دراسات وبحوث

أحمد بابانا العلوي: اسس التجديد والاصلاح في ادب وفكر عباس الجراري

"عالم المغرب ونادرته في سعة الملكة وفصاحة القلم واللسان.. وكثرة التصانيف.." (فهرس الفهارس) ع. الكتاني.

توطئة:

يعتبر الاستاذ عباس بن عبد الله الجراري (1937/2024) من انشط افراد جيله في المجال الثقافي والادبي والتاريخي...

جاء في خطاب المرحوم محمد الفاسي (1908/1991) اول رئيس لجامعة محمد الخامس بمناسبة تعيين عباس عضوا في اكاديمية المملكة المغربية: " ان الاستاذ عباس الجراري الذي عرفته منذ كان طالبا ثم استاذا بكلية الاداب بجامعة محمد الخامس..عرفته الشاب الطموح والجاد في التحصيل والبحث..

وكان اول اتصاله بالعلم والمعرفة على يد والده المؤرخ الجليل المرحوم عبد الله الجراري (1905/1983) وهو الذي وجهه نحو الدراسات الادبية في العلوم العربية والإسلامية...."

نشأ في هذه المدرسة فكان المعي الذكاء كريم الخلق مستقيم الذهن رحب الصدر لحرية الراي وحرية المناقشة..

مجتهدا في كل عمل تولاه

كانت مدرسة عبد الله الجراري غنية وحافلة بما يؤهل المنخرط في سلكها لكي يكون في الطليعة..

طابعا المميز الجهاد العلمي والتعليمي والدعوة الوطنية الإصلاحية التي عملت على تنقية العقيدة من الشوائب والخرافات التي علقت بها.. ضمن الخط السلفي الذي يحارب الاتجاه الطرقي الذي كان طاغيا ومؤثرا في الأوساط الاجتماعية.. ،وقد انحاز عبد الله الجراري الى دعوة الشيخ ابي شعيب الدكالي الذي يعتبر أستاذ السلفية بالمغرب..

وسوف يلتحم هذا العمل الديني السلفي الإصلاحي بالعمل السياسي الوطني في توجه المدرسة الجرارية..

والاسرة الجرارية التي ينحدر منها والد الأستاذ عباس تشتهر الى جانب نبوغ أبنائها في ميدان العلم والصلاح تدريسا وتأليفا ، بالتبريز في مجال السياسة والدفاع حيث تحملوا فيه مسؤوليات كبرى منذ قدومهم الى المغرب..وزادت هذه المسؤوليات في ظل الدولة العلوية..

مسار حياة:

قد يعمد الباحث في السير والتراجم الى المقارنة والترجيح بغية الوصول الى المكونات البارزة للشخصية التي يسعى الى رسم معالمها والوقوف عند خصائصها والملكات التي طبعت مسارها و حددت دورها في مجتمعها وتاثيرها في عصرها..

فلابد بين الاديب والعصر الذي ينشأ فيه من صلة نعرفها لتمام التعريف به والاستدلال على مصادر ادبه وقواعد تفكيره..، فندرس الشخصية لنكون على بصيرة و معرفة بجميع جوانبها وابعادها..

حصل عباس على البكالوريا في الاداب العصرية وهو ابن ثماني عشرة سنة ثم انتقل سنة 1957 الى القاهرة فانخرط في كلية الاداب بجامعة القاهرة.

في سنة 1961 حصل على الاجازة في الادب العربي وتابع دراسته حتى حصل على الماجستير في الادب ثم الدكتوراه من نفس الجامعة..

كان ينوي بعد حصوله على الاجازة في الاداب ان يذهب الى فرنسا ليتابع بها دراسته العليا بغية الحصول على شهادة الدكتوراه من جامعتها وراسل في هذا الشأن المستشرق الشهير " رجيس بلاشير (1900/1973) الذي رحب بطلبه.. الا ان تعينه مستشارا بالسفارة المغربية بالقاهرة اعاده الى رحاب الجامعة المصرية ليتخصص في الادب الاندلسي والمغربي.. ، تناولت رسالته في الماجستير (1965): الأمير الشاعر ابوالربيع سليمان الموحدي ، امارسالة الدكتوراه فكانت حول الشعر الشعبي (شعر الملحون.. 1969)

لقد انصبت ابحاثه بالدرجة الأولى في هذه المرحلة على الادب العربي في الغرب الإسلام وكذلك على الادب الشعبي..

