تكريمات
ملف: مع رباعيات السماوي في مجموعته (زنابق برية)
إكتوى ـ كغيره من شعراء العراق الشرفاء ـ بنظام مستبد جائر ... يعيش في أرض الغربة منذ عقود .. وكانت السعودية أول منفى يحتضنه حين فرّ من النظام الديكتاتوري، ثم كانت الهجرة الحالية نحو استراليا ..
قصائده تطلّ علينا بين حين وآخر عبر صحف مختلفة .. ووجهه ـ أيضا ـ يطلّ علينا في بعض المناسبات الثقافية .. كان آخرها مهرجان الجنادرية في دورته العشرين أوائل العام الهجري 1426 وكانت مشاركته في هذا المهرجان السنوي عبارة عن أمسية شعرية .. لم يتسن لي حضورها إنما أثنى عليها كل مَنْ حضرها واستمتع بشعر فارسها السماوي وهو ينشد قصائده عن حبيبه العراق .
وديوان (زنابق برية) ـ وقد تفضل الصديق الشاعر بإهدائي نسخة منه مشكورا ـ يضم نحو 200 رباعية تضاف إلى رباعيات ديوانه المطبوع سابقا بعنوان (رباعيات) ..
نقلّب صفحات الديوان حيث تواجهنا الرباعية الأولى:
لا تقتلوهُ ـ وإنْ بدا كـهـلا ـ
فغدا ً يعودُ عـراقـنا طِـفلا
ندري بأنَّ القـهـرَ أرهـقهُ
وأذلَّ فيهِ الأهـلَ والـنخلا
لكنه الأحلى وإنْ شحـبَـتْ
أقمارُهُ .. وترابُــهُ الأغـلى
نرضى بأنْ نبلى على شظفٍ
وعلى تعلّات ٍ .. ولا يـبـلى
ولسنا بحاجة إلى القول ـ ونحن نتأمل الأبيات ـ بأن السماوي يحبّ وطنه .. فهو من قبل ومن بعد متيّمٌ بوطنه العراق العظيم، فعراق السماوي وكلّ منتم ٍ إلى العروبة والإسلام، هو الأحلى بل والأغلى .. بل إن كل شريف وصادق ليرضى أن يموت ويفنى كي يبقى العراق ولايبلى .
أما عاصمة الرشيد بغداد فلا يزال الشاعر غير معترفٍ بهزيمتها ـ وهي في الحقيقة لم تُهزم إلآ شكلا ً ـ أمّا واقع بغداد وما في تاريخها العظيم من بطولات وأمجاد فهو باق ٍ فيها ينتظرلحظة الإنبعاث والنهوض لتعود من جديد:
هُزِمَتْ بغدادُ ؟ لا .. لم تُهْزَم ِ
إنما المـهـزومُ ربُّ الـصَّـنـم ِ
و " نظامٌ " ظالمُ الفعلِ طغا
لمْ يصُنْ حُـرمة َ جـار ٍ ودم ِ
وغـدا ً تنهـضُ بغـدادُ كـمـا
يُنهِضُ الجذرُ غصونَ البرعمِ
وليس الشاعر وحده مَنْ يتفاءل بنهضة العراق في الغد القريب، فكلنا نتفاءل بإذن الله على رغم أنوف كل الأعداء والعملاء والحاقدين والإرهابيين .
