دراسات وبحوث

الاجتهاد في مجال النظم العامة والكليات

في واحدةٍ من اجتماعات الفريق الاستشاري لقسم دراسات الأديان في بيت الحكمة، كان الحوار يدور حول تحضيرات لعقد مؤتمرٍ نوعي في العلوم الدينيَّة عامَّةً والإسلاميات المُعاصرة Contemporary Islamic خاصةً، شرط أنْ يختلف عن السَّائد والمُعتاد من المُلتقيات الثقافية، وتوصلنا إلى أنَّ حاجة المجتمع الإسلامي عامة والتجربة العراقية خاصة بل المُجتمع البشري المُعاصر إلى قوانين منظِّمة لسلوك الإنسان وتعظيم حضارته المدنية، فتوصلنا إلى فتح باب الحوار لأجل تحفيز العقل الفقهي الإسلامي نحو الاجتهاد في مجال الكُلِّيات ”النظريات العامة والنُّظُم المُجتمعية“ Public theories and Community systems.

فلسفة موضوع المؤتمر:

 تبدو فلسفة الموضوع حول الأفكار الاتية:

1. إنَّ الباري (عزوجل) الذي خلَق الكون والحياة والإنسان، قد أرشد الإنسان إلى ما يوصله إلى سعادة الدنيا والآخرة. ومقتضى ذلك أنَّ النبي (ص) رسم له طريق السعادة في الدنيا من خلال ايات التشريع المؤسسة للقوانين والأحكام الفقهية التي تُحدِّد وتُنظِّم السلوك البشري بما يُحقِّق له الرضوان والمغفرة يوم القيامة؛ لذلك فإنَّ عناية الإسلام بالدنيا تظهر من خلال الأحكام المُجتمعية ومنها إقامة الدولة والمُجتمع على مفاهيم الإسلام وبدا هذا واجبا دينيا على طلاب المعرفة الدينية لاسيما في نطاق الشريعة لذلك فإن الشريعةَ ليست روحية وأخلاقية فقط إنما هي مشروع حضاري أنساني طويل الأمد، ولعل هذهِ مقولة لا تحتاج إلى مزيدٍ من الأدلة، ولأن شمول الشَّريعة لمُقتضيات الدنيا إحدى أهمِّ الركائز التي يقوم عليها الاعتقاد ويجسدها الفقه المُجتمعي فإننا نتجه نحو فقه المجتمع والدولة، على افتراض أننا نرى أنَّ الشَّريعة (الخالدة) إلى يوم القيامة هي التي تُلبِّي حاجات الناس.

إننا نعني بالشَّريعة النصوص الدينيَّة الثابتة التي لا مناص من تحكيمها في عالمنا، بينما الفقه هو آراء الفقهاء الاجتهادية المُستمدة من نصوص الشَّريعة والتي تنطبع بطابع عصرها، فخلود الشَّريعة لا يعني خلود الفقه.

 وخلاصة القول إنَّ تكامل الفقه مع نصوص الشَّريعة يُفضي إلى صياغة الموقف الشرعي السليم للإنسان على تلبية متطلبات تعاقب الأجيال، وتعاظم الوقائع وانشطارها واتساع وتكاثر المُشكلات، بما يُحقِّق فعلاً مبدأ صلاحية الشَّريعة وفقهها لاستيعاب الأزمان والمدنيات والحضارات الإنسانية، وهذا ما له صلة شديدة بمقولةٍ عقائدية هي خاتمية الرسالة الإسلامية للرسالات السَّماوية.

وتجدر الإشارة إلى أن هناك إشكال في مثل هذا الجهد الاستنباطي – الفقهي وهو محذور الوقوع في صياغة النظرية الفقهية مصمَّمة على قياسات ومتطلَّبات العصر الراهن ولو على حساب الحكم الشَّرعي، وهنا يلزمنا وضع معايير عقلية برهانية في قبول الشَّرع لمتطلَّبات العصر صراحةً أو ضمناً أو التزاماً، لاسيَّما أنَّ المشكلات الجديدة التي تُشكِّل تحدياً معرفياً للسادة الفقهاء وعلماء الشَّريعة

