذا ملح اجاج ومن كل تاكلون لحما طريا" ..فاطر12، وهذا التنوع العظيم بانعامها، باشجارها المتنوعة ونباتاتها" وهو الذي انزل من السماء ماء فاخرجنا به نبات كل شئ فاخرجنا منه خضرا نخرج منه حبا متراكبا ومن النخل من طلعها قنوان دانية وجنات من اعناب والزيتون والرمان مشتبها وغير متشابه.."الانعام99

واذا مانظر الانسان لابسط مخلوقات الله وهي النحلة نظرة تاملية لادرك الاعجاز بنفسه لتلك المخلوقة الصغيرة التي تعيش بمملكة هندسية سداسية منتظمة متشابهة ومرصوصة، والشكل الهندسي يمنح الخلية تكاملا في البناء بدون ترك فراغات-سبحان الله- تتبع اسلوبا حياتيا منظما، تتجسد فيه كل انواع الانظمة الاقتصادية والعسكرية ولاجتماعية عن طريق توزيع الادوار بمنتهى الدقة تقوم على تقسيم الادوار على ثلاث فئات وهي العاملات والذكور والملكة، وتعتبر الملكة المسؤولة عن انتاج البيض الذي يخرج منه نحل الخلية فهي ام جميع النحل! ويختصر دور الذكور للتلقيح، وبما ان العمل والعبئ الاكبر يقع على عاتق العاملات فقد خاطب الله تعالى في كتابه العزيز العاملات تحديدا بقوله"ان اتخذي من الجبال بيوتا ومن الشجر ومما يعرشون" النحل68 ثم قال..

"ثم كلي من كل الثمرات فاسلكي سبل ربك ذللا يخرج من بطونها شراب مختلف الوانه فيه شفاء للناس" النحل69، فسبحان احسن الخالقين.

ومذ خلق الله الانسان على الارض وهو يدعوه الى التامل والتفكيروالتدبر بهذا الكون العظيم، فموضوع التامل خلق مع خلق الانسان على هذه البسيطة ليكون العين المبصرة والصوت الحق، وبما ان الله قد وهبنا الحواس والعقل لندرك اهميتهما من خلال الادراك الحسي الملموس لكل تفصيلة من تفاصيل الحياة، سواء اكان ذلك بالعين المجردة وهو كل ماتقع عليه اعيننا من جمال وابداع يتجسد با لطبيعة بما رحبت وحوت من فصول وتغيرها، بالاشجار والازهار، بالشلالت الدافئة والباردة، بالامطار، بحركة الرياح، بالخسوف والكسوف، بالمد والجزر ومايتبع ذلك من تغييرات، بمواسم الحصاد، بالوان السماء ابتداءا من بزوغ الشمس حتى مغيبها، باسراب الطيور وطريقة تكاثرها، بماشاء الله من النباتات وطرق انباتها وثمارها المتنوعة، بكل روعة الطبيعة الساحرة التي تقر ببصمة الله.

فمنمذ تامل نبي الله ابراهيم الكون العظيم بما اتاه الله من نور في قلبه وهدى في بصيرته، ورشاد في تفكيره في ملكوت السموات والارض، توصل الى الايمان، بعفوية الفطرة التي فطر الله الناس عليها، بان لهذه الارض ومن عليها، والسماء التي تزينها الكواكب والنجوم، ربا خالقا، وحكيما مدبرا، والها صانعا اتقن كل شئ واحكم انشاءه..فقدره تقديرا!..

ولطالما كان يتامل في الليل نجوم السماء وكواكبها، فبعضها دائم المسيرلايستقر في مكان في هذه السماء اللامتناهية الاتساع وبعضها كالثابت في مكانه، لايتحرك اوهو يظهر كذلك، وماهو غير ذلك..

وكان يلاحق القمر بنظراته متاملا اياه، فكان بين هذه النجوم، وقد احاطته هاله من نورشفاف، كالملك تحف به حاشيته، والرعية..

