دراسات وبحوث

محمد بنيعيش: خصوصية الجنس البشري وعناصر ضبط القضاء الأسري

أولا: الوحدة الإنسانية بين المسخ والاستنساخ البشري

إن التوافق حول مبدأ التوحد الجنسي المقارب والمناسب بين الذكر والأنثى لتحقيق التناسل قد يعتبر قاعدة فقهية وقضائية ملزمة عند المرافعات الاجتماعية،وذلك لكي لا يقع الخلل وتتدخل الإدعاءات وتدرأ الحدود بدعوى رفع الشبهات وملابسات الجن والشياطين ! إذ الإنسان يقابل الإنسان،أي الذكر والأنثى،عند التناسل وتتحدد طبيعته عند التقابل من حيث اعتبار  العنصرين المختلفين شكلا والمتحدين جوهرا، حتى يتم التزاوج الطبيعي الذي يؤدي إلى تأسيس أسرة سليمة، وبالتالي إلى تكون مجتمع متكامل العناصر والتكاتف من أجل تحقيق المصلحة العامة على سبيل اقتسام الأدوار والوظائف والمهام وتنوعها بحسب تنوع حاجيات وضرورات الإنسانية الثابتة والمتغيرة .

من هنا فالتناسل بين الذكر والذكر غير ممكن،كما أنه كذلك بين الأنثى والأنثى، وأيضا فالتوليد الذاتي غير ممكن ولا سليم بيولوجيا وأخلاقيا، كما قد يسمى بالاستنساخ البشري وهو عبارة عن عبث ودعاوى لا تثبت شرعيا وقضائيا عند الإدلاء بالبينة، رغم المزاعم الإعلامية والتمويه والتضخيمات المرصودة لإقحامها إيهاما في مجال البحث العلمي ونتائجه الواقعية .

فعلى فرض أن تلك النتائج المزعومة حول الاستنساخ من خلال الخلية الواحدة قد تكون صحيحة فإن هذا لا يفت في عضد القاعدة العامة التي أسسناها حول التناسل والتوالد السليم والعادي  وهو ما نصوغه بأنه :"عبارة عن تلاقح معين بين عنصرين متحدين جوهرا مختلفين شكلا "إذ الجزء الأول  من القاعدة يبقى قائما مهما استفرد أحد الجنسين بهذه العملية دون الآخر، سواء كان ذكرا أو أنثى، لأن كلا الجنسين يبقيان ذوي ارتباط جوهري ببعضهما إلى مستوى الذكورة والأنوثة، لأن كليهما يحمل عناصر الذكورة والأنوثة على مستوى الهرمونات والخلايا والمورثات .

فالمرأة في الأصل مخلوقة من الرجل، إذ هي جزء من كل وهو كل لجزء، وما عملية الاستنساخ إن تمت فعلا في ظل التضليل الإعلامي والخدع السينمائية ؛ وهو الذي ينحو بنا إلى التشكيك فيه، إلا عبارة عن عبث وسعي إلى تغيير خلق الله تعالى كاقتفاء لتغريرات الشيطان الرجيم الذي أبى إلا أن يسلخ البشرية من قاعدتها السليمة في النشوء والتكون، وتوريطها في مسخ خلقي  وأخلاقي وشكلي ووظيفي كما يقول الله تعالى مبينا أبعاد التغرير الشيطاني"لعنه الله وقال لأتخذن من عبادك نصيبا مفروضا ولأضلنهم و لأمنينهم و لآمرنهم فليبتكن آذان الأنعام ولآمرنهم فليغيرن خلق الله،ومن يتخذ الشيطان وليا دون الله فقد خسر خسرانا مبينا" .

فحسب ما يلخص به الاستنساخ المعبر عنه بالاستنساخ الجسدي –اللاجنسي- هو أنه"الذي يستغنى فيه عن الحيوانات المنوية للرجل ويكون بأخذ خلية من ثدي المرأة وتلقح بها بويضة منها أيضا،ويتم وضعها في الرحم لكي تنجب أنثى مشابهة لها تماما، وإذا كان المراد ذكرا فيكون ذلك بأخذ خلية من رجل وتلقح ببويضة امرأة وتوضع في الرحم فيأتي الجنين ذكرا مشابها تماما للرجل الذي أخذت منه الخلية".

