أقلام فكرية

أقلام فكرية

الجماعات والأفراد: الأهداف والضّحايا

إنّ مفاهيم الذّنب الجماعيّ، العقاب الجماعيّ والعنف الجماعيّ سؤال يثير القلق لدى الجماعات والأفراد لما تنطوي عليه من مقولات خاطئة لا تساعد على تفسير العلاقة داخل المجتمع بين العناصر التي تؤلّف تشكيلاته[1]، إذ يسود الاعتقاد أنّ الفرد إنّما هو جزء من الكلّ وهو بطبيعته اعتقاد لا يفسّر شيئا. كما قد تفسّر العلاقة بين الفرد والجماعة بأنّها عضويّة أو علاقة تمثيل، فيصبح السّؤال متمحورا حول ماهية تلك العضويّة وذلك التّمثيل، وتصير هذه القضايا الشّائكة من ضمن مفاتيح فهم العنف الجماعيّ. تختلف الأيديولوجيّات المرتبطة بالعنف الجماعيّ في الإجابة عن هذه الأسئلة، ومن الواضح أنّ لكيفيّة الرّدّ عليها عواقب على الضّحايا وبالتّالي على تحديد المسؤول عن العنف عندما تقدّم إجابات غارقة في الأيديولوجيا لا تميّز بين هدف العنف وضحاياه. مثلا قد يكون هدف الهجوم بالقنابل على قرية هو تدمير قيادة منظّمة إرهابيّة أو تحطيم قدرة الإرهابيّين الذين يتمترسون بها على القتال، أو على شنّ غارات وتدبير عمليّات مباغتة، لكنّ أغلب الضّحايا هم من غير الإرهابيّين. فالدّفع بالمبرّر المنطقيّ لتفسير حادث عنيف يحظى فيه تحديد الأهداف بالأولويّة على تحديد الضّحايا، ليجعل المستهدفين به هم المجموعة بأكملها من الرّجال والنّساء والأطفال يثير حوله الشّكوك ويجعله غائما وغير واضح بشكل كاف، غير مبرّر بمسوغات مقنعة لما يترتّب عنه من "إشعال خاطئ" وينتهي إليه من إضرار بالأبرياء والعزّل، وأحيانا بأطراف أخرى لا صلة لها بالفعل العنيف. وعلى هذا الأساس يقع فهم العنف الجماعيّ موقعا بالغ الأهمّيّة في رسم خطّة الرّدّ والتّصدّي لخطر الإرهاب. وعلى هذا الأساس أيضا تُبْرِز عمليّة تحديد الأهداف واختيار الضّحايا الدّور الهامّ للإطار الأيديولوجيّ في تشكيل أعمال العنف الجماعيّ، من حيث هي خطوة تسعى إلى توفير الغطاء المنطقيّ والمبرّر الأخلاقيّ لذلك العنف، وجزء يقوم على ركنيّة الأيديولوجيا والوعي الأيديولوجيّ في سلوك جماعة تستهدف بالعنف غيرها.

إنّ التّعريف التّقليديّ للعنف على العموم يأخذ نموذج العنف الفرديّ معيارا في الفهم والتّفسير، وهو ما يشوّش تصوّر العنف بعامّة، ويعيق وضع تعريف خاصّ ومنضبط للعنف الجماعيّ. أمّا النّظريّات التي تتبنّى التّفسير الذّرائعيّ أو تأخذ بوجهة النّظر "الإجرائيّة" في تعريف العنف فإنّها تعتبر بعض العنف مبرّرا وبعضه الآخر غير مبرّر حين تستعمل مفهوم الحرب أساسا للتّفسير، مع أنّ هذا المفهوم لا يفي بوصف وتعليل السّمات الغريبة للعنف الجماعيّ.

يتفق الجميع تقريبا على أنّ العنف عموما ينطوي بطبيعته على تصرّفات متطرّفة تؤدّي إلى التّدمير المفرط للمقدّرات المادّيّة والرّمزيّة، وإلى إصابات بالغة في العتاد ومن ثمّة في الأرواح والأجساد. إذ أنّ الهدف المقصود من وراء إعمال العنف هو التّدمير وما ينتج عنه من آثار جانبيّة، لاسيما منها تلك التي تكون غير محدودة وغير قابلة للاستدراك مثل القتل والتّشويه وتحطيم الممتلكات وانتهاك الأعراض والمقدّسات. إنّها القصد المتوخّى من إعمال العنف ونتيجته الفعليّة التي لا يمكن للعنف أن يظهر أو يتحقّق وجوده في ظلّ غيابها وانتفاء آثارها الملموسة. إذ لا يمكن من النّاحية النّظريّة عدّ أيّ سلوك على العنف، أو توصيفه بأنّه سلوك بغيض يعادي المجتمع طالما أنّه لا ينطوي على تدمير مادّيّ أو رمزيّ ملموس ولا يخلّف أيّ آثار تؤدي المستهدف به، إذ لا يكون هناك عنف إذا لم يحدث أيّ ضرر مادّيّ أو معنويّ لشخص ما بطريقة ما حتى وإن كانت بدائيّة.

لا يقلّ الجانب النّفسيّ للعنف أهمّيّة عن الجانب الماديّ، فقد يدمّر أشياء ذات قيمة رمزيّة كالمراقد والمزارات، أو يستهدف قيما معنويّة كالشّرف، أو ينال من هوّيّة الأشخاص وممتلكاتهم من الأشياء غير الهامّة القابلة للاستبدال أو الأشياء القيّمة التي لا يمكن الاستغناء عنها. بالإضافة إلى أرواح الأشخاص وأعضائهم، أو حياتهم ونمط معيشتهم. وبالمعنى النّموذجيّ فإنّ العنف يهدف إلى تدمير كاملٍ لحياة الأشخاص وقيمهم وشخصيّاتهم. إنّ هذه الجوانب هي أساسيّة لفهم العنف حيث إنّ أي نظريّة لا تنصّ على تدميريّته المطلقة تعتبر قاصرة عن أن تفي ببيان معناه والكشف عن دوافعه وعواقبه في سياق أيّة مناقشة، وسأحاول فيما يلي أن أبيّن كيف يعتبر التّدمير بهذا المعنى المطلق عنصرا رئيسا في العنف الجماعي.

الأساس الأيديولوجيّ للعنف الجماعيّ

قد يغيب الغضب الذّاتيّ في حالات عنف جماعيّ من غير المحتمل أن يكون انطلاقه عفويّا، لأنّ العنف الجماعيّ كما أوضحت أرندت[2] وويلمان ودوبكوسكي،[3] لا يمكن أن يكون إلاّ مخطّطا ومنظّما ينجزه محرّضون يعرفون كيف يقتربون من أهدافهم المروعة بطريقة "احترافيّة" يتعلّقون بها كمهمّة يتعيّن القيام بها بثقة بعيدا عن الميل العاطفيّ.

لذلك لا يمكن فهم العنف الجماعيّ دون فهم الرّموز وتفكيك دلالاتها، وبشكل عامّ ينبغي أن يكون واضحا أنّ سلسلة من أفعال رمزيّة ومن علاقات يستند تحديدها وتأطيرها إلى الجهاز المفاهيميّ الأيديولوجيّ تنشأ بموازاة مع انطلاق العنف الجماعيّ.

تستعمل "الأيديولوجيا" غطاء ذرائعيّا في الحجاج دفاعا عن هوّيّة الجماعة، عقيدتها، قيمها العامّة وعن مصالحها الفئويّة التي يشترك فيها الأعضاء. وتستعمل قاعدة للأعمال والمشاريع، وأساسا للأعراف والمؤسّسات والسّياسات.[4] فيقترب معنى الأيديولوجيا المقصود هنا ممّا يسمّيه دوركهايم "العقل الجماعيّ".[5] وتميل الأيديولوجيات بهذا المعنى أيضا إلى تحديد مجموعات تعلن عن نفسها من خلالها. وبحسب بارسونز فإنّ "تشكيل أيديولوجيّة ما يوجد ميزة إضافية تنشئ مستوى من الالتزام القيميّ ومن الإيمان بالانتماء للجماعة".[6]

وكما تمّت مناقشته أعلاه، فإنّ وجود جماعة أساس ذلك العنف الذي يمكن أن تمارسته لحماية قيمها، ولما يعنيه في حالات محدّدة تنفيذ تلك القيم والدّفاع عنها بوصفها دالّة رمزيّة في أيديولوجيّتها. لأنّ العنف الجماعيّ سلوك موجّه ضدّ الغيريّة يناهض مشروعا يقع خارج حدود الهوّيّة الخاصّة ينظر إليه الفاعل الفرديّ بوصفه عضوا في جماعة وليس باعتباره ذاتا مفردة أو شخصيّة مستقلّة. ولأنّ أهداف العنف الجماعيّ ودوافعه تتميّز عن أهداف ودوافع الأفراد التي قد تكون شخصية وغير مشتركة مع الآخرين. ويمكن الفصل بين الأمرين بملاحظة الاختلاف الواضح عند المقارنة بين دوافع تفجير إرهابي قام به مجرمون متطرّفون وبين سرقة قام بها أحد الجناة.

*** 

الدّكتور عليّ رّسول الرّبيعيّ

.........................

[1] May, L, The Morality of Groups. Notre Dame, Ind, University of Notre Dame, 1987.

[2] Arendt, H., Eichmann in Jeusalm, New York,Viking Press, 1963.

[3] Walliman and Dobkowski, Genocide and The Modern Age,: Etiology and Case Studies of Mass Death, New York, Greenwood Press. 1987.

[4]  لتعريف مماثل انظر:

Parsons, T.,The Social System, New York, Free Press, 1951, PP. 348-51.

 ولوصف عام لنظريات الايديولوجيا انظر:

Mclellan, D., Ideology, Minneapolis, Minn, University of Minnesota Press, 1986,

[5]  يعرّفه دوركهايم "كوعي جماعي" يتشكل من "مجموعة المعتقدات والمشاعر المشتركة بين الأفراد العاديين في مجتمع واحد والذي يشكل ويحدد  نظام حياتهم الخاصة". مقتبس من:

Lukes, S., Emile Durkheim: His Life and Work, Stanford, Calif, University of California Press, 1985.P. 4.

[6] Parsons, T.,The Social System, New York, Free Press, 1951, PP.349.

الظواهرُ الثقافية في المجتمع الإنساني لَيْسَتْ آثَارًا عابرةً في جسد الحضارة، أوْ علاماتٍ سطحية في فلسفة التاريخ، إنَّها ظواهر مركزية تُعيد صِناعةَ الأفكار، وتوظيفها في مصادر المعرفة، مِمَّا يُؤَدِّي إلى تحويل الفِعل الاجتماعي إلى مَيدان فِكري ذهنيًّا وماديًّا، يَستطيع إنتاجَ لُغة مُشتركة بين التاريخ والحضارة ضِمن مَنظومة الحُقوق والواجبات، بعيدًا عَن منطق القُوَّة الذي يَفرِض على أنساق الحياة فكرةَ أنَّ المُنتصِر هو الذي يَكتب التاريخَ ويَصنع الحضارةَ، وبالتالي يَبتكر آلِيَّات الهَيمنة على العَقْل الجَمْعي، ويَخترع أدوات السَّيطرة على المَعنى اللغوي، ويُكرِّس وِصَايَتَه على النظام الأخلاقي، إنَّ التاريخ لَيْسَ مشروعًا تجاريًّا خاضعًا لسياسة العَرْض والطَّلَب، والحضارة لَيْسَتْ سُلالةً عائليَّةً خاضعةً لرابطة الدَّم والولاء للقبيلة. وهاتان الحقيقتان تَفتحان العلاقات الاجتماعية على كافَّة الاحتمالات، وكُلُّ احتمال يُمثِّل تغييرًا جذريًّا في طريقة تفكير الفرد، وثَورةً منهجيةً في بُنية التأويل اللغوي. لذلك لا يُمكن احتكار التاريخ والحضارة وتَدجينهما مَهما كان المُنتصِر قويًّا وذكيًّا،

2

العلاقةُ بين رمزيةِ اللغة وماهيَّةِ الفرد وكَينونةِ الواقع، لَيْسَت انعكاسًا ميكانيكيًّا للحقيقة الاجتماعية، وإنَّما هي حقيقة جديدة تُساهم في إنتاجِ الظواهر الثقافية، ورسمِ خريطة الطريق في الذهن والواقع معًا، واكتشافِ البراءة الأصليَّة والخِبرة العمليَّة في المُجتمع، من أجل توظيفهما لتحقيق حُرِّية الفرد واستقلاله، ولَيس تَسليعه وإخضاعه وتفريغه مِن مُحتواه الشُّعوري والفكري، والهُوِيَّةُ الإنسانية المُتَجَسِّدَة في وَعْي الفرد وشخصيته تُمثِّل شبكةً مِنَ التجارب الحياتيَّة والمعارف الوجوديَّة، وهذا يُساهم في تدعيم قُدرة العقل الجَمْعي على مُمَارَسَة السُّلطة الفكرية بشكل يَضمَن التواصلَ معَ مراحل التاريخ بلا انقطاع، وهذا يَستلزم تَطهير التاريخ مِن الزوايا المُظلِمة والمناطق الغامضة، ولا يُمكن بناء الحقيقة الاجتماعية إلا بوضع التاريخ كاملًا تَحت ضَوء الفَهْم الصحيح والتشخيص الدقيق، وإذا تَمَّ اعتبارُ التاريخِ جمعيَّةً سِرِّية، أوْ كِتَابًا مُغْلَقًا أمامَ قواعد المنهج العِلْمِي في البحث والتحليل، أوْ صِرَاعًا بين المُدنَّس والمُقدَّس، أوْ صِدَامًا بَين الفِطْرَة والغريزة، أوْ حربًا بَين الأقَلِّيَات لِتَقَمُّص الأكثرية، فَسَوْفَ تنهارُ رمزيةُ التاريخ في سِيَاق الحضارة، وتَسقُط مَكَانته في شخصية الفرد الإنسانية.

3

التاريخُ منهجيةٌ فكرية لا سُلطة قمعية، وهذا يعني أن التاريخ مُحاولة لفهم الوجود مِن خِلال العقل واللغة والزمن، والإشكاليةُ الفلسفية التي تُهدِّد بُنيةَ التفكير المنطقي في حياة الفرد والمجتمع، تَكمُن في النظر إلى التاريخ باعتباره كَومةً مِن الوقائع المُنقطعة عن سِياقها المعرفي، وأرشيفًا مِن الأحداث المُنفصلة عن الشُّعور الإنساني، وهذه النظرةُ القاصرة مَرجعها إلى التعامل معَ الزمن باعتباره حَركةً ميكانيكيَّة خاضعةً لقوانين الفيزياء. إنَّ الزمن كائن حَي يتكاثر في شرعية الفرد لُغويًّا وإنسانيًّا، وهُوِيَّةُ الزمن المعرفية قائمةٌ على ثلاثة أركان: التَّوليد والتَّأسيس والتَّوظيف، توليدُ المعنى اللغوي بِوَصْفِه عمليَّة تَخليص للفرد مِن مَأزقه الوُجودي، واللغة هِيَ رُوح الوُجود التي تَحتضن التفاعلات الرمزية في العلاقات الاجتماعية، وتأسيسُ الوَعْي بالذات والطبيعة بِوَصْفِه خَلاصًا مِن تَضَارُب المصالح بين الفرد والمُجتمع، والوَعْيُ هُوَ مِحْوَر التوازن بين الإبداع والعمل، وتوظيفُ الفِعل الاجتماعي بِوَصْفِه دَلالةً على الحَيَاة، ودَليلًا إلى فلسفتها، والفِعْلُ هُوَ مَركز الثِّقَل لنظام الحضارة الإنسانية الذي يقوم على التعاون لا الاستغلال، وهكذا، سَوْفَ تَندمج هُوِيَّةُ الزمن المعرفية (التوليد والتأسيس والتوظيف) معَ منهجية التاريخ الفكرية (اللغة والوَعْي والفِعل).

***

إبراهيم أبو عواد / كاتب من الأردن

 

 

ينطلق الجابري من قاعدة منهجية وإبستمولوجية لمعالجة التأخر التاريخي الذي يعيشه العرب على جميع المستويات، وهي أنه لا يمكن قيام نهضة بعقل غير ناهض. عقل لم يراجع مفاهيمه وآلياته وتصوراته ولم يخضعها للنقد ونقد النقد ووصل إلينا في الحاضر بنفس البنية التي تشكل بها في الماضي. وسواء سلمنا للجابري بأطروحته حول العقل العربي وتفريقه بين الفكر كمحتوى (النظريات والأفكار) والفكر كأداة "جملة مبادئ ومفاهيم وآليات تنتظم وتترسخ في ذهن الطفل الصغير منذ ابتداء تفتحه على الحياة لتشكل فيما بعد (العقل) الذي به يفكر، أي الجهاز الذي به يفهم ويؤول ويحاكم ويعترض"(1) فإن السؤال المطروح هو: كيف نتصور نهضتنا التي لم تتحقق بعد في علاقتها بالماضي، أي بالتراث،هل بالرجوع إليه من جديد والإستناد عليه وكيف يكون ذلك، أم بالإنفصال عنه تماما وطي الصفحة نهائيا والإنطلاق من الحاضر، الحاضر الأوربي الذي يمثل آخر المنجزات المعرفية والمنهجية والعلمية منذ عصر الأنوار؟

يرى الجابري أن تحقيق النهضة أو بعثها من جديد لا يكون بالقطيعة المطلقة مع التراث كما يرى بعض الباحثين، ولكن يكون بالعودة إلى هذا التراث والإنتظام فيه بطريقة واعية من أجل مراجعة أسسه ومبادئه في إطار وعي جديد وتوظيف عناصره الإيجابية في نهضتنا الجديدة،لأنه وفق منطق النهضات لا يمكن قيام نهضة دون الإنتظام في التراث. وقبل عرض أطروحة الجابري حول هذه الإشكالية وتسليط الضوء عليها في مختلف الجوانب، فإننا سوف نتطرق إلى مواقف بعض الباحثين المجايلين للجابري وهما: عبد الله العروي ومحمد أركون.