 وتنقسم الوقائع إلى قسمين: وقائع جزئية خاصة بالفرد المُسلم، ووقائع عامَّة مجتمعية تتخطَّى نطاق الفرد إلى الجماعة أو المُجتمع، ومن تلك مشكلة التنمية الشاملة المُستدامة ومتطلَّباتها مثل: تحديد النَّسل، والقوانين المُلزمة المقيِّدة للحرية، سواءٌ حرية الإنتاج أو العمل بموجب تخطيط التنمية، والحدِّ من الإباحة العامَّة للاستيراد وضرائب الكمارك لحماية المُنتج الوطني، وإجبار الأجيال على اكتساب مهارات محددة على حسب حاجة البلد... إلخ. ممَّا يحد من الحريات لصالح متطلَّبات النمو الاقتصادي Economic growth، فهذا نوع من المُستجدات (كُلِّي). ومن ذلك نظرية المواطنة، وارتباط الفرد بالرقعة الجغرافية (الحدود السياسية) للبلد، وسريان القانون فيها، والولاء لها، والنَّزعة الوطنية مقابل الولاء للعقيدة الأممية، التي تعم المُسلمين عموماً في العالم، وإشكالية الحدود المفتوحة المتحركة.

إنَّ مثل هذهِ التبدلات الجوهرية في قِيَم العالم المعاصر وانشغالاته، تتطلَّب جهداً فقهياً منظَّماً لرسم النموذج الإسلامي المُقنِع والمناسب لتطلُّعات الإنسان ومصالحه وذوقه ودرجة تمدنهِ، وانسجامهِ كمُجتمع مع المُجتمعات العالمية؛ لأنَّه يعيش في عصر التواصل الاجتماعي وشبكة المعلومات التي صار العالم كلَّه بها قريةً صغيرة، فلا يمكن لجماعةٍ أنْ تنعزل عن بقية مجتمعات العالم المعاصر فنماذج التطوير الفقهي تتطلَّب أولاً إعادة دراسة الوقائع بصورةٍ عميقة، والتعرف على مقدار ضرورتها، ودراسة النصوص الشَّرعية، وفكِّ التعارضات للوصول إلى (نموذج إسلامي) ضامن للمقبولية الشَّرعية ومحقِّق للمعذري، وهو بنفس الوقت يحقِّق تطلُّعات الإنسان التي توصل إلى وسائله بعد عناءٍ تاريخي وكفاحٍ وتجارب ذات كُلَف بشرية ومادية، حتَّى انتهى إلى هذهِ التي تُسمَّى اليوم بـ(القِيَم المعاصرة).

2. أنَّ واحدةً من ثغرات عصور ما بعد النهضة في تجربتنا الفقهية أنَّ علماء الدين انقسموا إزاء الاجتهاد – كمبدأ – إلى موقفين:

أحدهما: رفض الاجتهاد وتحريمه والتمسك بالنصوص والعمل بأصالة الحُرمة حتَّى يتم الظَّفر بدليل الإباحة، وكان ذلك ممثلا في النَّفر الذي رفض أنْ يُفتي من الصحابة والتابعين، ومسلك الحنابلة والظَّاهرية وما نتج عنهم من الاتجاهات السَّلفية القديمة والوسيطة والحديثة والمُعاصرة. بل وجدنا هذا النَّمط من النَّهج موجودا حتَّى في الوسط الشيعي، إذ ظهرت في تاريخهِ بعد للألف الهجري فتراتٍ اختصَّ الناس برواية الحديث عن الأئمَّة وتوقفوا عن الاجتهاد، وظهر في القرن العاشر الهجري – قبل أربعة قرون – تيار الإخبارية الذي يُعطِّل العقلانية المنهجية والاجتهاد.

وثانيهما: المؤمنون بضرورة الاجتهاد وممارستهِ والتوسع فيه، وإشراك العقل الإنساني ”المؤهل“ في ملئ الفراغ التشريعي، وبناء الحياة على المبادئ الكبرى والقواعد الأساسية التي حدَّدتها الشَّريعة. وتفاوتت هذهِ النَّزعة في مراتبها بين متوسِّعٍ يُغلِّب العقل والمصلحة على النص، وبين مَن يتقيَّد بالنصوص في اجتهادهِ، وبين مَن يُخضع العقلانية كلِّها إلى فهمٍ تاريخيٍّ للنص.

