دراسات وبحوث

محمد محفوظ: العرب الشيعة والمسألة الطائفية

مقدمة: لأسباب وعوامل سياسية ومجتمعية عديدة، لم تتمكن المجتمعات العربية من التعامل مع التنوع المذهبي الذي تعيشه على نحو ايجابي. بحيث أن أغلب المجتمعات العربية، التي تعيش حقائق التنوع والتعدد، تعاني من مشكلة حقيقية تتجسد في عدم قدرة هذا المجتمع من التعامل على نحو إيجابي مع حقائق التعدد التي تحتضنها. وفي تقديرنا أن العوامل الأساسية التي تنتج هذه الظاهرة أهمها الآتي:

1. طبيعة الأنظمة السياسية السائدة في أغلب دول المنطقة العربية.لأن أغلب هذه الأنظمة لا تعترف إلا برأيها وأيدلوجيتها، وكل رأي مختلف أو أيدلوجية مغايرة، فإن الموقف الأساسي منها هو الخصومة والتهميش وممارسة التمييز ضد أهلها.

2. الرؤية الدينية المتطرفة والتي تتعامل مع ذاتها، بوصفها هي القابضة على الحق والحقيقة، ودونها من الرؤى الدينية تتهم في شرعيتها ويطلق عليها العديد من الأوصاف ومن أبرزها الهرطقة الدينية، وبالتالي فان أصحاب هذه الرؤية الدينية مآلها الإبعاد وممارسة الاستثناء معها في أغلب جوانب ومجالات الحياة.

3. طبيعة الثقافة السياسية السائدة في المنطقة العربية، وهي ثقافة في أغلب جوانبها، معادية لكل حقائق التعدد والتنوع. وبالتالي فإن طبيعة التكوين الثقافي والسياسي لأغلب أبناء النخبة السياسية، لا ترى خيرا في التعدد والتنوع، وتتعامل مع بعض حقائقه ومتطلباته بوصفها مناقضة للوحدة الاجتماعية والوطنية. وعليه فإن المطلوب هو التعامل مع هذه الحقائق بوصفها حقائق مضادة للمشروع الأيدلوجي أو السياسي الذي تحمله النخب السياسية السائدة. ولا فرق جوهري بينها على هذا الصعيد، سواء كانت هذه النخب تتبنى الرؤية الدينية أو تتبنى الرؤية القومية. فكل الأنظمة السياسية ذات الصبغة الدينية، سقطت في امتحان التعددية، ولم تتعامل مع حقائق التنوع في مجتمعها على نحو ايجابي.

كما أن الأنظمة القومية - التقدمية سقطت في ذات الامتحان، ولم تتمكن من بناء نموذج إيجابي في طريقة التعامل مع حقائق التنوع في مجتمعها. أنظمة سياسية مارست الطائفية والتمييز الطائفي، على خلفية مذهبية متطرفة أو معادية لكل حقائق التعدد والتنوع في مجتمعها. وأنظمة سياسية أخرى مارست التمييز الطائفي على خلفية احتكار السلطة والثروة. وعلى ضوء هذا الاحتكار هي تمارس عملية الطرد لبعض مكونات مجتمعها. ولعل من أبرز مبررات الطرد الانتماء إلى مذهب أو مدرسة فقهية أو سياسية تشكل خطرا على أمن البلد واستقراره السياسي. وعلى ضوء هذه الحقائق، لم يتمكن العرب في أغلب دولهم، من بناء نموذج حضاري في طريقة التعامل مع حقائق التعدد المذهبي الموجودة في المجتمعات العربية.

والإخفاق المتراكم في طريقة التعامل مع حقائق التعدد المذهبي، أنتج مشكلة سياسية عميقة في الاجتماع العربي المعاصر يمكن تسميتها بالمشكلة الطائفية.

ولو تأملنا في تجربة العرب الشيعة في أغلب دولهم العربية لوجدنا أن هذا المكون يعاني من مشكلة التمييز الطائفي الذي يمارس عليه لاعتبارات سياسية تتعلق بطبيعة التكوين السياسي للدولة أو من مقتضيات الاستبداد والاستفراد والاستئثار بالسلطة والثروة.

وعليه فإن العرب الشيعة في أغلب دولهم العربية المعاصرة، يتم التعامل معهم بوصفهم مواطنين من الدرجة الثانية أو الثالثة.

وإن جل ما يتطلعون إليه على هذا الصعيد هو مساواتهم مع بقية المواطنين، ورفع كل أشكال التمييز الطائفي عن واقعهم ومجتمعهم. وهذا الواقع الطائفي متعدد الوجوه والأشكال، يفرض على كل من يدرس واقع العرب الشيعة من الاقتراب من تحليل ونقد الواقع الطائفي في المنطقة العربية.

وانطلاقا من هذا سنعمل على مقاربة هذا الموضوع من خلال العناوين التالية.

في نقد التحليل الطائفي:

تكثر في أزمنة انفجار الهويات الفرعية، أي هويات ما قبل المواطنة الجامعة والدولة الحديثة، الأحكام الكاسحة على هذه الهويات الفرعية وكأنها حالة ثقافية وسياسية واحدة ومتحدة.. فالهويات الفرعية ليست على المستويين الثقافي والسياسي، رأيا واحدا، وموقفا واحدا، وإنما هي كأي بيئة اجتماعية، تتحد في بعض العناوين، وتختلف في عناوين أخرى.. وهذه هي الحقيقة الوحيدة في داخل كل هوية فرعية موجودة في أي بيئة اجتماعية..

والتعامل مع أهل هذه الهويات الفرعية، وكأنها حزب سياسي أو مجموعة ثقافية منسجمة وتستهدف أهداف وغايات مشتركة، يشكل مجافاة صارخة للواقع من جهة، ومن جهة ثانية، يساهم في تأجيج التوترات بين جميع المكونات وأهل الهويات الفرعية..

والأدهى من ذلك، والذي يثير الكثير من الغرابة والاستهجان في بعض الأحيان، حينما نحلل الأحداث والتطورات السياسية والاجتماعية انطلاقا من وحدة الماهية والرأي والموقف لمجتمعات الهويات الفرعية.. لأن هذه التحليلات المستندة على الوحدة السياسية للطوائف والقبائل والعشائر وكل هوية فرعية أخرى، تتعامل مع هذه الوجودات الاجتماعية بسطحية، وبتجاهل لحقيقة تعدد الخيارات الثقافية والسياسية لكل المجموعات البشرية. لذلك فإن نتائج التحليل في أغلبها، تزيد من الهواجس، وتمعن في التقسيم العمودي والأفقي للمجتمع، وتعيد كل أعباء التاريخ وأحداثه إلى اللحظة الراهنة مع بهارات جديدة، تزيد من الإحن والأحقاد ومسوغات الفرقة والتشظي بين أهل الوطن الواحد..