يرى المفكر والمؤرخ المغربي عبد الله العروي أن معالجة التأخر التاريخي العربي لا تكون إلا بالقطيعة المعرفية مع التراث، والقطيعة تعني عند العروي القطع مع العقل التراثي الأصولي وتبني نموذج العقل الحداثي التنويري، لأن النقد الجزئي لا يفيد شيئا أمام تراكم المعلومات التقليدية، بل يجب طي الصفحة نهائيا وتحقيق القطيعة المنهجية. ويعبر العروي بكل صراحة ووضوح عن هذا الموقف في كتابه "العرب والفكر التاريخي " انطلاقا من نزعته الماركسية التاريخانية التي يؤكد فيها على احترام قوانين التطور التاريخي وعدم الرجوع إلى المراحل السابقة التي تجاوزها التاريخ من منظور حتمية المراحل ووحدة اتجاه الزمن والتاريخ ووحدة الجنس البشري. يقول عبد الله العروي: "رغم هذا الواقع المر، مازال أغلب المثقفين عندنا يميلون إلى السلفية أو الإنتقائية والغريب أن هذين الإتجاهين يخدعان المثقف ويغريانه بنوع من الحرية الذاتية، يظن أنه يملك حرية الاختيار، وأنه قادر على أن ينتخب من إنتاج الغير أحسنه، هذه حرية شبيهة بحرية الرواقيين، الذين كانوا يظنون أنهم إن حرروا القلب والذهن من تأثير الإنسان والكون جاز لهم أن يهملوا الأغلال التي تشد الأيدي وتقيد الأرجل (2)

إن الرجوع إلى التراث في إطار نظرة كلية سلفية أو نظرة جزئية انتقائية عملية اعتباطية غير واعية بالنسبة للعروي، لأن قوانين التاريخ والتطور لا تسمح بهذه الإمكانيات المستحيلة واللاتاريخية، لذلك فإنه يرى أن الحل الممكن والمتاح لمعالجة التأخر التاريخي العربي هو الإنخراط الواعي في الفكر التاريخي كما تقدمه النظرية الماركسية في تأويلها للتاريخ. يقول العروي:" لقد قلنا إن الطريق الوحيد للتخلص من الإتجاهين معا هو الخضوع للفكر التاريخي بكل مقوماته، وإن أربعة من هذه المقومات تحدد مفهوم الفكر التاريخي وهي:

- صيرورة الحقيقة

- إيجابية الحدث التاريخي

- مسؤولية الأفراد (بمعنى أن الإنسان هو صانع التاريخ)

و أربعة تحدد معنى التاريخانية وهي:

_ ثبوت قوانين التطور التاريخي (حتمية المراحل)

- وحدة الإتجاه (الماضي والمستقبل)

- إمكانية اقتباس الثقافة (وحدة الجنس)

- إيجابية دور المثقف والسياسي (الطفرة واقتصاد الزمان)

هذه نقاط حللناها في المقالات السابقة، باختصار أو بإطناب، وقلنا إن أحسن مدخل وأحسن مدرسة للفكر التاريخي يجدها العرب اليوم في الماركسية في تأويلها التاريخي " (3)

وهكذا نلاحظ، أن نظرية العروي في التعامل مع التراث والتاريخ لا تختلف في جوهرها عن النظرية الوضعية للفيلسوف وعالم الاجتماع الفرنسي أوغست كونت (Auguste contre 1789_ 1857) والذي يرى من خلال هذه النظرية أن الفكر البشري قد مر بثلاثة مراحل (قانون الأحوال الثلاث) وأن كل مرحلة جديدة تلغي المرحلة السابقة على صعيد التطور الفكري ونمو العقل البشري والتحول من المرحلة الدينية والميتافزيقية إلى المرحلة العلمية.

والخلاصة أن التراث في نظر العروي مرحلة سابقة قد تجاوزها الزمن والتاريخ، ولا بد أن ننطلق من الحاضر في بناء نهضتنا الجديدة وليس من الماضي، الحاضر كما جسدته فلسفة الأنوار والتقدم الهائل الذي عرفته أوربا منذ هذه المرحلة التاريخية التي تمثل مرجعية الإنسان ومعيارا للتقدم والحداثة. وإذا كان هذا موقف عبد الله العروي من إشكالية الحاضر وعلاقته بالماضي،فكيف ينظر زميله محمد أركون إلى هذه الإشكالية، كيف يمكن للتراث أن يحضر في حاضرنا، وهل هناك جدوى عملية أو قيمة علمية من استحضار التراث في حياتنا اليوم؟

لا يختلف محمد أركون كثيرا عن زميله عبد الله العروي في تبني موقف مناهض من التراث، فرغم أن محمد أركون يشيد بالنزعة الإنسانية عند مسكويه والتوحيدي والنزعة العقلية عند ابن رشد، إلا أن القيمة الفكرية لهؤلاء القدماء بالنسبة إليه تبقى ذات قيمة تاريخية فقط. والدرس الوحيد الذي يجب أن نتعلمه منهم هو فضولهم المعرفي وجرأتهم العقلية في طرح تساؤلات عقلانية ذات طابع إنساني في فضاء ثقافي عام تسيطر عليه الرؤية الدينية، ذلك أن محمد أركون يميز بين لحظتين في تاريخ الفكر والحياة وهما: لحظة المعقولية القروسطية ولحظة المعقولية التاريخية. يقول محمد أركون: " ولذا لم أزل منذ ما يزيد على ثلاثين سنة أدعو إلى إحياء الموقف الفكري الدينامي المنفتح لهؤلاء المفكرين القدماء، وألح في الوقت نفسه على ضرورة التخلي عن مبادئهم ومقدماتهم ومناهجهم وإشكالياتهم

و نظرتهم إلى العالم والتاريخ والمجتمع والإنسان، لأن ذلك كله داخل في الفضاء المعرفي الخاص بالقرون الوسطى عند المسلمين كما عند المسيحيين واليهود وسائر الثقافات المعروفة في العالم(4). وحسب محمد أركون، فلا يمكننا أن نعود اليوم إلى قيم وأفكار ما قبل الحداثة لمعالجة إشكالية تخلف العرب في الحاضر، وبالتالي، فإن التراث مقارنة بالحداثة وعندما نخضعه اليوم لمعيار الصلاحية أو عدم الصلاحية، فإنه ينتمي إلى مرحلة زمنية ومعقولية قروسطية قديمة قد تجاوزها التاريخ، لأن الحداثة كتيار فكري ورؤية جديدة للعالم والإنسان لا تسمح لنا بالالتفات إلى الوراء أو بالتوفيق بين معقوليتين متناقضتين، معقولية تنتمي إلى الماضي وتقوم وعلى أساس ديني ومعقولية تنتمي إلى الحاضر وتقوم على أساس عقلي وعلمي.

يقول محمد أركون موضحا وشارحا: " بقيت ملاحظة أخرى أو أخيرة فيما يخص الموضوع الذي نحن بصدده: إن الحداثة تعريفا هي عبارة عن إستراتيجية شمولية يتبعها العقل من أجل السيطرة على كل مجالات الوجود المعرفة والممارسة عن طريق إخضاعها لمعايير الصلاحية أو عدم الصلاحية. ومن المعلوم أن هذه المعايير تتزايد صرامتها ودقتها ومرونتها أكثر فأكثر من أجل فهم الواقع بشكل أكثر مطابقة وصحة ودقة. وبالتالي فلا يمكن أن نأخذ جزءا من الحداثة أو نثرة متفرقة ونترك الباقي. لا يمكننا أن نقتطع منها موقفا خاصا أو نختار موضوعا واحدا أو نعطي الأولوية لبعض التساؤلات التي دشنتها الحداثة ونترك الباقي(5). فالتراث في نظر محمد أركون لا قيمة علمية له في عصرنا من حيث معايير الصلاحية أو عدم الصلاحية، فلم تعد نظريات القدامى لها قيمة علمية ومعرفية اليوم إلا القيمة التاريخية وهذا مما دفع بأحد الباحثين المختصين في فكر محمد أركون إلى القول: " فأركون يسعى إلى تفكير نفس الموضوعات التي فكر فيها القدامى ولكن بطريقة غير طريقتهم، وبمفاهيم ومناهج غير مناهجهم، ومن ثم نقول أن الفكر الإسلامي لا يشكل مرجعية معرفية مهمة في مشروع أركون الفكري، فهو يرجع إلى الفكر الإسلامي لكنه لا يرجع إليه ليستعير منه نظريات ومفاهيم، عدا بعض القيم التي امتاز بها بعض المفكرين المسلمين والتي تعبر عن روحهم العلمية وفضولهم المعرفي التواق إلى بلوغ اليقين في مجال العلم كما في مجال الإيمان "(6). وإذا كان هذا هو موقف العروي وأركون من التراث، فما هو موقف الجابري وكيف تتوافق أو تختلف رؤيته عنهم؟

يرى الجابري أن معالجة إشكالية التأخر التاريخي العربي والتأسيس لنهضة عربية جديدة لا تكون بوضع التراث في المتحف والتعامل معه كشيء مضى ولا جدوى من استحضاره أو الرجوع إليه لأن ذلك غير ممكن، لأن كل شعب وكل أمة تفكر بتراثها لا بتراث غيرها. ويستند الجابري في ذلك إلى التاريخ ومنطق النهضات الكبرى رغم اختلاف الميكانيزمات التي تميز كل نهضة عن الأخرى، فكل النهضات التي شهدها التاريخ قد عبرت عن نفسها إيديولوجيا ومعرفيا بالعودة إلى الأصول والإنتظام في التراث. يقول الجابري: " لنبادر إلى القول أولا، أنه ليس هناك قانون عام واحد يعبر عن ميكانيزمات النهضة في كل العصور والأوطان، ولكن مع ذلك يمكن للمرء أن يلاحظ بسهولة أن جميع النهضات التي نعرف تفاصيل عنها قد عبرت، إيديولوجيا،عن بداية انطلاقها بالدعوة إلى الإنتظام في تراث، وبالضبط إلى العودة إلى الأصول، ولكن لا بوصفها أساس نهضة مضت يجب بعثها كما كانت، بل من أجل الإرتكاز عليها في نقد الحاضر ونقد الماضي القريب، الملتصق به المنتج له المسؤول عنه، والقفز إلى المستقبل"(7). ويرى الجابري أن نهضة الإسلام كدين جديد كانت بالرجوع والإنتظام في التراث الديني الإبراهيمي القائم على فكرة التوحيد ضد الوثنية (دين المجتمع السائد) التي كانت سائدة في مكة وفي شبه الجزيرة العربية، ولقد كانت فكرة التوحيد الإبراهيمية ممثلة في هذا العصر (العصر الجاهلي) بجماعة الحنفاء التي كانت تدعو إلى توحيد الله المتعال والموجود في كل زمان ومكان والتبشير بالنبي الخاتم والذي سيبعث دين إبراهيم من جديد ويصحح المعتقدات الفاسدة المتوارثة عن الآباء والأجداد. ولقد كان القرآن الكريم صريحا في آياته وهو يخاطب المسلمين" ملة أبيكم إبراهيم هو سماكم المسلمين من قبل وفي هذا ليكون الرسول شهيدا عليكم وتكونوا شهداء على الناس" (*). فلقد كانت العودة الدينية إلى عقيدة التوحيد وملة إبراهيم تمثل الإسلام ذاته كدين جديد في التراث الديني السابق عليه قبل الإنحراف وهو التراث الإبراهيمي. هذا عن نهضة الإسلام الأولى، أما إذا أتينا إلى أوربا، فسوف نشهد ونلاحظ نفس المبدأ تقريبا مع بداية القرن الثاني عشر عندما بدأت أوربا بالانتظام في تراثها الروماني والإغريقي. يقول الجابري: " وإذا نحن انتقلنا الآن إلى النهضة الأوربية الحديثة وجدناها تتخذ الآلية ذاتها، آلية العودة إلى الأصول بداية بها ومنطلقا. وهي العملية التي بدأت كما هو معروف مع القرن الثاني عشر الميلادي في صورة إحياء الآداب الرومانية والإغريقية وما أعقب ذلك من قيام النزعة الإنسانية (humanisme) والثورة على الأخلاق المسيحية السائدة

يومئذ المكرسة للخضوع والتسليم، فكانت النتيجة من الثورة على كنيسة القرون الوسطى وقيام حركة الإصلاح الديني المناهضة للرهبانية الداعية إلى العودة إلى المسيحية في صفائها الأول واعتماد التوراة مرجعا أعلى مع ما رافق ذلك من حركة النهضة، كانت النتيجة أن تفككت بنية نظام القرون الوسطى الذي كان يشكل وحدة عضوية متكاملة فانفتح الباب أمام انبثاق فكر جديد، فلسفة وعلوما، وعاد مركز السلطة الفكرية إلى تجربة الفرد وعقله "(8) إن الانتظام في التراث بالنسبة للجابري ليس من أجل إحيائه وبعثه كما كان في السابق وبنفس البضاعة المعرفية والمنهجية والشحنة الإيديولوجية، ولكن الإنتظام في التراث معناه الإتصال به من أجل الإنفصال عنه، معناه البحث في التراث عن القيم العقلانية والإنسانية التي يمكن توظيفها في إغناء حاضرنا ونقده وبناء مستقبلنا واستشراف آفاقه، معناه تمثل التراث تمثلا نقديا وإعطائه إمكانية الحياة في الحاضر وإمكانية الحافز كقوة دافعة وحركة مستمرة واعية بذاتها تجعل الذات ممتلئة من الداخل أمام الآخر بدون استلاب أو شعور بالنقص، والانتظام في التراث لا يكون إلا عبر عملية النقد المستمر والتجديد المنهجي وبروز قيم جديدة تجعل الواقع الاجتماعي بعد ذلك يفرز عناصر تغييره من أجل تغيير المشهد السابق. يقول الجابري: " وإذا نحن نظرنا إلى تاريخ الفكر الأوربي الحديث، وبكيفية خاصة منذ بيكون وديكارت (القرن السابع عشر) وجدناه عبارة عن سلسلة من المراجعات ل "التراث " مفهوما على أنه فكر الماضي وفكر الحاضر معا، فمنذ أن دعا بيكون إلى التحرر من جميع الأوهام (أوهام القبيلة، وأوهام الكهف، وأوهام السوق، وأوهام المسرح) واعتماد التجربة منطلقا ومعيارا، ومنذ أن تبنى ديكارت الشك منهجا وأعلن عن ضرورة " مسح الطاولة" والتحرر من جميع السلطات المعرفية والإعتماد على سلطة العقل وحده، سلطة البداهة والوضوح.. منذ بيكون وديكارت والفكر الأوربي يعيد قراءة تاريخه على أساس من الإنفصال والإتصال، من النظر وإعادة النظر، من النقد ونقد النقد، إن الإنفصال عن التراث كان من أجل تجديد الإتصال به، والإتصال به كان من أجل تجديد الإنفصال عنه "(9). إن هذه اللحظة التاريخية الأوربية كمرجعية للنظر والتحليل، تجعلنا نستوعب منطق التاريخ في بناء النهضة الجديدة، والنهضة هي مسار متموج (كر وفر، فعل ورد الفعل) وهذا على جميع المستويات، فالجديد دائما يلقى معارضة شديدة وراديكالية من القديم، من البنى الثقافية والإجتماعية والسياسية السائدة،ولكن مع الزمن ومع تراكم الأحداث وانبثاق أفكار جديدة ورؤية جديدة وممارسات جديدة يتحول الجديد إلى واقع سائد وهذا عندما ينتقل على مستوى الفكر والرؤية من الحالة الفردية إلى الحالة الجماعية، ومن فكر المفكر والفيلسوف إلى فكر وثقافة المجتمع ككل، فيتحول إلى تيار متحرك باستمرار ويرسم أهدافا وأفاقا مستقبلية وهذا هو الفرق بين النهضة العربية الحديثة والنهضة الأوربية، ففي حين أن النهضة العربية الحديثة لا تزال على مستوى الخطاب تحمل مشروعا إيديولوجيا غير مطابق للواقع وحقائق التاريخ، ولم تدخل بعد ميدان النقد ونقد النقد (التحليل الإبستمولوجي والعلمي) لأن الإيدولوجيا وهذه هي معضلة العقل العربي الحديث تقول الحقيقة كاملة دفعة واحدة فتتحول المفاهيم إلى شعارات والنظريات إلى عقائد أرثوذكسية بتعبير محمد أركون، أما في جهة المقابلة " كان الفكر الأوربي ولا يزال يتجدد من داخل تراثه وفي الوقت ذاته يعمل على تجديد هذا التراث: تجديده بإعادة بناء مواده القديمة وإغنائه بمواد جديدة " (10). فرؤية الجابري للتراث وإعادة ترتيب علاقتنا به، هي رؤية عقلانية نقدية مطابقة لمنطق التاريخ والواقع في نفس الوقت، كما أن علاقتنا بالتراث يجب أن تكون محكومة ومرتبطة بجدلية الإتصال والإنفصال، نتصل به من أجل الإنفصال عنه وننفصل عنه من أجل الإتصال به وهذا من خلال عملية تجديده من الداخل وترتيب العلاقة بين عناصره من جديد وتفكيك وتغيير بنيته المغلة وتكون هذه العملية مستمرة ومتواصلة واعتماد منهجية النقد ونقد النقد وإخضاع كل جديد للتساؤل لأنه كلما حاولنا الإجابة على الأسئلة المطروحة، فإن هذه الإجابة ستبقى ظرفية لأن الأسئلة تتغير وكل سؤال يستنبت سؤالا آخر... الخ.

فالقطيعة مع التراث في نظر الجابري هي قطيعة على مستوى الفهم وليس الموضوع في حد ذاته، فالقطيعة تكون من خلال تمثله بمنهج جديد ورؤية جديدة، بل متجددة، ولا يجب وضع التراث في المتحف للتفرج عليه بحجة عدم الصلاحية آو المعقولية الحديثة كما يرى محمد أركون ولا بحجة المدرسة التاريخانية كما يرى عبد الله العروي، لأنه التراث في نظر الجابري مرتبط بمسألة أساسية على مستوى الشخصية الفردية والتاريخية هي الهوية، فلا يمكن بناء نهضة جديدة بدون هوية واعية بذاتها، بدون هوية ممتلئة بالعناصر الإيجابية التي تحفزها وتدفعها إلى القفز نحو المستقبل، لأن كل أمة تفكر بتراثها لا بتراث غيرها عندما تتهيأ لبناء نهضة جديدة والدخول في عصر جديد. يقول الجابري: " إنه لا بد من الامتلاء بالثقافة العربية والتراث العربي الإسلامي عند الخوض في الحداثة الأوربية الحديثة وقضاياها وإمكانية تبنيها أو اقتباس شيء منها. فالإمتلاء بالثقافة العربية الإسلامية وهي ثقافتنا القومية هو امتلاء الهوية وبدون هوية ممتلئة بمقوماتها يكون الإنفتاح على الثقافات الأخرى، خاصة المهيمنة منها مدعاة للإنزلاق نحو الوقوع فريسة للإستلاب والإختراق "(11). وتبقى هناك مسألة جوهرية وعملية ملحة بالنسبة للجابري و

هي ضرورة التأسيس لمنطلق نهضوي جديد على المستوى المنهجي والمعرفي والوعي التاريخي. يقول الجابري: " إن الحاجة تدعو العرب إلى تدشين " عصر تدوين " جديد، إلى تدشين منطلق نهضوي جديد يبدأ هذه المرة لا من الدعوة إلى تبني نموذج معين أو الاحتماء به، بل من نقد كل النماذج، لا بل من نقد السلاح، سلاح العقل العربي ذاته (12).