لذلك، فإنَّ إنهاء حالة القطيعة مع عموم الاجتهاد مطلب إسلامي عقلاني يتبنَّاه المؤتمر، ويتبنَّى اجتهاداً معيارياً برهانياً نقدياً متوازناً يرعى قيمة النص رعايةً تامَّة ويرعى ضرورة إعمال العقل إعمالاً كاملاً. وتلك لعمري غايةٌ يصعب الوصول إليها إلَّا عن طريق الجهد الجماعي العميق للباحثين والعلماء، وكنا ولا نزال نأمل أنَّ المؤتمر سيُسهم بتحقيق هذا الهدف.

تتزامن مع القطيعة المعرفية ضد الاجتهاد نزعة انتقائية مذهبية، تُلزم بالرجوع فقط إلى مذهبٍ واحد، وتحكم ببطلان كلَّ ما هو عداه، ولا ترى عذراً لمَن يرجع لِمَا هو محدَّد له من الفقهاء المُلتزمين وحتى المُحافظين مذهبياً.

ثمَّة صورةٌ أخرى من صور القطيعة المعرفية، أنَّ النزاع بين مذهب الحنفية والشافعية أدى إلى حاجز نفسي من الإفادة من اجتهاد المذهب الآخر، ناهيك عن عدم قبول آراء فقهاء لم يندرجوا ضمن التصنيف الرسمي لِمَا يُطلق عليه بـ(أهل السُّنَّة)، كالزيدية والإسماعيلية والإمامية، على أن مذهب الإباضية وابن حزم وداود وغيره لم تندرج في مصنَّفات الفقه المُقارن التقليدية.

كلَّ ذلك يُشكِّل أصنافاً من القطيعات التي يحاول المؤتمر بالدعوة إلى فقه النظرية الكُلِّية أو فقه النُّظُم الاجتماعية أنْ ُيلغيها ويستفيد من كلِّ الجهود الاستنباطية التي ستنفع حتماً في تحقيق مرامه في إيجاد الأرضية التي تساعد على تحقيق فقه المجتمع لذلك نجد أن دعوة المؤتمر إلى نمطٍ جديد تركيبي للاجتهاد، تفنيداً لِمَا نشرته دراسات الاستشراق الغربية، من أنَّ العقل الإسلامي عقلٌ بسيط غير مركَّب، شديد العناية بالجزئيات ويهتم بالتفاصيل ويغادر عجزاً منه القضايا الشمولية الكبرى، ويهتم ويركِّب للوصول للبناء العام.

ولأنَّ الاجتهاد لصيق بعملية التجديد والتنوع الفكري، ولأنَّ الحاجة قائمة إلى التجديد والتنوع، فإنَّ المؤتمر يفتح الباب ويُسلِّط الضوء على الاجتهاد في الكُلِّيات. ويُهيِّئ الأذهان للانتقال من فقه الأفراد كأفراد، إلى فقه المُجتمع بوصفهِ مجموعة متجانسة من الناس لها متطلَّباتها كمُجتمع، ثمَّ فقه الدولة الذي هو أعمُّ من فقه الفرد، وفقه المُجتمع.

كذلك، يسعى المؤتمر إلى مواصلة التطور الذي حصل في المسار التاريخي لتطور المعرفة الفقهية، الذي انتقل من فقه الفرد وتكليفه الشَّرعي كفرد إلى فقه القاعدة الفقهية التي عرَّفوها بأنها: ”أصول كُلِّية مُصاغة في نصوصٍ موجزة تتضمَّن أحكاماً تشريعية جزئية“(1).

وانتقل البحث الفقهي من القواعد التي تُشكِّل ضابطة أغلبية إلى ضابطة كُلِّية تنطبق انطباقاً كلِّياً، كعِلمٍ مشتق من مباحث الفقه؛ لأنَّ علم القواعد قد تطور تطوراً علمي بحيث صار يُعنى بتجميع الفروع الفقهية وحصرها في صيغةٍ كبرى.

وإذا ما ألقينا نظرةً على فوائد علم القواعد الفقهية، فإننا نجد أنَّها تؤدي مهمة تجميع الفروع في إطارٍ نظري واحد، وتؤدي مهمة تسهيل تخريج الفروع على الأصول – كما فعل الزنجاني الشافعي (572-656هـ/1177-1258م) –

وتؤدي إلى إدراك مقاصد الشَّريعة كما فعل الشَّاطبي (538-590هـ/1144-1194م)، وأخيراً الإسهام في النهضة الفقهية؛ لذلك نجد مجموعة مصطلحات ومفاهيم ذات صلةٍ بالقاعدة الفقهية، مثل: (الأصل، الأساس، المبدأ، القانون الناظِم، الضَّابط، الدليل). يشير إلى مهامها المعرفية. وإذا كانت بعض القواعد الفقهية ناتج النص القرآني أو الحديث النَّبوي الشريف، فأنَّ بعضها الآخر مُستنبطٌ من استقراء الفقهاء(2)، ومنها ما هو متفقٌ عليه كقاعدة لا ضرر، ومنها المختلف فيه مثل: (لا يُنسب إلى ساكتٍ قول).