هذا التلخيص يبقى في نظرنا مجرد دعوى لأن وجود الشبه بين شخصين ليس بالضرورة يعني أن عملية الاستنساخ بهذه الطريقة قد أدت إلى نتيجة ما،إذ يوجد من الشبه أربعون كما يروى، ومن هنا فمسألة الشبه غير قطعية في إثبات  نجاح الاستنساخ عن طريق الخلايا الجسدية دون الجنسية، كما أن العدالة مفقودة عند الممارسين لهذا الإجراء العبثي في تغيير خلق الله تعالى ؛وهي من شروط إثبات النسب في الشريعة الإسلامية سنعرض له في حينه، بل إن هذا  العمل الاستنساخي إن ثبتت نتائجه فعلا سيكون خروجا عن القاعدة البشرية الأصلية في التزاوج إلى غير جنسها،كما يقال عن تناسل الجن الأول فيما يحكيه ابن عربي بخصوص هذا الموضوع القريب من مآل الاستنساخ البشري " ويقال أنه  لم يفصل عين الموجود الأول من الجان نفسه فنكح بعضه ببعضه فولد مثل ذرية آدم ذكرانا وإناثا ثم نكح بعضهم بعضا فكان خلقه خنثى، وكذلك هم الجان من عالم البرزخ لهم شبه بالبشر وشبه بالملائكة كالخنثى يشبه  الذكر ويشبه الأنثى ".

هذا التعليل سواء صح أم مجرد خيال فإنه مع ذلك ذو ارتباط بالموضوع الذي نحن بصدد الحديث عنه حول مسألة الولادة   والاستنساخ الذي قد لا يأتي إلا شاذا ومرضيا ومحرفا للطبيعة البشرية السليمة .

فمن حيث إمكانه الذهني فالعقل لا يحيل وجوده،أما إذا ظهر في الواقع  فالحكم كما يقول الفقهاء للوجود فيما سنرى،لكن ليس كل ما هو موجود يعتبر مشروعا أو فيه مصلحة أو خير، لأن البلاء يكون بالشر والخير معا،والكل يتم بإرادة الله ومشيئته "و نبلوكم بالخير والشر فتنة " إلا أن المطلوب هو التزام المشروع الذي يضمن سلامة البشرية ومجتمعها، وبالتالي سلامة البيئة والحفاظ عليها من التلوث والعبثية .

من هنا فتبقى الولادة السليمة لكل عنصر من عناصر الكون بحسب جنسه المناسب والموافق له لا غير،كما هي القاعدة التي تعطي للخلف الحق للارتباط بالسلف حماية له من أن يتحول إلى قرد أو شيطان مارد،وهذا ما  دأب على ترسيخه وتأكيده النص القرآني والحديثي بصورة قطعية وبالدلالة الثابتة على أصل النشأة الإنسانية  واستمرارها بالتناسل المقنن والمضبوط شرعا، وذلك باعتبار آدم أب البشر وحواء بعد الفصل والتشكيل المناسب أمهم،وبالتالي تفرعت  الذرية من الشكلين المختلفين  عرضا  والجوهرين المتحدين أصلا إلى صور وأشكال لا تخرجهم عن الطبيعة الأصلية للتكوين الأولي للإنسانية .

هذا التفرع سيعرف بدوره إشكالا لدى بعض المتفرعين الواهمين و المغترين فلم يميزوا بين ما هو مشروع وما هو غير مشروع فكان بذلك محاولة اختراق المشروع من طرفهم والذي في حد ذاته اختراق للطبيعي والسليم الذي جعله الله تعالى سنة في خلقه،فكانت قصة قابيل وهابيل ومحاولة التطاول على ما لا يدخل في حكم الاستحقاق الشرعي الذي يضمن السليم للطبيعي والخلقي المتزن ويحمي الناتج ومن يصح له الانتساب من الفرع إلى الأصل .

ثانيا: المساواة بين الجنسين وأوهام الشبه الغريزي

إن ما قدمنا له من مسألة وحدة الجنس البشري وحمايته من الاختراقات الوهمية التي قد تخل بواقعه النوعي وارتباط  فروعه بأصوله لابد وأن يفرض علينا توسعا في التدقيق والتحليل وتبيين أحكام المساواة بين الجنسين المتحدين جوهرا والمختلفين شكلا،إذ مفهوم المساواة بين الجنسين قد أخذ بعدا غير سليم لدى كثير من  الفئات المجتمعية وأصبح ذريعة لتجاوز الحقوق وهدر الوحدة المؤسسة للتواصل بين الذكر والأنثى  من جنس واحد!

