أقلام ثقافية

محمد سعد: الكتابة على حافة بحيرة الأفاعي

الحديث عن متعة الكتابة صحيح، بشرط في حدود معينة، مسموح بها، لكنك إذا اقتربت من المنطقة الرمادية فأنت اقتربت من [وقر الأفاعي] ولا تستغرب اذا كنت مصمماً المشي علي حافة وقر الأفاعي، ان تلدغ من افعي  لم يقرأ كتاباً في حياته واذا قرأ لم يفهم واذا فهم يقلص النص الى مستواه كما لو انه حفيد سقراط مع ان زبال الشارع لا يعرفه وهو نفسه بلا صورة ذاتية ومجمع شخصيات مقموعة.

عندما تصبح الكتابة في عصر " الفرجة والتفاهات" ومناخ سياسي واجتماعي متشظي وموزع الولاءات، وفي زمن الدوامة والتيه، وغاية الناس الحفاظ علي الأقل البقاء علي قيد الحياة، وفي مناخ تصلبت فيه الآكاذيب وصارت حقائق وبديهات ومؤسسات تكذب اطراف النهار وانا الليل، معنى ذلك أنك ترمي نفسك في وقر الافاعي عارياً، وليست افاعيينا  العادية، بل لها قدرة بلع كل شيء الحديد والزجاج والحجر، وكيف تقنع من تحاول اقناعه ان حياته تأسست على أكاذيب، وان مفهوم" العقل" ليس المادة العضوية بل محتواه، وان الذاكرة الحية ليست ما تتذكره بل محتوى ما تتذكره، وهذا المحتوى محشو بكل ما في التاريخ من أكاذيب وسرديات ملفقة، وبعضها صارت مقدسات ..!!

كيف تقنعه انه لا يفكر بالمعنى العلمي للتفكير وهو انتاج معرفة تحولت مع الوقت الى تقاليد وعادات وقوانين،،،

في وادي الأفاعي لا تستطيع ان تكتب سرديات مضادة للمرويات الرسمية خلال فترة زمنية، لقد تحولت  السرديات الشفوية الى حقائق بالتكرار والتلقين والقوة في "السلطة الاجتماعية"، كثير من الحكام ما يكدحون لنيل أطماعهم، متوسلين إلى مأربهم بالعقائد والدين،، في دول عربية ودول اسلامية ولطالما تأملتُ منذ صباي المبكر، في تلك الفظائع والويلات التي جرت في التاريخ منذ قرون، وما عاصرته بعدها من مثلها. وبعد أن أطلت النظر فيها، مرات، رأيت أن معظمها منبعه الطمع. فالحكام يطمعون فيما بيد بعضهم البعض من جاه ومجد ومال، فيسعون إلى امتلاكه. وكلما ملكوا ومهما جمعوا طمعوا في المزيد، ولو بالحروب وتدمير البلاد وشقاء الأبرياء من البشر. وهؤلاء الحكام كثيرًا ما يكدحون لنيل أطماعهم ومتوسلين إلى مأربهم بالعقائد والدين، أو بالدعاوى الدنيوية المخادعة...،، الكتابة من المنطقة الرمادية تحولك الي مجنون في المجتمع او وراء الشمس، كبار الكتاب  في قارة امريكا اللاتينية استطاعوا اعادة صياغة تاريخ القارة من جديد (غبرائييل ماركيز الكولومبي، كتابة (خريف البطريرك ) من اعظم الروايات التي قرأتها وكأنه كتبها لشعوب الشرق الأوسط.

وجورج أمادو البرازيلي، وماريا فارجاس يوسا البروفي، البيرو، ميجيل انجل اوسترياس الجواتمالي، كارلوس فوينتس المكسيكي الملقب بصانع الذاكرة المضادة "" انهم اعادوا كتابة تاريخ القارة من جديد، وثلاثة من هؤلاء عدا "كارلوس" لمواقفه السياسية الحادة من الهيمنة الاستعمارية للقارة، حصلوا على (جائزة نوبل) وخلقوا جيلاً تمردياً وساهموا في اسقاط ديكتاتوريات متوحشة ومأجورة، لكن هؤلاء عملوا في أرض خصبة تنتظر المطر، وليست أرضاً ميتة مثل بلدان العرب لا ينبت فيها غير الصخر والشوك والفراغ.،، كتابة تاريخ مضاد معناه الجلوس خلال الكتابة فوق كرسي طبيب الاسنان ليقلع أسنانك بلا مخدر، أو الجلوس قرب وكر الأفاعي والثعالب، أي أنك تعيش كوارث وأكاذيب التاريخ مرتين:

مرة عشتها في الحياة بمكرهاً، وثانية خلال الكتابة مكرها ذاتياً بحكم دور وشرف الكاتب والكتابة وحب الناس.حين تقرأ...يقول :- (دوستويفسكي) ستنسى كل من كنت قرأت لهم من قبل، وستندم وتسرف في الندم أنك أخرتَ قراءته كل هذه المدة هذا ليس روائياً عابثًا، أو أديبًا يتلاعب بالكلمات، وليس كاتبًا يلهو ويلعب بعقول القراء من أجل دريهمات معدودة.. هذا رجل يحمل هم المقهورين والمنبوذين والفقراء..إنه عالم نفسي ومؤرخ صادق وشاعر الشعور كله بما يعتري النفس البشرية من أمراض واضطرابات وقلق وألم ولوعة ..إنه باختصار المتكلم الصادق والمثقف العظيم الذي بقلمه قد يطيح بألف طاغية..،،

ولإننا لا نقرأ ولا نقترب من وكر الأفاعي من الكتابة  ونتمتع بها ونقبل او نرفض ما فيها، لكننا لا نعرف كمية الوجع خلف كل حرف، وكمية النزيف خلف كل عبارة، رغم أن يعض هؤلاء كان يعاني من ضيق الحال مثل الأديب{ ماركيز} الذي يعترف في سيرته الرسمية انه ينزل للشارع للبحث في القمامة لطفله الرضيع الباكي،، .الحديث عن متعة الكتابة صحيح لكنها تشبه متعة وفرحة الخروج من وكر الثعالب بالطبع لن تخرج، اذا خرجت، سالما بلا مخالب وآثار مخالب وأنياب، ومن غير المعقول أن تدخل في منجم فحم وتخرج ناصع البياض،  ولا في وحل وتخرج معطراً ولا تدخل في صراع الثيران دون أن تعلق بك مخالبه أو يزرع فيك بعض صفاته، الخروج سالماً من محنة كتابة تاريخ مضاد مستحيلة، لكن هذه الاستحالة،، تصبح المخالب أوسمة شرف مضيئة وعلامات صلبة على أنك لم تكن ماراً عابراً في هذه الحياة، ولست غباراً عابراً، بل تستحق هذه الحياة بشرف كما تستحق الموت بشرف.

***

محمد سعد عبد اللطيف - كاتب وباحث مصري

 

في المثقف اليوم