وقد اختلفت القواعد من جهة (مدى الاشتغال) فكانت كبرى تعمل في كلِّ مجالات الفقه، مثل قاعدة (لا ضرَر)، ومنها صغرى تعمل في عدَّة مجالاتٍ (الحرج)، ومنها ما يعمل في مجالٍ واحد، مثل: (البيِّنةُ على مَن ادَّعى).

وقد تساءل عددٌ من المحقِّقين ما إذا كانت القاعدة الفقهية رغم أنَّها تطورٌ معرفيٌّ مهم هل تصلح دليلاً على الحكم الجزئي أم لا ؟ وكانوا على رأيين: أحدهما يرى عدم كفاية القاعدة لئنْ ترقى إلى مستوى الدليل لأنَّها ظنية، ويلزم في الاستدلال أنْ يكون قطعياً، وعند هؤلاء فإنَّها ليست أكثر من قوالب جامعة لأغلبية الأحكام.

بينما ذهب آخرون إلى أنَّها تصلح للاستدلال بها طالما أنَّها تستند إلى نص أو عموم الدليل الشَّرعي، أمَّا المُستنبط باجتهادٍ فإنْ كانت مستنبطة باجتهادٍ صحيح كانت جديرةً بالدليلية، أو تولَّدت عن استقراءٍ تام (قطعي) وبهذهِ الحالة – كما يقولون – هي أولى من القياس؛ لأنَّه بعمومهِ ظنِّي؛ ولأنَّه يلحق الواقعة بحكمٍ (مفرد)، بينما القاعدة تلحق الواقعة بحكمٍ جامع لعددٍ من الأحكام.

ومن مراحل تطور البحث المنهجي في المعرفة الفقهية، الانتقال من مرحلة تقعيد القواعد إلى بناء النظريات الكبرى والشمولية، والتي هي نظامٌ حقوقي يدور حول موضوعٍ منبثةٌ أحكامهُ في أبواب الفقه كنظرية المُلكية، ونظرية العَقد، ونظرية الأهليَّة، ونظرية النيابة، ونظرية البُطلان والفساد، ونظرية الضمان(3)، ونظرية العرف (4). ولا يمكن حصر ”فوائد” النظرية الفقهية في كونها جامعة للمُتناثر، أو صيغة جديدة تُعيد نَظْم الجزئيات، إنَّما هي جمع المُتناثر ضمن رؤيةٍ فلسفية استقرائية تُفضي إلى تعليل التشريع وبيان مقاصدهِ ومآلاتهِ والقواعد الأساسية التي قامت عليها النظرية، كاستناد نظرية المُلكية إلى قاعدة (الناس مُسلَّطون على أموالهم)، وقاعدة العَقد لشوكت العَدوي على [إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ] ونظرية الالتزامات على [أَوْفُوا بِالْعُقُودِ].إلخ.

ويرى باحثون أنَّ نُضج تصنيف العلماء للنظريات الفقهية يُسهِّل التطبيق العلمي للشريعة في مجالات الحياة، ويكشف ممَّا يُتوَهَّم أنَّه متعارض من الأدلة والآثار، ولا يسمح ببناء رأي على نصٍّ مجتزأ بصورةٍ انتقائية، فضلاً عن أنَّه يُشجع على نقد التراث الفقهي كسبيل لتطويرهِ، مثل تطوير نظرية الضرورة والظروف الطَّارئة والإكراه. ثمَّ تؤدي النظرية دور الكاشف عن المقاصد والعِلل وأسرار التشريع.

والذي يجمع بين النظرية الفقهية والقاعدة الفقهية اهتمامهما بالبناء العام والشمولية المُستقاة من الجزئيات المتعددة، لهذا كان رأي الشيخ مُحمَّد أبو زهرة (1316-1394هـ/1898-1974م) أنَّ النظريات الفقهية تطورٌ على علم القواعد.