لذلك فإننا نعتقد أن التفسير الطائفي أو الطوائفي للأحداث، هو تفسير لا يتمكن من استيعاب كل جوانب الحدث ومتوالياته، كما أنه لا يوصلنا إلى قراءة عميقة ودقيقة لكل الأحداث والتطورات.. صحيح أن العالم العربي من أقصاه إلى أقصاه يشهد اليوم، عملية استقطاب طائفي ومذهبي حاد، وتأتي الأحداث السياسية والتطورات الأمنية في أكثر من بلد عربي وإسلامي، لتغذي عملية الاستقطاب، وتزيدها حدة واشتعالا وعمقا.. ولكن لا يمكن الاستسلام لمقتضيات الاستقطاب الطائفي الحاد، ونخضع كل أدواتنا الثقافية والعلمية والتحليلية إلى سياقها التاريخي والاجتماعي، لأن هذا الخضوع يدخل المنطقة العربية برمتها في أتون حروب طائفية - عبثية، لا أفق لها إلا دمار الجميع، والقضاء على كل أسس وموجبات الاستقرار السياسي والاجتماعي في كل بلدان المنطقة..

لذلك نحن نحذر من الاستسهال في استخدام المنطق الطائفي والمذهبي، في النظر إلى أحداث المنطقة وتطوراته المتعددة.. ووجود طرف مذهبي أو طائفي له قناعاته الفكرية والسياسية لا يبرر لأي أحد إطلاق نعوتات أو أحكام قيمة كاسحة على جميع من ينتمون إلى الإطار المذهبي والطائفي..

وبلغة أكثر شفافية وصراحة، إن اختلاف دول المنطقة مع دول وأطراف شيعية في المنطقة، ينبغي أن لا يدفع هذه الأطراف إلى إطلاق أحكام أو أوصاف بحق الشيعة في كل مناطقهم وبلدانهم.. وإن غض النظر أو التساهل مع المواد والبرامج الإعلامية والدينية، والتي تطلق أحكاما قاسية ضد عموم العرب الشيعة، ينذر بمخاطر ينبغي تلافيها، بعدم التعميم، وإنهاء الخطابات الطائفية التي تتعامل مع العرب الشيعة بوصفهم عدو الأمة، وإن فيهم ما فيهم على المستويات العقدية والأخلاقية والاجتماعية..

إننا ومن موقع حرصنا على أوطاننا ومجتمعاتنا، نرفض هذه الخطابات وهذا السلوك، وندعو عقلاء الأمة من جميع الأطراف إلى الانتباه إلى مخاطر هذا التوجه على الأمن والاستقرار في كل دول المنطقة.. فالعرب الشيعة في منطقة الخليج، هم جزء أصيل من أوطانهم، وبذلوا الكثير عبر التاريخ من التضحيات في سبيل عزة أوطانهم، ويرفضون كل نزعات فحص الدم مع كل حدث سياسي يجري في المنطقة.. كما يرفضون إطلاق نعوتات وأوصاف سيئة بحق مذهبهم وقناعاتهم المذهبية.. والأوطان لا تبنى إلا بعلاقة إيجابية بين جميع أطرافه ومكوناته..

وبناء العلاقة الإيجابية بين جميع الأطراف، هي مسؤولية الجميع.. ولكن من الضروري القول في هذا السياق: ضرورة العمل على تحييد المكونات الوطنية من حالة الاستقطاب الطائفي التي تشهدها المنطقة.. وعملية التحييد تعني:

1. رفض التحليل الطائفي للأحداث السياسية، وعدم التعامل مع هذه المكونات، وكأنها على رأي واحد في كل مسائل السياسة وشؤون الحياة.. فهم مجتمع كبقية المجتمعات، فهم متعددون ومتنوعون على مستوى قناعاتهم الفكرية وخياراتهم السياسية والثقافية..

2. ثمة علاقة جدلية بين الانتماء الوطني والانتماء المذهبي أو الديني أو القومي..

وطبيعة الخيارات السياسية والثقافية والاجتماعية، هي التي تحدد إلى حد كبير طبيعة العلاقة بين الانتماء الوطني والانتماء المذهبي والديني والقومي. فكل إنسان بصرف النظر عن نوعية انتماءه، يعتز بوطنه ويدافع عن مكتسباته، ويسعى لتحسين واقع حياته ومعيشته فيه (أي في الوطن) كما أن كل إنسان يعتز بقناعاته الدينية والمذهبية، ولا يرون ثمة تناقضا بين الاعتزاز بالانتماء الوطني والاعتزاز بالانتماء الآخر.. لذلك ثمة تكاملا واقعيا وحقيقيا بين دوائر الانتماء التي يعيشها الإنسان في الوجود الاجتماعي والوطني..

ولا مقايضة بين هذه الانتماءات.. لأن كل دائرة من دوائر الانتماء، تلبي حاجة أصيلة من حاجات الإنسان المادية والمعنوية..

فالمطلوب ليس طرد الناس من انتماءاتهم الدينية أو المذهبية أو القومية، بدعوى الانتماء الوطني أو العكس، أي طرد الناس من انتماءهم الوطني بدعوى الانتماء الديني أو المذهبي أو القومي.. فالمطلوب هو بناء صيغة توافقية وتكاملية بين هذه الانتماءات، بحيث يعتز بهما جميعا، ويفي بمتطلبات الانتماء إليهما..

فالانتماء الوطني انتماء أصيل ونهائي، ولا يمكن تعويضه بأي انتماء، كما أن الانتماء الآخر هو انتماء أصيل وليس بديلا عن دوائر الانتماء الأخرى.. والأوطان جميعا لا تبنى على الانتماء الواحد والبسيط، وإنما تبنى على مجموعة من دوائر الانتماء المتداخلة والمتكاملة في آن.. تبدأ بالانتماء إلى أسرة وعائلة مرورا بالانتماء إلى وطن ودين ومذهب وتنتهي إلى الانتماء الإنساني.. فالناس صنفان إما أخ لك في الدين أو نظير لك في الخلق..

3. على المستوى الوطني ندعو مركز الملك عبدالعزيز للحوار الوطني إلى تفعيل دوره وتطوير مبادراته في سياق الحوار بين تعبيرات المجتمع السعودي، في لحظة عصيبة على الجميع، حيث الاستقطابات الطائفية والسياسة الحادة..

فتفعيل الحوار، والقيام بمبادرات جديدة ونوعية في هذا السياق، يساهم في تقديرنا في الحد من غلواء التطرف ونزعة الاستقطاب الطائفي، التي تنعكس بشكل أو بآخر على مجتمعنا..

فالحوار هو سبيل جميع المكونات للحفاظ على مجتمعهم وسلامة وطنهم.. إننا في الوقت الذي نعبر عن تضامننا مع كل الشعوب المطالبة بحريتها وإصلاح أوضاعها، نرفض أن نتحمل مسؤولية أعمال غيرنا وخياراتهم السياسية والثقافية..

