تجديد وتنوير

أخلاقيات النقد الديني

جعفر نجم نصرالبحث عن الاعتدال بين غوايات الحداثة والحنين الى السلفية!؟

ان اَي محاولة لبناء صياغة معرفية نقدية للدين إنما تتوخى توجيه سهام النقد والتمحيص والتدقيق الى المعرفة الدينية المنجزة التي بنيت على تأويل القران والسنة النبوية الكريمة.. هذا كخط اول.. .اَي ان هنالك جهود بشرية أنتجت مدوناتها الدينية أيا كانت (فقهية.. .كلامية.. .الخ) على تلك النصوص المقدسة، ومن ثم وجب توجيه المراجعة النقدية لها لكي تلائم روح العصر.. ولكن من دون اعتماد العبارات المطلقة بالتقييم فالكثير منها جهود معتبرة وقيمة.. التقييم يجب ان يكون ملتزما باللغة النسبية .. لا بالإطلاق فتحدث البلبة .. وتنهار المنظومة التي هي غطاء معرفي لجماعات مازالت تتعبد بها.. فالحذر الاخلاقي واجب وضروري.. والا الفتنة والاضطراب الفكري..

وقد يتطلب النقد الديني في كثير من الاحيان العودة الى أسباب نزول القران وجدلية المكي والمدني والناسخ والمنسوخ، فضلا عن الامر قد يتطلب مراجعة احاديث نبوية من جهة المتن او السند، ولكنها مراجعات ستظل تطال الجانب البشري كذلك، لانها تطال ما قاله المفسرون من جهة وما قاله المحدثون او الرواة من جهة اخرى..

ويظل النص القراني الكريم والحديث النبوي الشريف المثبت متنا وسندا.. سيظلان مقدسان .. ولايمكن لاحد الطعن بهما ابدا فهما في مجال قدسي مطلق .. يضاف إليهما ما صح متنا وسندا عن اهل البيت الاطهار.. وما ثبت لدى العرفاء والمتصوفة متنا وسندا وتجربة او ذوقا.. (وهذا موضوع خاص سنحاول الحديث عنه لاحقا في مكان اخر).. اما المدونات الفقهية والكلامية او غيرهما فهي تاريخية يطالها النقد والتمحيص .. ولكن يرافق ذلك التقدير للجهود الكبيرة للكثير من العلماء الذين كتبوا لوجه الله تعالى وليس نصرة لسلطة او طلبا للجاه او الثروة.. !!؟..

ولكن بين هذا وذاك تطل الحداثة وتاطيراتها النظرية ومناهجها التحليلية وأدواتها التفسيرية والتفكيكية لتفعل مفاعيلها وتقدم أساليب النقد الديني الجديد بغوايات مفرطة .. تدفع الكثيريين الى الاستعانة بها لاجل موضعة (القدسي) في المجال (البشري).. وهذا الامر فعله الكثير من الباحثين او المفكرين في العالم الاسلامي .. وبمحاولة سريعة نكشف الغوايات التي وقع في فخها هولاء.. فنصر حامد ابو زيد يقر مثلا بان القران مقدس في كتابا حول سيرته.. او في اللقاءات التلفزيونية.. واذا كان الامر هكذا فما ذا أنتجت بكل هذه الضجة.. نقد المعرفة الدينية .. نحن معك .. والكثير معك.. ولكن هي الغوايات الحداثوية/المنهجية لديه ولدى محمد اركون الذي ظل يدور في دائرة مغلقة كلها تدور في فلك اصطلاحي ومفاهيمي لا طائل منه ابدا ..

والأمر يشمل صاحب الحشو واللغو الحداثوي (علي حرب).. كل هولاء لم يدركوا.. اَن اَي منهج هو وليد فلسفة العلم.. وفلسفة العلم محكومة بالمحددات الاجتماعية والمعرفية التي تنشئ بها.. فالجدل يكون هنا.. عبر إسقاط المناهج الغربية على بيئة ونصوص مغايرة لمجتمع المنهج وبنيته المعرفية.. فلهذا يجوز ان توجه سهام النقد لمحمد اركون اوغيره.. .. واذا كان المنهج يتناول مسالة معينة.. تنتمي لحقل اجتماعي اسلامي.. فهنا يصار الى البيئة ذاتها ونصوصها من الداخل بمعاييرها الذاتية..

ونحتاج الى السفر العقلي بموضوعية تنتمي للحقل الدلالي الاسلامي نفسه..

ولكن رغم ذلك كله.. .هذه المناهج مهمة للغاية ولكن بشرط التبيئة المعرفية لها.. والا تصبح اجترار ونسخ لاطائل منه.. لانها جات من عوالم معرفية مغايرة..

ان هذه الآراء يجب ان لايفهم منها اننا ندور في فلك الحنين الى (السلفية).. الى النزعة الماضوية.. وبذلك نغدو خارج التاريخ المعاش والآني بكل تحدياته واسئلته الجديدة والثقيلة.. اننا مطالبون بان نحتفظ بجسر رابط مع الماضي ولاسيما مع النصوص المقدسة (القران والسنة النبوية) لاجل ان نكتشف بها .. او نعيد استنطاقها .. لاجل الاجابات الملهمة التي تكون كخارطة طريق او مرشد معاصر لنا في حياتنا اليومية.. واحسب ان هذه الإجابات موجودة بتلك النصوص المقدسة .. مادامت محاولات الاجابة ذاتها تدور في الفلك الاخلاقي والعقائدي .. بالضرورة.. .اما فلك (المعاملات) فيحتاج الى تقنين مستمر.. عبر أدوات معرفية من داخل النص ذاته وتنتمي الى حقله الدلالي..

فالذي اريد قوله هنا ان جوهر السلفية او الماضوية الاسلامية هو التوحيد .. فينبغي التشبث به اولا.. اما جوهر الحداثة فهو القيم الانسانية كما تقول .. وهذا الامر موجود في قيم القران ..

فلا تحديث مطلق بلا قيود او تبيئة مناهجية ومفاهيمية لما قدمه الغرب، ولا سلفية مطلقة (معاملاتية/فقهية) .. والخروج من حركة التاريخ.. الوسطية بين هذا وذاك كمنهج ثالث او طريق ثالث (العقلانية المؤمنة) مركزها التوحيد.. وكما قال الحق سبحانه (وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا ۗ وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّن يَنقَلِبُ عَلَىٰ عَقِبَيْهِ ۚ وَإِن كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ ۗ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَّحِيمٌ )(143)سورة البقرة ..

 

د. جعفر نجم نصر

 

في المثقف اليوم