ثمَّة تطور أكثر رقياً في مسلك المعرفة الفقهية، هو ”الاجتهاد في مجال النُّظُم المُجتمعية“، والنظام هو مجموعة القوانين والمبادئ العامة التي تُنظِّم المجال الاجتماعي، ويكاد يحصل الاتفاق على أنَّ النظام المُجتمعي يضم مجموعة قوانين ومجموعة تشريعات ومبادئ عامة في موضوعٍ محدَّد. غير أنَّ الدراسات التي أنتجت نُظُماً إسلامية، كانت أقرب إلى السَّرد التاريخي منه إلى العرض الاستدلالي الفقهي، مثل: النُّظُم المالية والاقتصادية، والنظام التَّربوي والاجتماعي، وفي بعضها قَدَرٌ من السطحية والمرور العابر على الموضوعات والأحكام والمفاهيم، وقد غاب عن بعضها اكتشاف القواسم المشتركة بين الجزئيات.لكن من المؤسف أنَّ في بعضها قَدَرا من ضعف التتبُّع الاستقرائي، والخلط بين المسائل، وغلبة الأحكام الفردية، والبُعد عن الواقعية المُعاشة. وفي ظنِّي أنَّ المؤتمر سيحاول التنبيه على هذهِ الثغرات بغية تلافيها.

وعندي أنَّ جوهر ما يرمي إليه هذا المُلتقى العلمي، هو لفت الأنظار إلى المتغيرات المعاصرة، التي شكَّلت تحدياً في القرنين الماضي والجاري. والمُستجدات الكُلِّية والتبدلات الجذرية على مستوى العالم كلِّه فضلا عن العالم الإسلامي، وبعض بلدان المُسلمين.

مثَّل تحول القاعدة المعيارية للانتماء من (الأساس الديني) إلى الأساس الوطني ”الجغرافية السياسية والحدود” كأصلٍ وأساسٍ للمواطنة، بديلاً عن الرعوية المُعتمدة سابقاً، والديمقراطية بدل (الشورى)، والعَقد الاجتماعي بدل البيعة، وفصل السلطات بدل اجتماعها، وشكل الدولة بين الأنموذج الماضوي التاريخي ”نموذج الخلافة” وأنموذج الدولة العلمانية.

مثالٌ آخر، هو استحالة الجهاد الابتدائي لعدم تكافؤ القوة، وسقوط مبدأ دار الإسلام ودار الحرب والحدود التي تتسع بالفتوحات، وأنَّ النظام العالمي المعاصر ومواثيق الحقوق تتطلَّب نظاماً يُعنى بسلوك الدولة في النطاق الدولي(5). وتحول الجهاد إلى الدفاع والمُقاومة لكن مع الالتزام بالشرعية الدولية والقانون الدولي(6).

الأُسس الفلسفية لفقه النُّظُم المُجتمعية:

يستند فقه النُّظُم إلى مجموعةٍ من الأُسس،منها:

1. عقيدة الاستخلاف، وهي منتزعة من القرآن الكريم وتنص على أنَّ الله (عزوجل) الخالق المالِك الأصيل للكون، أناب الإنسان واستخلفه ضمن نيابة شروطهِ لعِمارة الأرض وإقامة العدل وعبادة الله، وهذا يقتضي أنْ يُمنح ترخيصاً بأن يستعمل عقله في بناء التشريعات على حسب المُحكم من النصوص، ومن أشكال استعمال عقلهِ: إعمال الاستقراء في بناء القاعدة الفقهية، أو النظرية الفقهية، أو النظام الفقهي؛ لأنَّ تلك الجهود عبارة عن استخدام الاستقراء في تتبع الجزئيات وإعادة ترتيبها وصياغتها على ترتيب المقدمات والأركان والنتائج والخلاصات، والعمل الأكثر أهميةً هي تخويله في الاجتهاد فيما لم يرد فيه نص(7).

2. الاستخلاص المنطقي من محدودية النصوص ولا محدودية الوقائع، ومعنى ذلك أنَّ نصوص القرآن والسُّنَّة المُطهَّرة (محدودة)، بينما وقائع ومشكلات الناس التي تتطلَّب حلاً شرعياً غير محدودة، ولا يجوز منطقياً أنْ يُهيمن المحدود على غير المحدود؛ لذلك أتاح الباري (عزوجل) للإنسان أنْ يُسهم في بناء التشريعات ملتزماً بالمُحكمات.