إن التحرر من النماذج السائدة وتبني النقد المزدوج، نقد الذات ونقد الآخر ونقد السلاح ذاته (العقل العربي كبنية ومفاهيم) هو الشرط الحضاري لتحقيق الإستقلال التاريخي للذات العربية وشرط منهجي وإبستمولوجي من أجل تفكيك بنية العقل العربي وإعادة تأسيس وترتيب عناصر الثقافة العربية الإسلامية وإعادة بنائها وتركيبها في وعينا وتفكيرنا وسلوكنا من أجل القبض على الحاضر الهارب منا باستمرار والمستقبل الذي يبدو لنا غيبا مطلقا وقدرا محتوما نساق إليه رغما عنا وليس شيئا معلوما أو متوقعا أو بعدا من أبعاد الحاضر، إنه مشروع كبير ويستحق منا كل جهد.

***

الدكتور قادة جليد – قسم الفلسفة جامعة وهران - الجزائر

...............

(1) د. محمد عابد الجابري: إشكاليات الفكر العربي المعاصر، مركز دراسات الوحدة العربية، ط 5، 2005، ص: 51.

(2) عبد الله العروي: العرب والفكر التاريخي، المركز الثقافي العربي، ط5، 2006، ص: 206

(3) عبد الله العروي: العرب والفكر التاريخي، نفس المرجع، ص: 206 - 207.

(4) محمد أركون: من فيصل التفرقة إلى فصل المقال: أين هو الفكر الإسلامي المعاصر، تر: هاشم صالح، دار الساقي ط 2، 1995، ص: 13.

(5) محمد أركون: من فيصل التفرقة إلى فصل المقال: أين هو الفكر الإسلامي المعاصر، نفس المرجع، ص: 182.

(6) د. فارح مسرحي: المرجعية الفكرية لمشروع محمد أركون الحداثي، الجمعية الجزائرية للدراسات الفلسفية، ط 1، 2015، ص: 79.

(7) د. محمد عابد الجابري: إشكاليات الفكر العربي المعاصر، مرجع سابق، ص: 21

(*) القرآن الكريم: سورة الحج، الآية: 78.

(8) د. محمد عابد الجابري: إشكالية الفكر العربي المعاصر، نفس المرجع، ص: 23

(9) د. محمد عابد الجابري: إشكاليات الفكر العربي المعاصر، نفس المرجع، ص: 35

(10) د. محمد عابد الجابري: إشكاليات الفكر العربي المعاصر، نفس المرجع، ص: 35

(11) د. محمد عابد الجابري: المشروع النهضوي العربي، مراجعة نقدية، مركز دراسات الوحدة العربية، ط 2، 2000، ص: 177

(12) د. محمد عابد الجابري: إشكاليات الفكر العربي المعاصر، مرجع سابق، ص: 48

 

أفضّل أن أسمي ما يمكن أن يُدفَع به من حجج لتبرير العنف الجماعيّ "إطارا للأدلجة". وذلك من أجل التّأكيد على طابعه الشّكليّ الذي تتمّ بلورته عبر ركوب الأيديولوجيا لبناء هيكل نظريّ يوفّر السّوغ بديلاً عن التّفسير العلميّ الواقعيّ والمحدّد. وتهدف الأمثلة التي أعرضها إلى توضيح جملة من النّقاط الرّئيسة. ويمكن تقسيم الإطار الأيديولوجيّ للمفاهيم المستخدمة للتّبرير إلى خمسة "مبان" هي:

أوّلا: عقيدة التّشعّب: وتفترض جماعتين تعارضان بعضهما، فتستخدم كلّ واحدة منهما العنف ضدّ الأخرى، إنّهما منفصلتان بشكل حادّ ونهائيّ، ومنقسمتان بشكل يحجب خطّ الرّجعة والمراجعة فلا يلتقيان أبداً. ما يجعل النّظر إليهما بوصفهما ذوي طبيعتين لا تقبل الانسجام بسبب الانتماء لفئات مختلفة اختلافا جذريّا من النّواحي الثّقافيّة والأخلاقيّة؛ ومثاله الجماعات العنصريّة المنقسمة عرقيّا، والجماعات الطّائفيّة المنقسمة ملّيّا أو مذهبيّا. لغرض المناقشة سأشير إلى المجموعتين على التّوالي باسم: "المجموعة المختارة" وهي المسيطرة سياسيّا، أو هي الأغلبيّة، أو هي المجموعة في السّلطة، أو هي الدّولة، ثمّ "المجموعة الأخرى". بطبيعة الحال هناك تشعّبات اجتماعيّة وسياسيّة أخرى قد تشكّل جماعتين ضدّ بعضهما.[1]

ثانيا: الاعتقاد بعدم أهليّة الآخرين أخلاقيّا: وهو اعتقاد يُسنِد مبدأ التّقسيم على تصوّر الجماعة المختارة للمجموعة الأخرى باعتبارها منبوذة للاعتقاد السّائد بأنّ أعضاء تلك المجموعة غير مؤهّلين أخلاقيّاً ما يصنّفهم في خانة تنزع عنهم صفات البشر فيجعلهم لا يتوفّرون على الحدّ الأدنى من السّمات الضّروريّة للمشاركة أو لقيادة المجتمع باعتبارهم ناقصين بالفطرة يفتقرون للضّروريّ مثل الذّكاء، التّعليم، الشّخصيّة الأخلاقيّة، المزاج، العقيدة الدّينيّة أو الانتخاب الإلهيّ. ويُنظَر إليهم بالتّالي كما يوضّح تاكاكي[2] وفريدريكسون[3] بمرتبة الحيوانات، الوحوش، الهنود، البربر، السّود، الكفّار وخدم الشّيطان. ومن المهمّ أن نلاحظ هنا أنّ الجماعة التي تعتبر نفسها مختارة فتمارس العنف ضدّ غيرها تحدّد بنفسها المواصفات الخاصّة بها، وتعتبر أنّ المجموعة المستهدفة  بعنفها لا تمتلكها.[4]

ثالثا: عقيدة المعيار المزدوج: وهي نتيجة طبيعيّة لما سبق بعد وسم الآخرين بعدم الكفاءة ووضعهم من قبل "المختارين" موضع الحيوانات خارج مجتمع الكائنات الأخلاقيّة. فالجماعة المختارة تُعمِل معيارا مزدوجا؛ لنظم العلاقات البينيّة في صوف أعضائها الذين تعتبرهم ممثّلين للمجتمع الأخلاقيّ، ثمّ لتحديد العلاقة بأولئك الذين هم خارجها ممّن لا تعتبرهم بشرًا. وتستبيح بإعمال ذلك المعيار المزدوج وغير المنصف في التّعامل مع الآخرين الذين تتصوّرهم مخلوقات غير بشريّة بدون حقوق لا يستحقّون المساواة أو الحرّيّة أو العدالة أو المسؤوليّة أفعالا جرميّة مثل القتل، التّشويه، سلب الحرّيّة، والاقتلاع والإبعاد، ثمّ الإبادة الجماعيّة .. غير أنّ الانتقال إلى هذا المعيار الثالث المتعلّق بالأفعال الجرميّة والهمجيّة يصير غير أخلاقيّ عندما يتعلّق الأمر بأعضائها ممّن تعتبر "مختارين" وأعضاء في المجتمع الأخلاقيّ.[5]

ويبني توجّس "الجماعة المختارة" من الآخرين الذين تسمهم بالعجز عن قبول الأخلاق والتّصرّف وفقاً لمبادئها جدارا سميكا يحول دون القبول بالحوار معهم بوصفهم بشرا يستحقّون المعاملة بالمثل، ويمنع من إقامة علاقات متوازنة ومنصفة معهم تتخطّى واقع الاختلاف والمغايرة فتحكم عليهم بالتّوحّش والعداوة المطلقة. فتقيم على أساسه الفاصل نظريّة لاهوتيّة ميتافيزيقيّة، معرفيّة أو بيولوجيّة، نفسيّة أو سلوكيّة، سياسيّة واقتصاديّة تكون ذات مضمون أسطوريّ متعالٍ يسعى لتبرير ما تقيم من حواجز وتبني من معايير مزدوجة، وهو ما أفضّل أن أسمّيه إطارا أيديولوجيّا.

رابعا: عقيدة الجماعة ورسالتها: وتستند في الغالب إلى صياغة تنطلق من تأويل النّصّ المقدّس تأويلا قد يكون في أحيان كثيرة متعسّفا يلوي عنق "الأمر الإلهيّ" ليمنح الأعضاء مهمّة تدخل ضمن مقتضيات الواجب المقدّس. فيصبح لازما على أولئك الأفراد في المجموعة المختارة القيام بأي نوع من أنواع العنف ضدّ الآخرين تحت شعار "الحرب المقدّسة"، أو "الدّفاع عن الحرّيّة". وتحيط الأفراد الذين يضحّون بحياتهم في القيام بهذا "الواجب" بالتّكريم فتعتبرهم أبطالا ستتمّ مكافأتهم في الحياة الأبديّة بالنّعيم المقيم.

خامسا: الوضع في صراع مقفل لايقبل التّنازل أو المصالحة كما لا يقبل التّعايش: فقد تكون الأمور الدّينيّة في بعض الأحيان بما فيها وضع الأراضي المقدّسة، أو أماكن العبادة، أو الطّقوس هي القضيّة مصدر الصّراع. يمكن أن تعتبر المجموعة المختارة مصدر النّزاع تهديدًا مميتًا فتصوغ عرضه بطريقة استبداديّة بعبارات مقفلة: "إما/أو"؛ "يجب تصفية واحدة من الاثنين سواء لنا أو لهم"! بالطّبع لا توجد هناك صراعات تستعصي على الحلّ بشكل نهائيّ ومطلق إذا كانت السّلطة السّياسيّة في المستوى التّاريخيّ والمكانة الاجتماعيّة والثّقافيّة المعتبرة. [6] لأنّ الأطراف الثّالثة لا تفسّر القضايا بمثل هذه الشّروط المطلقة ولا تتّفق على العموم مع المطالب المتطرّفة لأيّ من الطّرفين. وتجدر الإشارة في هذا السّياق إلى أنّ أطرافا محايدة هي من خارج الجماعتين غالبا ما تفشل في فهم  القضايا الأساس التي تعتمد على التّصوّرات وتستند إلى الأيديولوجيا إن لم تكن مهتمّة بعقائد الجماعات المتطرّفة مطّلعة على مذاهبها. ونتيجة لذلك، فإنّها تميل إلى التّقليل من حدّة الشّغف والعاطفة (العنيفة) التي تميّز مواقف الأطراف المتخاصمة تُجاه بعضها، وتهوّن من قوّة إيمان كلّ منها بالأيديولوجيّة الخاصّة. إنّ الفشل في إيلاء الاهتمام الكافي بالخلفيّة الأيديولوجيّة لصراعات تثير العنف يفسّر رواج تلك التّفسيرات الاختزاليّة التي لا ترى فيها سوى مستوى من مستويات الصراع على المصالح، أو وجها من أوجه الصّراع غير الأيديولوجيّ ممّا يشكّل موضوعا للدّراسات الاجتماعيّة.[7] ومتى ما فحصنا ما تمّ تصويره للتّوّ من مقدّمات للإطار الأيديولوجيّ، يتّضح أنّ الطّريق المسدود لا مفرّ منه لأنّه عبارة عن حتميّة تمّ تصميمها أيديولوجيّا لكي لا يُسمح منطقيّاً بالتقاء العقول، وحتى لا تُتاحَ الفرص للحوار والتّعايش، للسّلم والاحترام المتبادل.

ترسم كلّ مجموعة مختارة خطّا فاصلا بشكل حادّ ومطلق بينها وبين غيرها؛ وإن كانت المجموعات الأخرى تعتبر نفسها مختارة أيضا فسيكون هذا الموقف متبادلا بينها. ونتيجة لذلك، فإنّ الاختلاف والعنف بين المجموعتين سيكون مستعصيا على الحلّ أقلّه على المستوى الأيديولوجيّ. وفي التّحليل النّهائيّ، فإنّ الاستعصاء يأتي من حقيقة أنّ كلّ جماعة مختارة تبني لنفسها نظاما قيميّا محكم الإغلاق يستثني تلقائيّاً عن قصد ولأسباب منطقيّة لكنّها غير مشروعة أعضاء المجموعات الأخرى من حقوق وجوديّة كحقّ المشاركة وحقّ الحرّيّة وحقّ المساواة. وإلى جانب مبانٍ أخرى، فإنّ منطق الحجّة هنا يجعل الآخرين أهدافاً طبيعيّة و "مشروعة" للعنف الجماعيّ. وبالنّظر إلى ذلك، فإنّ هذه النّتيجة لا يمكن اجتنابها لأنّ القضيّة منهجيّة في الأساس. تستحق المناقشة بما تلقي من ضوء على الجانب المنطقيّ في إثبات الفارق المميّز للعنف الجماعيّ عن غيره من أنواع العنف والإكراه.

من وجهة نظر منهجيّة عند النّظر في الإطار الأيديولوجيّ تغدو العودة إلى عقيدة عدم الأهليّة الأخلاقيّة مهمّة لما لها من عواقب أخلاقيّة وسياسيّة واجتماعيّة وخيمة حينما تفترض وجود انقسام حادّ بين من تصف بالكفاءة الأخلاقيّة ومن تنفي عنهم ذلك الوصف. فتضيّق بهذا التّقسيم الافتراضيّ معايير "المعرفة الأخلاقية".[8] لتحدّدها بشكل تعسّفيّ وحصريّ يجعل المسؤوليّة والفضيلة مشروطة بقدرة الشّخص على السّلوك الأخلاقيّ وبقدراته "الفكريّة" على "المعرفة" الأخلاقيّة. كما يجعل طريقة إنشاء هذه القدرة والتّحقّق منها قضيّة حاسمة من وجهة نظر الأخلاق. فالمهمّ هنا هو الإجابة عن السّؤال المتعلّق بمعايير تحديد الكفاءة وعدمها، وبطبيعة ومصدر "المعرفة" الأخلاقيّة. حيث إنّه إن غلب الاعتقاد بأن هذه المعرفة تأتي من الله، فإنّ الكفاءة تعتمد حينئذ على المؤهّلات الماورائيّة مثل الاختيار الإلهيّ، أو الإيمان، أو العضويّة في جماعة ملّيّة أو مذهبيّة. وإن غلب الاعتقاد بأنّها تتأتّى من الاعتماد على الحدس الذاتيّ وعلى الحقائق الواضحة، فإنّ الحصول على الأهليّة يصبح في الواقع حكرا على الطّبقة المتوسّطة والفئات المتعلّمة فيكون أولئك الذين ليست لديهم هذه البديهيّات في حكم غير المؤهّلين أخلاقيّا!. نعم، هناك أمثلة أخرى لكنّي أقتصر على هذين المثالين لأنّهما كافيين لتوضيح هذه النّقطة. [9]

من النّاحية الفلسفيّة، يمكن تسمية المقولة المنهجيّة التّأسيسيّة التي تتضمّن التّمييز بين الكفء وغير الكفء بـ "المطلق" الذي يستند عموماً بأشكاله العديدة إلى افتراض منطقيّ يجعل الأخلاق نظامًا مغلقًا بإحكام (ومستقلاّ)، تُعرَف مبادئه الأولى بأنّها ليست مفتوحة للنّزاع أو التّحدّي من الخارج، ولا للمناقشة من قبل أشخاص من تقاليد أخرى، أو من قبل أشخاص غير متعلّمين يجهلون أسسه مبادئه وغاياته. لأنّ النّظام الأخلاقيّ المطلق يستند إلى المقدّس والمتعالي، وغير قابل للمناقشة والدّحض.[10] والملاحظ هنا أنّ أشكال الإطلاق المنهجيّ الذي يستلزم عدم المناقشة والدّحض عنصر أساس في الإطار الأيديولوجيّ للعنف الجماعيّ، لأنّ مبادئه الأولى بالإضافة إلى "الحقائق" و"التّفسيرات" والأساطير والتّأويلات لا تحتمل الطّعن، وهو ما يفسّر استعصاء العنف الجماعيّ وتعنّت الجماعات المتورّطة فيه.

باختصار شديد، هناك نوع معيّن من المبادئ المؤسّسة لأنماط التّفكير الكامنة وراء العنف الجماعيّ التي تشكّل بنية تجعل ادعاء الأنصار منيعا وغير قابل للمناقشة والطّعن، أو الرّدّ إمّا بحجج مضادّة، أو بالمناشدة والدّعوة إلى التّعقّل ومراعاة المصالح المشتركة، أو بالتّهديد، أو بأيّ من "الاعتبارات الواقعيّة".

وأودّ أن أضيف بعض الملاحظات حول أهمّيّة هذا النّوع من التّحليل يتعلّق بافتراض أساس لهذه الدراسة مفاده أنّ الأفكار مهمّة ليس فقطّ أفكارنا الخاصّة التي نعتقد أنّها معقولة وصادقة. ولكن أيضًا أفكار الآخرين، تلك الأفكار التي نميل إلى استبعادها باعتبارها سخيفة أو خرافيّة أو خطيرة. إنّ أنظمة القيم التي تشتمل على أفكار سواء كانت صحيحة أو كاذبة، وسواء دفعت النّاس إلى مساعدة الآخرين أو إلى إلحاق الأذى بهم، تعتبر مجالًا مهمًّا للتّحقيق، ليس فقطّ لأسباب عمليّة وسياسيّة واجتماعيّة، ولكن أيضًا لأسباب علميّة أكاديميّة فلسفيّة وأخلاقية.

ينبغي أن ندرك أنّنا حين نتجاهل أفكار الآخرين فإنّنا نتجاهلها على مسؤوليّتنا، وهذا يعني أنّ التجاهل لا يطال القول فقطّ، ولكنّه يطالنا أيضًا ـ وهذا هو الخطير ـ الإطار المنطقيّ والاتّساق المتأصّل في التّفكير. إنّ الموقف المتعجرف تُجاه أفكار الآخرين ليس فقطّ غير واقعيّ وخطير، بل لأنّه أيضًا غير أخلاقيّ.