تفكيك الخطر الطائفي:

في زمن الاصطفافات الطائفية والمذهبية الحادة، وفي زمن التراشق والتلاسن والحروب المفتوحة بين الجماعات البشرية، التي تشكلت من خلال انتماءها التاريخي.. في هذا الزمن المليء بالأحقاد والإحن، يتم تسويق النظرات والمواقف النمطية، التي تعمم الرأي والموقف على الجميع، دون الالتفاف إلى مسألة التباينات والفروقات والخصوصيات بين أفراد كل مجموعة بشرية..

ولعل أهم ميزات القراءات والمواقف النمطية على الآخرين، أنها تطمس بحالة قسرية المشتركات ومساحات التوافق والتداخل، ويتم التعامل مع الآخر بوصفه آخرا بالمطلق.. والآخر بالمطلق في الدائرة الإسلامية والإنسانية، قد يكون نادرا بندرة الكبريت الأحمر.. لأن مستوى التداخل الثقافي والإنساني بين البشر أصبح عميقا ويوميا، بحيث أن بعض ما لدينا ونعتبره من مختصاتنا، هو في حقيقة الأمر قد يكون من الآخر الذي نمارس بحقه فعل النبذ والطرد والاستئصال.. وهذه المقولة تنطبق على جميع الأطراف، فبعض ما لدى كل طرف هو من الطرف الآخر.. وهذا بطبيعة الحال، لا يعيب أحدا، ولا يفتئت على أحد، وإنما هو من طبائع الأمور والحياة الإنسانية المركبة والمتداخلة في كل دوائر الوجود الإنساني.

وبالتالي فإن الرؤية النمطية التي تطلق آراء ومواقف بالجملة على المختلف والمغاير لا تنسجم وحقائق الأمور.. لذلك ثمة قصور حقيقي تعانيه النزعات النمطية في إدراك جوهر المشاكل والأمور العالقة بين مكونات اجتماعية متعددة ومتنوعة.. لأن هذه النزعات بطبعها نزعات اختزالية، تعتني بتسويق التباين والتشظي والتذرر، وتعمل على بناء الحواجز النفسية والعملية بين المختلفين تحول دون التلاقي والتفاهم وتوسيع المشتركات.. فكل نزعة نمطية في أي دائرة من دوائر الاختلاف في الوجود الإنساني، هي تعمل على طمس المشتركات والتوافقات سواء التاريخية أو الراهنة، وتستدعي وتضخم كل التباينات والفروقات مهما كان حجمها أو دورها الفعلي في إيجاد حالة التباين سواء في الرأي أو الموقف.

لذلك فإن الخطوة الأولى في مشروع تجسير العلاقة بين المكونات المذهبية في الأمة، هي في تجاوز كل مقتضيات الرؤية النمطية، لأنها رؤية تؤبد الأحقاد والفروقات، وتسوغ لجميع الأطراف ممارسة الفرقة وتنمية التباينات الأفقية والعمودية..

وكسر الآراء والمواقف النمطية والثابتة تجاه بعضنا البعض يتطلب الالتفات إلى النقاط التالية:

1. إن المكونات الاجتماعية والمذهبية، ليست حالة جامدة، ثابتة، وإنما هي مكونات تعيش الصيرورة الإنسانية، وتكثر فيها الآراء والقناعات المختلفة، وثمة مسارات ثقافية وسياسية عديدة تجري في فضائها الاجتماعي.. لذلك لا يصح التعامل مع واقع هذه المكونات بوصفها مكونات غير قابلة للتطور والتحول سواء على المستوى الثقافي أو السياسي.. وهذا الكلام ينطبق على جميع المكونات.. فنحن لا نتحدث عن أفراد، وإنما عن كتلة بشرية ذات خصوصيات ثقافية واجتماعية محددة، إلا أنها كتلة ليست متجانسة في كل شيء.. وليست شبيهة إلى نظام الحزب الواحد.. وإنما كأي كتلة اجتماعية تتشكل من روافد اقتصادية وثقافية وسياسية متنوعة.. وبالتالي فإن كسر المنظار النمطي لكل الملفات، هو الذي يحرر الجميع من الحمولات التاريخية السلبية، التي يحملها كل طرف عن الطرف الآخر.. فنحن جميعا لسنا مسؤولين عن أحداث التاريخ والحقبة الماضية، والباري عز وجل سيحاسبنا عن راهننا، لأننا نتحمل مسؤولية مباشرة فيه.. يقول تبارك وتعالى (ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت، فمنهم من هدى الله ومنهم من حقت عليه الضلالة، فسيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين)[1]، وقال تعالى (أم حسب الذين اجترحوا السيئات أن نجعلهم كالذين آمنوا وعملوا الصالحات سواء محياهم ومماتهم ساء ما يحكمون، وخلق الله السموات والأرض بالحق ولتجزي كل نفس بما كسبت)[2].

فـ "معظم البناءات الفكرية التي يبنيها كل من طرفي السنة والشيعة عن بعضهم بعضا يمثل صورا مخيالية لا تجد لها على أرض الواقع أي أساس حقيقي.. وهذا يعود إلى أزمة متأصلة في الانتماء والهوية يعاني منها كل من الطرفين.. (لا أحد يعيش قلقا طائفيا سوى من يجد ذاته في طائفة أو يحصر انتماءه وشعوره بها) من جهة، وإلى أزمة حداثية ما زال معظم شعوب المشرق العربي يرفض الإقرار بها من جهة ثانية.. وهو الأمر الذي يؤدي إلى أن بناء الصور الطائفية لا يتم وفق الاستناد إلى حقائق ما، بل وفق الشروط التأزمية المتحكمة بالبنى الذهنية المخيالية المتوارثة جميعا لهما.. وهذا هو سر أن السنة والشيعة حينما يتصارعون، كما هو جار حاليا، يعيدون لا رسم وجودهم فحسب، بل كذلك إعادة اختراع صراعات ينسبونها إلى التاريخ: سواء في سبيل امتلاكه، أو لدعم صراعات الحاضر بواسطة ذاكرات ميثولوجية مخترعة". [3]

2. لا توجد على المستوى الواقعي حلول سحرية لمعالجة مشكلة التوتر الطائفي والمذهبي، الذي بدأ يجتاح المنطقة العربية والإسلامية.. ولكن ثمة خطوات ضرورية، تساهم في ضبط التوترات الطائفية، وإدارة التنوعات المذهبية بطريقة إيجابية، لا تدمر الأوطان والمجتمعات.. ومن هذه الخطوات هو العمل على إعلاء قيمة أخرى مشتركة تنظم العلاقة، وتكون هي مصدر الحقوق والواجبات.. وهذه القيمة هي قيمة (المواطنة) بكل ما فيها من واجبات ومسؤوليات وحقوق.. فكل المجتمعات الإنسانية التي كانت تعيش حالة تنوع ديني أم مذهبي أم أثني، لم تتمكن من إدارة هذا التنوع على نحو إيجابي إلا بالإعلاء من قيمة المواطنة، بوصفها هي العنوان العريض الذي يجمع الجميع بكل تلاوينهم الدينية والمذهبية.. وأحسب أنه لا خيار حقيقي أمام المسلمين جميعا لضبط نزاعاتهم المذهبية، إلا بالمواطنة الجامعة، التي تضمن حقوق الجميع، وتصون خصوصيات الجميع، دون الإضرار بالحياة المشتركة في مختلف دوائر الحياة..

