دراسات وبحوث

نبيُّ الأمريكان ورسول آخر الزمان وكتاب المرومون

إذا ما تطرّقنا إلى شخصية “جوزيف سميث” فيمكن القول إنه يرد إلى جماعة “الكاو بوي” من أحدى الأسر الهنديّة الفقيرة التي هاجرت إلى أمريكا وأُطلق عليهم (“الهنود الحمر”) وأقاموا في ولاية نيويورك. وكان أبوه يمارس السحر الأسود واستحضار الجن واتهمت والدته بالكهانة والعرافة والاضطراب العقلي من كثرة أحاديثها الغيبية، وورث عنهما “سميث” هذه الخصال. ولم يلتحق الساحر الصغير بأي من دور التعليم؛ بل اعتمد على نفسه في تلقي المعارف المختلفة (التثقيف الذاتي). وروى عنه تمكّنه من الآداب واللغات اليونانية واللاتينية والعبرية والفرنسية والإنجليزية؛ الأمر الذي جعل منه خطيباً مفوهاً وحكاءً يتقن السرد والجدل وتبسيط المعارف وشرح المستغلق من العلوم والمعارف والمعلومات للعوام فكان في طليعة المثقفين؛ وذلك بمعونة قوة غيبية وإلهام من العالم الآخر. وقد حدث ذلك في السابعة عشر من عمره.

وفي العام التالي هبط إليه ملك يُدعى “موروني” بوحى من السّماء وبشّره بأن الإله قد اختاره ليصبح نبي آخر الزمان. وروىَ أنه أشتهر في هذه الآونة بممارسة الدجل والشعوذة والاحتيال والتنبؤ، ورؤية الأشياء المخفية والأشخاص وهو مُغمض العينين، واستطلاع الأخبار الغيبية بالنظر إلى بلورة كان يحملها في جعبته حتى أضحى من الأثرياء الذين يملكون عشرات الآلاف من الدولارات؛ الأمر الذي كان وراء الحكم عليه بالسجن وهو في الحادي والعشرين من عمره.

غير أن أتباعه قد دفعوا عنه جميع التُهم التي وجّهت إليه، فخطب فيهم قائلاً:” اعلموا أني أعظم من بطرس وبولس ويوحنا وأن دعوتي وتعاليمي ذاعت وانتشرت بين الناس بأعداد تفوق الذين صدقوا يسوع؛ لذا أقول لكم أنكم يا أصدقائي أبناء الرّب حقاً، وأن إيمانكم أصدق من الحواريين الأوائل الذين أنكروا وباعوا المسيح فطوبى لكم. أما المشككون في نبوتي والمُدعون بالباطل عليّ؛ فأنهم ينطقون بلسان الشيطان ومصيرهم الجحيم وغضب الإله. وتذكروا أنني أتيت بكلمة المسيح لأحيي الناموس وأعيد الغبطة لقلوبكم، وأقيم كنيسة الرّب ثانيةً وغير ذلك من مهام ورسائل مقدّسة، وسوف أواجه عشرات الصعوبات والعراقيل والآلاف من الذين يكذبوني ويضطهدونكم حتى آخر الأيام”.

ولسميث أقوال عديدة تضمنها كتابه “لؤلؤة غالية الثمن” وهو بمثابة سيرة ذاتية ورحلة إيمانه تشمل اصطفائه من قبل الرب، والوقائع والأحداث التي مرّ بها خلال نشر دعوته وتبليغ رسالته. نذكر منها تلك الحادثة التي ظهرت له في صورة ملكين غاية في الجمال والبهاء يفوق التصور؛ ليبلغاه أن كل كنائس الأرض فسدت، وأن الكتب المقدّسة حُرفت بما في ذلك الكنيسة البروتستانتية ومن ثمّ يجب عليه الابتعاد عنها وعدم الإصغاء لتعاليمها والكفر بمعتقداتها؛ لأنه هو النبيّ المختار الذي سوف يرد الكلمة إلى أصولها، والمقدّس إلى من كتبه على المخلصين. بما في ذلك صحف إبراهيم. وقد ادّعى “سميث” بأنه ترجمها عن اللغة الهيروغيليفية، وتشتمل على تعاليم نبي الله إبراهيم. ويشير المؤرخون المورمونيون إلى أن هذا الكتاب قد نشر عام 1835م، وقد عُرضت الأقوال الأخيرة على علماء متخصصة في المصريات وأجازوا متنها وصحة ترجمتها وذلك عام 1967م، غير أنهم أنشقوا على تلك الديانة وأنكروا ما أثبتوه سلفاً، وأكدوا أن ما نُسب إلى نبي الله إبراهيم غير صحيح، فهو عبارة عن صلوات جنائزية مصرية يرجع تاريخها إلى نحو 200ق.م إلى 100م، ولا علاقة بها بما ادّعاه “سميث” وذلك في عام 1975م؛ الأمر الذي يكشف زيف “سميث” وتلفيقه للكتابات المقدّسة.