فالمساواة في نظرنا بين الرجل والمرأة قد تأخذ طابعا المعادلة الجدارية لتأسيس صرح قوي ومتماسك على المستوى الأسري والاجتماعي بصفة عامة، وذلك بتشبيه التداخل  الحقوقي بينهما على شكل الجدار المؤسس والمكون من لبنات قوية ومتداخلة فيما بينها،وهي مع ذلك مهيأة ومحققة للبناء الموحد القوي  الذي يؤهل للتعايش الإنساني السري في حضنه وتحت سقفه، وهذا ما  يقتضيه مفهوم التزاوج المؤدي إلى الولادة المضبوطة والمحصنة،بحيث يكون ما يعتبر حقا للرجل قد يصبح واجبا على المرأة وما يصير حقا للمرأة قد يعتبر واجبا على الرجل أو قد يتساويان في حق وواجب معا .

فبهذا التناوب في الحقوق والواجبات والتساوي المقيد  يتم التكامل والتواصل، وبالتالي التوحد والتولد الذي يكون حاملا للعنصرين معا وعلى مستويات في التشابه مع أحد الجنسين القريبين شكلا ونوعا،كما نقتبس هذا المعنى من الحديث النبوي الشريف لما سئل الرسول صلى الله عليه وسلم عن أسباب الشبه لدى الطفل فقال :" وأما الشبه في الولد فإن الرجل إذا غشي المرأة فسبقها ماؤه كان الشبه له،وإذا سبق ماؤها كان الشبه لها" .

إن هذا الحديث مؤسس لمبدأ الحقوق الجنسية للمرأة والرجل معا في ظل الحياة الزوجية، وكذلك لمبدأ التوافق الجنسي عند الجماع، ومبدأ توزيع الشبه بين الأب والأم معا،وهذا يقتضي مبدأ الأخلاق الجنسية في ظل الحياة الزوجية لتحقيق المساواة في الاستمتاع وبلوغ الغاية الغريزية من التواصل بين الرجل والمرأة.

فموضوع الشبه بين الأصل والفرع قد يأخذ أحكاما دقيقة وعميقة في الإسلام ؛وذلك بضبط قواعده التي تحققه وتحميه؛ وبالتالي تحمي الطفل وأمه معا،كم يروي البخاري عن أبي هريرة "أن  رجلا أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله :ولد لي غلام أسود.فقال:هل لك من إبل ؟.قال :نعم.قال:ما ألوانها؟قال:حمر.قال :هل فيها من أورق؟قال:نعم.قال:فأنى ذلك؟قال: لعله نزعه عرق.قال :فلعل ابنك هذا نزعه"  .

هذا الحديث يتضمن عدة أحكام ومواضيع علمية دقيقة تربط بين الواقع الاجتماعي والأسري وبين علم الأحياء والوراثة الجينية (البيولوجيا)وكذلك علم الأناسة (الأنتروبولوجيا). فهو من جهة يؤسس لمبدأ المساواة  بين الأجناس البشرية واختلافات ألوانها ويرفض العنصرية على أساس اللون والبشرة الخارجية،ومن جهة أخرى يؤسس لمبدأ الوراثة الجينية المتعاقبة في الخلية أو النطفة التي تنتقل بعناصرها وصورها عبر الأجيال من الأصول نحو الفروع،وبالتالي فالشبه لا يؤخذ من مجرد الأصل القريب وإنما قد يمتد إلى أجداد  ضاربين في عمق التاريخ .

إلى جانب هذا نجد حديثا يؤسس للشبه القريب وذلك عند التنازع وتبادل الاتهامات بين الزوج والزوجة  حول أصل  الولد ونوع نزوعه في الحالة غير الشرعية .