3- إنَّ دعوتنا أنَّ الإسلام شريعةٌ خاتمة للشَّرائع، وهي معين الأجيال إلى نهاية الزمن (يوم القيامة)، فلا بدَّ من فهمٍ متجدِّد للنصوص يتناغم مع الأزمان والمدنيات والحضارات والرٌّقي الإنساني، للقيام بالبرهنةِ على خاتمية الشَّريعة.

وعليه، يلزم الفقيه المُسلم أنْ يُتقن المناهج الجديدة ويطبقها على مضامين فقهية، مثل القواعد والنظريات والنُّظُم المُجتمعية.

أخيراً، أورد بعض المدوَّنات في التراث ممَّا اهتم بفقه القواعد أو النظريات أو النُّظُم. ففي باب القواعد كان الكرخي الحنفي (260-340هـ/874-952م) بمؤلَّفهِ (الأصول) من السابقين في هذا المضمار، وكان الزنجاني في ردِّ الفروع إلى الأصول. ومن ذلك كتاب أبي عبيد القاسم بن سلَّام (157-224هـ/774-838م) (الأموال)، وكتاب مُحمَّد بن الحسن الشيباني (132-189هـ/749-805م) (السِيَر الكبير)، وهو يُعنى بفقه العلاقات الدولية، وقد شرحه السَّرخسي (ت483هـ/1090م) في أربعِ مجلَّداتٍ. وكتاب (مجمَع الضَّمانات) في مذهب أبي حنيفة لابن غانم البغدادي (ت1030هـ/1620م). إنَّ هذهِ النماذج جزء ممَّا كُتب في تراثنا من الفقه الكُلِّي، لكن غلبة منهج الفقه الجزئي لم يجعل هذهِ المُحاولات الرائدة هي الشاخصة.

لقد وردتنا من إخواننا العراقيين والعرب وبعض البلدان عشرات الأبحاث التي تجاوزت المائة، وبعد عرض هذهِ الأبحاث على لجنةٍ علميةٍ مؤلَّفة من كبار الباحثين المشهود لهم بالعُمق والتخصص، ترشَّحت قرابة نصف ما وردنا من أبحاث لهذا المؤتمر. اهتمَّت عشرة أبحاثٍ منها بالمُشكلات الاجتماعية المعاصرة وتقديم الحلول الفقهية لها على شكل اجتهاداتٍ كُلِّية، ومثلها توغل معرفياً بالفقه المقاصدي، وناقشت عشرة أبحاثٍ الواقع العالمي المُعاصر، واعتنت خمسة أبحاثٍ بآليات تطوير مهارة الاستنباط، فكانت عبارةً عن جهود علمية جديرة بأنْ تُشكِّل مرجعاً للحداثة في مجال الفقه والأصول، وكتاب نفيس يُقدَّم للمكتبة العربية.

وإني إذ ألخِّص هذهِ الأبحاث، أدعو إلى ترجمتها إلى اللغات العالمية لتوسيع الإفادة منها. أرجو أنْ تكتمل فوائد وفرائد المؤتمر، وأنْ يُحقِّق أغراضه، وأنْ يتقبَّل الله من الباحثين.. والسلام.

***

الأستاذ المتمرس الدكتور

 عبد الأمير كاظم زاهد

 ...................

(1) الزرقا، مصطفى أحمد، المدخل الفقهي العام، ط2، (دمشق: دار القلم، 1425هـ/2004م)، ج2، ص965.

(2) سواءٌ عن طريق استخدام الاستقراء، أو الاستدلال.

(3) يُنظر: فيض الله، محمد فوزي، نظرية الضمان في الفقه الإسلامي العام، (بيروت، مؤسَّسة الرسالة، د.ت.).

(4) لمزيدٍ من التفاصيل، يُنظر: الزرقا، المدخل الفقهي العام، ج1، ص329.

(5) السيد، رضوان، ”تيارات النهوض والإصلاح.. المسار والصيرورة”، بحث منشور ضمن كتاب: مدخل لتكوين طالب العِلم في العلوم الإنسانية، ط2، (بيروت: الشبكة العربية للأبحاث والنشر، 2013م)، ص209.

(6) المرجع نفسه، ص210.

(7) يُنظر: الوائلي، حيدر عبد الجبار كريم، مسالك الاستنباط فيما لا نص فيه.. دراسة مقارنة، أطروحة دكتوراه غير منشورة، جامعة الكوفة، كلِّية الفقه، 2018م.

 

في المثقف اليوم