علوم

كمال الكوطي: دور الملاحظ في فيزياء الكوانطا

يعتبر دور الملاحظ في فيزياء الكوانطا جزء لا يتجزأ من إشكاليات ابيستمولوجية انبثقت مع البدايات الأولى لتشكلها على يد الآباء المؤسسين لها أمثال "نيلس بور"، "اينشتاين" و"شرودينجر"...ألخ. ففي الفيزياء الكلاسيكية لم يكن ليطرح هذا الدور  بشكل ملح على إعتبار أن الملاحظ (أو المجرب) غالبا ما اعتبر تدخله تدخلا سلبيا يكتفي فيه بتسجيل معطيات موجودة بشكل موضوعي، أي: باستقلال تام عن ذاته. لكن هذا الوضع سرعان ما تغير خصوصا مع محاولة العلماء تقديم تفسير لما يسمى ب"تجربة الشقين" double- slit experiment ، وهي التجربة التي يبدو فيها سلوك "النسق الفيزيائي" المدروس (ذرات، فوتونات، إليكترونات، جزيئات ...إلخ.) متغيرا بحسب تدخل الملاحظ من عدمه، وهو ما لا نجد له نظيرا في الفيزياء الكلاسيكية. ففي التجربة الأولى (على يسار القارئ) حيث لا حضور لملاحظ، يظهر سلوك "النسق المدروس" موجي undulatory، في حين أن التجربة الثانية (على يمين القارئ) تكشف لنا عن سلوك مغاير، سلوك جسيمي corpuscular بعد تدخل الملاحظ (عبر وساطة جهاز رصد).

2518 الكوانتم 1

منذ ذلك الحين سينصب النقاش حول ما إذا كان فصل الموضوعات الكوانطية عن الملاحظ، أو الذات العارفة، ممكنا أم لا. إجمالا نستطيع القول بأن الآراء توزعت ما بين من يقول بإمكانية ذلك ("اينشتاين" و"شرودينجر" مثلا)، وبين من يرون بأن النسق المدروس والنسق الملاحظ يشكلان معا كلا لا يمكن تجزيئه ("فون نيومان" و"نيلس بور" مثلا). تمخض عن هذا النقاش نتائج ابيستمولوجية وفلسفية (بل وحتى ميتافيزيقية)  همت قضايا: "الموضوعية العلمية"، "طبيعة الواقع"، "معنى القياس"، و"الحتمانية الفيزيائية"...إلخ.

في هذه الورقة سنحاول تقديم قراءة لهذه الإشكالية من خلال مقال صادر بمجلة Annalen der Physik (1) الألمانية العريقة، مقال للباحثين "شان يو" Shan Yu و"دانكو نيكولاي" Danko Nikolié. لقد دأبت بعض تأويلات فيزياء الكوانطا على إرجاع "انهيار دالة الموجة" wave function collapse إلى تدخل "وعي" الملاحظ، بشكل يبدو معه هذا الأخير كما لو كان "علة فاعلة" تمنح الموضوعات قيم محددة (سواء تعلق الأمر بالموقع، السرعة، الطاقة ...إلخ.)، وسبب ذلك، كما يطرح ذلك المبدأ الأول لفيزياء الكوانطا، أي مبدأ التراكب principle of superposition ، هو أنه قبل إجرائنا للقياس لا نعلم بالضبط القيم العددية لهذا المتغير أو ذاك، بحيث قد يحتل النسق المدروس مجالا بأكمله يصير معه موقعه، على سبيل المثال، هو حاصل جمع x+y+z...لذا وحده القياس قادر على إنهاء حالة التراكب هاته، وبالتالي حصول النسق على قيمة محددة. وهو ما أثار سجالا طويلا ما بين "اينشتاين" و"بور" دون أن يجد له حلا نهائيا (2). لكن ما يهمنا في الورقة الحالية هو بيان كيف حاول الباحثين، "يو" و"نيكولاي"، معالجة الوجه الأخر المتعلقة بدور الملاحظ، وخصوصا "الوعي" في عملية الانهيار تلك.

إن هدف المقال الذي عنواناه ب "لا حاجة لميكانيكا الكوانطا بمقولة الوعي"  Quantum Mechanics needs no Consciousness هو إثبات خطأ فرضية الوعي ودوره المزعوم، بحسب رأيهما، في انهيار الموجة. وتقول هذه الفرضية: "من الضروري أن يتشكل داخل ذهن الملاحظ تمثل ظاهراتي صريح لنتيجة القياس الكوانطي لدالة موجة (حالة متراكبة) حتى ينهار النسق المدروس بشكل يكتسب معه حالة خاصة واحدة." (3) إذن ما هو السبيل الذي سلكاه لبيان عدم جدوى هذه الفرضية؟ لنختصر الخطوات التي اعتمداها في النقط الآتية:

- سيظهر شكل التداخل (الصورة أعلاه يسارا) interference pattern  إذا لم يتمكن الملاحظ (أو المجرب) من تسجيل المعلومة المتعلقة "بالمسار الذي سلكه الفوتون" which path، وعليه يرى "يو" و"نيكولاي" بأنه يتوقع العثور على شكل تداخل عند D⁰ (أنظر الشكل أدناه) في الحالات التالية:

1- إن لم تجرى أي محاولة لقياس "أي مسار سلكه الفوتون"، بمعنى أخر ما لم يتم تشغيل جهازي الرصد عند D₁ وD₂.

