دراسات وبحوث

فاضل حسن شريف: دراسات عن مفهوم الثقافة في القرآن الكريم (3)‎

وعلى أساس الموقف القرآني، وما رفضه من التقليد، وما شجّع عليه من التفكير والتدبّر، كانت الأمّة التي صنعها القرآن الكريم مصدرَ العلم والثقافة في العالم، بدلاً من جمود العقول اليوم في امة تقرأ القرآن ولا تدبره. واعترف المؤرّخون الأوروبيّون بحقيقة القرآن الذي هو مصدر الثقافة، فقال المؤرّخ الهولندي رينهارت دوزي: (إنّ النبيّ جمع قبائل العرب أمّة واحدة رفعتْ أعلام التمدّن في أقطار الأرض، وكانوا في القرون المتوسّطة مختصّين بالعلوم، من بين سائر الأمم، وانقشعتْ بسببهم سحائبُ البربريّة التي امتدّت إلى أوروبا). ورد عند المتشرعة: التفكير يمكن أن يكون على عدَّة مستويات، وهي تختلف باختلاف مستوى المفكِّر من حيث الثقافة والعقلية والإيمان. ان الله تعالى اختار اسماء لكتابه المنزل تختلف عن المصطلحات الشائعة في الجاهلية ليكون فارقا بين الثقافة الاسلامية والجاهلية كما قال الله تعالى "ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ" (البقرة 2).

ان الموروث الطائفي العنصري ينتج ثقافة مجتمعية مأزومة، وثقافة سلطوية قمعية، ونظم سياسية وقانونية مولِّدة للأزمات، ومراكمة لها، ومفككة لبنية المجتمع، ومدمرة لوحدة الدولة، ومثيرة للحروب والصراعات الداخلية بين مكونات الشعب. وردت مصطلحات قرآنية ولغوية يصعب التمييز بينها ولكنها في حقيقتها تختلف عن بعضها البعض فعن ظاهرة السباب واللعن في التراث الإسلامي لسماحة السيد منير الخباز: هذه الثقافة تتنافى مع المنطق القرآني نفسه، القرآن نفسه لا يرضى بهذه الثقافة، القرآن نفسه يقول: "وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ فَيَسُبُّوا اللهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ" (الانعام 108)، أنت لا تشتم رموز الطرف الآخر، أنت عندك رموز، والطرف الآخر أيضًا عنده رموز، الكفار عندهم رموز، وأنت عندك رموز، الكعبة المشرفة رمز، النبي محمد رمز، كذلك أيضًا الشخص الآخر عنده رموز، عيسى بن مريم، الكنيسة إلخ، أنت لا تشتم رموزه حتى لا يشتم رموزك كردة فعل، حتى تعيش في حالة وئام، ويستتب السلم الاجتماعي، فلا تتعامل بشتم رموز الطرف الآخر. القرآن الكريم نفسه يركز على كرامة الإنسان: "وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ" (الاسراء 70)، من كرامته ألا يسب، من كرامته ألا ينال كافرًا أو مسلمًا، أليست له كرامة؟ إذن، ثقافة السباب تتنافى مع المنطق القرآني نفسه.

جاء في موقع تبيان عن الثقافات المعاصرة وثقافة القرآن الكريم: تعرف الثقافة بأنها (المعارف التي تعطي الانسان بصيرة في الحياة، ونورا يمشي به في الناس). يقول الله سبحانه: "هذا بصائر للناس وهدى ورحمة لقوم يوقنون" (الجاثية 20). الصبغة الحقيقية لثقافة القرآن (التقوى) قال تعالى: "يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين" (التوبة 119). وقال تعالى: "فاتقوا النار التي وقودها الناس والحجارة" (البقرة 24) أول ما يقوم به القرآن الكريم هي زرع التقوى عند الإنسان والخشية من الله سبحانه وتربيته على ذلك وجعل الوعيد والعذاب عقاب المخالف والجنة هي ثواب المتقين لذلك ثقافة القرآن هي الوحيدة القادرة على ان تضبط سلوك الانسان من خلال التقوى والخشية من الله.