وفي رباعية أخرى يذكرنا مطلعها بأحد مطالع شاعر العروبة الأول "المتنبي" القائل:
ليالي بعد الظاعنين شـكولُ
طوالٌ وليل العاشقين طويلُ
أما السماوي فيقول :
بغدادُ : ليلُ العاشقين طويـلُ
يشقى به الفانوسُ والـقـنديـلُ
تستوحشُ الأحداقُ من أجفانها
فرطَ السهادِ ويتعـبُ المـنديـلُ
يشقون إنْ جَرَحَتْ ضميرَ ترابهم
قدمُ الغزاة ِ ومارق ٌ ودخـيـلُ
الكلُّ في شرع العفافِ "بثينة ٌ"
والكلُّ في حفظ ِ العهود "جميلُ"
إنّ التذكير بوفاء الشاعر السماوي للغة الضاد وانغماسه في التراث واعتزازه بما خلّفه العرب الأقحاح من بلاغة وبيان، سيكون ضربا من النكرار لاضرورة له .. فالسماوي حين نستعرض ما أبدع من شعر، لانراه إلآ أحد حبّات العقد المنتظمة ضمن شعراء عرب أفذاذ بدءا ً بامرئ القيس وعنترة مرورا بالمتنبي وانتهاء بالجواهري والبردوني والسماوي وما يُشاكل هؤلاء من مبدعين اتّسَم إبداعهم بإشراق اللفظ وتوهّج العبارة مع حرارة الانفعال والتفاعل بما يحيط بهم وبنا من أحداث ووقائع حياتية .... هاهو السماوي مثلا ً يُشير بوضوح إلى أنه مع الركب لايشذّ عنهم .. بل يُضمّن للشاعر الحكيم "زهير بن أبي سلمى" بيتا صار حكمة تترنم به الأجيال على اختلاف لغاتها:
(لايسلم الشرف الرفيع من الأذى)
حتى يُغادرنا الغزاةُ على عَجَلْ
في إشارة منه إلى قول زهير في معلقته الشهيرة:
لايسلم الشرف الرفيع من الأذى
حتى يُراق على جوانبه الدمُ
ويحيى السماوي يبدو في بعض أبياته شاعرا حكيما .. أحداث الحياة وتجاربها العنيفة تعلمنا الحكم والزهد على حدّ قول حكيم المعرة:
تجربة الدنيا وأفعالها
حثّتْ أخا الزهد على زهدهِ
أمسي الذي مرّ على قربه
يعجز أهل الأرض عن ردّهِ
أما السماوي فيقول :
إيهِ بغدادُ ... ألا فاحترسي
وخذي الدرسَ من الأندلسِ
واقبسي من سِفر هرونَ رؤىً
لغـد ٍ حـرّ ٍ .. بهيِّ الـقـبَـس ِ
إنّ مَنْ يجنحُ عن درب ِ هدىً
وصـراط ٍ فـإلى مُـنـدَرَسِ
فاحذري شِرعة َ غاز ٍ غاشم ٍ
غيرَ شـرع ِ الله ِ لاتلتمسي
والشاعر الذي صار حكيما يجود بالنصائح للعامة والخاصة، يكشف بعد أربعة أبيات أخرى سرّ هذا التحول وكيف استطاع الوصول إلى مرحلة (النرفانا) كما يسميها الفلاسفة أو درجة (الصفاء)كما يسميها الصوفيون ... نترك للرباعية التالية التعبير عن نفسها وأن تكشف لنا السرّ:
حاربتُ نفسي قبل حرب ِ عـداتي
ونصرتُ حرماني عـلى لـذّاتي
حررتُ روحي من قيود رغائبي
كي لا تكون أسـيرة الرغـبات ِ
ونصبتُ فوق ذرا الفضيلة خيمتي
وجعلـتُ أحداق الـورى مِــرآتي
كم من حروبٍ خضتها .. وأشدّها
كانت محاربـتي نـوازعَ ذاتــي
وفي الحديث المشهور: (الجهاد الأكبر جهاد النفس) .. وفي رباعية أخرى يبدأها السماوي بسؤال فيه عتاب وفيه استعطاف لعراقه المجيد ـ ولا أخفي سرّا ً حين أقول لصديقي السماوي إنني كدت والله أبكي وأنا أعيد قراءتها صباح مساء ـ :
أهذا حصدُ غرسي يا عراق ُ :
ملاجئُ غربة ٍ وغدٌ مُـراقُ ؟
تُشاكِسُني الدروبُ فحيث أمشي
تطولُ مسافة ٌ وتُـشَـلُّ سـاق ٌ !