3. ثمة ضرورات وطنية وقومية ودينية في زمن الفتن الطائفية، أن يرتفع صوت المطالبين بوأد الفتن الطائفية، والساعين صوب خلق حالة تفاهم عميق بين المسلمين بمختلف مدارسهم الفقهية والمذهبية.. فلا يصح أن تبقى الساحة الإسلامية أسيرة الصوت المتطرف والداعي إلى التأجيج وإحياء الخلافات المذهبية.. لأن هذه الأصوات المتطرفة، هي التي توفر باستمرار مبررات الاحتراب والاقتتال الطائفي..

بينما في الواقع الإسلامي ثمة أصوات كثيرة، تدعو إلى الاعتدال والوسطية وتحارب كل أشكال الاحتراب بين المسلمين، ولها دورها المشهود في وأد الكثير من الفتن.. إن هذه الشخصيات ولضرورات ملحة وطنية ودينية، معنية اليوم بتزخيم عملها الوحدوي والتفاهمي والتقريبي، كما أنها معنية برفع الصوت ضد كل الممارسات الطائفية وأشكال الاحتراب المذهبي..

إن تراجع الأصوات الإسلامية المعتدلة والوسطية في هذه الحقبة الحساسة، التي تعيشها الأمة الإسلامية، هو الذي يفسح المجال، لكي يرتفع الصوت المتطرف، الذي يغذي الأحقاد بين المسلمين..

لذلك ومن أجل حقن دماء المسلمين، ومن أجل منع الحروب العبثية بين المسلمين، ثمة حاجة قصوى لكي يتبوأ خطاب الاعتدال الإسلامي موقعه اللائق في توجيه العالم الإسلامي، وبناء حقائق التفاهم والوحدة في واقع المجتمعات الإسلامية المعاصرة..

القابلية على الطائفية:

في سياق الجهد الفكري والمعرفي الذي بذله المفكر الجزائري مالك بن نبي، على فحص وتحليل ظاهرة الاستعمار، ولقد أبدع بن نبي حينما صاغ مفردة و مفهوم (القابلية على الاستعمار). وإن هذه القابلية هي التي تهيأ الأرضية والمناخ السياسي والاجتماعي للقبول الفعلي بالحركة الاستعمارية. وإنه لا يمكن مواجهة الاستعمار مواجهة فعلية وحقيقية بدون إنهاء حالة القابلية للاستعمار في نفوس وعقول الناس. ولقد اعتبر هذا المفهوم مثابة المفتاح السياسي لفهم الكثير من الظواهر والممارسات التي رافقت الاستعمار في العديد من البلاد العربية والإسلامية.

وانطلاقا من مضمون هذا المفهوم الذي صاغه بن نبي، نتمكن من فهم العديد من الظواهر التاريخية والاجتماعية والسياسية في البلدان العربية والإسلامية. ولو تأملنا في كل الظواهر السياسية التي سادت في المنطقة العربية نتمكن من فهمها بشكل دقيق من خلال العدة النظرية والمفهومية التي صاغها بن نبي حين الحديث عن القابلية على الاستعمار. بحيث أضحت هذه العدة النظرية بمثابة خريطة الطريقة لفهم العديد من الظواهر السياسية والاجتماعية في الفضائين العربي والإسلامي.

وفي سياق ابتلاء المنطقة العربية والإسلامية اليوم بظاهرة الطائفية وقدرة هذه الظاهرة الخطيرة على تمزيق كل المجتمعات والشعوب، لن نتمكن من دحر خطر هذه الظاهرة أو الحد من غلوائها من دون العمل على تفكيك حالة القابلية الموجودة في النفوس والعقول للانخراط في الفعل والممارسة الطائفية. ولا يمكن على المستوى الواقعي من مواجهة الطائفية بكل صورها وأشكالها، إلا بإنهاء وتفكيك ظاهرة القابلية إليها والخضوع إلى مقتضياتها. ولو تعمقنا في ظاهرة الممارسات الطائفية، لوجدنا أن أكثر المتورطين بهذه الممارسات يحملون القابلية النفسية والثقافية للانخراط في كل الممارسات الطائفية. وإن هذه الممارسات لن يتمكن أحد من إنهائها إلا بتفكيك ظاهرة القابلية النفسية والثقافية للانخراط في السلوك والممارسات الطائفية.

ولكي تتضح كل أبعاد هذه القابلية، سنحاول أن نوضح هذه الأبعاد من خلال النقاط التالية:

1. واهم من يعتقد أنه يدافع عن حقوقه وذاته الاجتماعية حينما ينخرط في الفعل والممارسة الطائفية. لأن الخضوع للفعل الطائفي هو أحد مصادر تضييع الحقوق. ومن ينخرط في الممارسة الطائفية بدعوى الدفاع عن الذات وحقوقها، هو يوفر المناخ المؤاتي لإنهاء أو تدمير كل خطوط الدفاع عن الذات وحقوقها ومصالحها. فالطائفية مرض خطير في كل أحوالها وظروفها، ولا يمكن أن تدافع عن مجتمع بإسقاطه في مرض الطائفية. فالأمراض لا تدافع عن الحقوق والمصالح.

لذلك نهيب بكل الأفراد والمجتمعات الذين يطمحون إلى الدفاع عن حقوقهم ومصالحهم، لعدم الوقوع في رذيلة الطائفية. لأن هذه الرذيلة تدمر كل ممكنات الانعتاق من كل هذه الأمراض التي تدمر كل المناخ الصحي الذي يحفظ الحقوق والمصالح للجميع. ومن يعتقد أنه حينما يخضع للمقولات الطائفية هو يدافع عن حقوق جماعته ومصالح مجتمعه، هو يزيف وعي الجميع. من يريد أن يدافع عن جماعته ومجتمعه، عليه أن يطهر نفسه وعقله من كل جراثيم الطائفية.

2. من هنا تتأكد الحاجة النفسية والمعرفية للانعتاق من كل الممارسات الطائفية سواء كانت هذه الممارسات تنتمي إلى حقل الطائفية الناعمة أو تنتمي إلى حقل الطائفية الصلبة أو الخشنة. والمجتمع الذي يخضع لكل المقولات الطائفية هو يمارس التدمير الذاتي ويساهم بشكل مباشر في تنمية كل عوامل الفرقة والتشظي في حياته الداخلية. الطائفية مرض خطير ووجود غلبة لهذا الطرف أو ذاك، أو وجود ممارسة طائفية من هذا الطرف أو ذاك، ينبغي أن لا يشجع أحد على الوقوع في مهاوي الطائفية. فلنعمل بوعي وحكمة لتطهير نفوسنا وعقولنا من كل جراثيم الطائفية، ومن خلال عملية التطهير نتمكن من تحصين واقعنا الاجتماعي والثقافي من الوقوع في مهاوي الطائفية.