ابتداء من سنة 1966 انقطع للعمل الاكاديمي بالجامعة بفاس ثم بالرباط..

الدرس الادبي:

في مدارج الجامعة استوت شخصيته فتفتقت مواهبه ونضجت مداركه وصقلت معارفه في دراسة الادب وتجويده شعرا ونثرا ليسمو به الى مراتب الادب الرفيع..

الكتابة الأدبية فن والفن لا يكتفى فيه بالافادة او مجرد الافهام بل ينظر فيه الى مجاراة التطوير وذلك بالوقوف على علاقة اللفظ بالمعنى ،فبين الأفكار و البستها اللغوية ترابطا هو غاية في الدقة والتصوير الفني..

الادب الصادق هو الذي ينفذ الى أعماق النفس وبواطن الواقع فيصيب الجوهر الصريح متخطيا حدود الزمان والمكان ويكون بذلك معبرا عن مطالب الروح الإنساني في الشمول والخلود..

في الادب تتجلى المنازع الايمانية والروحية والسعي الى الاصالة ومحاولة الفهم والتعاطف والنفاذ الى اللب والاحتفال بالتجربة والمعاتاة والتعبير الجميل عن الشعور الصادق..

الادب الأصيل يمضي الى الفكرة والدلالة دون ان تعوقه تحليلة الصياغة، وزخرفة التعبير هي الجملة البليغة التي تبلغ فحواها بلا مبالغة في التحلية ولا قصور في التعبير يقف عند الفاظها فيثنيك عن مضامينها..

اذا استقام المنهج اسقام الموضوع.كما ان وسيلة المعرفة تبين موضوع المعرفة..فالوعي او الشعور لا بد ان يكون وعيا كاملا غير ناقص ولا مبتور..

مفهوم الدرس الادبي عند عباس الجراري:

في كتاب " الادب المغربي من خلال ظواهره وقضاياه." يرى ان البحث الادبي تتداخل فيه عناصر ثلاثة تتكامل في اطارها وعي الدارس بها سواء في تكييف نوعه او تحديد درجته وهذه العناصر هي(طبيعة الموضوع /مصادره/ منهج التناول.) واذا كان الادب باعتباره بنية إبداعية ير تبط باشكاله و مضامينه ببقية بنيات المجتمع الذي ينبغ فيه مبدعوه، فلا مناص ان تتاثر بالعناصر الجدلية التي توجه حركة التاريخ في هذا المجتمع وتتحكم في تشكيل نمطه وتكوين شخصية افراده..(ص3).

المنهج مرتبط برسالة الجامعة ولن يتسنى لها القيام بدورها العلمي والمعرفي الا اذا ربطت برامجها ومناهجها باختيارات المجتمع.. وعليها ان تجعل هدفها نشر الوعي وتوجيه الراي وصقل الذهن وتوضيح الرؤية وتعميق المفاهيم وتهذيب القيم.. وان تلح في ان يكون العلم في خدمة قضايا الوطن.. والتوسل به في تحديد الشخصية الهوية الوطنية والتطلع الى مستقبلها المنظور او البعيد..كما يجب ان تعطي بعدا قوميا واضحا للعلوم الإنسانية.. من اجل تكوين ثقافة وطنية وصياغة فكر جديد ينقل الفكر القديم الى الأجيال الناشئة بعد تغيير النظر اليه واخضاعه لمقاييس النقد العلمي حتى يتسنى لهذه الأجيال ان تتعرف على التجارب السالفة وتدرك اسرار التطور وان تنمي فكرها وشخصيتها وتربي فيها استقلال الراي..(ص8)

ان المنهاج الذي تناول به قضايا الادب وظواهره في تشكل المحتوى او النوع والكيف انطلق من تمثل الإقليمية التي تعتمد البيئة و وموقوماتها ومؤثراتها في الادب..دون اغفال الشخصية الذاتية والموهبة الفردية..

كما ان الإقليمية لا تعني عنده المحلية الضيقة..وانما يعتبر الوسلية للم شتات الادب العربي وابداعاته..والوسيلة كذلك الى العالمية والإنسانية..

فالشتات هو الذي يسمح باستخراج الصورة للمغرب سواء في تاريخه السياسي او الفكري..