فالمؤكّد يقينا أنّ المنهجيّة الدّقيقة التي يتعيّن اتّباعها عند التّحقيق في هذا النوع من المسائل معقّدة تتطلّب نزاهة فكريّة، مسؤوليّة أخلاقيّة، وتجرّدا وحرصا على طلب الحقيقة. لا يفعل النّاس في كثير من الأحيان ما يصرّحون بأنّه من المتعيّن عليهم فعله؛ فهناك نوع من الانزلاق والنّفاق الذي يجب أخذه بعين الاعتبار، إذ لا يتطابق السّلوك دائمًا مع النّظريّة هذه حقيقة. وبصفة عامّة، ينبغي أن تُترَك تلك المسافة الضّروريّة للتّحليل، حتى لا تؤثّر الآراء والمواقف الشّخصيّة في البحث فينعكس السّلوك السّياسيّ والاجتماعيّ سلبا على التّعامل مع الحقائق الميدانيّة والتّجريبيّة. فهناك أسئلة تنطوي على التّمييز بين أفكار النّاس الواعية والمعترف بها صراحة، وبين تلك التي تنطوي عليها ضمنا أنماط حياتهم، وعاداتهم، ومؤسّساتهم. فالحاجة تدعو طبقا لاقتراح  لاد[11] إلى منهجيّة تعيد بناء الاعتقادات المؤسّسة والمعتقدات غير المعلنة لخلق الرّوابط المتّسقة، المنطقيّة والضّروريّة بينها.

أرغب في أن تلامس خاتمة هذه المقالة بجدّ تلك العلاقة الأخلاقيّة الأكثر صرامة التي تدور حول هذه الصّورة، مع أنّه قد ينظر البعض إلى الموقف المعتمد هنا على أنّه نسبيّ، ليكن ذلك، فهو ليس نسبيًا بالمعنى الشرير، بل هو بالأحرى أمر حيويّ سيكون من الأفضل أن نطلق عليه غير مطلق، أو أنّه يكافح المطلق.[12] فمن الاعتبارات الهامّة حول منهجيّة الأخلاق ما هو وثيق الصّلة بهذا السّؤال في أيّ حجاج  أخلاقيّ أعتبره مكوّنًا رئيسا لحياة أخلاقية. حيث إنّ هناك طريقتين لنقاش الأفكار الخاطئة أو الشّريرة: طريقة تعتبرها حقّا أو واجبا، وأخرى تعارضها بتوسّل حجج أخلاقية مضادّة وهي على نوعين.

أوّلاً، نوع يستلهم الحجّة المضادّة المناقضة التي ترى أنّ أيّ فكرة خاطئة وغير مقبولة  تتناقض بالضّرورة العقليّة والمنطقيّة مع الفكرة الأخلاقيّة التي تؤخذ على أنّها حقيقة. عن سبيل المثال تكون حجّة أنّ العنف ليس صحيحا لأنّه خطأ ينتهك حقوق النّاس، فيسمّى هذا النّوع من  الحجّة المضادّة "دحضا".

ثانيا، وفي مقابل "الدّحض" هناك نوع آخر من الحجّة المضادّة يطلق عليه "التّفنيد"، ويقوم على الاستدلال بأنّ الفكرة الأخلاقيّة التي تتعرّض للهجوم تكون خاطئة وغير مقبولة باعتبار أنّ الافتراضات، والمعتقدات، وأسس المنطق الذي تستند إليه تلك الفكرة هي نفسها كاذبة لا أساس لها، ليست ثابتة وغير مجرّبة.

فحجّة الدّحض ترى أنّ الأفكار الشّرّيرة خاطئة لأنّها تناقض الأفكار الأخلاقيّة الحقّة. بينما ترى حجّة التّفنيد أنّها خاطئة لأنّ أساسها كاذب وقياسها فاسد واستنتاجها غير مجرّب. فحجّة الدّحض دوغمائيّة لأنّها تفترض امتلاك الأخلاق الصّحيحة، بينما غرض حجّة التّفنيد هو التّشكيك بقصد تقويض مصداقيّة موقف زائف.

إنّ المباني المستعملة في الدّفاع عن العنف الجماعيّ عادة ما تكون معيبة بشكل دائم، وهذا يوفّر أساسا للتّفنيد لا نحتاج معه إلى الاستفادة من المباني المأخوذة من الأخلاق أو من نظام القيم الخاصّ بنا لدحض أخلاقيّاته. ومع ذلك، فإنّه لدحض وتفنيد أخلاقيات معيّنة تلزم المعرفة كما يلزم الفهم للوصول إلى تحليل مفصّل للموقف الأيديولوجيّ الذي تقوم عليه لاسيما وأنّ النّجاح في دحض أخلاقيات العنف الجماعيّ يتطلّب الكثير من العمل الشّاق!

***

الدّكتور عليّ رّسول الرّبيعيّ

............................

[1] Horowitz,D., Ethnic Groups in Conflict, Berkeley, Calif, University of California Press. 1985.

[2] Takaki, , Ronald T., Iron, Cages, Race and Culture in Nineteenth Century America, Seattle, Wash, University of Washington Press. 1979.

[3] Frederickson, G,M,The Black Image in the White Mind, Middletown, Conn, Wesleyan University Press, 1987.

[4] Walliman and Dobkowski, Genocide and The Modern Age, Ethology and Case Studies of Mass Death, New York, Greenwood Press. 1987, Pp.14-15.

ويقدم   Horowitz   وصفا  تجريبيا مثيرا للاهتمام حول كيفية تحديد الأفراد كأعضاء في مجموعة.

Horowitz, 1985. PP.66-48.

[5] Frederickson, 1987.

[6] Laqueur,W., and Alexander,Y., eds, The Terrorism Reader, New York, NAL Penguin, 1987, P.149.

[7] Horowitz, 1985,P.131.

[8]  أنا على دراية بمخاطر استعمال تعبير "المعرفة الأخلاقية". "أنا لا أنوي التوسل  بأي أسئلة تحليلية هنا. غرضي الوحيد في استعمال المصطلح في هذا السياق هو التعبير عن الإحساس القوي بالإدانة واليقين. التي تميز التزامات الشخص الأخلاقية على النقيض من على سبيل المثال معتقدات هذا الشخص وآرءه  وأفكاره. كما أستعمل المصطلح هنا، بمعنى نسبي  فـالمعرفة لدى الأفراد والجماعات قد تتناقض مع بعضها البعض.

[9] Ladd, J., ‘The Poverty of Absolutism.’ In Timothy’s., ed, Edward Westermarck: Essay on His Life and Work, Philosophia Fennica, Helsinki, Societas Philosophica Fennica, 1982.

[10] Ladd, J, ‘ Politics and Religion in America, The Enigma of Plurilism.’ In Roland, P., and Champman,J., eds, Religion , Morality and the Law, Namos 30, New York, New York University Press, 1988.

[11]Ladd., Structure of Moral Code, Cambridge, Mass, Harvard University Press,1957.

[12] Ladd, J., 1982.

 

السؤال عن حقيقة الزمن يبدو كأنه نكتة لكل من يراقب الساعة عند آداء الامتحان، او منْ يحث الخطى لكي يمسك بالطائرة قبل مغادرتها ارض المطار. لكن في الحقيقة ان الانسان كان يفكر في هذا السؤال منذ اكثر من 2500 سنة، وحتى الآن لا أحد وجد جوابا مقنعا للسؤال. الأشياء تصبح اكثر تعقيدا عندما يحاول الفيزيائيون الوصول وبكثير من التباهي الى "نظرية لكل شيء" يمكنها دمج جزيئات ما دون الذرة مع الأشياء الكبيرة. ما يحدث عادة هو، ان العلماء منذ ان وضعوا معادلاتهم، لم يكن الزمن موجوداً في أي مكان. واذا لم يكن الزمن جزءاً من نسيج الكون، كيف نعرف انه لم يكن شيئا اخترعناه لتوضيح ما لم نفهمه؟

حوالي سنة 500 قبل الميلاد، لاحظ هيرقليطس انه، لو نزلنا مرتين في نفس النهر،لا نحن ولا النهر نبقى على حالنا، طبقا لمفهوم نُسب له من جانب افلاطون "كل شيء يتدفق". فلسفة هيرقليطس ترتكز على مرور الزمن. لكن في نفس الوقت، آمن برمنديس بفكرة كانت تقليديا تمثل الضد من هرقليطس: لاشيء يتغير، كل شيء يبقى على حاله. كلا العقيدتين حفزت مختلف الرؤى عن الزمن في الفكر الغربي في القرون اللاحقة. اسحق نيوتن اعتبر الكون كساعة هائلة لا تتوقف جسدت مرور الزمن كحجم مطلق، شيء ما يوجد بشكل مستقل عن أي شيء آخر.

ولكن في القرن التاسع عشر، كتب الفيزيائي Ludwig Boltzmann: "بالنسبة للكون، كلا الاتجاهين للزمن لايمكن التمييز بينهما، مثلما الفضاء الذي ليس فيه صعود ونزول". رؤية بولتزمان ابتعدت عن الزمن كمطلق في ذاته، كثابت للنظام الطبيعي للكون. هو كان يعني ان لا وجود هناك لاتجاه موضوعي للزمن، بل اننا نخترعه طبقا لفهمنا، مثلما نسمي الاتجاه نحو مركز الارض "نزول".

الزمن كوهم

بدأت الثورة الكبرى في فكرتنا عن الزمن مع البرت اينشتاين، في نسبيته العامة هو أدخل الزمن كبُعد آخر في نسيج الكون المنحني والذي يوضح الجاذبية، وفي النسبية الخاصة ايضا اصبح الزمن مرنا، يعتمد على مكان وسرعة تغيير مكان المراقب ، وبذلك اصبح مفهوم "الآن" بلامعنى. وبعد عقود، وفي رسالة تعزية لعائلة صديقه Michele Besso الذي مات قبل وقت قصير، كتب اينشتاين بانه بالنسبة للفيزيائيين "التمييز بين الماضي والحاضر والمستقبل هو فقط وهم مستمر وبإصرار". هذه العبارات عادة كانت موضوعا للنقاش بين اولئك الذين يفسرونها كمجرد محاولة لجلب الراحة والعزاء واولئك الذين يرونها تصريحا علميا حقيقيا حول الزمن كوهم، حتى لو كان السياق رسالة شخصية بسيطة. ومهما يكن ،قادت رؤية اينشتاين الفيلسوف كارل بوبر لمقارنته مع بارمنديس آخر حديث.

في عام 1908، بينما كان اينشتاين يفكر بعمق حول الزمن المنحني، أثار الفيلسوف John Mc Taggart EII نقاشا استمر لأكثر من قرن، عندما جادل بعدم واقعية الزمن. ان قدوم ميكانيكا الكوانتم أضاف حجة جديدة وهي انه في عالم الأشياء الكبيرة نحن نستطيع تصور عدم تناسق او ، "سهم للزمن" arrow of time، وهو تعبير صاغه الفلكي الفيزيائي آرثر ادنغتون عام 1927، الذي اثبت صحة جاذبية اينشتاين من خلال الملاحظات أثناء الكسوف. سهم الزمن هذا يُفهم كقياس لنظام الطاقة الحرارية لكل وحدة  – قياس الاضطراب – يزداد في الاتجاه الذي نفهمه كتقدم في الساعة . ولكن في عالم الذرات، انفصلت قوانين ميكانيكا الكوانتم عن الزمن: هي تعمل اما للامام او للخلف، باتجاه او عكس اتجاه عقرب الساعة، ليس لها اتجاه مفضل. ومثلما يتم تكوين المادة والطاقة من العناصر الدقيقة التي هي موضوع الدراسة الكمومية، فأين هي جسيمات الزمن؟ التجربة تخبرنا ان الزمن ينشأ عندما نتحرك بعيدا عن عالم الذرات الى عالم الأشياء الكبيرة، لكن كيف  ينشأ اذا هو لم يتكون من وحدات أصغر؟

ارتباط الزمكان

في البحث عن نظرية توحّد النظريتين (للصغير والكبير) المنفصلتين حتى الان، فان الموقف عادة هو ان الزمن غير حاضر. مثال شوهد في نظرية الجاذبية الكمومية الحلقية LQG ،خلافا لأشهر منافسيها – نظرية الأوتار – التي تستبدل الجزيئات بخيوط صغيرة في زمكان متكون سلفا، فان نظرية الجاذبية الكمومية الحلقية تبني نسيجا للكون من حلقات صغيرة جدا للزمكان، مثل الوحدات الرقمية الصغيرة التي تُعرض على الشاشة.

في عام 2018، نشر الفيزيائي المنظّر والعلمي الايطالي الشهير كارلو روفيلي carlo Rovelli، احد مؤسسي وداعمي الكمومية الحلقية، كتاب (نظام الزمن) الصادر عن بنجوين راندوم هاوس، الكتاب الشهير الذي أوضح فيه ان الفيزياء اللازمنية وُلدت من هذه النظرية. طبقا لروفيلي، الزمن ينشأ في سياق من الديناميكا الحرارية، لكنه وهم يولد من معرفتنا غير التامة، انه ليس شيء موجود موضوعيا. "الزمن هو مفهوم مشتق، انه ليس شيئا اساسيا"، هو يلخص للمجلة الرقمية (open mind)، "ان سهم الزمن ليس اكثر من زيادة في الانتروبيا او القصور الحراري". "نحن بالتأكيد لدينا حدس عام حول الزمن يتناقض مع التجارب الفيزيائية الواضحة". " لذا، فانه في ضوء كل ما قيل لنا حتى الان، يتبين ان لا وجود هناك للزمن"، حسبما تدّعي السيدة كرستي ميلر الفيلسوفة المؤلف المشارك في كتاب (خارج الزمن). ولكن اذا كان روفيلي وفيزيائيون آخرون يجادلون بان فهمنا للزمن هو وهم، فان مؤلفين آخرين يذهيون أبعد  من ذلك في تركهم الاحتمال مفتوح بان  لا وجود للزمن على الاطلاق. هذا ما يجادل به الفلاسفة كرستي ميلر و سام بارون و وناثن تالانت في كتابهم الجديد (خارج الزمن: دراسة فلسفية لـ  اللازمنية، الصادر عن مطبعة جامعة اكسفورد 2022).

إنكار وجود الزمن: العلم ام الروحانية

تقول المؤلف المشارك كرستي ميلر مديرة مركز الزمن في جامعة سيدني، في حديث لها مع مجلة (الذهن المفتوح) "نحن نقول ان الزمن قد لا يوجد" . "لكن الادّعاء اللاحق هو انه من الواضح  ان مختلف اتجاهات الجاذبية الكمومية لا تبيّن ان هناك زمن ينشأ"، وتضيف. "لذا فانه  رغم كل ما قيل لنا حتى الان، فقد يتبيّن ان لا وجود للزمن". لكن ميلر وزملائها يعرضون طريقة للخروج من هذا المأزق: اذا كان الزمن غير موجود، لانزال لدينا سببية، وهي الفكرة بأن شيء ما يسبب ظهور شيئا آخر يأتي بعده. وطبقا للمؤلفين، هذا الذي ليس زمنا، ربما يكون خاصية أساسية للكون. "فكرة ان السببية ربما تلعب بعض الادوار التي نحن عادة نأخذ وقتا لنلعبها" ،تقول ميلر. "انه سؤال جيد ما اذا كنا سننتهي بالزمن ولكن باسم آخر، انا أميل جدا لفكرة اننا لو اخذنا أي شيء يشبه الزمن بما يكفي، ويمكنه ان يعمل كل انواع الاشياء التي يفعلها الزمن، هذا سيكون فقط اكتشاف بان الشيء هو الزمن". الحقيقة هي ان وجود الزمن لايمكن تكذيبه او إثبات عدم وجوده. لكن روفيل غير مقتنع بهذا الجدال: "السببية لم تُعرّف كثيرا بالزمن،" كما يذكر. في الحقيقة، لا يوجد هناك ايضا اجماع واسع بين الفيزيائيين حول الزمن، والذي يعني حسب روفيل،"ان اشياءً مختلفة في سياقات مختلفة". يرى بعض الفيزيائيين، اذا كان ممكنا قياس الزمن، وتعريفه رياضيا،واذا كانت هناك متغيرات اخرى تعتمد عليه، ذلك يكفي للقبول بوجوده. ميلر من جهتها، تجادل ان هذا لا يكفي: "الى ان يكون هناك توضيح يجعلنا نفهم كيف ينشأ الزمن من واقع أساسي لازمني، سنظل بحاجة الى مزيد من العمل، والكتاب يحاول اقتراح ان هذا ربما اكثر صعوبة مما يُعتقد سابقا".

بعض الفيزيائيين ذهبوا بعيدا للإعلان عن ان انكار وجود الزمن او تعريفه فقط  كوهم، هو في خط مع تيارات علمية زائفة pseudo-scientific او تيارات صوفية تعرض نفسها كتحريف لكلمات اينشتاين. بالنهاية، الحقيقة هي ان وجود الزمن لا يمكن ابطاله او اثبات عدم وجوده. تعترف ميلر ان هناك علمية زائفة تنكر الزمن، لكنها تبعد نفسها عن هذه التصريحات: "نحن لا نتخذ موقفا من هذا " كما تقول.

هل السفر عبر الزمن ممكن؟

كل ما تقدم يفتح بابا مثيرا آخرا لمساحة مفضلة من الخيال العلمي : اذا كان الزمن وهما،اوغير موجود، فماذا يحصل لإمكانية السفر عبر الزمن؟ يعتقد روفيل ان الجاذبية الكمومية الحلقية لا تمنع وجود ما يسمى (مسارات الزمكان المغلقة في الكون)(1)، لكنه يعتقد ان من غير المحتمل جدا ان شخصا ما يمكنه الوصول الى هنا متذكرا اشياءً حدثت في مستقبلنا. تلاحظ ميلر ان شيئا ما يشبه ما نعني بالسفر عبر الزمن سيكون ممكنا كنوع من السببية المنحرفة لو ان" بعض الأسهم السببية تشير الى اتجاهات تختلف عما تفعله معظم تلك الاسهم". هي تضيف، في الحقيقة، هناك نظريات حول اتجاه الزمن  لا تتطلب كل هذه الأسهم السببية لتشير في نفس الاتجاه، يكفي ان معظمها تعمل. واذا كانت هناك مثل هذه الأسهم المراوغة عندئذ ستكون لدينا طريقتنا للسفر عبر الزمن.

***

حاتم حميد محسن

...................

* Does Time Really Exist? Ventana al conocimiento (knowledge window), Scientific Journalism, 27May 2022.

الهوامش

(1) closed time-like trajectories او مسارات الزمن المغلقة هي حل نظري لمعادلات المجال العام لنظرية النسبية العامة. في منحنى الزمكان المغلق، الخط العالمي للشيء ضمن الزمكان يتبع مسارا غريبا حيث يعود بالنهاية بالضبط الى نفس الاحداثيات في الزمان والمكان التي كان بها في السابق. بكلمة اخرى، منحنى الزمن المغلق هو النتيجة الرياضية للمعادلات الفيزيائية التي تسمح بالسفر عبر الزمن.