وتحدثنا الكتابات المورمونيّة أن في الحادي والعشرين من سبتمبر 1823م ظهر لجوزيف سميث ملاك يدعى “موروني” وأخبره بأنه رسول المسيح إليه والناطق بلسانه والحافظ لناموسه قائلاً يجب عليك أن تبلغ كلمة الرّب بدورك للمختارين والأصفياء والأتقياء والذين سوف يؤمنون بنبوتك ويشيدون كنيستك. ثم أخبره الملك بموضع الكتاب المقدس الجديد الذي يحوي رسالة الرب إلى أمريكا، وهو عبارة عن اللواح ذهبية مربوطة بحبل فضي ومدفونة في صندوق حجري تحت إحدى التلال، وبجوار هذه اللوائح يوجد بلورتان سحريتان لتمكنه من قراءة النصوص المكتوبة بحروف أشبه بنقوش المصريين؛ لفك طلاسمها وحل رموزها؛ لأنها حكم رمزية ملغزة؛ الأمر الذي يستوجب تفسيرها وترجمتها إلى الإنجليزية ليفقهها المؤمنون بقداسة كتاب “المورمون” على ألا يبوح بمكنونها إلى بعد أربع سنوات. ثم يُعيد اللوائح ثانية ودفنها في أحد التلال بالقرب من نيويورك وذلك لتكون مصدراً للرؤى والإلهامات الربانية المتتالية وبلغ عددها 135 رؤية.

أمّا رحلة نشر الكتاب؛ فتبدأ بوحي من يسوع أمر فيه نبيه “سميث” أن يبلغ صديقه مارتن هاريس – الذي عاونه في الترجمة – برغبة الرب في أن يخصص جزءاً من ماله، لطبع الكتاب فأستجاب الأخير وبلغت تكلفة الكتاب 3000 دولار وخرجت الطبعة الأولى من كتاب المورمون في 5000 نسخة عام 1830م – وقد شكك المؤرخون المعاصرون في صحة مضمون الكتاب المترجم مقارنة بالنسخ المعاصرة للمؤلف الأصلي؛ إذ بلغ التحريف في أسفاره الأولى نحو 500 موضع. ويبرر المورمونيون المعاصريون هذا التحريف بأنه أمرٌ إلهيٌ من يسوع المسيح، وقد تركه النبي “جوزيف سميث” على هذا النحو المُحرف – وثم تأسست الكنيسة في نفس العام من ثلاثين عضواً في مدينة فايت بـ “نيويورك”. وتزايدت معها أصوات المعترضين والمكذبين – وكان فيهم بعض الرجال الذين شهدوا بصحة قصة اللوائح الذهبية المقدّسة – أولئك الذين أكدوا أن “سميث” ساحر ودجال ومُدّعي النبوة، وأنه مارس خداع الناس منذ عام 1825م، وقد تمكن بدهائه من إخفاء المستندات التي تدينه ومحاضر التحقيقات المدوّنة في سجلات القضاء التي تثبت احترافه النصب والشعوذة. ورغم ذلك كله فقد أستمر “سميث” في دعوته وانتقل من نيويورك إلى ولايات عديدة بحثاً عن أنصار وأتباع حتى انتهى به الأمر إلى الاستقرار في منطقة أطلق عليها “نوفو”، وزعم أنها تعني المكان الجميل، وأنها أرض الميعاد الجديد التي سوف تحتضن مئات الصهاينة من بعد شتاتهم.

غير أن المسيحيين المحافظين اعترضوا على دينه الجديد وأنكروا نبوته؛ الأمر الذي دفع الحكومة إلى سجنه واعتقاله وفي عام 1844م أطلق الغاضبون المتعصبين على “سميث” النار فأردوه قتيلاً في 27 يونيو قبيل محاكمته. غير أن الديانة المورمونية لم تمحى من التاريخ؛ بل واصل “بريغام يونغ” – أحد أنبياء المورمونية الجدد – رحلة الدعوة والتبشير بمجيء المسيح في مدينة يوتاه رغم حملات الاضطهاد والتصفية الجسدية والإرهاب الطائفي ضد الصهيونيين الذين اعتنقوا هذه الديانة.

وقد قُبلت أحاديث سميث وكنيسته التي أطلق عليها “كنيسة يسوع المسيح لقديسي آخر الأيام”، بالرفض والازدراء والكفر والتكذيب من قبل كل الطوائف المسيحية واشهرهم البروتستانتية، إذ أجتهد معظم قساوستها فضح مواطن الخلل والاضطراب النسقي في كتاب “المورمون” وكذا في كتابيه “لؤلؤة غالية الثمن” و”تعليم وعهود”. فقد ذهب أحد علماء المصريات ويدعى “نيلسون” إلى الدفاع عن قداسة كتاب “المورمون” وصحة نصوصه وادّعى أن اللوائح التي فحصها عام 1967م هي نفس اللوائح التي يرد تاريخها إلى الفترة الممتدة من 2000 ق.م إلى 100 ق.م؛ الأمر الذي برهن على صدق التراث البرهاني المورموني. وعلى النقيض من ذلك ظهرت العديد من المؤلفات عام 1976م تشير إلى أن هذا الكتاب مزيف ومُلفق، ولا صحة فيه من الناحية العقدية أو التاريخية ومازال المؤرخون يختلفون حول مصداقية كتاب “المورمون” حتى الآن. ومهما يكن من أمر؛ فقد أنتصر المتدينون المورمونيون وذلك بفضل عصبة من الآثاريين الأمريكيين الصهاينة الذين قدموا الأدلة العلمية على ادعاءاتهم علماً بأن “كنيسة يسوع المسيح لقديسي اليوم الأخير” قامت بترجمة الكتاب عن الإنجليزية إلى عدّة لغات، ومنها العربية عام 1985م وجاءت الترجمة في 764 صفحة من القطع المتوسط. وظلت الكنيسة التي شُيدت في “يوتاه” بأميركا باقية ومازالت الأجيال المتوارثة من المورمونيين مُخلصين لتراثهم العقدي ورافضين الانصياع لكنيسة أخرى دون كنيستهم رغم تأثرهم بالديانات الصهيونية المعاصرة لهم المنتشرة في أميركا.

وللحديث بقيّة

***

بقلم د. عصمت نصّار

في المثقف اليوم