اما المحتوى او الكيف فيقضي بمعالجة هذه الظواهر بفكر نقدي يستند الى الواقع والمعاصرة وبجدلية موضوعية..كما يعتمدان على معطيات استقرائية واستنتاجات منطقية..بعيدا عن أي معتقدية متزمتة او موقف تبريري.. بحيث لا يمكن فصل المنهج عن المضمون كما لا يمكن ممارسة نقد قبلي على المعرفة.. (ص9).

الملاحظ ان الأستاذ عباس يتناول الظواهر والقضايا الأدبية من زاوية تعطي الاسبقية للتمثل العقي على النقد التاثيري أي النظرة العقلانية وليس مجرد التذوق الفني والاحساس الجمالي..او الانفعال الانطباعي بالاثر المدروس..

وبهذا يحقق المنهج جملة اهداف في طليعتها الكشف عن مواطن الجمال وعن الدلالات الفنية وما ينبثق عنها من مضامين فكرية باعتبار الجانب الفني المتمحور حول اللغة وبنائها التركيبي ظاهرا يبطن فكرا او يخفي ابعادا أخرى عميقة..وبذلك تبرز قيمة الابداع في مختلف تجلياتها الشعرية والفكرية والابعاد الإنسانية..

ويحقق المنهج أهدافه باثبات الوقائع وربطها بالاسباب ووصف الظواهر وتعليلها والبحث عن بواعثها الخفية والظاهرة.. واستخلاص العلاقات التفاعلية بينها وبين غيرها..(ص9).

و صفوة القول ان الهدف من الدرس الادبي وضع منهج لمقاربة ظواهره وقضاياه ليتسنى للباحثين والقراء عامة التعرف على مايزخر به من قيم ومثل وخصائص ومقومات أسهمت في تشكيل الشخصية الثقافية والحضارية للمغرب عبر التاريخ..كما ان الدراسة تفتح افاقا جديدة لاستشراف المستقبل..

الحقل المعرفي لمشروع عباس الجراري

تطرق الأستاذ عباس في خطاب العضوية باكاديمية المملكة المغربية (1983) للاسس والمرتكزات التي يتالف منها مشروعه الفكري الموسوعي في الادب والنقد والتاريخ والدين..

" المنطلق من إيجاد عناصر التقاء بين الثقافات..ثم البحث في كل ثقافة عن اسهاماتها الإبداعية ومقوماتها الاصلية النابعة من التجربة التي تتفرد بها والتي تفضي الى خصائص الغنى والتميز ومن خلال ذلك يمكن ابراز ما يكمن في هذه الثقافة او تلك من قيم إنسانية تتيح لها ان تتجاوب وتتحاور..وتؤهلها لتتخطى حدود المحلية الضيقة وتعانق الافاق الواسعة لكافة البشرية (ص178 منشورات الاكاديمية حول استقبال الأعضاء الجدد/1980/1986/).

انطلاقا من هذا الوعي تبلورت عنده رؤية شمولية للتراث المغربي في نظرة تكاملية توحيدية جعلته يبحث في الصيغة المدرسية التي تتمثل في الاثار العلمية والأدبية المدونة ثم في صيغته الشعبية التي تتجلى فيما ابدعه الشعب بمختلف طبقاته من أنماط ثقافية وحضارية.. كما تبدو ظواهرها فيما يمارسه الشعب من تقاليد وقيم واخلاق وما يزاوله من فنون وصناعات تغوص في أعماقه الواعية واللاواعية..تكيف مشاعره ووجدانه وتحدد مزاجه وشخصيته وتميز عبقريته..

و في هذ الاطار يمكن تفسير انتشار ظاهرة الثقافة الشعبية ونومها في اتجاهين متكاملين: احدهما يعتمد البحث المعمق والاقتباس مما عند الاخرين والثاني يسعى الى توسيع قاعدة الثقافة باعتبارها قاعدة للجميع..

وقد اهتم بالصيغتين في رحاب الجامعة باعتبار التعليم والبحث مقومين في رسالة الجامعة الى تكوين أجيال مزودين بالعلم نظرا وتطبقا وعارفين بدورهم وقادرين على تحمل المسؤولية الوطنية وبث الوعي بالمبادئ السامية والاهداف المقدسة للامة.،.آ خذين بزمام المبادرة والنهوض باعباء التطور والتقدم وإيجاد صياغة متجددة للحياة والانسان وعلى تنمية البحث العلمي بفكر نقدي حر قائم واصيل قادر على الابداع والابتكار بمنهجية سليمة ونظر شمولي مفتوح على مختلف الافاق الإنسانية بعيدا عن الانغلاق وعن السير في ركاب أي تيار يكرس التبعية..(نفس المصدر ص 179.