تُعتَبر اللّغة وسيلة لا مثيل لها للتّفاعل في المقاربة المعرفيّة للهوّيّة الاجتماعيّة وتحليل المواقف والتّصوّرات السّائدة زمن الصّراع لأنّها تمتلك وظيفة أدائيّة تندرج في بناء الحياة الاجتماعيّة. فتعبيرات الهوّيّة تربط بالتّشكيلات الخطابيّة والتّمثّلات التّمييزيّة بما فيها الإقصائيّة، ثمّ بعمليّة تحويل الهوّيّات التي قد تقع في زمان ومكان معيّن، وبالمواجهات في الحياة اليوميّة التي تبدو استثنائيّة أثناء الصّراع.

إنّ تصوّر صراع ما كخطاب قائم يجسّد هذا الصّراع ضمن استمراريّة خطابيّة ومؤسّسيّة أوسع نطاقا، فالبنية اللّغويّة المستعملة في توصيفه مستمدّة من أساليب خطابيّة موجودة سلفا تشترك في إطلاق أيّ صراع وإدارته وليست بنية لغويّة خاصّة بذلك الصّراع وحده. وإنّ ما يتنتج عن تلك الأساليب اللّغويّة المحيطة بصراع معيّن من عواقب قويّة ومؤثّرة على أوسع نطاق زمانيّا ومكانيّا من خطابات ومؤسّسات يؤدّي حتما إلى استمرار الصّراع العنيف في نظم اجتماعيّة مشابهة.

إنّ العنصر الأوّل في تصوّر الصّراع كتشكيل خطابيّ وفقًا للتّحليل البنيويّ لا يفترض فصلًا أنطولوجيًّا بين الفرد والبنية، بل يقبل أن يشكّل كلّ منهما الآخر. فالفكرة التي طوّرها غيدنز حول قدرة الأفراد من ذوي المعرفة على توظيف خبراتهم والاستفادة من مهاراتهم المعرفيّة في تفسير التّفاعلات الاجتماعيّة، صارت مقبولة لدى المهتمّين بأبحاث الصّراع بعد أن أصبح في حكم المؤكّد عندهم أنّ تعبيرات الهوّيّة تتحدّد تاريخيّا من خلال عمليّة التّفاعل الاجتماعيّ حيث الأوضاع تحدّد سياق الفعل، وتضفي على سلوك الفرد ما يتمّ إنتاجه من المعنى والشّرعيّة. لذلك، يكون الوعي بالظّروف وبالسّياقات التّاريخيّة هو ما يشكّل خلفيّة الصّراع ومفاهيم الهوّيّة التي يعبّر عنها إمّا "عمليّا" أو "خطابيّا".

إنّ الصّراع بوصفه تشكيلا خطابيّا هو سلوك استثنائيّ تستحثّه تفاعلات الحياة الاجتماعيّة في سياق التّعبير عن مواقف أو "حالات حرجة"،[1] فالرّوتين يوفّر للأفراد الشّعور بالأمن الأنطولوجيّ الذي يمّكن أنشطتهم اليوميّة من "الاستمرار"، وهو بتعبير غيدنز "صورة لاستمراريّة الشّخصيّة في الأنشطة اليوميّة، وفي مؤسّسات المجتمع التي وجدت للحفاظ على تلك الاستمرارية".[2] تعتمد التّفاعلات اليّوميّة الرّوتينيّة وتصوّرات الذّات على المدّة الطّويلة لترسيخ الاستمراريّة من خلال الوعي العمليّ، ولأجل مأسستها في الحياة الاجتماعيّة كي تتكاثر أنشطتها المتنوّعة. لقد أظهرت الأبحاث العرقيّة التي تعنى بالعمليّات الاجتماعيّة أنّ الرّوتين وتيرة تعيد برتابة إنتاج أساليب الحياة اليوميّة،[3] ويشير لورانس ويدر (Lawrence Wieder) في دراسة مقارنة للحياة اليوميّة عند المرضى والنّاس العاديّين إلى طبيعة تعدّد أشكال وأوجه الكلام، حيث لا يمثّل الكلام الرّوتينيّ مجرّد وصف لأحداث أو قواعد السّلوك، وإنّما يُشكّل جانبًا رئيسا لقواعد الحياة داخل إطار محدود. لذلك، يمتلك الحديث طابعا انعكاسيّا يعيد إنتاج الأوضاع أو الظّروف التي تعطيه معنًى[4] وهو ما يجعل النّشاطات اليوميّة لا تحفّز السّلوك بشكل مباشر دائما ولكن التّحفيز يحدث بمراقبة للفعل يقوم بها أهل الخبرة والمعرفة في مواقف مشابهة".[5] أي أنّ الاستمراريّة المؤسّسيّة والخطابيّة للحياة الاجتماعيّة لا تندرج في النّشاطات اليوميّة فقطّ، ولكن يعاد إنتاجها عبر هذه النّشاطات أيضاً.

للرّوتين أهمّيّة في فهم الصّراع كخطاب رائج تقوم الهوّيّة الاجتماعيّة فيه بدور حاسم وإن لم تظهر بوضوح، ففي الشّدائد تُشكّل الذّكريات والأساطير والأوامر الرّمزيّة والصّور الذّاتيّة جزءًا مهمّا من الوعي العمليّ للأفراد الذين لا يُشار إليهم باستمرار في التّفاعل الاجتماعيّ مع أنّهم يُضْفُونَ المعنى على النّشاطات اليوميّة ليصبح العامل البشريّ أساسا لتراكم معرفة تقدّم مبانيها معاني تعيد التّأكيد على الذّات، على هوّيّتها وطابعها الشّخصيّ باستمرار بالإضافة إلى بيان نوع علاقتها بالمحيط البيئيّ والوسط الاجتماعيّ.

لا يتمّ التّعبير عن هوّيّة الأفراد من خلال الوعي الخطابيّ فقطّ حتى وإن شكّل هذا الأخير الخلفيّة الاجتماعيّة التي يختزنها وعيهم العمليّ، فهم يواجهون كلّ ما يتعلّق بتاريخ محدّد من ذكريات وأيديولوجيّات، من أنظمة رمزيّة ولغات ومواقع جغرافيّة. وتستند تعبيرات هذه الهوّيّة المنفتحة بحسب غيدنز إلى مجموعة من السّمات المشتركة مع أعضاء آخرين في مجتمع "يتموضع" فيه جميع الأفراد في شكل ترتيبات رمزيّة، وتوقّعات معياريّة، وعلاقات قوّة، ومواقع محدّدة تبعًا لاستمراريّة بنية النّظام الاجتماعيّ.

تتشكّل المواقف الاجتماعيّة بنيويًّا كتقاطعات تحدّد المضمونَ أو المعنى، تسوّغ الهيمنة أو تضفي على عوامل فرضها شرعيّة. فينطوي الموقف الاجتماعيّ إذن على تحديد "هوّيّة" بعينها في إطار شبكة من العلاقات الاجتماعيّة، إلا أنّ أصحاب هذه الهوّيّة هم "الفئة" المعنيّة بنطاق معين من الجزاءات المعياريّة.[6]

تحدّد الهوّيّة المواقع الاجتماعيّة، الرّموز والمفردات فضلًا عن التّوقّعات الاجتماعيّة حيث يحمل الفرد هوّيّة معيّنة وينشط في مواقع محدّدة على امتداد حياته، غير أنّه من المهمّ إدراك وقوع الهوّيّات ضمن خانة مؤسّسات "المدّة الطّويلة" أو ضمن استمراريّة توفّر "أطرا" هي حاويات للقواعد الاجتماعيّة تستديم النّشاطات أو التّفاعلات وتعطيها مغزًى على حدٍّ سواء.[7]

تستند مفردات الهوّيّة في ظروف الصّراع إلى استمراريّة تتغيّى تعبئتُها بناءَ جماعاتٍ سياسيّةً مترابطةً، والعنف المستمدّ من تصوّر الصّراع كخطابٍ قائمٍ ومتشكّلٍ يشكّل "خطابَ الإقصاءِ" الذي يقوم بوضع القيودِ والحدودِ الصّارمةِ من خلال تمثّلاتٍ عن المؤهّلِ والمذنبِ، عن الصّالحِ والشّيطانيِّ وهكذا... فتكوّن هذه التمثّلاتُ بُنًى اجتماعيّةً مثلَ الدّولةِ القوميّةِ، أو العرقيّةِ القوميّةِ، أو التّطهيرِ العرقيِّ، أو السّيادةِ الوطنيّةِ وجميعُها في الحقيقة ليست سوى تعبيراتٍ عن خطاب الإقصاء المتورّطِ في إضفاء الشّرعيّة على العنف. إنّها صورٌ ونصوصٌ تقسّم هوّيّة المجتمع  بخطابٍ تشكّلت أسُسُه العميقةُ من خلال أنشطةِ الحياةِ اليوميّةِ على نحو لا يَظهرُ نَفَسُهُ الإقصائيُّ على الأقلّ في حالاتٍ محدّدةٍ من الصّراع، بل يترسّخ في الممارسات الخطابيّة والمؤسّسيّة التي يتمّ الاعتماد عليها ويعاد تشكيلها بممارسة الإقصاء.

يقوم خطاب الإقصاء المتورّط في تحريض العنف السّياسيّ وإشعال فتيل الحرب بوصفه استمراريّة اجتماعيّة على هوّيّات إقصائيّة بُنِيَتْ على تمثّلات واهمة عن الذّات في علاقتها بالآخر، لذلك فإنّ فكرة تشكيل الهوّيّة تجد تفسيرها في السّياق الاجتماعيّ التّاريخيّ وليس في الأسس الحيويّة والنّفسيّة من حيث إنّ أشكال التّعبير عن الهوّيّة تُبْنَى على مجموعة متنوّعة من التّجارب يحيل إليها السّلوك العمليّ والخطابيّ. فيدلّ تشكيل الهوّيّة على اختيار نشيطٍ لصيغة خاصّة من التّمثّل وإن لم يدلَّ على حرّيّة اختيار الموقع الاجتماعيّ، لأنّ هذا الموقع تحدّده القواعد الاجتماعيّة المهيمنة، والتّرتيبات الرّمزيّة، والبُنى السّائدة التي تشوّه اختيار الفرد لهوّيّة تمثّله فثؤثّر في اختيار الوكيل الأمثل لهذه الهوّيّة. وبالتّالي تتشكّل الهوّيّة من صيغ تأويليّة ومعاني معقّدة تستخلص بدلالة الهوّية المهيمنة أو النّظام الحاكم من عمليّات الوصف والرّبط والتّعبير، وبالاعتماد على مدى تمكّن الجماعات من مختلف الممارسات الخطابيّة والمؤسّسيّة.

وتعتبر بُنى الهيمنة الموجودة داخل إدارة النّظم الاجتماعيّة المسؤل الأوّل عن نشوء الهوّيّات المهيمنة في المجتمع، وإحدى العناصر الموثوقة في ساسية إصلاح السّلطة وتنظيم الأفراد ضمن رابطة مشتركة، وإلى ذلك يشير غيدنز حينما يعتبر أنّ "تنسيق أعداد من النّاس معًا في المجتمع لتكثير سوادهم مع مرور الوقت هو مورد موثوق به للحلّ الأساس".[8] فالقدرة على توطيد السّلطة ودعم الوثوق بها بتكثير الفئة المستفيدة منها والمساندة لها يعتمد القدرة على التّلاعب بالذاكرة الاجتماعيّة، والسّيطرة على جمع المعلومات والتّحكّم في نشرها، وهو الأمر الذي يولّد وينتج الاستمراريّة الخطابيّة والمؤسّسية التي تشكّل الرّوابط في المجتمعات. والملاحظ أنّ النّظم الخاضعة للإدارة تعتمد التّصنيف والمراقبة في عمليّات التّوحيد وتقويّة السّيطرة وتعزيز السّلطة التّأديبيّة، وهو ما يتطلّبه شنّ الحرب من السّيطرة على الأفراد في الأوضاع الاجتماعيّة، ومن التّحكّم في الجسم السّياسيّ في البيئات الأوسع. من ناحية أخرى، يوضح فوكو عند تحليل المؤسّسات أساليب الرّقابة الإداريّة التي تحقّقت بتقسيم الأفراد زمانيًّا ومكانيًّا، والتي سهّلت تصنيفهم وفقًا لعملية مسح ولمبادئ محدّدة تضمن بفعّاليّة الامتثال لقواعد المؤسّسة. "فالتّقسيم يحدّد لكلّ فرد موقعا خاصّا؛ كما يحدّد لكلّ موقع فرده الخاصّ" لأنّ "السّلطة الإداريّة تقتضي النّظام والانتظام مع القدرة على التّنّبؤ لإزالة آثار التّوزيع غير الدّقيق للأفراد، ودرء عواقب عدم الاكتراث بانتشارهم، ثمّ لتفادي سوء تقدير تداولهم لما هو خطير أو غير قابل للاستعمال".[9] لقد طبّق فوكو هذا النّموذج باعتباره نظام تحكّم يقوم على الامتثال والانتظام في وسط اجتماعيّ صغير كالسّجون والمستشفيات والجيوش فتوصّل إلى خلاصة مفادها أنّ الحرب هي التّعبير الأقصى عن السّيطرة، وأنّ لها ما يوازيها في بنية المجتمع: "قد تكون الحرب كاستراتيجيّة استمرارا للسّياسة، لكن يجب أن لا ننسى تصوّر "السّياسة" كاستمراريّة أيضًا وإن لم تكن للحرب بالضّبط وبشكل مباشر إلاّ أنّها على الأقلّ هي استمراريّة للنّموذج العسكريّ كوسيلة أساسٍ لمنع الاضطرابات المدنيّة. لقد سعت السّياسة باعتبارها أسلوبًا للسلّم والنّظام الدّاخليين إلى تنفيذ آليّة الجيش المثاليّ، والجمهور المنضبط، والقوّات المذعنة للواجب، والأفواج التي تخدم عسكريًّا وميدانيًّا في المناورات والتّدريبات".[10]

فمن مقتضيات الرّقابة أن يتمّ جمع كلّ تلك العناصر معًا لمنع المعارضة ومعاقبتها، لذلك تغدو تعبئة الهوّيّة المهيمنة مرغوبة، وفي سياق الصّراع يصبح تعزيز الشّعور بتلك الهوّيّة بين الجماهير التي دُعِيَتْ لدعمها وقت التّعبئة احتفالا استعراضيّا، وتمثّلا رمزيّا يستلهم أمجاد الماضي في الإشادة بالإنجازات الحالية. ويَعْمِدُ التّحكّمُ إلى التّلاعب بالخطابات العامّة في إدارة الصّراع لضرورة استراتيجيّة و"تنظيما لسلوك القوى الجماعيّة والفرديّة".[11]

***

الدّكتور عليّ رّسول الرّبيعيّ

...................

[1] Giddens, A.,The Constitution of Society (Polity Press, Cambridge, 1994), p. 60

[2] Ibid p. 60

[3]  Garfinkel, H., Studies in Ethnomethodology (Prentice Hall, Englewood Cliffs, NJ, 1967);

J. Heritage, Garfinkel and Ethnomethodology (Polity Press, Cambridge, 1984).

[4] Wieder, L., “Telling the Code”, in R. Turner (ed.), Ethnomethodology (Penguin, Harmondsworth, 1974).

[5] إنظر الفصل الثالث.

[6] Giddens, op. cit., p. 83

[7] Goffman, E., Frame Anaysis (Harper, New York, 1974).

[8] Giddens, op. cit., p. 260

[9]. Foucault, M., Discipline and Punish: The Birth of the Prison (Penguin, London, 1991), p. 143

[10] Ibid., 168

[11] Foucault, M., The History of Sexuality, Vol. 1, quoted in P. Rabinov (ed.), The Foucault Reader: An Introduction to Foucault’s Thought (Penguin, London, 1984), p. 307

طبق فوكو هذا التصريح  على تنظيم الجنس من خلال الخطابات التحليلية. إن عملية تنظيم الهوية من خلال الخطابات المهيمنة هي اساسية بالنسبة لفهمي للعنف.

 

الدماغ هو الجهاز المركزي ومحور التحكم في الجسد الحيواني والإنساني فإذا ترك بفطرته الغريزية بدون تأهيل وتنمية وتربية يظل واقفا عند اللحظة البيولوجية؛ لحظة إشباع الحاجات الحيوية في قاعدة هرم إبراهام ماسلو (الهواء والماء والغذاء والتزاوج) في الغابات والبراري كما كانت الحياة في أولها وربما استمرت ملايين السنين حتى أدرك الكائن الإنساني الحاجة الحيوية إلى الأمن والسلام وتلك حاجة للاستقرار الاجتماعي تستدعي وجود بعض القيم والأعراف لتنظيم العيش المشترك للكائنات الاجتماعية وأول الحضارة هو الخوف من عاقبة اعتداء الإنسان على إنسان أخرى أو اعتداء جماعة على جماعة أخرى وما يولده ذلك الاعتداء من ردة فعل وانتقام وعدوان مضاد. إذ لا فرق بين البشر والحيوانات إلا بقدرة البشر على ضبط غرائزها الحيوانية وتقنينها بالقيم والأعراف والقانون والنظام. وقد احتاجت الإنسانية ملايين السنين للانتقال من الحالة البدائية للعيش في كنف الطبيعة ومواردها المتاحة والانتقال من الصيد والرعي والبداوة إلى الزراعة والتمدن والحضارة. فالحضارة هي أولاً «فعل تحضير»، ومسار تصاعدي وتقدمي، يرمي من خلال التغيير إلى احتواء وإدماج أولئك الذين يظلون خارجها في البراري والأرياف والغابات، «المتوحشون البريون ومع الحضارة تطور الثقافة والمدنية وتطورت وظيفة الدماغ عند الكائن الإنساني إذ لم تعد تقتصر على رؤية وادراك الفرائس واقتناصها أو الحذر منها بل تطورت إلى الخيال والتخييل والشك والتفكير المجرد وهذا هو أرفع عمليات العقل البشري ولكنه لا يتم هكذا من تلقاء ذاتية بل عبر اللغة والكلام والمران والتعليم والتدريب والتأهيل والتنوير ومن هنا جاءت الحاجة إلى الفلسفة والعلوم بوصفها معنية بتأهيل وتنمية العقول وجعلها مثقفة أي صالحة للزراعة والعقل مثل الأرض مهما كانت تربتها خصيبة لا تنتج الثمار بدون حراثة وتهيئة بالماء والاسمدة وكذلك هو العقل مهما كان ذكيا لا ينجب الأفكار والمعرفة بدون تعليم وتربية وتنمية وتهيئة. ونقصد بتهيئة العقل التهيئة الكلية لكل البنية الدماغية المتعددة الوظائف كما هو الحال بالتربية البدنية للجسم الإنساني التي تهتم ليس بتمرين عضو معين من أعضاء الجسم بل بتمرين وتهيئة الجسم كله وإكسابه اللياقة اللازمة للنشاط والطاقة والحيوية والحركة والاستدارة بمرونة ورشاقة. والفلسفة بوصفها الوسيلة الممكنة لتنمية وتأهيل العقل تنمية عقلانية مستدامة، تمنح الأفراد القدرة على استعمال جميع المعارف والمهارات المكتسبة لمجابهة الأوضاع المختلفة وحل المشكلات الجديدة؛ أي (الذكاء العاطفي) هذا المعنى هي تجسيد لمفهوم الهابيتوس عند بيبر بورديو بوصفها نسقا من الاستعدادات المُكتسبة بالتربية والممارسة الاجتماعية التي تحدد سلوك الفرد ونظرته إلى نفسه وإلى الأخرين والحياة والكون، وهو أشبه ما يكون بطبع الفرد أو بالعقلية التي تسود في الجماعة، لتشكل منطق رؤيتها للكون والعالم. ووفقاً لهذا التصور، يعد «الهابتوس» جوهر الشخصية والبنية الذهنية المولدة للسلوك والنظر والعمل، وهو في جوهره نتاج لعملية استبطان مستمرة ودائمة لشروط الحياة ومعطياتها عبر مختلف مراحل لوجود، بالنسبة للفرد والمجتمع هذا أولا. وثانيا الاستيعاب؛ بمعنى القدرة على استخدام المعرفة وتجريبها ذاتيا؛ لأن المرء لا يستطيع أن يتصرف بمعرفة ما إلا عندما يستوعبها ويجسدها في لغته وذهنه وخبراته وتجاربه الاجتماعية. فكل معرفة غير مستوعبة من الفاعلين الاجتماعيين تظل بالنسبة لهم خارجية وغريبة ومستبعدة من حياتهم. فالمعرفة لا تتحول إلى ثقافة إلا إذ توطنت في البنية الثقافية للمجتمع المتعين وصارت نسقًا أصيلًا في تفكيرهم وسلوكهم.