أمدُّ إلى العـناقِ يَـدا ً وقـلـبـا ً
فيهـزأ من تباريحي الـعـناق ُ
غريبٌ لا الـديارُ ديارَ قومي
ولا قومي يُطاقُ لهـم فِـراق ُ !
مدُّ اليد للعناق معروف .. لكن كيف يُعانق القلب أو يمدّ يده ؟ !!
ولأن الشاعر عاش حينا من الدهر في الأراضي المقدسة أو قريبا منها فقد استبدّ به الشوق إلى " مكة " كي يشرب من نبعها ويشعر بالدفء والحنان ـ وما كان الشاعر، أي شاعر ـ إلآ مشوقا يحنّ إلى كل مايمتّ إلى الجمال والحب بصلة :
لتراب ِ (مكة َ) .. لا لضوء الأنجم ِ
تاق الفؤادُ .. وبات في عطش ٍ دمي
حسبي إذا انتهلـتْ نـمـيـر َ أذانِهــا
روحي وقبَّل طرفَ (أسودِها) فمي
وسَـعَـيْتُ سبعا ً في ظلال رحابها
وختمتُ تطوافي برشفة ِ (زمزم ِ)
ألـفـيـتُ أيـامي تـفـيـضُ مـســـرَّة ً
فـكـأنـنـي مـن قـبـلُ لـم أتـنـعَّــم ِ
وبرغم ما تعرّض له الشاعر من ويلات النفي والتشريد .. وبرغم معاناته الوجودية الكبرى فإنّ التفاؤل يملأ قلبه .. وكأنه يقول: (لايأس من الحياة .. ولا حياة مع اليأس ) .. فالشاعر لم يصل إلى مرحلة اليأس ... كيف ييأس صاحب هذه الأبيات التفاؤلية التالية:
أجلْ .. ذهَبَ الشبابُ .. وبتُّ كهلا
وهنْتُ .. ويـشـتكي العكّاز ُ مَـيـلا
ولـكـنـي عـلـى رغـم ِ الــرزايـــا
أحَـدِّق ُ فـي غـد ٍ أبـهــى وأحـلـى
ولــيْ أمــل ٌ بــمـيـــلاد ٍ جـديــد ٍ
أعــودُ بـه ِ طـريَّ الروح ِ طِـفـلا
سـتـنهض أمــة ُ الـقـرآن ِ يـومـا ً
لـتـملأ عالـمـي المجنـون َ عـدلا
فالرزايا المحيطة بشاعرنا الصامد لم تمنعه من التفاؤل بغد بهيّ جميل .. بل لم تسحق أمله الكبير بميلاد يوم جديد يعود فيه الشاعر ـ كما كان ـ طفلا بريئا مشرق الروح والفؤاد حين يتعافى العراق ... أما نهوض الأمة وبسط عدلها على الكون فهو خبر إلهي صادق ينتظره الجميع بفارغ الصبر ... ! يقول السماوي:
حَـدِّقيْ بيْ .. واقرئي في حَدَقي
قلق َ الصمت ِ .. وصمتَ القلق ِ
وسـؤالاً حائـرا ً عـن شــفــق ٍ
يسـألُ الـدهـرَ : أما من غـسَـق ِ ؟
كـلّـنـا مُـنـتظــرٌ فــجــرَ غـــد ٍ
عـربـيّ ٍ .. مُشْـرِق ٍ.. مؤتـلِـق ِ
وحَّـدَتْـنـا لـغــة ٌ ... لـكــنــنـــا
في نـوايـانــا : مـئـاتُ الـفـرَق
وحين تتوحد النوايا سيطل بالتأكيد فجر مشرق بالنصر والسيادة ... أليس كل الأعمال بالنيات؟ !
بدر بن عمر المطيري : شاعر وناقد سعودي
...........................
الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (عدد خاص: ملف تكريم الشاعر يحيى السماوي، الخميس 1/1/1431هـ - 17/12/2009)