2- إذا تم فعلا قياس المعلومة الخاصة "بالمسار الذي سلكه الفوتون" أثناء تشغيل جهازي الرصد السابقين (عند D₁ وD₂) بغرض التفاعل مع الفوتونات الواردة من L وR، لكن نتائج ذلك القياس لم تلتقط بواسطة الجهاز "الماكروسكوبي"، مما يعني أن الملاحظ البشري لم يتمكن من إدراكها (أي النتائج).

3-الحالة الثالثة والأخيرة التي عرضها الباحثان تقول: تم فعلا قياس تلك المعلومة بواسطة الجهاز الماكروسكوبي الموجود عند  D₁وD₂، لكن، رغم تمكن النظام الحسي للملاحظ من التقاطها، إلا أن تشتت "وعيه"، لسبب من الأسباب، حال دون إدراكه لها، أي ما حدث، كما يقول الباحثان، هو فقط تشكل تمثلات ذهنية غير-ظاهراتية (أي غير واعية).

بعد عرضهما لهذه التوقعات الثلاثة، لجأ "يو" و"نيكولاي" إلى انتقادها الواحدة تلو الأخرى، وهو الانتقاد الذي يمكننا اختصار مضامينه كالأتي:

نقد التوقع الأول: الإمكانية المبدئية لانجاز عملية القياس، قياس "مسار الفوتون"، كافية وحدها لحدوث الانهيار، من تم يصبح التوقع الأول الخاص بفرضية تدخل الوعي غير صحيحة.

نقد التوقع الثاني: في مجموعة أخرى من التجارب، كما يقول الباحثان، تم قياس معلومة "مسار الفوتون"، دون أن يتمكن الجهاز الماكروسكوبي" من تسجيلها، وبالتالي لم يتمكن الملاحظ من الوعي بها، ومع ذلك لم يتم في هذه الشروط العثور على التداخل.

نقد التوقع الثالث: لا وجود، بحسب "يو" و"نيكولاي"، لأي محاولة لاختبار التوقع الثالث، لكن يكفي التوقعين السابقين في نظرهما لبيان عدم صحة التوقع الأخير. بصيغة أخرى، إذا لم يظهر عند الشاشة D⁰ شكل يفيد التداخل حين لم تلتقط عين الملاحظ "مسار الفوتون"، فإن الأمر نفسه يلزم أن يحدث في حالة ما إذا بلغ شبكية عينه دون أن يتمكن من الوعي به، مما يؤكد في نظرهما عدم ضرورة "وعي الملاحظ" كشرط للتداخل، وبالتالي عدم صحة الفرضية التي انطلاقا منها.

خلاصة: هل حسم الباحثان إشكالية "دور الملاحظ" في فيزياء الكوانطا؟ في اعتقادي الشخصي لا أرى بأن المسالة قد حسمت فعلا لاعتبارين على الأقل: الاعتبار الأول فلسفي، ويخص التغير الذي طرأ على مفهوم الحقيقة منذ "كانط"، تغير أضحت معه هذه الأخيرة موضوع إتفاق بين- ذاتي intersubjectif نتيجة المأزق الديكارتي الذي قادت إليه مقاربته الانطولوجية لعلاقة الفكر بالواقع (يبقى مع ذلك من الضروري إضفاء طابع نسبي على هذا الموقف في ظل المراجعات النقدية الكبرى للكانطية في ضوء المستجدات العلمية الحالية، وهو ما أتركه لمقال قيد الانجاز)، مما منح دورا محوريا للوعي البشري. هذا الاعتبار الأول يقودنا إلى الثاني، وهو ذو طبيعة فيزيائية. صحيح أن "كانط" قد ظل رهين فيزياء ورياضيات عصره، لكن "حدسه الفلسفي" العميق فتح الباب أمام تأويلات ساهمت بشكل كبير في تقدم المعرفة العلمية (وإن كانت لها نقائص وأخطاء كثيرة) وأقصد بذلك التأويل الوضعاني positiviste. لقد أكد"بور" (وإن لم يكن من البساطة إدراجه ضمن هذا التيار أو ذاك لأسباب يطول شرحها) على أن النسق الفيزيائي+ أجهزة الرصد المختلفة لا يشكلان عناصر منفصلة عن بعضها البعض، بل يشكلان كلا لا يقبل القسمة، ومع أنه لم يشر إلى الملاحظ، فإنه بكل تأكيد جزء من هذا النظام الكلي، مما يقودنا إلى التساؤل الشائك حول ما إذا كان للعالم خصائص ذاتية مستقلة عن وجودنا كذوات ملاحظة وواعية. 2518 الكوانتم 2

كمال الكوطي، باحث في فلسفة العلوم، المغرب.

........................

الهوامش:

1-Ann.Phys.(Berlin) 523, No.11,931-938 (2011) /DOI  10.1002/andp.201100078

2- أهم نقاط هذا السجال ارتبطت بما إذا كان الواقع (أو النسق المدروس) يمتلك خصائص قبل إجراء أي قياس.

3- أنظر الصفحة 932 من المقال أعلاه.

 

 

في المثقف اليوم