ثالثا: الشمول؛ بمعنى القدرة على الربط العميق بين المعارف المستوعبة والموضوعات والقضايا التي تبدو متباعدة، والنظر إليها برؤية كلية قادرة على الجمع بين أجزاءها في نسق فكري ثقافي منطقي واضح ومقنع.

رابعا، الحكم؛ بمعنى القدرة على التجرد والتجريد الذي يعني في العلم (الحلم) وفي الفن (الذوق) وفي الأخلاق (الضمير) وفي الحياة (الفهم) وهو هدف وغاية كل تعليم وتعلم، فإذا كان التعليم يعلم المعرفة فإن التعلم يعلم الفهم وبدون أن يفهم الناس المعرفة التي يدعون امتلاكها تظل معرفتهم بلا قيمة ولا جدوى. والعلم هو أن تعرف كل شيء عن شيء محدد ومتخصص في علم من العلوم بينما الثقافة هي أن تفهم شيء عن كل شيء تعرفه وهذا هو كل ما يمكن انتظاره من الثقافة، وبدون هذا الـ(كل) لا وجود لشيء جدير بالقيمة والاعتبار. والفلسفة هي ربيبة عصرها وبنت زمانها وبهذه تختلف عن كل إشكال المعرفة والفكر الأخرى. فكل نظرة فلسفية محددة بعصر الفيلسوف وتصوراته الخاصة واسلوبه الفريد المتميز في النظر الى مشكلات عصره والتصدي لأسئلته الكبرى وصياغتها في رؤية عقلية كلية مجردة. فالفيلسوف لا يأتي المعجزات, فأقصى ما يقوم به, أن يشيد صورة مفهومية عن العالم في العصر الذي يعيش فيه. وفهم الفلسفة لا يكون الا بفهم اسئلتها المتعينة في سياقاتها التاريخية والثقافية في عالم الممارسة الفورية المباشرة والسياق هو كامل الوسط الاجتماعي الحي الذي يحيط بالنص الفلسفي من جميع الجهات ولا توجد إجابات فلسفية جاهزة ومكتملة منقولة من الماضي كما هو الشأن في الاسطورة واللاهوت. ففي كل عصر من العصور يختار الانسان نفسه من جديد. فحينما ظهرت الفلسفة في اليونان القديم كانت قطيعة أبستمولوجيا مع الأجوبة التي قدمتها الاسطورة للمعنى الكلي للعالم إذ حلت النظرة العقلانية لتأمل الوجود وظواهره المختلفة بدلا عن النظرة السحرية المتلحفة بالأسطورة فكانت اسئلتها عن أصل الكون وحقيقة الوجود والفكر والمعرفة والقيم. وحينما هيمنت النظرة اللاهوتية في فضاء العصور الوسيطة ازدهرت الفلسفة اللاهوتية المسيحية والإسلامية في تأمل العلاقة بين الله والعالم ومنذ عصر النهضة الأوربية حدثت القطيعة الأبستمولوجيا مع نظريات الفيض الأفلاطونية والمنطق الصوري الارسطي. وحينما استعاد الإنسان ثقته بنفسه وعقله وقدراته على المعرفة والتقدم وصناعة التاريخ ازهرت فلسفة التاريخ والإنسان وهكذا ارتبط تجديد الفلسفة مع حركة الواقع والتاريخ وايقاعاته فكلما تغيرت الحياة والتاريخ كلما زادت الحاجة إلى تجديد الفكر والمعرفة ونعني بالتجديد هنا تجديد في الأسلوب والمعنى والمبنى. والمفاهيم هي نظارات العقل بمعنى من المعاني إذ لا يتحقق التأمل والتفكير في العالم إلا عبرها ومن خلالها وهي مفاهيم مكتسبة من اللغة والثقافة والتعليم والتربية ولا يمكن فهم العقل بدون فهم اللغة إذ لا تفكير الا بالكلمات والصور الذهنية حتى في الأحلام. وإذاكان العقل يولد صفحة بيضاء بحسب جون لوك فهو لا يظل كذلك بعد المهد بل تنقش الثقافة واللغة والتربية والتعليم الكلمات والمفاهيم. لكن تلك المفاهيم ممكن أن تتحول بعد الاستخدام الطويل إلى أوثان واوهام تكبل الفكر وتعيق نشاطه الدائم في تعقل العالم وعندما يتنكر الناس للفلسفة بوصفها مطهرا للعقل  فإن مختلقات خيالهم تتضخم وينغمسون في مهاوي الأوهام والضلالات والأخطاء. وقد ارتبطت الفلسفة منذ نشأتها الباكرة في السؤال المتجاوز لذاته باستمرار فهي صبوة العقل الذي لا يكف عن التساؤل في معنى العالم فماذا أكون وماذا أعرف وكيف أعيش؟ أنها الميتافيزيقا أي مابعد الطبيعية والمابعد نزوع تجديد أصيل في صميم أم العلوم. وهي بذلك تقع على الطرف النقيض للاهوت المقدس الذي يكتفي بالنقل والتكرار والتأكيد ففي عالم المقدس ليس هناك اسئلة بل أجوبة وحمدا وشكرا أما في عالم الأنسان فتحضر الأسئلة والتأمل والقلق والتفكير والحوار والانفعال. والعقل والتفكير والكلام هو القاسم المشترك بين الناس أما العواطف والمشاعر والانفعالات والمعتقدات والايديولوجيات فهي خاصة بالإفراد وبالجماعات.

***

ا. د. قاسم المحبشي

حاتم حميد محسنقبل آلاف السنين بدأ السعي لفهم العالم الذي حولنا، الانسان والطبيعة والكون والعلاقات بينهم. كان واضحا وجود نوعين من الأشياء، المادة الجامدة والكينونات الواعية الحية المندفعة بقوة الحياة والتي تسمى الروح. كان هناك وعي حدسي لليد اللامرئية لذلك الذكاء الهائل الذي أفرز مفهوم "الاله" القدير الكلي وما تفرّع عنه مما سمي بمؤسسة الدين. اشتبك ذهن الانسان مع هذا اللغز وحاول فهمه. في البداية كان هناك فقط تحقيق متكامل منفرد – وهو السعي لمعرفة الكون واشير اليه في اليونان القديمة بالفلسفة الطبيعية، والناس الذين انخرطوا في هذا التحقيق كانوا محترمين كونهم متعلمين وحكماء في المجتمع. هذا السعي ضم مختلف الاتجاهات التي نسميها الآن دين، فلسفة، ميتافيزيقا، علوم.

في هذا السياق يُعتبر الاتجاه العلمي كما نعرفه اليوم جديدا نسبيا، كونه برز فقط قبل أربعة او خمسة قرون. ما يعرف الآن بـ "العلم الحديث او الغربي" بدأ مع اناس مثل غاليلو وكبلر وكوبرنيكوس وباكون تبعهم نيوتن وبويل وغيرهم. تاريخيا بدأ في هذا الوقت ممارسو العلوم والدين والفلسفة/الميتافيزيقا الانفصال وتأسيس مدارس متخصصة منفصلة للتحقيق في كل من هذه الحقول. (من اللافت انه الى اليوم تشير الدكتوراه في العلوم او الرياضيات او الهندسة او الانسانيات فقط الى "دكتور في الفلسفة" او PhD). هناك فرق كبير في المنهجية المتبناة من جانب العلوم وتلك المتّبعة في الحقول الاخرى للتحقيق. ان الطريقة العلمية تتميز بكونها "موضوعية" و "تجريبية"، مرتكزة على التحليلات المنطقية والعقلانية للملاحظات، بينما التحقيق الروحاني هو بالمقام الأول "ذاتي" الى حد كبير. الفرق الأساسي يبدو ليس بين العلوم والروحانيات بذاتها طالما كلاهما يدّعي السعي لفهم "الحقيقة"، وانما هو بين الطريقة العلمية في التحقيق والطبيعة الحدسية للتحقيق الروحاني.

غير انه من الواضح لأي شخص ذو ذهن حساس ومنفتح في متابعة "الحقيقة"،ان العلوم والطريقة العلمية لهما محدودياتهما. هناك سنصل الى نقطة في عملية التحقيق العلمي في طبيعة الأشياء والانسان ومكانه وهدفه في الكون، فيها تكون التحليلات المنطقية والعقلية غير قادرة على توفير كل الأجوبة، ستبقى هناك عدة أسئلة لا يمكن الإجابة عليها بالإرتكاز على البيانات الحسية وحدها. العديد من العلماء الكبار توصلوا الى نفس هذا الاستنتاج.

ان "الحكمة التقليدية" او "الفلسفة الدائمة" التي تجسدت في الأدب الثيوصوفي أظهرت بوضوح العملية الحدسية والتأملية والإستبطانية التي نحتاج تبنّيها لتحملنا قدما الى ما وراء النقطة التي تصل بها العلوم الى طريق مسدود. هذا الاتجاه حتما يقودنا الى مسار وُصف بـ "التحقيق الروحاني". لسوء الحظ ان النجاح الساحر والمذهل للعلوم وربيبتها "التكنلوجيا" في الأوقات الأخيرة، أعطى انطباعا زائفا (خاصة لجيل الشباب) بان العلم "يعرف كل شيء" وانه تمكّن من كل الطبيعة، وان الكون بأكمله يمكن توضيحه وفهمه من خلال العلم وحده. بعض المتحمسين بافراط ومن العقلانيين ايضا عززوا هذا الانطباع. في هذا المقال سنطرح بعض المحاولات لكيفية ردم الفجوة بين العلم والروحانيات وكيفية التوفيق بين الاتجاهات الاستنتاجية/الاختزالية و البديهية/التأملية. سيتم التركيز على اهتمام العقلانيين الصادقين والمنفتحين بان هناك حقا عنصر هام للحقيقة يفتقده العلم؟

هذه المقالة لاتتحدث لا عن انموذج تيار العلوم السائد ولا عن الخصائص الاساسية للتحقيق الروحاني، وانما تفحص مختلف الجهود التحقيقية الحالية التي تكمن في منطقة التفاعل والإلتقاء بين العلم والروحانيات.

فيزياء القرن التاسع عشر،"الكالفينيون والمادية

يمكن تحديد ثلاث حقب زمنية في تقدم العلوم:

1- ما قبل القرن السادس عشر او "العلم القديم" والذي جرى اتّباعه كجزء من دراسة الفلسفة الطبيعية.

2- فترة ما بعد القرن السادس عشر او فترة فيزياء نيوتن.

3- ما بعد اينشتاين/النسبية/فيزياء الكوانتم او فيزياء القرن العشرين.

في نهاية القرن التاسع عشر،سيطرت فيزياء نيوتن او الفيزياء الكلاسيكية او الميكانيكية على التفكير العلمي فاتحة الباب لعصر "المادية". العلماء ادّعوا انهم فهموا كل ما في الطبيعة بمساعدة لغة الرياضيات. عندما عبّر الشاب ماكس بلانك عن رغبته للعمل بحقل الفيزياء تلقّى نصيحة بالعمل في التجارة كونها أفضل له من العمل بالفيزياء لأن الأخيرة لم يعد فيها شيء لم يُكتشف بعد. الفلكيون يمكنهم ان يصفوا بدقة حركة الكواكب حول الشمس والتنبؤ بالخسوف، المهندسون يمكنهم تصميم جسور عملاقة وناطحات سحاب وبناء سفن ضخمة مصنوعة من الستيل، يمكنهم إنشاء محركات بخارية قوية لسحب قطارات الشحن الطويلة وصنع بنادق مميتة وقنابل. ساعات مصممة بشكل معقد يمكنها قياس الوقت بدقة. الكهرباء جرى توليدها من السدود ومحطات إحراق الفحم لسحب عجلات الصناعة، بينما اختراع اديسون للمصباح الضوئي أضاء كامل المدن. النفط الخام كان قد اكتُشف توا وتم وضع الأساس لصناعة كيميائية مزدهرة. ظن العلم بان الكون كان في الأساس ساعة عملاقة يمكن قياس تقدمها بدقة والتنبؤ باستعمال قانون نيوتن في الحركة، وقوانين الديناميكا الحرارية ومختلف قوانين الكيمياء ومعادلات ماكسويل في الكهرومغناطيسية التي توضح كل شيء. المؤسسة العلمية كانت مقتنعة بان البشرية سيطرت على كل الطبيعة. أحد أكبر المؤيدين لهذا النوع من التفكير كان اللورد كالفن الفيزيائي اللامع الذي بفضله نقيس الحرارة المطلقة للجسم بوحدات من درجات كالفن يوميا. لكن هذا النوع من "التفكير المتغطرس" يوصف الآن "كالفيني" لأننا الان نعرف ان الفيزياء لايزال امامها طريق طويل في التحقيق لحل أسرار الطبيعة. كانت هناك حاجة لولادة فيزياء نواة الذرة ومفهوم المساواة بين الكتلة والطاقة الذي يُفترض ان يرسل موجات صادمة حول العالم .

ثورة الكوانتم في القرن العشرين

شهد القرن العشرون ظهور كل من النسبية وفيزياء الكوانتم. بدءاً من تجارب ماكس بلانك في الإشعاع عام 1900، والنظرية النسبية الخاصة لاينشتاين التي أسست الزمن كبعد رابع، ثم تطور نظرية الكوانتم لتوضيح نموذج بوهر الذري المتّبع وفق مفهوم ثنائية الجسيم-الموجة، ومبدأ اللايقين لهيزنبيرغ وغيرها، حتى بلوغ الذروة في الملاحظات التجريبية المدهشة لـ "الجسيمات المتشابكة"، اصبحت الفيزياء الآن تقبل بـ اللامكانية (non locality) كحقيقة للطبيعة. هذا غيّر كليا موقف الفيزيائيين تجاه الروحانيات. النسبية وفيزياء الكوانتم كانا مؤثران جدا في جعل العلم أقل مادية رغم حقيقة ان مناصري النسبية (اينشتاين) وفيزياء الكوانتم (خاصة نيلز بوهر) كانا في تخاصم مع بعضهما حتى وفاة اينشتاين. في هذا السياق قد يتذكر القرّاء عبارة اينشتاين الشهيرة "الله لا يلعب النرد ". وبعد مجيء فيزياء الكوانتم، كان هناك قليل من الحافز لدى علماء بارزين، خاصة الفيزيائيين، في متابعة الدراسات المتصلة بالروحانيات كتلك الذي ذاع صيتها بفعل أعمال شرودينجر و فريتجاف و كابي و روجر بنروز و بول ديفس و ديفد بوهيم. ونفس الشيء كانت هناك ايضا ثورة في البايولوجي وعلوم الحياة (DNA، الشفرة الوراثية)، خلقت اهتماما متجددا في الأسئلة الروحانية.

يُقال ان "الموضوعية" هي حجر الزاوية في المنهجية العلمية خاصة الفيزياء الكلاسيكية التي تؤكد على قابلية الفصل بين المراقِب والمراقب. هناك افتراض ضمني أساسي متأصل بان توجد هناك "حقيقة مستقلة عن المشاهد" وان فعل الملاحظة لايشوش الشيء الذي تجري ملاحظته. هذه الخصائص المفترضة للاتجاه العلمي كانت العقيدة الأساسية لفيزياء نيوتن لكنها لم تعد صالحة لعصر ما بعد الكوانتم. خاصة في المسائل المتعلقة بعالم الذرات المجهرية والجسيمات الأساسية.

من غير الواضح ان كان لايزال من الملائم القول ان هدف العلم هو فهم الواقع. من الملائم القول ان فهم الواقع كان الهدف الأصلي للعلم عندما بدأ المشروع العلمي أول مرة. ولكن ربما من الملائم اكثر القول الآن ان العلم اليوم هو اكثر اهتماما باشتقاق نماذج رياضية تصف وتتنبأ بسلوك الانظمة الفيزيائية اكثر مما تسعى لإعطاء وصف مفاهيمي للواقع. يبدو ان الطبيعة تتبع شكلا غريبا من المنطق(او اللغة) تطور بفعل الانسان نشير له بـ "رياضيات". الفيزيائي بول ديفس في كتابه (ذهن الاله) وآخرون ركزوا على سبيل المثال على "الفاعلية غير المعقولة للرياضيات في العلوم الطبيعية". غير ان النماذج الرياضية والنظريات ليست مقدسة وانما عرضة للمراجعة المرتكزة على ملاحظات جديدة. العلوم اليوم هي راضية تماما بالنماذج النظرية القائمة التي توضح الملاحظات التجريبية وتتنبأ بالسلوك المستقبلي للأنظمة الفيزيائية في ظل مجموعة جديدة من الظروف، وهي أقل اهتماما بالأسئلة حول ما اذا كانت النماذج الرياضية لها أي علاقة بالواقع .