فعن ابن عباس أنه ذكر التلاعن عند النبي صلى الله عليه وسلم فقال عاصم بن عدي في ذلك  قولا ثم انصرف،فأتاه رجل من قومه يشكو إليه أنه وجد مع امرأته رجلا فقال عاصم:ما ابتليت بهذا إلا لقولي !فذهب به إلى النبي صلى الله عليه وسلم فاخبره الذي وجد عليه امرأته،وكان ذلك الرجل مصفرا قليل اللحم سبط الشعر،وكان الذي ادعى عليه أنه وجده عند أهله خدلا آدم كثير اللحم،فقال النبي صلى الله عليه وسلم :اللهم بين. فجاءت شبيها بالرجل الذي ذكر زوجها أنه وجده،فلاعن النبي صلى الله عليه وسلم بينهما ...قال رجل لابن عباس في المجلس هي التي قال النبي صلى الله عليه وسلم :لو رجمت أحدا بغير بينة رجمت هذه ,فقال:لا،تلك امرأة كانت تظهر السوء في الإسلام" .

ففي قول النبي صلى الله عليه وسلم "اللهم بين "دلالة على أن الشبه قد يبدو واضحا كل الوضوح، ولهذا فهو من جهة قد يكون مدعما للدعوى ومن جهة أخرى قد لا يعتبر حاسما عندها إلا ببينة شرعية قائمة على الإشهاد أو الإقرار.

من هنا فإن الولادة تبقى معطية للشبه قطعا وبنسب مختلفة من حيث الظهور والضمور،قد يدرك على مستوى الرؤية السطحية ويدرك بالتخصص، كما كان الشأن في بعض المناطق من الجزيرة العربية عند إدراك الشبه بالقيافة التي أقرها الإسلام وحكم بها عند التنازع أو وجود تشكيك وتشويش بغير بينة على واقع النسب بين الوالد والمولود من الناحية النسلية والوراثية.إذ ورد في الحديث النبوي عن عائشة رضي الله عنها" أن الرسول صلى الله عليه وسلم دخل عليها مسرورا تبرق أسارير وجهه فقال: ألم تسمعي ما قال المدلجي لزيد وأسامة و رأى أقدامهما؟إن  بعض هذه الأقدام من بعض" .

هذا الحديث مهم جدا في باب حماية الشبه بين الأصل والفرع وضبط  المواليد قضاء عند التنازع،إذ أن النسب الحقيقي والقطعي يحدده الفراش،أي الزواج الشرعي وما في حكمه مما يؤهل لشرعية التواصل الجنسي بين الرجل والمرأة،وهو في هذا الحديث قائم وثابت،ولا يستطيع أحد أن يؤثر فيه بإثارة الشبهات تحت مبرر اختلاف  اللون أو التباعد الشكلي  للصورة بين الأب والابن .

لكن، حيث أن المنافقين بدءوا يغمزون في نسب أسامة إلى أبيه زيد بسبب اختلاف بين لوني بشرتيهما فإن النبي صلى الله عليه وسلم استأنس بمبدأ القيافة رغم علمه القطعي بصحة النسب بينهما،لا لإثباته ابتداء وقضاء وإنما لدحض شبهة  يثيرها الخصوم بالرجوع إلى القواعد التي يسلمون بها في مقاضاتهم العرفي والتقليدية وعلى رأسها قاعدة القيافة،والتي كانت بمثابة موهبة أو خاصية تتمتع بها بعض المناطق العربية كبني مدلج خصوصا!والتي ستتحول فيما بعد  إلى مجال للتجربة العلمية وتكرار الإصابة،وسيشترط  في أهلها عناصر العدالة المستخلصة من أهلية الشهادة وهي:التكليف والحرية والإسلام،وعدم الإقدام على كبيرة والإصرارعلى صغيرة، مع اختلاف الفقهاء حول مسألة التوبة وعودة الأهلية...إلخ.

إذ كما يقول الغزالي عن شروط القائف بأنه :"هو كل مدلجي مجرب أهل للشهادة،وفي غير المدلجي إذا تعلم القيافة وجهان،وتجربته بأن يعرض ولد بين ثلاثة أصناف من النسوة ليس فيهن أمه ثم في صنف رابع فيهن أمه،فإن أصاب في الكل قبل قوله بعد ذلك والصحيح أن يشترط في القائف الذكورة والحرية،ولا يشترط العدل" .

كما قد يقترح تجارب على الرجال بمستويات متفاوتة في العدد بينهم لإدراج وجه الشبه بين الطفل وأبيه .

***

د. محمد بنيعيش - المغرب

في المثقف اليوم