فهو يتناول الادب المغربي بمعنى الإنتاج الفكري الشامل للامة..دون حصره في الاطار الاصطلاحي المتداول المحدد في الشعر والنثر الفني.. ومن ثم فان التراث عنده يشمل الثقافة العالمة او المدرسية والثقافة الشعبية بروافدها الثرية التي تتسم بالتنوع والتعدد..

على أساس ان التراث هو وعاء منظورات الامة ومقولاتها وتجاربها وانه هو دليل حياتها ووثيقة وجودها ومنظومة معرفتها في ما صيها وحاضرها وما تتطلع اليه مو رؤى وتصورات مستقبلية..

دراسة التراث عند عباس الجراري تعني بالجانب المضئ الشفاف الذي يحفز على إعادة ترتيبه وتجديد تركيبه وتطويعه بالتفسير والتحليل والتقويم حتى يصير جزءا من كيان الامة في ارتباط وثيق مع حركة التاريخ خلال الحقب والازمان..

ان عملية تحديث الماضي هي التي افرزت ظواهر ثقافية وحضارية متعددة تعاقب نموها وتطورها طوال عهود التاريخ بما جعلها تتجذر وتتفاعل بخصوصية وتلقائية متأثرة بما تعانقه من ظواهر مماثلة لها في الحضارات والثقافات الأخرى..(نفس المصدر ص179).

البيئة الإقليمية واثرها في البناء الثقافي والحضاري

كانت نقطة المنطلق في مشروع عباس الجراري دراسة البيئة الإقليمية ومقوماتها ومؤثراتها عامة في الاجتماع الإنساني.. باعتبارها هدفا ووسيلة للم شتات الادب العربي والفكر الإسلامي.. وغيرها من أنماط التراث في كل البيئات الحضارية والثقافية التي اتاحت الابداع..واعتبرها سبيلا لتكميل الرؤية الوحدوية الثرية انطلاقا من التجربة المحلية لكل إقليم فضلا عن العوامل البيئية التي تنعكس على المزاج والروح وعلى الطابع واللون..

واعتبر الإقليمية جواز المرور الى العالمية الإنسانية حين تنصهر تلكم العوامل في آفاق الكون الواسع..

ان المغرب مؤهل لهذا التفاعل بموقعه الجغرافي الافريقي واطلالته على بحرين متحكما في منافذهما ومنفتحا على ما ورائهما..

لقد رسم الموقع وجهة المغرب التاريخية وجعله يقوم بدور الربط والاتصال والتاليف بين الشعوب والحضارات..

مما يكشف عن عقلية واقعية تعتمد الحس والتجريب والميل الى تجسيد الأفكار المجردة الى حقائق ملموسة وبذلك يكتسب إرادة قوية لا ثبات كيانه وتحقيق مطامحه مع قدرة على الاخذ والعطاء والتفاعل والتبادل..

وما يلبث الدور ان يتجدد بسريان الروح الإسلامي في اعماقه وأعاد خلقه وغير مجرى الحياة فيه وفتح له افاقا حضارية وثقافية جديدتين اهتدى في بنائهما بمثل عليا نابعة من تمازج العقل والروح..مما اهله ليتحمل في نطاق الفكر والعقيدة رسالة تخاطب الإنسانية عامة في كل زمان.. وهي رسالة تقوم على العلم والعمل وعلى التدبر والاقناع والتعايش والتساكن والتاخي والتراحم..(نفس المصدر ص180).

الثقافة ورسالة تجديد الفكر والإصلاح المجتمعي

تناول الأستاذ عباس الجراري في كتابيه (الثقافة في معركة التغيير /1972) وبقليا كلام في الثقافة/1999) دور الثقافة في عملية التجديد والحاجة الى ثورة ثقافية تؤسس لثقافة وطنية..و الحسم في قضايا التقليد والتراث في مقابل المعاصرة..

الا ان ذلك لم يتحقق على النحو المامول لاسباب موضوعية ومفتعلة..بدليل ان تلك القضيا مازالت معروضة للنقاش..