ونقولها بصراحة تامة، لا تعالج المشاكل الطائفية بصنع مشكلات مماثلة ومقابلة للطرف الذي يؤجج الأزمات الطائفية. الطائفية بكل رموزها وزخمها التمزيقي، لا تدافع عن حق أو مجتمع. ومن يعتقد أنه لا يمكن وقف صعود هذه القوة أو تلك إلا بإشغالها بالأزمات الطائفية، هو يعمل بدون وعي على توسيع دائرة الحريق في الأمة والمجتمعات العربية والإسلامية.

3. بعيدا عن التلاوم المتبادل وتوزيع تهم من بدأ ومارس الطائفية ومن ذهب إليها كردة فعل. نقول بعيدا عن هذا التلاوم الذي يؤكد المنطق الطائفي ولا يتحرر منه، تعالوا معا نبرأ إلى الله سبحانه وتعالى من كل الممارسات الطائفية ونقف معا على أرضية احترام التنوع الموجود في الأمة مع صيانة عزة الأمة ووحدتها الداخلية. فالطائفية قيد على الجميع، ولا يمكن أن نعتقد أن القيود تحقق انتصارات أو مكاسب. وجود ممارسات طائفية ينبغي أن لا يدفعنا إلى الخضوع إلى المنطق الطائفي بل على العكس ينبغي أن يدفعنا على التعالي على كل الجراحات المذهبية والطائفية. بهكذا ممارسة نفكك كل عناصر القابلية النفسية والثقافية للخضوع للمنطق الطائفي. وإن التساهل مع الحرائق الطائفية سيدمر كل عوامل الوحدة والتماسك في كل مجتمعاتنا العربية والإسلامية. وعليه فإن كل من يريد أن يحافظ على وحدة وطنه ومجتمعه، عليه أن يعمل نفسيا وثقافيا لتحرير المجتمع من كل سمات القابلية على التطرف والطائفية. فهو سبيلنا للتحرر من كل موبقات الطائفية ومتوالياتها المدمرة لكل أسباب الاستقرار السياسي والاجتماعي.

الربيع العربي والانبعاث الطائفي:

دائما التحولات السياسية والاجتماعية الكبرى، يرافقها بعض المظاهر أو النتائج السلبية والسيئة. وهي ليست وليدة ذاتية إلى تلك التحولات، وإنما هذه التحولات أزالت القشرة الخارجية التي تحول دون بروز هذه الظواهر المجتمعية السلبية والسيئة. ووجود هذه الظواهر، لا يعني إطلاق أحكام قيمة سلبية من تلك التحولات. لأن كل التحولات الإنسانية سواء كانت سياسية متعلقة بتغيير معادلات سياسية كبرى قائمة أو متعلقة بالفضاء الاجتماعي ومراكز القوة فيه، سواء كانت القديمة أم الجديدة، تفضي إلى وجود مناخ جديد يوفر الإمكانية لبروز (وليس تأسيس) بعض النتوءات الاجتماعية والسياسية. وبروز هذه النتوءات لا يعني اتخاذ موقف سلبي من التحولات أو رفضها ابتداءا ومسارا ومآلا. وإنما هذا أشبه بقانون اجتماعي حينما تتحرك مياه الأنهار بغزارة، تفيض عن حدود النهر وقد تؤسس لأقنية مائية مؤقتة من جراء التدفق الهائل للمياه. وما شهدته دول الربيع العربي من بروز تناقضات اجتماعية سواء كانت جهوية أو دينية أو مذهبية هو أشبه شيء بتلك المياه التي تجاوزت الحدود. ولكن وجود هذه المياه، لا يساوي رفض النهر ومياهه المتدفقة، وإنما يساوي التحرك لبناء أقنية وأطر للاستفادة من كل المياه، تمنع خسارته وتدفقه خارج الحدود.

فالمجتمعات الإنسانية قاطبة بصرف النظر عن أيدلوجياتها وأنظمتها الاقتصادية والسياسية، تعيش تناقضات داخلية عديدة ومتنوعة وذات جذور متباينة ومتفاوتة. فهناك تناقضات اقتصادية ـ طبقية، وتمايزات دينية ومذهبية، وتنافسات سياسية وأيدلوجية ومناطقية، إضافة إلى عناوين أخرى. إلا أن كل هذه التناقضات والتباينات في ظل الأنظمة الديمقراطية - التداولية هناك إمكانية لتصريف هذه التناقضات والتباينات في أقنية التنافس والتداول الديمقراطي. فيستطيع هذا المجتمع بفعل هذه الأقنية من إدارة تناقضاته وتبايناته بطريقة سلمية، ديمقراطية، تمنع انفجارها السياسي والاجتماعي الحاد والعنيف. بمعنى أن الأنظمة السياسية الديمقراطية، لا تتمكن من إلغاء تناقضات المجتمع وتبايناته الأفقية والعمودية، وإنما تتمكن من بناء أطر وأقنية لتصريف هذه التناقضات بطريقة سلمية، تداولية، توفرها قيمة الديمقراطية. وكلما ترسخت هذه القيمة في أي بيئة اجتماعية، يعني تطورت قدرة هذه البيئة الاجتماعية على معالجة أزماتها الاجتماعية ومشاكلها السياسية بعيدا عن خيار العنف سواء المادي أو المعنوي.

فالديمقراطية لا تساوي أن يكون الناس بلا صراع أو تدافع أو تباين، وإنما هي مهمتها الأساسية توفير مناخ سلمي ـ حضاري لتصريف كل موضوعات الصراع أو قضايا التدافع أو مسائل التباين بطريقة سلمية، تحافظ على الوحدة الوطنية وتحول دون انحدار الناس على عناوينهم الفرعية الضيقة وذات الإحن التاريخية المتبادلة. لأن جميع حقوق كل المجموعات البشرية مصانة على قاعدة مشتركة هي قاعدة الانتماء الوطني والمواطنة الجامعة.

أما في ظل الأنظمة السياسية غير الديمقراطية وغير التداولية، فإنها تفتقد إلى قنوات مؤسسية سلمية لتصريف تناقضات هذا المجتمع وتبايناته المختلفة.

