تكريمات

شهادات حية: لا تتورط بطلب شيء من يحيى السماوي!

والمكون من مقالاتي عن العراق في المرحلة الأولى من الإحتلال، نصحني الناشر أن أسأل البعض من قرائي، ويفضل أن يكونوا معروفين، بكتابة بضعة أسطر عن الكتاب لتكون نص الغلاف الخلفي للكتاب، مع صورة صغيرة لي.

ومن بين قرائي وقع أحد اختياراتي على الشاعر يحيى السماوي، ولم تكن لي به أية معرفة شخصية أو اتصال، سوى أنه كتب يوماً تعليقاً على مقالة لي، شجعني على التفكير بالكتابة إليه. كنت متردداً جداً: "أليس من الأفضل أن أوفر وقت وجهد الشاعر الكبير لقصيدة من قصائده الرائعة التي لاشك أن العديد منها مازال ينتظر في رأس الشاعر للنزول إلى الورق؟ أليس من المحتمل أن يجد في مثل هذا الطلب، اكثر من اللازم؟ أليس من المحتمل أن يقبل بسبب إحراج الطلب؟" .... الخ..

في مثل هذه الحالة، كثيراً ما يقرر المرء بلا المزيد من التفكير، أن يزيح المنطق الذي يقف بوجهه، فكتبت له بسرعة الرسالة التالية، حريصاً قدر الإمكان على ترك مجال كبير للتراجع غير المحرج:

الشاعر الكبير الأستاذ يحيى السماوي المحترم

أعتزم نشر بعض مقالاتي في كتيب، وقد طلب مني الناشر تقديم من بضعة سطور عن الكتاب او كتاباتي بشكل عام.

سأكون ممتناً لكم لو حصلت على اسمكم وبضعة كلمات عن رأيكم على ظهر كتابي هذا. لكني سأتفهم تماماً وبدون اي انزعاج ان قلتم انكم لاتحبذون مثل هذا، فارجو عدم الإنحراج.

مع الشكر مقدماً...

صائب خليل

 

وجاءني الرد الذي فاق أشد خيالاتي جموحاً:

أخي الحبيب: لي الشرف، ولن أقول سوى: سمعا ً وطاعة ...

ثم أضاف إلى دهشتي أن الرجل كتب أنه وجد بعض الأخطاء النحوية والطباعية وعرض علي أن أرسل له الكتاب بشكل ملف وورد، ليراجعه ويعيده لي خلال يومين!

لقد ترددت كثيراً بتكليفه بكتابة بضعة أسطر لأنها تأخذ من وقته بضعة دقائق، فإذا به يعرض متبرعاً القيام بجهد كبير وممل للغاية: مراجعة وتصحيح الكتاب كاملاً!

بعد يومين لم أستلم الكتاب، لكني استلمت رسالة أخرى من صديقي المدهش الجديد يعتذر فيها لأنه لم يتمكن من الإيفاء بوعده في وقته، طالباً أن أعطيه يوماً آخر، وقال أن السبب هو أنه أجرى عملية جراحية صغيرة، لكنها تعيقه من البقاء جالساً لمدة طويلة أمام الحاسبة!!  قال أنه سيرسل لي الأجزاء التي يصححها تباعاً لكي يتيح لي مراجعتها فلا يتأخر نشر الكتاب!

أي شرف حصل عليه هذا الكتيب! آه لو أن مشاريعي الأخرى كانت تلقى مني ربع هذا الإهتمام!! ماذا فعلت لهذا الرجل لكي أستحق كل ذلك منه؟ ...

تبادلنا الرسائل، وعرفت المزيد من كرم هذا الإنسان الرائع، وعرفت أنه لم يكن قد أجرى عملية جراحية فقط، بل يعاني من تلف كبير في رئتيه بسبب التدخين، الذي لا يستطيع الكتابة بدونه! فكرت: هذا الرجل ينزف صحته حرفياً، لتسيل كلمات في قصائده، فهل من غرابة أن تأتي قصائده بهذا الشكل الساحر؟

لم يكتف يحيى السماوي بتصحيح كتابي، بل أصر على أن يصحح لي كل مقالة أنشرها بعد ذلك! وكانت ردوده تأتي غالباً بعد ساعة أو ساعتين من إرسالي المقالة له، مهما كانت طويلة، فإن تأخر عن ذلك، كتب معتذراً!!

لم ينقذ ضميري من الشعور بالذنب وأنا أكلف الرجل كل هذا، سوى أنقطاع اتصال الإيميل بيننا، لسبب لم نعلم به حتى الآن، وهو ما حدث لي بضعة مرات قبل وبعد ذلك، ومع أشخاص وجهات محددة دون غيرها!

تبادلنا العديد المكالمات بعد ذلك، ثم جاءت فترة صمت، خاصة أني مررت بظروف مضطربة وانتقلت للعمل في بلجيكا، وكنت في كل مرة أقرأ إحدى روائعه، يوبخني ضميري على تأخري في الإتصال به، كانت لدي دائماً حجج مختلفة، وكنت ارتكب مثل هذه المعاصي كثيراً، حتى مع أبي وأمي.

وأخيراً قررت أن أتصل به بعد أن ركبت أتصالاً تلفونياً من خلال الحاسبة، لا يكلف كثيراً، فوعدت نفسي بحديث طويل مع العزيز على قلبي.

دق جرس التلفون بضعة مرات، وجاء صوته من بعيد. بعد التحية والسؤال عن صحته سألته: "صوتك ضعيف يا أبا علي، هل صحتك على ما يرام؟ " أكد لي أنه بخير وأن صحته في تحسن، وراح يسألني بدوره عن صحتي وأخباري...

بعد قليل قلت له أني لا أريد أن أتعبه بالكلام، فودعته وأغلقت التلفون وأنا ما أزال قلقاً من انخفاض صوت الرجل، وكنت أنظر إلى رقم تلفونه في برنامج الحاسبة...وفجأة أنتبهت: يا ألله! ماذا فعلتُ؟ كيف نسيت أن يحيى السماوي في أستراليا؟ بسرعة ذهبت إلى صفحة "الساعة العالمية" لأجد أن الوقت كان عنده الساعة الثالثة والنصف صباحاً!

تخيل "صديقاً" يوقضك في الثالثة والنصف صباحاً ليبلغك قلقه على صحتك، ويسأل عن أخبارك!! إنه لم يقل لي، حتى ولا بأية طريقة ودية: "يا صائب يا عزيزي، هل تعرف كم الساعة عندي الآن؟" بل استمر يتحدث ويسأل عن أخباري، خافضاً صوته لكي لا يوقظ أحداً من عائلته في هذا الوقت فيصاب بالخوف من سبب إتصال في مثل هذا الوقت، ومفضلاً تحمل كل ذلك على أن يحرجني بأية كلمة، مهما كانت رقيقة مؤدبة، وهو أستاذ الأدب والرقة.

آه يا يحيى...كم دعمت صداقتك روحي، وأدامت قلمي، ولكن ايضاً.. كم كلفت ضميري الذي لم يعرف كيف يقارب كرمك!

 

...........................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (عدد خاص: ملف تكريم الشاعر يحيى السماوي، الخميس 1/1/1431هـ - 17/12/2009)

 

 

 

 

في المثقف اليوم