ورغم التطور الكبير الذي عرفته الثقافة ما زال الرهان قائما بأكثر مما كان.. نتيجة الصراعات في مواجهة التحديات المحلية والإقليمية والعالمية..

يرى ان مفهوم الثقافة يتضمن الثقافة العامة والثقافة التخصصية..فالتخصصية تتمثل في جميع المعارف التي تتصل بالتخصص اما الثقافة العامة فهي ما يشترك فيه الجميع من اثار وتقاليد وآداب ومعارف إنسانية..

ان توسيع دائرة المعارف اسهم في تكوين عقل المتلقي وتربية فكره وتنمية ملكاته الخلاقة..

وينبغي ان تكون الثقافة تعبير عن مظاهر التاريخ الوطني والإنساني ومعالم الاداب القومية والعالمية.. ونظرات في العلم و القانون والدين.. وغيرها من أنواع المعرفة دون حصرها..

وقد ربط الحاجة الى ثورة الثقافية بالحاجة الى ثورة أخلاقية لانه يعتبر ان الجانب الخلقي مكون أساسي من مكونات الثقافة.. وان الهدف من تثوير الثقافة ليس الهيمنة والسيطرة..

فالهدف هو تحريك المقومات الحية في الثقافة لكي تنهض بالدور المنوط بها في التوجيه والتقويم بتوازن واعتدال وتسامح وعقلانية.. لتؤدي بذلك رسالتها العلمية والمجتمعية.. وهي رسالة ريادية تعمل على تحديث المجتمع وتنوير فكره وتوعية قادته وجماهيره بقيم الحرية والعدل والمساواة وكذلك قيم العمل والإنتاج..مما نعني ان نؤسس لثقافة قادرة على التعامل مع الواقع وتحليله وفهمه ونقده وقادرة كذلك على فتح افاق الابداع والاجتهاد وخلق مجالات الحوار مع الذات والأخر على أساس القبول والتبادل والتعاون..وهذا يتطلب وضع استراتيجية ثقافية وطنية تتشكل من جميع الأنماط الثقافية التي يزخر بها المجتمع الذي يتسم

بالتعدد والتنوع مما يغني الثقافة الوطنية ويمنحها البعد الوطني.. والقوة على التبلور والالتئام مع الثقافات الأخرى عربية وإسلامية وعالمية.. وان تكون لها القدرة على اثارة القضايا الشائكة والعويصة مع الاجتهاد في إيجاد حل لها..

وبهذا تخرج الثقافة من تقليدها وجمودها وعزلتها وخشيتا من ان تهيمن عليها المؤسسات والتنظيمات الرسمية..

فتتوسل بالتحليل العلمي والتخطيط المستقبلي لصد المحاولات التي تسعى الى اجهاض العمل الثقافي ومحاربة الإصلاح والتغيير.. (يراجع الحوار في العلم الثقافي /1/2/ 2024).

تجديد الفكر الإسلامي بين التحدى واليقظة والإصلاح

تطرق عباس الجراري في في مؤلفاته الفكرية الى قضايا تطور الفكر الإسلامي وآفاق تجديده وما واجهه من تحديات منذ الغزو الأوروبي للعالم الإسلامي..

الفكر الإسلامي هو خلاصة ما انتجه المسلمون في مضمار الحضارة والثقافة وكل المبدعات العقلية والشعورية وما يرتبط بها من تصورات وآمال..و اليقظة بها يقظة بالفكر..، واما التحدى فيعني تحدى خصوم هذا الفكر.. والتحدى يولد اليقظة..

اذا نظرنا الى الفكر الإسلامي برؤية مستقبلية سنتعرف على الطريقة التي يواجه بها التحديات التي تعترضه..وعلى الأساليب التي يتوسل بها المسلمون في الصد التحديات..

يرى عباس الجراري ان اول هذه الأساليب يعتمد على تطوير التراث وعلى امتصاص ما عند الاخرين ودمجه بوعي وعمق في الفكر الإسلامي دون اية عقدة..

الأسلوب الثاني لجأ اليه مفكرو الإسلام طوال قرون وبرز فيه "الغزالي وابن تيمية" واضرابهم من العلماء الذين بذلوا جهودا جبارة في ابطال اباطيل خصوم الإسلام من المبتدعة..