وبفعل الطبيعة الشمولية والاستحواذية للنظام السياسي، لديه آليات عمل قسرية تحول دون بروز هذه التباينات على السطح. والمتأمل إلى هذا المجتمع من الخارج، يحسبه مجتمع متجانس وموحد وبعيد عن العيوب الكثيرة التي تعاني منها بعض المجتمعات، حيث الصراع السياسي مقيم في أرجاء المجتمع. ولكن حينما يتفكك هذا النظام الشمولي، كما جرى في بعض دول الربيع العربي، فإن كل التناقضات والتباينات المكبوتة والمقموعة تبدأ بالبروز بطريقة فوضوية، صدامية. فهذه التناقضات ليست وليدة التحولات، وإنما هذه التحولات أزاحت الحواجز والعقبات التي تحول دون بروز هذه التناقضات.

والمسؤول الأول عن هذا البروز الصدامي والفوضوي لتباينات المجتمع الدينية والمذهبية والقومية والعرقية والجهوية، هو الاستبداد السياسي الذي كان يحول دون صياغة أقنية سلمية حضارية لإدارة تناقضات المجتمع بطريقة تفضي إلى تطور الحياة السياسية والمدنية ودون الإضرار بالنسيج الاجتماعي لكل فئات ومكونات المجتمع.

كما أن الذي يساهم أيضا في انخراط كل فئات المجتمع في هذه الفوضى والنزعة الصدامية باسم الحقوق الذاتية المهضومة، هو غياب تقاليد العمل المدني الحر والتنافس السلمي بين جميع المكونات. لأن كل مكونات المجتمع قبل التحولات السياسية، هي أشبه شيء بالسديم البشري الواحد والذي يكرر كالببغاء قناعات واحدة في ظل الكبت والقهر. وحينما سقط الكبت والقهر يفتقد المجتمع لأدنى التقاليد المؤسسية الضرورية التي تدير تناقضات المجتمع بطريقة سلمية وعلى قاعدة الوحدة الاجتماعية والاندماج الوطني.

وفق هذه الرؤية نحن ننظر إلى كل الانبعاثات الطائفية المقيتة التي رافقت التحولات السياسية التي جرت في أكثر من بلد عربي.

فهذه الانبعاثات ليست من جراء بدائية مجتمعاتنا أو غياب الثقافة السياسية الديمقراطية لديها، وإنما هي من جراء مسلسل الاستبداد الذي تحكم في مصائر العباد عقودا طويلة. كما أن هذه الانبعاثات ليست وليدة حالة التنوع الموجودة في كل المجتمعات والأمم، وإنما هي وليدة التعامل السياسي والاجتماعي الخاطئ مع حالة التنوع. لذلك حينما تنهار هذه المعادلة بفعل ممارسة ثورية أو شعبية واسعة، فإن الجميع يعيش مرحلة سيولة على مستوى القناعات والخيارات.

وهذه المرحلة هي التي تنبعث فيها المسائل والعناوين الطائفية بطريقة صدامية. وهذا الانبعاث وفق هذه الرؤية سيكون مؤقتا، وطبيعة وعي وخيارات النخب السياسية والاجتماعية الجديدة، هو الذي سيحدد عمر هذا الانبعاث المؤقت. فإذا كانت النخب تمتلك وعي وطني عميق، وتتعامل مع حقائق التنوع والتعدد بعقلية حضارية، استيعابية، فإن معالجة هذه الانبعاثات الطائفية سيكون سريعا وسيحافظ المجتمع على تجانسه الاجتماعي والوطني. أما إذا كان وعي النخب مختلفا وتتعامل بنزعة نبذية وإقصائية مع كل حقائق التنوع وتعمل على بناء وحدة مجتمعها ووطنها عن طريق قهر تعبيرات المجتمع والوطن، فإن عمر هذه الانبعاثات سيطول، مما سيهدد النسيج الاجتماعي والوطني.

لذلك ثمة ضرورة وطنية ماسة في كل الدول التي طالتها التحولات السياسية وتحتضن تعدديات دينية أو مذهبية أو قومية أو قبلية للالتفات إلى النقاط التالية:

1. العمل السريع على إعادة بناء الثقة بين مختلف تعبيرات المجتمع، سواء الدينية أو المذهبية أو القومية أو ما أشبه. لأنه حينما تتعزز جسور الثقة بين تعبيرات المجتمع، تزداد فرص التعايش والاستقرار، وتتوفر الاستعدادات لدى جميع الأطراف للوقوف ضد انزلاق المجتمع صوب الاقتتال الطائفي والأهلي.

2. بناء الأطر والمؤسسات السياسية الجديدة على قاعدة أن الوطن يتسع للجميع، وأن جميع المواطنين في الحقوق والواجبات سواء، وأن بإمكان أي مواطن بصرف النظر عن أصوله الدينية والمذهبية والقومية والقبلية والعرقية إذا امتلك الكفاءة والقدرة أن يتبوأ أي موقع ومنصب.

3. تعاضد وتعاون الجميع ضد خيار العنف وممارسته في الصراعات السياسية والاجتماعية. لأن شيوع هذا الخيار سيدمر الجميع. وحينما يستخدم العنف بصرف النظر عن دوافعه، فإنه سيقضي على الجميع ومكاسبهم. لذلك ثمة حاجة وضرورة لبناء إجماع وطني عميق في كل الدول العربية ضد العنف وممارسته.

الطائفية والوحدة الوطنية:

على المستويين الاجتماعي والسياسي ثمة أسئلة وإشكاليات نظرية عديدة، يتم إثارتها وطرحها للجدل والنقاش حول كيفية صيانة الوحدة الوطنية والعيش المشترك والسلام الاجتماعي، في ظل بروز النزعة الطائفية في المجتمعات والمجموعات البشرية المكونة لها. وهي في مجملها أسئلة وجيهة وجديرة بالنقاش والحوار والبحث عن إجابات حقيقية وممكنة في آن.

ومن الضروري في هذا السياق بيان أن الطائفية بكل حمولتها وأدبياتها وآفاقها من الأمراض التي بدأت بالبروز في الاجتماع العربي المعاصر.

وبالتالي من المهم بيان رؤيتنا السلبية والقدحية لهذه النزعة. وإن هذه النزعة بمتوالياتها المتعددة تهدد بخراب الأوطان وتساهم في تدمير النسيج والوشائج الاجتماعية، وتلقي بظلها الثقيل على منجز الوحدة الوطنية.

ونحن في سياق مجتمعنا ووطننا، نعتبر الوحدة الوطنية من الضرورات التي لا يمكن التفريط بها وإذا لم نسارع بوعي وحكمة من معالجة الظاهرة الطائفية ونزعاتها التمزيقية، ستتمكن هذه النزعة من تهديد وحدتنا الوطنية.