الظواهر الخارقة والعلم الهامشي

كانت الملاحظات أكّدت مبكرا بان "تيار العلم السائد" يبدو تجاوز كليا مظاهر معينة من الواقع. الظاهرة بان العلم غير قادر على الفهم والتوضيح سميت بالخوارق او فوق الطبيعة او الظاهرة النفسية. التحقيق العلمي بمثل هذه الظواهر يقع تحت فرع من العلوم يسمى "التخاطر" parapsychology. هناك مؤسسة للتخاطر مرتبطة بالمؤسسة الامريكية لتقدم العلوم. يبدو ان المؤسسة العلمية السائدة كانت متسامحة علنا مع البحوث في هذه العوالم الغامضة ولكن في التطبيق نجد غالبية علماء التيار السائد يصفون البحث بمثل هكذا مواضيع بـ"العلم الزائف" او "العلم الهامشي" fringe science. من بين العديد من الكتب الحديثة التي لخصت المكانة الحالية للتحقيقات العلمية للظواهر الخارقة، كان كتاب دين رادنس (الكون الواعي – الحقيقة العلمية للظواهر النفسية،1997)، و كلود سوانسن في كتابه (الكون المتزامن – العلم الجديد للخوارق،2003) و جون بوكري في كتابه (مواجهة بين الفيزياء والظواهر الخارقة،2005) وجميعها كانت كتابات مقنعة جدا. بعض الظواهر الخارقة التي جرى التحقيق فيها باستعمال المنهجية العلمية هي:

1- الظواهر الذهنية الشاذة و"الطاقات الخفية" وهي صفات استثنائية للذهن الانساني ( على الأقل ذهن بعض الاشخاص) مثل التخاطر والتصورات بما هو خارج الحواس، وظاهرة التفاعل بين الذهن والمادة او تحريك الشيء بجهد ذهني فقط (psychokinesis) وغيرها.

في هذا السياق يتجه اهتمام الشكاك والعقلانيين الى ثلاثة مجالات مهمة جدا من البحث. الاول هو التحقيق العلمي (وتطبيقاته اللاحقة لأغراض عسكرية) في قدرة الذهن الانساني (عُرف منذ العصور القديمة في الهند بـ ديفيا درشتي Divya-Drishti)، في الرؤية المباشرة للأشياء والاحداث والمناظر الواقعة في مكان جغرافي بعيد (وربما منفصل مؤقتا). كان هناك برنامج صُنف بالسرّي للغاية موّلته وكالة الاستخبارات العسكرية الامريكية اثناء الحرب الباردة (1972-1995)،والذي سُمي رسميا برنامج "الرؤية من بعد" Remote Viewing". ولكن اشير اليه كما معروف بـ "التجسس النفسي". استنتاجات برنامج البحث هذا الذي شارك فيه فيزيائيون في معهد البحوث العلمية SRI الدولي، كاليفورنيا، بالاضافة الى الامثلة عن "مهمات التجسس" الحقيقية المنفذة تحت الاشراف المباشر للبنتاغون (مشروع ستارغيت) متوفرة كلها على الانترنيت (الرؤية عن بُعد) في غوغل.

بالنسبة للثيوصوفيين كل هذا شيء قديم الطراز. لكن من المهم ملاحظة التماهي القوي بين الاستنتاجات العلمية المنبثقة من برنامج الرؤية من بعد  وملاحظات ليدبيتر في كتابه الصادر عام 1899 بعنوان (استبصار).clairvoyance.

الدراسة العلمية الثانية هي برنامج بحث تجريبي مستمر بعنوان "مشروع الوعي العالمي"(GCP) ويعتمد على سلسلة من 60 كومبيوتر شخصي، كل واحد فيه سوفتوير خاص صغير(مولّد لرقم عشوائي) تفحص "نطاق وعي جمعي" لكل العالم على مدار الساعة. تفاصيل هذا المشروع واستنتاجاته الهامة متوفرة على الموقع الألكتروني لـ (Gcp) على http://noosphere.princeton.edu..

الاستجابة الهامة والمذهلة لشبكة Gcp حدثت في 11 سبتمبر 2001 عندما ضرب الارهابيون مركز التجارة العالمي في نيويورك. في ورقة راجعت البيانات الملتقطة في ذلك اليوم فقط نُشرت في  منشورات اسس الفيزياء عام 2003 افترضت بان رد فعل متزامن لبلايين الناس الذين يشاهدون برنامج تلفزيوني عن الاحداث المتكشفة في زمن واقعي خلقت تماسكا في نطاق وعي الجماعة العالمي والذي بدوره أثّر على خصائص مولدات الرقم العشوائي.

التحقيق العلمي الهام الثالث هو العمل التجريبي الاخير للبروفيسور تيلر الذي اعتُبر أب فيزياء الطاقة الخفية. تيلر كفيزيائي متميز وبروفيسور فخري في جامعة ستانفورد، يبدو قد عثر صدفة على آلية فيزيائية اساسية بواسطتها يتفاعل وعي الانسان وربما حتى الحيوان  مع كل من المادة الحية وغير الحية. هو وصل الى نموذج نظري جديد لكنه تأملي مرتكز على تجاربه وفق "فكرة مغروسة بوسيلة الكترونية" حيث  يدّعي انه نجح في زرع "افكار ونوايا خاصة" في وسيلة الكترونية. هذه التجارب لو صمدت في اختبارات متكررة وبتوثيق مستقل فهي ستكون رائدة حقا ونذيرا لثورة علمية ثالثة. دراسات تيلر واسعة جدا ولدرجة لا تسمح بالتعامل معها كموضوع لهذه المقالة. لكن اولئك المهتمين قد يرغبون بالاطلاع على كتابه "بعض مغامرات العلم مع لغز حقيقي،2005". كانت الآلية التي يتفاعل بها ذهن ما مع آخر او يتاثر به  او بشيء آخر(تفاعل شبحي من بُعد) كما سماه اينشتاين لغزا مستمرا للمجموعة العلمية. هناك جمعية دولية للدراسة العلمية للطاقة الخفية وطب الطاقة مع مطبوعاتها،مجلة الطاقة الخفية التي اهدافها هي "تحقيق علمي في كل اشكال التفاعلات المعلوماتية والطاقية في الانظمة البايولوجية". تجارب تيلر تقترح ان الطاقات الخفية هي ايضا نوع من التفاعلات الالكترومغناطيسية، هو ادخل مفهوم  التفاعلات "المغناطيسية الكهربائية" لتوضيح ظاهرة الطاقة الخفية.

2- السؤال عن وجود محتمل للروح لا تفنى بعد الموت، ودراسة السؤال المتصل بالتناسخ الذي صُنف في التخاطر بـ "بحث البقاء". جمعية البحث النفسي في المملكة المتحدة ونظيرتها في الولايات المتحدة كانتا تحققان علميا في بقاء الروح بعد الموت منذ قرن، زعمتا الاتصال من وجودات لاجسمية عبر وسائط.

هل هناك أي صلاحية علمية للادّعاء باتصالات ما بعد الموت من "الجانب الاخر"؟. في عام 2003 في اجتماع جمعية الاستطلاع العلمي، عرض سكرتير لجنة بحوث البقاء في المملكة المتحدة تفاصيل لحالة جريمة ملفتة حُلّت في اغسطس من عام 2001 بعد 18 سنة،بعد استلام 125 قطعة من المعلومات الدقيقة المتصلة بالجريمة، يُزعم انها من ضحية ميتة. التحقيقات اللاحقة المرتكزة على تقرير وسيط قادت بالنهاية لإتهام المشكوك فيه. كذلك التقرير الرسمي لـ SPR(جمعية البحث النفسي) حول تحقيقات (سكوا) في المملكة المتحدة المنشور في ديسمبر 1999 أكّد حقيقة "وجود نطاق واسع للظواهر النفسية مثل الظواهر المرئية والسمعية واللمسية من فريق من "ارواح متصلة" عبر جماعة وسيطة. هناك مجموعة كبيرة من الاوراق البحثية والكتب تتعامل مع تجارب الاقتراب من الموت و تحقيق الادّعاءات المتعلقة بتناسخ الاطفال.

هل يمكن رفض كل هذا واعتباره غير علمي فقط لأنه من غير الممكن اكتشاف او قياس الروح الميتة باستعمال وسائل علمية او كتابة معادلة تصف تجارب الاقتراب من الموت؟. القضية المثيرة للاهتمام والتي تحتاج للتحقيق هي الوجود المحتمل للكينونات الوهمية التي اشير اليها في جميع الثقافات القديمة كالجن او الملائكة او اشياء سماوية. هنا مرة اخرى بالنسبة للثيوصوفيين ترتكز حقيقة هذا الموضوع على دراسات الاستبصار لـ  ليدبيتر و جيفري هودسن والتي اُخذ بها كمسلمات. العقلاني سيطرح سؤالا حول ما اذا كان هناك أي دليل علمي لكل هذا ام انه كله تلفيق تام من عمل الخيال؟ مع ان هذا السؤال يتجاوز نطاق هذه المقالة، لكن يجدر القول ان هذه الاسئلة جرى التعامل معها في العديد من الكتب الجديدة المنشورة في السنوات الاخيرة في هذا الموضوع.

أحد هذه الكتب ذات الفائدة للثيوصوفيين هو كتاب "الحياة السرية للطبيعة،1997" للكاتب بيتر تومبكنس، صاحب الكتاب الشهير "الحياة السرية للنباتات". مقدمة الكتاب الاول تبدأ بالاشارة لعمل بيسانت و ليدبيتر حول الكيمياء الغامضة ويستمر ليقترح ان بيسانت و ليدبيتر صحيحان جدا في وصف البناء المفصل للذرة.

استنتاج

هناك دائما عنصر من الحقيقة يمكن تحسسه مباشرة بمقدار اقل او اكثر وبمقدار من العمق عبر مستويات عليا من الوعي الانساني. هذا العنصر العالي للحقيقة يُشار اليه بالحقيقة الباطنية "inner reality". وبمقدار ما يتعلق الامر بالحقيقة الخارجية، يجب الاعتراف بانه بجانب الطريقة العلمية المعروفة،فان طريقة "العلم الغامض" في التصور الحدسي المباشر توفر فعلا طريقة بديلة ومكملة للحصول على المعرفة، رغم ان كل من هاتين الطريقتين لهما عيوبهما ومحدودياتهما. وهكذا حتى العقلانيين المشككين الذين يعتقدون ان لاشيء هناك يمكن معرفته اكثر مما يقدم العلم، اُجبروا على الإعتراف بان مختلف حقول التحقيق، أي العلم الغربي الحديث و العلم الغامض يسيران جنبا الى جنب مع الروحانية، ويكملان بعضهما البعض وكلاهما يكافحان لإعطاء صورة متكاملة للعالمين الخارجي والداخلي. وبهذا فان الحدود بين كلا المجالين من التحقيق "العلم" و "الروحانيات" تصبح تدريجيا أقل وضوحا.

 

حاتم حميد محسن

.......................

Bridging the gap between science and spirituality, Electronic Journal of sociology, ISSN: 1198 3655

للخبير سرينيفاسان (الرئيس السابق لقسم الطاقة الذرية الهندي).

 

 

 

علي محمد اليوسفتصدير: اللغة تجريد التعبير اللفظي عن المعنى الادراكي في مرجعية بيولوجيا العقل. فهل اللغة استعداد فطري موروث؟ ام هي نزوع انساني غريزي مكتسب بالتجربة الحياتية ومؤثرات البيئة والمحيط وقبلهما العائلة لغرض ادامة التواصل الدائم بين النوع الواحد البشرالذين يربطهم العيش المشترك؟

اللغة البيولوجيا والفطرة

نرى الامر واقعا انثروبولوجيا طبيعيا حينما نعتبر فهمنا اللغة البشرية على انها (موضوع بيولوجي)، رغم خاصية اللغة التجريدية الغالبة على البيولوجيا. على الاقل بما تذهب له النظريات العلمية في دراسة وظائف مكونات الدماغ. وليس مباحث الفلسفة على السواء التي ترى موضوع اللغة بالتفسير البيولوجي مصدره الرؤية الذاتية لاختراع تصنيع كل فرد لغته الخاصة به كسلوك مجتمعي في محكومية اشتراطات عديدة منها فطرية واخرى بيئية مكتسبة في تكوين ما يطلق عليه عالم اللغات جومسكي (النحو الكلي) الذي يجمع قواعد اكثر من لغة واحدة.

اللغة تولد استعدادا فطريا بيولوجيا عضويا ناتج تطور حنجرة الطفل الوليد الانسان باختلافها عن حنجرة الحيوان على مدى احقاب زمنية سحيقة في التطور الانثروبولوجي. فاللغة اخترعها الانسان تواصليا في تقليده اصوات الحيوانات والتي اختلفت عنها لدى الانسان على انها اصوات ذات معنى تواصلي محدد مع عدد من الاختلافات التي سنمر بها سريعا لاحقا في فرادة لغة الانسان.

ربما يذهب تفكير البعض ان صيحات انواع الحيوانات هي ايضا ذات معنى تواصلي يجمعها في درء الخطر عن نوع تلك الحيوانات وفي نداءات صيحات الحيوان من اجل اشباع غريزته الجنسية التي تكون عادة موسمية بخلاف عملية الجنس لدى الانسان التي تكون حاضرة على الدوام. وهو تساؤل وجيه والاجابة عليه ان تطور حنجرة الانسان الصوتية جعلته يهتدي الى اختراع نوع من الابجدية الصورية اللغوية بينما بقيت حنجرة الحيوان لا تمتلك الخاصية التعبيرية اللغوية في الوصول الى شكل صوري معين يحمل دلالة صوتية يفهمها النوع والسبب وراء ذلك ليس في انثروبولوجيا تطورات الطبيعة وانما السبب يكمن في ذكاء الانسان النوعي بما لا يمتلكه الحيوان..

الفرق بين لغة الانسان ولغة الحيوان

في مطالعتي مقالة الباحث مصطفى بن الزهرة على موقع كوكل نت خرجت بالتالي بتصرف مني: اللغة سواء عند الانسان او عند الحيوان انما تكون لاشباع رغبات وحاجات مختلفة يحتاجها الجسم. كما ان الرمزية الدلالية اللغوية اي الابجدية الصوتية تختلف بين الانسان كما هي تختلف عند الحيوان. فلغة العربي هي غير لغة الفرنسي، كذلك صيحات القرود هي لغة تختلف عن صيحات الاسود او النمور.اما عن الاختلافات بين لغة الانسان عنها عند الحيوان فيمكن اختصارها بالتالي:

- لغة الانسان مكتسبة من البيئة والمحيط بخلاف لغة الحيوان الفطرية الطبيعية غير المكتسبة. (طبعا هذا ينسجم مع وجهة نظري في متن هذه المقالة، ويقاطع تماما منحى التوليد الفطري الذي يربط الفعالية اللغوية بالسلوك النفسي اللفظي وملكة التوليد اللغوي التي يحوزها الانسان كخاصية بيولوجية عقلية.).

- لغة الانسان واعية بينما لغة الحيوان طبيعية عفوية. (الحقيقة الثابتة التي مررنا عليها تقول كما هي لغة الانسان قصدية لتحقيق هدف او اشباع حاجة غريزية كذلك هي عند الحيوان، والفرق لا يكون باللغة بل بالوعي الذكي. ولا يعني هذا ان الحيوان لا يمتلك وعيا بل يمتلكه بحد ادنى من خصائص ما يمتلكه وعي الانسان من خصائص متعالية تقوم على ذكاء العقل البشري).

- لغة الانسان ابداعية تتسم بالتنسيق الجمالي المفتوح على أطر وفضاءات وعي الحياة بينما هي عند الحيوان عفوية ساذجة. (لانعدام خاصية الذكاء والوعي بالزمن وفقدان الحيوان ملكة توليدية افكار لغوية تعمل على تطوير لغته).

- لغة الانسان متطورة بالتقادم الزمني بينما تكون لغة الحيوان لا تتقبل التطور لانها لا تدرك حاجاتها المستقبلية له . طالما انها تحقق هدفي التواصل النوعي في مجموعاتها وهدف التكاثر النوعي معا.

اصل اللغة انثروبولوجيا

اللغة في تطورها وصلت قبل 300 عام ق. م الى ابجدية مقطعية صورية وليست ابجدية حرفية (من الحرف) اخذت شكل تدوين صوري تفهمه مجموعة من الاقوام ولا تولد اللغة فطرية يمتلكها الطفل بالولادة كما هو الحال في امتلاكه الموروثات الجينية الاخرى التي توصل معرفتها علم اللغة واللسانيات وعلم النفس السلوكي..الا ان هناك فلاسفة وعلماء نفس يعتبرون اللغة استعداد فطري لتعلم اللغة وهو صحيح اذا ما كان مرادفا لا يعني الفطرة الموروثة خالصة كما في امتلاك ملكة العقل.

يعتبر التدوين الابجدي الصوري الصوتي في لغة السومريين والفراعنة والصين والهند يمثل بداية تاريخ دخول الانسان في مرحلة صنعه الحضارة الانسانية التي يرجعها علماء الانثروبولوجيا الى نهايات العصر الزراعي الذي بدأ 7500 ق.م وشهد بروز الاديان الوثنية. كما ويطلقون على تاريخ ما قبل التدوين هو تاريخ اللاتاريخ للاقوام البدائية (الاثنولوجيا) التي نعرف لاتاريخها غير المدون اليوم في اركيولوجيا الحفريات الاثارية وليس بالكتابة التي لم تمكن معروفة تدوينيا.

اعتقد اوضحنا التفريق بين اثنولوجيا الاقوام البدائية التي لا تمتلك بقايا كتابات بسيطة لذا تكون الحفريات الاركيولوجية هي الاساس الذي يعتمده المؤرخين في دراستهم لتلك الاقوام البدائية، بينما انثروبولوجيا العصر الزراعي امتازت بمعرفة ظهور الكتابة المسمارية في العصر النحاسي الاول يرافقها بروز الطقوس الوثنية الدينية.

نظرية جومسكي في النحو اللغوي الكلي

 اللغات التي اخترعها الانسان عبر العصور تجاوز المئات وربما تصل عشرات الالوف اليوم واكثر اذا اضفنا لها اللهجات العامية الخاصة بكل مجموعة بشرية حتى لو كانت صغيرة تعيش في كنف لغة شعب اشمل من لهجات الاقليات التي تتعايش معها. ولكل حرف في لهجة عامية او لغة شعب اكتسبت بمرور الاستخدام التداولي مجتمعيا قواعد نحويه ثابتة مستقرة لدى بعض الشعوب هو ابجدية صوتية مختلفة عن غيرها من لغات شعوب وامم العالم.

لذا اللغة وليد استعداد فطري يكتسب كامل تمام بنيته الابجدية وقواعده النحوية من العائلة والمجتمع ومراحل التعليم الدراسي وفي قراءة الكتب ليتوقف على نحو لغوي من القواعد والاحكام الصرفية والبلاغية ورسم دلالة الحرف الصائت وغيرها لا يشابه غيره في لغات اخرى.. ولا يمكن تداخل لغة مع اخرى بالاندماج في احتواء الاشمل للمحدود من اللهجات اللغوية. وهذا لا يشبه تداخل مفردات لغوية مع مفردات اخرى قد تقترب في الابجدية وتختلف بالمعنى، وربما العكس واردا.