تكملة للحلقة السابقة جاء عن المركز الاسلامي للدراسات الاستراتيجية في العتبة العباسية المقدسة عن الثقافة بين المفهوم الغربيّ والإسلاميّ، الإئتلاف والإختلاف للباحث عماد الهلالي: وأما (التثقيف) فمعنى غير ذلك، وهو التقويم، فمعنى: "واقتلوهم حيث ثقفتموهم" (البقرة 191) اقتلوهم في أي مكان تمكّنتم من قتلهم، وأبصرتم مقاتلهم. ويُعلّل الشيخ الطبرسيّ (كان حياً في القرن السادس الهجري) في مجمع البيان قائلاً: ثَقِفْتُه أثقفه ثقافة أي وجدته، ومنه قولهم: رجل ثقِف، أي يجد ما يطلبه. وثَقِف الرجل ثقافة فهو ثِقف وثقْف ثقَفاً بالتحريك، فهو ثقف إذا كان سريع التعلم، والثقَّاف حديدة يُقوَّم بها الرماح المعوجة، والتثقيف التقويم والفتنة أصلها الاختبار، ثمّ ينصرف إلى معان منها الابتلاء نحو قوله: فتنّاك فتوناً. أي ابتليناك ابتلاءً على أثر ابتلاء. 2- "ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُواْ إِلاَّ بِحَبْلٍ مِّنْ اللّهِ وَحَبْلٍ مِّنَ النَّاسِ" (آل عمران 112). وهنا تشير معظم التفاسير إلى كلمة (أينما ثُقِفوا)، أي أينما وُجِدوا. مثلاً يقول الطبري (ت 415هـ): (أين ما ثقفوا) يعني: حينما لُقو(16). ويقول الرازي (ت 606هـ) في تفسيره الكبير: وقوله: (أينما ثقفوا) أي وجدوا وصودفوا. هذا وبإمكاننا مراجعة التفاسير الآتية، حيث تدل على نفس المعنى مثل: الميزان في تفسير القرآن ، لمحمد حسين الطباطبائي. التبيان في تفسير القرآن، للطبرسي، الجامع لأحكام القرآن، للقرطبي. الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل، لمكارم شيرازي. وما أشبه ذلك. 3- "فَإِن لَّمْ يَعْتَزِلُوكُمْ وَيُلْقُواْ إِلَيْكُمُ السَّلَمَ وَيَكُفُّوَاْ أَيْدِيَهُمْ فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثِقِفْتُمُوهُمْ وَأُوْلَـئِكُمْ جَعَلْنَا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا مُّبِينًا" (النساء 91). 4- "فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِم مَّنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ" (الأنفال 57). 5- "مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلًا" (الأحزاب 61). 6- "إِن يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْدَاء وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُم بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ" (الممتحنة 2). والمعاني في الآيات السابقة (ثقفتموهم، تثقفنهم، ثقفوا، يثقفوكم) كلها تدل على معنى ومفهوم واحد، ألا وهو: ظفَر به، أو أدرَكَه. وخلاصة هذه المعاني إنّ الثقافة تدلّ على قدرة في العلم ضبطاً وفهماً وفي تقويم الفكر والسلوك. إذاً لم نجد مفهوم الثقافة والمثقّف، بهذا المفهوم الواسع، في القرآن الكريم.

تكملة للحلقة السابقة جاء في موقع الألوكة الشرعية عن مصادر الثقافة الإسلامية القرآن الكريم للدكتور مصطفى مسلم: ودعاهم القرآن الكريم إلى استعمال عقولهم للنظر والتدبر في ملكوت السماوات والأرض، كما دعاهم القرآن إلى التمسك بمحاسن الأخلاق وأصول العبادات، وجعل الحلال والحرام ميزاناً في مطاعمهم ومشاربهم وأموالهم وأعراضهم، ودمائهم. نقرأ ذلك في ثنايا القرآن الكريم النازل في المرحلة المكية في قوله تعالى: "قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ * وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ * وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ" (الأنعام 151-153). قد رافق نزول القرآن الكريم مسيرة الدعوة الإسلامية، فكلما أثار القوم شبهة أو تهمة رد القرآن الكريم عليها وبين لهم الحق: "وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً" (الفرقان 33). قد رافق نزول القرآن الكريم مسيرة الدعوة الإسلامية، فكلما أثار القوم شبهة أو تهمة رد القرآن الكريم عليها وبين لهم الحق: "وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً" (الفرقان 33).

***

الدكتور فاضل حسن شريف

في المثقف اليوم