وعندما يتقدم الليل ينحدر هذا القمر الى الافق الاخر، وكانه في ارتحال دائم، لايتوقف !..

وفي الصباح، يتامل ابراهيم الشمس، تغزوبنورها الارض من الافق الشرقي، فتملاها ضياء، تغمرها نورا، وتبعث فيها دفئا وحياة..

وتتهادى في قبة الفلك متحدرة اليه بمهابة وجلال ثم يهبط الظلام وتبدا النجوم تتلالا في كبد السماء كانهن لؤلؤ مكنون ويطلع القمر من جديد، متناقصا ليلة بعد ليلة، حينا متزايدا وحينا متناقصا، وهكذا تستمر الحياة بين ليل ونهار وتعاقب فصول في انتظام رتيب، واتساق عجيب، تبارك الله احسن الخالقين..

قال تعالى (وكذلك نري ابراهيم ملكوت السموات والارض وليكون من الموقنين *فلما جن عليه الليل راى كوكبا قال هذا ربي فلما افل قال لااحب الافلين * فلما راى الشمس بازغة قال هذا ربي هذا اكبر فلما افلت قال ياقوم اني برئ مما تشركون * اني وجهت وجهي للذي فطر السموات والارض حنيفا وماانا من المشركين (79، 78، 77، 76).. ) وهذا سبب اختيار الله لانبياءه ورسله الذين يتاملون ويفكرون ويبحثون سبل خلق هذا الكون العظيم، ولكل نبي جعل الله معجزة يحاجج بها الناس ليؤمنوا بالله وهذه المعجزة التي ايد الله بها رسله وانبيائه خارقة للعادة تحدى الله بها البشر ان ياتوا بمثلها فكانت برهانا ساطعا على صدق انبياء الله في تبليغهم عن رب العالمين، فالبشر لايمكن ان ياتواباية او معجزة من عند انفسهم وبالتالي يكون دليل على ان تلك المعجزة والاية اتية من رب قادر لايعجزه شئ في الارض ولا في السموات، واذا امعنا النظر لوجدنا ان الانبياء والعلماء والراسخين بالعلم وعلماء الصوفية يتخذون من التامل طريقة لنهجهم ومنهاجهم الذي يعتمد على الاختلاء والتفكر والتدبروصولا الى الصفاء الذهني الذي يحقق الغاية ويفتح البصيرة وقد وجه الله رسله وانبياءه ليتدبروا ويتاملوا خلق الكون العظيم وكان خاتم الانبياء رسولنا الكريم محمد (ص) يقضي اوقاته في "غار حراء"بعيدا عن الناس ليختلي ويتامل ويتدبر بديع خلق الله وقد ارسى علومه التاملية بدعوة الحق التي نشرها ليملا العالم قسطا وعدلا ذلك النهج الذي سار عليه ال بيته وصحابته وعلماء المسلمين الذين كانت لهم بصمة واضحة في الحياة من خلال التامل لبديع ايات الله وجميل خلقه، بل ان الديانات الوجودية التي تعتمد الطبيعة اساسا لوجودها انما تقر بطريقة غير مباشرة بوحدانية الله لكنهم-الوجوديون- لايقرون بذلك مباشرة انما يسندون ذلك الى القوى الخارقة في الطبيعة وهم بذلك يقرون بانفسهم بان هناك قوىً خارقة مسؤولة عن ادارة الكون وهو اعتراف ضمني بوجود الخالق المدبر، وهو ما تضمنته عروس القران سورة الرحمن الرائعة وهي تشرح قضية الخلق بمنتهى الروعة وهي موجهة بصورة مباشرة الى الملحدين الذين يشككون بقدرات الله جهرا ويعترفون بذلك ضمنا باعتبار ان الطبيعة من ابداع الخالق"فباي الاء ربكما تكذبان"..

 

مريم لطفي

 

في المثقف اليوم