ولكي تتضح الصورة جلية، ثمة مفارقة بين النزعة المذهبية والنزعة الطائفية. فليس كل نزعة مذهبية هي نزعة طائفية. والمرذول أن يحمل الإنسان نزعة طائفية تصنع الحدود النفسية والاجتماعية مع من يختلف معه في الانتماء المذهبي. بمعنى أنه من حق أي إنسان أن يتمذهب بأي مذهب فقهي يشاء، ولكن مما ليس من حقه أن يبني على حقه في التمذهب رؤية طائفية تحول الانتماء المذهبي الطبيعي إلى انتماء طائفي مسيس. فنحن مع حماية حق أي إنسان في أن يتمذهب بأي مذهب يريد، ولكن ليس من حقه أن يبني في نفسه وعقله وواقعه نزعة طائفية تترجم في أهداف سياسية مختلفة.

لذلك فإننا حينما نتحدث عن الطائفية واعتبارها من المشاكل العميقة التي تواجه مجتمعاتنا اليوم، لا نتحدث عن حاجة الإنسان إلى التمذهب والالتزام برؤية فقهية ومعرفية محددة.

فالتمذهب الطبيعي ليس مضادا لمفهوم وحقائق الوحدة الوطنية. أما النزعة الطائفية فهي مضادة بطبعها إلى الوحدة الوطنية بكل حقائقها ومتطلباتها.

والمجتمعات الإنسانية التي تعاني اليوم من بروز النزعات الطائفية لديها، هي معنية قبل غيرها إلى معالجة هذه النزعة عن طريق:

1. الإعلاء من قيمة المواطنة، واعتبارها هي القاعدة المشتركة التي تجمع كل المواطنين. فلا علاج فعال إلى النزعة الطائفية إلا بالإعلاء من قيمة المواطنة وجعلها هي مصدر الحقوق والواجبات في الدائرة الوطنية.

2. بناء حقائق الوئام والتسامح والتفاهم بين مختلف مكونات وتعبيرات المجتمع، وإخماد أية نزعة عدائية بين كل تعبيرات التنوع الموجودة في المجتمع.

وبناء هذه الحقائق بحاجة إلى جهود وطنية مستديمة، تستهدف حماية حقائق التنوع في المجتمع عبر بناء الحقائق المضادة لكل نزعات الانزواء والانطواء من جهة، ومن جهة أخرى لإنهاء حالة الشعور بالنرجسية التي قد يشعر بها هذه المكون الاجتماعي أو ذاك.

3. تثبيت قيم الاحترام المتبادل بين مختلف المكونات والتعبيرات. فليس مطلوبا أن تغادر موقعك الفكري أو الثقافي، وليس مطلوبا من الآخر ذلك. المطلوب من الجميع الالتزام بكل مقتضيات الاحترام المتبادل، فمن موقع الاختلاف يتم الاحترام المتبادل. فنحن من مواقعنا المختلفة قد نختلف وتتباين وجهات نظرنا، ولكن هذه الاختلاف والتباين لا يشرع إلى أي طرف تجاوز حدود ومقتضيات الاحترام المتبادل. ولا أحد يقول أن من شروط الاحترام المتبادل أن تتطابق وجهات نظرنا في كل شيء. نحن نختلف مع بعضنا وتتباين وجهات نظرنا في الكثير من القضايا والأمور، ولكن هذا التباين لا يعني أن نتعدى على بعضنا البعض، فمن موقع الاختلاف ندعو إلى الاحترام المتبادل.

عن طريق هذه الحقائق والممارسات، تتمكن المجتمعات المتنوعة من ضبط النزعات الطائفية التي قد تبرز من جراء حالات التنوع والتعدد الموجودة في المجتمع.

وعليه فإن الوحدة الوطنية، لا يمكن تبنى أو تتعزز في ظل انتشار النزعات الطائفية. وعليه فإن من يريد تعزيز وحدته الوطنية فعليه أن يحارب كل نزعات التطرف والطائفية الموجودة في المجتمع. ومن يتراخى في معالجة المشكلة الطائفية، كأنه يتراخى عن مواجهة كل خصوم الوحدة الوطنية. وبمقدار ما تتمكن المجتمعات المتنوعة، من معالجة النزعات الطائفية بذات المقدار تتمكن من تعزيز وحدتها الوطنية، وتمتين اللحمة الوطنية بين مختلف المكونات والمجموعات البشرية.

وعليه فإننا نعتقد أن كل إنسان يساهم في إثارة النعرات الطائفية في المجتمع، فإن يعمل بالضد من الوحدة الوطنية ومقتضياتها المتنوعة. وفي ظل الظروف الحساسة التي تعيشها كامل المنطقة العربية والإسلامية على أكثر من صعيد ومستوى، تتأكد الحاجة الماسة للعمل الجاد والمتواصل لتصليب الوحدة الوطنية ومنع انتشار كل الميكروبات الاجتماعية والثقافية التي تساهم في خلق ثقوب اجتماعية ووطنية على النقيض من حقائق ومستلزمات الوحدة الوطنية. الرغبات المجردة بوحدها، لا تحمي وحدة وطنية ولا تصون أي مكسب من مكاسب الوطن المتنوعة. فالرغبة مطلوبة ولكن تلك الرغبة التي تستند على إرادة إنسانية صلبة باتجاه حماية الوحدة الوطنية وصيانة الوطن من كل المخاطر والتحديات.

وأضحت النزعات الطائفية بكل مستوياتها وحمولاتها النفسية والسلوكية، هي من أبرز المخاطر التي تضعف الوحدة الوطنية وتهدد استمرارها وحمايتها. ولا طريق فعلي لتعزيز قيم الوحدة الوطنية، إلا بالوقوف الحازم ضد كل النزعات الطائفية التي هي بالضرورة نزعات تقسيمية، تقف بالضد من كل حقائق الوطن ووحدته الداخلية.

فلنحارب الطائفية في مجتمعنا، حتى نتمكن بفعالية من حماية وتعزيز وحدتنا الوطنية. ومن يهمه أمر وحدة الوطن والمواطنين عليه أن يعمل ويقف بصلابة ضد كل النزعات الطائفية التي قد تحدث شروخا عميقة في البناء الاجتماعي الواحد.

فلنتوحد ضد الفتنة الطائفية:

في إطار النفخ الطائفي والشحن المذهبي المحموم، تأتي كل التصريحات والمقولات التي يطلقها دعاة الفتن من كل الأطراف، بغرض تعزيز فرص الفتن الطائفية في الواقع الإسلامي المعاصر. والإنسان لايستطيع أن يدافع عن قناعاته بإثارة الفتن ؛ لأنه لا فائدة منها إلا المزيد من تأجيج الفتن الطائفية وشحن النفوس والعقول تجاه الداخل الإسلامي..