الأسلوب الثالث في هذا المضمار هو أسلوب حركة الإصلاح الحديثة التي ظهرت في الشرق على يد جماعة من المصلحين..منهم محمد بن عبد الوهاب الذي اهتم بإصلاح العقيدة والافغاني الذي اهتم بالإصلاح السياسي ووحدة المسلمين وتلميذه محمد عبده الذي اهتم بإصلاح التعليم وتربية النفوس..

وفي المغرب ظهرت حركة سلفية إصلاحية تزعمها ابوشعيب الدكالي والتي نشأت عنها الحركة الوطنية المغربية التحم فيها العمل الثقافي بالعمل السياسي..

وهكدا احتفظ الفكر الإسلامي بحد ادنى من الحيوية والفعالية ومن القدرة على التفاعل والصراع والصمود والمواجهة..

ويضيف الأستاذ عباس بان البديل هو طرح المنهج الإسلامي الصالح للعصر، والاخذ باسباب البحث العلمي الجديد وما يظهر من مقاييس وادلة وطرائق ومناهج عقلية وتوظيفها دون السقوط في حبائلها الاستلابية..، يحمينا رصيدنا من التقاليد الراسخة في هذا المجال..(كتاب فكر الوحدة /ص 30).

ومن نافل القول ان طلب العلم في الإسلام فريضة والتفكير أيضا فريضة.. والمعرفة الإسلامية تقوم على الحس والتجريب وتلح على اسعمال العقل بالتامل والقياس والاستنباط خدمة للحياة العملية للمجتمع..

وان تقديم قراءة جديدة لاصول الفكر الإسلامي تبتعد عن النقل والتقليد وتعتمد العقل والراي والنقد.. بحثا عن حقائق الأشياء وسعيا للوصول الى الجوهر والعمق وتصفية لهذ الفكر من كل الشوائب التي علقت به خلال التاريخ ليكون مقنعا للعقل العلمي المعاصر..تتجانس فيه واقعية العصر ومثالية الإسلام.. ومبشرا بالمستقبل.. يحفظ للمسلمين وحدتهم العقدية والفكرية..ويجعلهم قادرين على مواجهة التحديات واحباطها والتغلب عليها..

ويكون صالحا تستظل به جميع المجتمعات البشرية انطلاقا من انسية جديدة تتميز بالاصالة المستمدة من إيجابيات الماضي وتفتح على المستقبل واستيعاب كل ما يغنيه من الفكر الإنساني..

هذه القراءة الجديدة هي التي تجعلنا نستعيد خط الاصالة الحق الذي ضاع منا او كاد..(المصدر السابق /ص 38).

ولا شك بان التعليم يعتبر انجع وسيلة لاحداث التغيير وبث مفاهيم جديدة والانطلاق منها الى الى جميع الأصعدة والمستويات..

الفكر الإسلامي الجديد عند عباس الجراري مؤسس على ظاهرتي الوسطية والتجديد باعتبارهما من ابرز نتائج التفاعل الذي حدث بين الإسلام والشخصية المغربية عبر التاريخ.. وتتجلى الوسطية في عدة مظاهر أهمها التمسك بالاعتدال المذهبي ورفض التطرف.. والثاني يكمن في الموقف بين العقل والنقل في مسائل العقيدة.. واما الثالث فيتجلى في التوازن بين الحقيقة والشريعة بين الظاهر والباطن او الظاهر الفقهي والباطن الصوفي.. وهذا موقف يحث على التزام تصوف معتدل سني ينضبط بحدود الشريعة..

اما التجديد فهو وسط بين التقليد والابتداع.. ويكاد التجديد يقترن عند المغاربة بالاتباع الذي نعني اتباع الحق ويقتنعون بالدليل ويحترمون راي الائمة الذين يقتدون بهم..(يراجع في هذا الموضوع كتاب دروس حسنية / ص1127الى 119).

خاتمة

هذه بعض اللمحات والومضات اردنا من خلالها ان نقف عند جانب وملمح من صور التجديد في فكر استاذنا عباس الجراري رضي الله عنه.. وما عرضناه من إشارات بهذا الصدد لا يعدو سوى غيض من فيض من فكره الثري الشامل..

فقد تناول مظاهر التأثر الواقع الجديد الذي فرضته الحضارة الغربية على المجتمعات الإسلامية.. هادفا من وراء ذلك تحرير الفكر من التبعية للغرب.. وكان واعيا باننا لن نتحرر سياسيا اذا لم نتحرر ثقافيا واعتقاديا وعقليا من التبعية للغرب..

فالحضارة الغربية تنطوي على فكر عقلاني احادي النظرة ، لا يومن بغير سيادته المطلقة ونزعته للهيمنة على الاخرين..

فكان يرى ان نهضة العالم الإسلامي تقوم على عوامل أربعة: التجديد الديني واحياء الثقافة الإسلامية وبعث تراثها والاتصال بالثقافات الأخرى اتصال تثاقف واقتباس.. من اجل تغيير واقع المجتمعات الإسلامية السياسي والاجتماعية تغيرا يفرض الاخذ واصطناع الكثير من الأنظمة والمناهج الحضارية الجديدة..

ومن نافل القول ان الثقافة الإسلامية ثقافة تفاعلية باعتبارها منظومة مبادئ وقيم ومنهج حياة..

يمارس علماؤها ضروب الاجتهاد مما يمكنهم من الاستفادة من كل ما ينتجه العقل ويتمخض عنه من التجارب الإنسانية من منطلق ان ثقافة الإسلام وحضارته ثمرة تفاعل مستمرة بين الاتباع والابتداع والوحي والعقل والثابت والمتحول..

وبرى عباس باننا امة لها تاريخ وتراث وحضارة ولها مبادئ وقيم ومقدسات ولن تقبل ان تعيش في عزلة ولن تقبل أي تسلل يمحو معالم شخصيتها.. ويضيف باننا نحتاج الى ثورة ثقافية وتخطيط ودراسة تبحث في أصول ثقافتنا وما ألم بها من تطور وتغيير لمعرفة المراحل التاريخية التي مرت بها والتأثيرات التي خضعت لها.. والتفاعلات التي حدثت لها.. مع غيرها من الثقافات..(بقايا كلام في الثقافة /ص45).

ان الثقافة تفيد التسوية والاتقان والحضارة وتشمل الفنون والاداب والقانون والأخلاق والعادات والتجارب الإنسانية وكل ما يثقف الذهن ويهذب الطبع ويربي العقل..انها الحافز على الحياة والبناء والسير في مضمار التقدم والحضارة..والانطلاق لافاق جديدة من اجل خلق ثقافة جديدة أساسها الأصول القديمة..اننا لن نستطيع الاسهام في الثقافة الإنسانية ما لم نضف من انتاجنا المطبوع بروح وطنيتنا..فمن تراثنا نبعث كل مفاهمنا للحياة..

من هنا تصبح الحاجة ماسة الى فكر نا هض يطرح بديلا للفكر المزيف..(ص51 نفس المصدر..).

ان ما نريده من الفكر هو ان يجعلنا نعشق التقدم والعمل من اجله باستمرار..

ان التفكير والنظر هما المصباح الذي يجب ان يكون معنا في سيرنا وتوجهنا وان نمضي مستنيرين بعقولنا..مقتبسين ماهوصالح لانبعاثنا..ان الوجود بغير فكر حر لهو العدم ، وان مدنية لا تقوم على التحرر والتبصر لهي التوحش ولو كانت في احدث طراز.. واستقلال الفرد او الامة لا يتم الا بالفكر الصحيح الذي يضمن الوصول الى ماهو اسمى وادراك الغاية التي يكافح المرء من اجلها للتقدم..

وان التفكير بالمثال هو الذي يربط مستقبلنا بحاضرنا وبماضينا القومي والإنساني..وقضية الدين هي مسالة المسائل في العالم واما ان تكون هي الفكرة المالكة لكل الشؤون واما ان لا تكون بالمرة.. ومن خطل الراي محاولة اخذ الدين كشيئ خاص بجانب من جوانب الحياة دون غيرها وليس هناك امر يماثل الطبيعة في شمولها وسريانها مثل الدين..

ان في اطوار التاريخ امثلة ان عدم الاعتداد بالدين في امة يؤدي حتما الى التقهر والانحلال..

وما حافظت امة على المثل الأعلى الإلهي الا احتفظت بحياتها وفخرها ومكانتها.. (علال الفاسي النقد الذاتي بتصرف..).

***

أحمد بابانا العلوي

 

في المثقف اليوم