وفي سياق هذه التصريحات والتصريحات المضادة، التي هي من جوهر واحد، وهو الانخراط المتسارع في مشروع الفتنة الطائفية التي تحضر إلى هذه الأمة من أقصاها إلى أقصاها، نود التأكيد على النقاط التالية:

1. إننا نرفض وبشدة كل المقولات والتصريحات الطائفية، من أي جهة صدرت، ونعتبر أن دفع الأمور نحو الصدام المذهبي بين المسلمين، هو من أكبر الجرائم التي ترتكب بحق المسلمين جميعا.. وإن وطننا العزيز من أقصاه إلى أقصاه ليس مكسر عصا لأحد، لذلك نرفض وبشدة أي محاولة تستهدف تصدير بعض أشكال الفتن الطائفية، كما نرفض أي محاولة للتعدي على هذا الوطن.. فوطننا نفديه بالغالي والنفيس، ونرفض كل محاولات إقحامنا في مشروعات هذه الفتن والتشظيات الطائفية، سواء صدرت هذه المحاولات من شخصيات وجهات سنية أو شخصيات وجهات شيعية.. فالأوطان لا يساوم عليها، ونرفض أي شكل من أشكال المساس بها.. وهذا الكلام ليس مزايدة على أحد، وإنما هو جزء من فهمنا لقيمنا وواجباتنا ومسؤولياتنا تجاه مجتمعنا ووطننا في آن..

وعليه فإننا ندعو كل أبناء وطننا من مختلف مواقعهم الفكرية والاجتماعية، إلى الوقوف بحزم، ضد كل محاولات زرع الفتن الطائفية بين أبناء مجتمعنا وعدم التساهل مع كل أشكال إذكاء روح الانقسام المذهبي في وطننا..

2. إن المخطط الذي يستهدف إسقاط الأمة جمعاء في أتون الحروب المذهبية الكامنة والصريحة كبير ومتعدد الأشكال والأساليب والجوانب.. لذلك فإننا بحاجة اليوم إلى مشروع إسلامي متكامل، تشترك فيه جميع المؤسسات والمعاهد والقوى والفعاليات لإفشال هذا المخطط، والحؤول دون سقوط الأمة أو بعض أطرافها في أتون هذه الفتن العمياء، التي لا يربح منها إلا أعداء الأمة..

والخطير في هذا الأمر أن صناع الفتن، ليسوا على شكل واحد، أو نمط محدد، وإنما هم يتلونون ويتعددون، ويأتون من أجل تنفيذ مخططهم الجهنمي من أبواب متفرقة ووسائل متنوعة.. لذلك فإننا نرفض أن ننجر إلى مشروع الفتنة الطائفية، ونعتبر أن الانجرار إلى هذه الفتن هو أكبر خدمة تقدم إلى أعداء الأمة، كما أنها تساهم في حرق تاريخ أي إنسان الديني والوطني والأخلاقي..

وإن كل التصرفات الشائنة التي يقوم بها بعض السنة أو بعض الشيعة، ينبغي أن تكون موضع إدانة صريحة وواضحة، لأن الظلم مرفوض والافتئات على الحقوق والكرامات مرفوض، ولا يمكن أن نعالج هذه الممارسات بالقيام بمثلها تجاه الطرف الآخر، وإنما بإدارة هذه المشاكل والبحث عن حلول ناجعة بعيدا عن نزعات التشظي الطائفي والمذهبي..

والواقع الإسلامي اليوم، مليء بكل الصور والحقائق، التي تبرر لأي إنسان ومن أي موقع مذهبي كان، للانزلاق صوب المساهمة المباشرة في إذكاء الفتنة والتوتر المذهبي.. ولكن دائما وأبدا النار لا تطفئ بنار مثلها..

لذلك فنحن جميعا بحاجة إلى وعي عميق بمخاطر هذه الفتن على الجميع، وبعمل مستديم من أجل تفكيك كل العقد وعناصر التوتر التي تذكي أوار الاحتقان الطائفي بكل صوره وأشكاله..

3. علماء الأمة ومؤسساتها الدينية والشرعية، تتحمل مسؤولية كبرى، للمساهمة الفعالة في وأد الفتنة الطائفية التي بدأت تطل برأسها النتن في أكثر من بلد عربي وإسلامي.. فكما أن هناك قوى وفعاليات علنية وخفية، تعمل ليل نهار من أجل إسقاط الأمة في أتون الاحتراب الطائفي، ينبغي أن تكون هناك قوى وفعاليات وعلى رأسها علماء الأمة ومؤسساتها الدينية، تعمل من أجل إفشال هذا المخطط الجهنمي الذي يستهدف الأمة في حاضرها ومستقبلها، والتعاون من أجل تعزيز قيم الأخوة والتعايش السلمي بين جميع مكونات الأمة..

وفي هذا السياق نحمل جميع هذه المؤسسات الدينية، مسؤولية رفع الغطاء الديني والشرعي عن كل التصريحات والممارسات التي تستهدف بث الكراهية بين المسلمين أو تأزيم العلاقة بين تعبيراتها المذهبية..

فحينما يقف علماء الأمة أمام مقدمات الحروب المذهبية، فإن قدرة الأمة على إفشال مخططات الفتنة، تكون فعالة.. أما إذا صمت علماء الأمة، وتمادى صانعوا الفتنة من كل الطوائف والأطراف فإن مخاطر السقوط في مستنقع الحروب المذهبية سيكون كبيرا.. لذلك من الضروري عدم التساهل مع كل التصريحات والممارسات التي تسوغ الاحتراب الداخلي بين المسلمين..

4. إننا ندعو أهل الاعتدال والوسطية والتلاقي من كل الطوائف والمذاهب إلى فتح جسور اللقاء والتلاقي والتفاهم والتعاون، من أجل إرساء حقائق هذه القيم في الفضاء العام للمسلمين..

فلا يكفي اليوم أن نلعن ونرفض ظلام الفتنة والاحتراب المذهبي، وإنما بحاجة إلى التعاون والتعاضد لتنقية الساحات الإسلامية من جراثيم التطرف والغلو ونزعات الإلغاء والإقصاء هذا من جهة، ومن جهة أخرى للعمل المؤسسي في كل الفضاءات الوطنية والاجتماعية لتعزيز قيم الوحدة والتفاهم والتلاقي.. لأن الاحتراب الطائفي يدمر الجميع، وينهي كل أشكال الاستقرار السياسي والاجتماعي، ولا سبيل لوأد مشروع الفتن الطائفية إلا بالوعي بمخاطرها والوقوف ضدها وفضح مآلاتها والعمل على تشبيك العلاقة بكل مستوياتها بين مكونات الأمة.. وإنه آن الأوان منا جميعا لرفع الصوت ضد كل أشكال بث الكراهية بين المسلمين وتحضير المسرح الاجتماعي والسياسي للحروب المذهبية في جميع بلدان العرب والمسلمين.

فتعالوا جميعا نحمي أوطاننا وأمننا الاجتماعي والسياسي، برفض مشروع الاقتتال الطائفي في الأمة..

***

محمد محفوظ

....................

[1] القرآن الكريم، سورة النحل، الآية 36.

[2] القرآن الكريم، سورة الجاثية، الآية 21 - 22.

[3] جريدة الحياة، صفحة 21، العدد 18384 / الأحد 4/8/2013 م.

في المثقف اليوم