واللغة ليست حوارا تواصليا سيسيولوجيا فقط عند اصحاب السعي نحو ايجاد نحو كلي جامع لاكثر من لغة واحدة في محاولتهم تسهيل قواعد بعض اللغات. ولا هي فعالية ادراكية تبدا بالحواس وتنتهي بالنفس كما تذهب له المدرسة السلوكية اللفظية الامريكية في علم النفس والتي يعتمدها جومسكي بتفرد نقدي خاص له عليها اطلق عليه القابلية الفطرية التوليدية في تعلم اللغة. بينما يرى الاخرون اللغة موضوعا بيولوجيا عقليا يرتبط بوظائف المخ وتخليقه الفكرالادراكي والوعي بالموجودات في صور تجريد اللغة التعبيرعن تلك المدركات.

إنكار بعض فلاسفة اللسانيات ان اللغة ليست تخليقا ادراكيا استبطانيا على صعيدي التعبير عن موضوعات الخيال ومخزون الذاكرة ولا في التعبير عن موجودات العالم الخارجي المادية وظواهره لكن هذا لا يلغي حقيقة العلم في تاصيل السمة العضوية البيولوجية لانتاج العقل للغة انثروبولوجيا. ولا يمكن فصل اللغة عن تفكير العقل. اللغة ليست ماهية فكرية مغلقة للعقل، بل هي خاصية انفرادية منفتحة للعقل. بمعنى اللغة ليست ماهية العقل الوحيدة بل هي إحدى خصائص العقل الانفرادية من مجموع خواص عقلية لا يمكن حصرها.

من المهم التنويه ان تفكير العقل استبطانيا جوانيا في مواضيع خيالية لا يختلف عن التفكير في تعبير اللغة عن المدركات الخارجية في العالم الخارجي. فالتفكير العقلي في كل احواله الادراكية المادية والخيالية هو تجريد لغوي يقوم على ابجدية الاصوات في شكلها الصوري الذي يتمثّل الاشياء والمدركات المادية في نفس آلية التعبير التجريدي الصوري لمواضيع الخيال والمادة على السواء.

بمعنى اللغة من حيث ايصالها المعنى في كتابة قصة بالادب هي نفسها اللغة المعبّرة عن وجود ازهار في حديقة. ففي الحالتين تكون اللغة تفكير عقلي تجسده اللغة من حيث الآلية التي تقوم على ثنائية الادراك الحسي والخيالي في التعبير اللغوي عن تلك المدركات..فمثلا حين يريد شخص وصف الحالة الجوية فهو يستعمل لغة تجريد هي نفسها في ابجدية تجريد كتابة رسالة من حيث آلية رصف الحروف والكلمات والجمل في التعبير عن المعنى. وطبعا من المحال ان تكون ابجدية لغة عربية هي نفسها ابجدية لغة فرنسية او انكليزية.

يرى عالم اللغات الفيلسوف نعوم جومسكي ان اللسانيات يجب ان تخضع كما هو العلم الطبيعي الى منهج التجريبية، وان اللغة ليس منشأها التوليدي البيولوجيا العضوية الناتجة عن تركيبات فسلجة وظائف اعضاء محتويات وتكوينات المخ في منظومة الخلايا العصبية التي هي فعل تخليق بيولوجي صادر عن بعض مناطق تكوينات المخ المرتبطة بخاصية كهربائية عصبونية تصدرها الخلايا العصبية كردود افعال استقبالية للمخ او ردود افعال انعكاسية صادرة عنه تجاه مدركاته.، وانما القول اللغة فعالية ادراكية تقوم على البصيرة التفسيرية وقوة نظرياتها وليس في امتثالها لقيود الفلسفة كما يرغب جومسكي ذلك. فهي مسالة تنسف الطريق المسدود الذي قطعته فلسفة اللغة ونظرية المعنى. طريق فلسفة اللغة المسدود هو في اعتبارهم النسق اللغوي هو نظام محايد يوازي واقع الحياة ولا يقاطعه.

ديكارت وماهية اللغة

كما يرفض علماء اللسانيات ومنهم جومسكي بيولوجيا اللغة التي تبدأ بوعي المدركات الحسية ومواضيع المخيلة الذاكراتية وتنتهي بعضوية بايولوجيا علاقة العقل بالجسد التي يجدونها علاقة معقدة ممثلة في تداخل السلوك النفسي للغة مع الخاصية التجريدية لتعبير اللغة عن العالم المادي والعالم الخيالي على السواء..

أي اللغة هي ليست محدودية ماهوية في تجريدها تفكير العقل وفي التعبيرلغويا عنه الذي وصفه ديكارت العقل جوهر غير فيزيائي ماهيته التفكير الادراكي في معرفة العالم الخارجي ولا تربطه علاقة تخارجية بالجسد. ديكارت عزل تفكير العقل اللغوي عن بيولوجيا الجسد الفاني. بمعنى موت الجسد لا يلغي خلود العقل غير الفيزيائي المجرد. هنا اعتبر ديكارت لغة العقل هي ماهية العقل في خاصية التفكير الخالد الذي لا يموت بموت الجسد.

هذا العقل التجريدي والذي تطلق عليه فلسفة اللغة الخطاب او اللوغوس. هو حسب توصيفات ديكارت العقل القائم جوهره على تجريد جوهر اللغة وليس على جوهر بيولوجيا العقل ذاته. وليس هناك من علاقة عضوية بيولوجية تربط تجريد اللغة بالمخ والاعصاب والحواس. اي اللغة ليست موضوعا بيولوجيا كما يقول به اليوم جومسكي وعلماء اللسانيات اللفظية السلوكية. هذا يقودنا الى أن اللغة آلية تقوم بها الحنجرة واللسان من دون مرجعية بيولوجيا العقل.

من المعلوم جيدا أن ديكارت يعتبر العقل هو الجوهر غير الفيزيائي الذي يلازم النفس بعدم الفناء وخلودهما (العقل والنفس) بعد فناء الجسم عضويا. ديكارت عندما يقول خلود (النفس) انما كان يقصد او لا يقصد مرادفها (الروح). والا لم يكن سقط في تعبيره النفس جوهر خالد. النفس رغم استدلالية التعبير عنها بالسلوك النفسي القصدي لاشباع حاجات بيولوجية بتجريد لغوي الا أن النفس موضوع بيولوجي يختلف عن الروح التي هي مفهوم ميتافيزيقي لا يمكننا التحقق منه.

النفس في علم النفس التجريبي ظاهرة استبطانية وجدانية تحكمها الرغبة في اشباع حاجات الجسم النفسية وترتبط عضويا تجريديا بالعقل وترجمة السلوك لها يمكن ادراكها ولا يعاملها علم النفس على انها روح خالدة كما يصورها لنا اللاهوت الديني. مصطلح الروح لا معنى له خارج التصورات الميتافيزيقية الغامضة التي تستوعبها بالحديث عنها وحسب وتعجز تفسير ماهيتها.

 ديكارت تغاضى عن معاملة النفس سلوكا فرديا ضمن مجتمع كما هو دارج في ابسط ادبيات علم النفس. والنفس ممكن اخضاعها لتجارب علم النفس كما تفعل العلوم الطبيعية بتجاربها وقال ديكارت بخلود النفس والعقل. كونهما جوهرين من التجريد الذي يفارق فناء الجسد العضوي.

الصوفية في الاديان الوثنية البوذية والهندوسية والزرادشتية لا يؤمنون بالخلود لذا نجد الحلول النفسي الصوفي في موجودات الطبيعة عندهم هو تجسيد النفس – الروح ولا فرق بينهما. مذهب وحدة الوجود يعتبر الحلول النفسي في موجودات الطبيعة هي تجسيد عظمة نظام الكون لا فرق ان يكون خالقا او مخلوقا. غالبا ما يستخدم صوفيي الاديان الوثنية تعبير الروح عوضا عن النفس رغم التعالق الازدواجي الذي يجمعهما.

تجزيء العقل بما يلغي ماهيته التجريدية اللغوية يلغي بيولوجيا العقل – الجسد، ويلغي بيولوجيا اللغة - السلوك. كما يلغي بيولوجيا العقل التوليدي للغة المكتسبة عن المحيط والاسرة ومراحل التعليم، والغاء العلاقة التوليدية اللغوية ان لا تكون لها رابطة بالفلسفة بل رابطتها الحقيقية بالبصيرة التفسيرية كما يذهب له جومسكي. وهي نظرية نراها تحتاج العديد من الاسانيد. (تنظر مقالتنا المنشورة على صحيفة اوروك بعنوان: نظرية السلوك اللفظي اللغوي ومواقع عربية عديدة).

اللغة جزء أو مبحث من مباحث علوم اللسانيات، والفلسفة كمنهج معرفي رغم احتشادها بمختلف شؤون المعرفة والطبيعة واللغة والحياة والانسان، مثل علم النفس، البيولوجيا، الانثروبولوجيا، والابستمولوجيا، والتاريخ، والوعي الفطري والوعي المكتسب والسلوك وغيرها من مباحث فلسفية يجعل من تواصل وشيجة اللسانيات بفلسفة اللغة اقوى من تلك التداخلات التي مررنا بها. بمحكومية جميع تلك التداخلات وغيرها هي مباحث متعالقة بالفلسفة في اوثق الاواصر منها فلسفة اللغة.

بعيدا عن اعتماد البصيرة التفسيرية وقوة نظرياتها بعيدا عن الفلسفة على حد تعبير جومسكي. البصيرة التفسيرية اضافة الى انها تنحو نحو الفردانية في الفهم الا اننا من المهم ان لا نجعل البصيرة النافذة تغلب على الوصاية العقلية في تفسير معنى اللغة وتعالقاتها بغيرها من حلقات منظومة العقل الادراكية.

البصيرة الحدسية التفسيرية لا يمكنها اختزال العقل في الادراك التجريدي الذي وسيلته الوحيدة هو تعبير اللغة. كما ان العقل يعامل اللغة على انها اصوات تعبيرية عن معاني الاشياء المادية وموضوعات الخيال التي يدركها.

صحيح الفلسفة ليست المنهج التقليدي الوحيد في تفسيره قضايا اللغة ومباحث علوم اللسانيات الا انها الارجح والاقرب اكثر من غيرها مثل اعتماد البصيرة التفسيرية وقوة نظرياتها بعيدا عن مباحث الفلسفة في فلسفة اللغة. البصيرة التفسيرية اضافة الى انها تنحو منحى الفردانية كما ذكرنا الا انها لا يمكنها اختزال ادراكات العقل في تجريد تعبير اللغة عما نريده. البصيرة التفسيرية حشد استقبالي لمعاني مدركات تعبير اللغة، بينما العقل هو تخليق عضوي بيولوجي للغة. ونحصل بالاخير على نتيجة موضوع اللغة بيولوجيا وليس موروثا فطريا.

فريدريك سكينر ومباديء السلوك اللفظي

 سكينر فيلسوف وعالم نفس امريكي 1904 - 1990 حاول دراسة ترابط علم اللغة بعلم النفس. وعمل استاذا في جامعة كامبريدج الامريكية. عضو الجمعية الامريكية للفلسفة. برز سكينر رائدا لهذا الاتجاه حين أصدر كتابه "السلوك اللفظي" وكان الكتاب يعتمد تداخل صوت اللغة مع السلوك اللغوي في مرجعية علم النفس في السعي الوصول الى اثبات عدة فرضيات نظرية فلسفية لغوية هي:

- تركيز الاهتمام بالظاهر الخارجي من اللغة (الصوت - الكلام) فقط ومعاملتها حالها حال أية ظاهرة سلوكية أخرى ترتبط بعلم النفس . 1

- اهمال دراسة المعنى اللغوي على إعتبار ان المعنى ليس مظهرا خارجيا يمكن النظر فيه والتحقق منه كموضوع مستقل بالمنهج العلمي التجريبي كما يجري في دراسة موضوعات ونظريات العلوم الطبيعية التي تقوم على التجربة. 2

هنا لا بد من التنويه أن علماء السلوك اللفظي اللغوي حين أهملوا جانب المعنى في اللغة، فهم جردوها من أهم مقوماتها وأهم اهدافها الحياتية المتفرعة عنها وهي عديدة لا حصر لها. في مقدمتها يأتي مهمة التواصل وتعطيل تبادل إكتساب المعرفة العلمية بانواعها وكذلك تعرية اللغة من قواعد النحو والصرف والاشتقاق وغيرها الخاصة بكل لغة مكتوبة تمثل خاصية انفرادية لشعب من الشعوب او امة من الامم.. في السعي نحو الوصول لما اطلق عليه جومسكي (النحو الكلي) الجامع لخصائص نحوية لاكثر من لغة واحدة.

ركز اللغويون السلوكيون على اللغة المنطوقة (الصوت – الكلام) واهملوا المعنى في اللغة المكتوبة إهمالا كبيرا، وصّبوا جلّ إهتمامهم على نظام اللغة الصوتي وإعتبروه المظهر الاساس باللغة. 3

كما إهتموا بالصوت كمظهر خارجي وحيد يمكن إعتماده بدراسة اللغة في مقارنتها بظواهر صوتية في لغات أخرى محاولين الوصول الى قواسم مشتركة تجمع بين لغات مختلفة في نحو توليدي خاص يجمع اختلافاتها النحوية ويعمل على تيسير سهولتها التداولية وهو ما يطعن الهوية الوطنية للشعوب التي تجد لغتها القومية الخاصة قد انصهرت وذابت في معترك ما يسمى النحو الكلي الجامع لاكثر من لغة.. لم يول(ي) علماء لسانيات السلوك اللفظي وفلاسفة الفطرة التوليدية في اكتساب اللغة كثير اهتمام أن اللغة كائن انثروبولوجي حاله حال الانسان بمجموعته الكينونية الموحدة يتطور ويتغير باستمرار.

جومسكي ومبحث النحو التوليدي

تلقى كتابات جومسكي في اللسانيات والسياسة ومختلف مباحث الفلسفة رواجا غربيا كبيرا في الجامعات الامريكية والعالمية، والشيء المهم انه انبرى العديد من علماء اللسانيات وفلاسفة العقل واللغة الدفاع عن سقطة جومسكي اعتباره اللغة فطرية بالكامل ويرجع له الفضل في اكتشافه النحو الكلي. ويفهم من هذا ان النحو التوليدي الجامع لأبجدية اصوات اللغات المختلفة كانت موجودة واكتشفها جومسكي ولم يخترعها من عنده وهي مغالطة اقبح من ذنب. ويعزو جومسكي سبب ايمانه بالنحو الكلي يعود الى استعداد فطري لدى الطفل في تعلمه اللغة. وتدارك بعض علماء اللسانيات الانجليز قولهم ان هذا المفهوم سبق لهم ان قالوا هم به.

لا اعتقد جرى في مباحث فلسفة اللغة التفريق بين الاستعداد الفطري لدى الطفل تعلم اللغة هل يعود لموروث عضوي تكويني في تمايز حنجرة الانسان وتوافقها الوظيفي مع اللسان في نطق ابجدية اصوات اللغة باختلاف عن الحيوان.؟

أم الاستعداد الفطري في تعلم اللغة الذي يؤيدونه جومسكي واتباعه انه لا علاقة عضوية بيولوجية تربط التعلم بالوعي العضوي العقلي، وانما يرثه الانسان كما يرث الخصائص الجينية الموروثة التي اكتشفها العلم؟ وعلى البصيرة التفسيرية حسب جومسكي تحقيق البرهنة في اكتشاف التفسير التجريبي حاله حال اجراء التجارب على اية قضية علمية.

إرجاع الاستعداد الفطري لتعلم اللغة الى ملكة تجريد صوتية غير عضوية خطأ سبق وان قال به ديكارت حين اعتبر ماهية وخاصية التفكير العقلي تجريد غير فيزيائي لا علاقة له بالعقل العضوي (المخ). وبنى على هذا الخطأ تصوره الخاطيء الآخر أن لا علاقة تربط بين ازلية جوهر العقل التفكيري وخلوده مع النفس ولم يقل الروح بعد مغادرتهما الجسم الفاني المتفسخ عضويا بعد الممات.

تعامل ديكارت قوله العقل والنفس جوهرين خالدين لا يفنيان بعد موت الجسم خطأ جسيم لا يفرق بين تجريدية الادراك العقلي الذي مرجعيته لا فيزيائية ولا عضوية – وهو محال – وبين ماهية العقل التجريدية لغويا في مرجعية تكوينه عضو بيولوجي يستقر في جمجمة الانسان ويفنى بفناء الجسم.

الحصيلة التي لم يتقبلها ديكارت تحت سطوة التماهي مع سلطة ونفوذ رجال الدين وقتذاك القرن السابع عشر أنه لا بد من التسليم بوجود خلود بعد الموت وفناء الجسد. فاختار ديكارت اهون الشرين امام اللاهوت الذي يرى الروح خالدة ولم يقل النفس. ولما كانت الروح مصطلحا لاهوتيا تقاطع نزعته العلمية التجريبية قال بالنفس الخالدة.

لا يوجد ما يثبت لنا ان العقل والنفس جوهران لا يفنيان بفناء الجسم. اللغة في جميع تحولاتها الاستبطانية في تعبيرها عن موضوعات الخيال وفي ادراكاتها عالم المادة الخارجي هي اولا واخيرا تجسيد لعلاقة عضوية تربط اللغة بتفكير العقل ولا حتى ترتبط بتفكير الذهن خارج تعالق الذهن بوصاية العقل عليه. البعض ينسب للذهن خاصية تفكيرية مستقلة ايضا لا علاقة عضوية تربطها بالعقل. وغالبا ما يعبّر عن الذهن هو العقل.

اكرر نفس العبارة التي سبق لي ذكرها ان اللغة ليست ماهية العقل الوحيدة بل هي خاصية عقلية واحدة من جملة ما لا يحصى من خصائص عقلية تربط علاقة الجسد بالعقل بيولوجيا.

فهم اللغة بدلالة علاقة العقل بالجسد

يصر جومسكي اعتباره اللغة ليست موضوعا بيولوجيا ويتغاضى عن حقيقة " ان الرؤية الذاتية للغة تدخله في حقل علم النفس – كما اشرنا له سابقا – وفي نهاية المطاف يدخل حقل علم الاحياء (البيولوجيا) ما يرتب على ذلك وجوب تحليل اللغة عن طريق منهجية العلوم الطبيعية التجريبية وهو ما لا يقبل به جومسكي "4

هذه الاشكالية التي ينكر طبيعتها المنهجية جومسكي يقودنا الدخول في معضلة علاقة العقل بالجسد "وكيف يستطيع ما هو تعريف – مجازي خيالي تجريدي للعقل لا مادي ممثلا بتفكير العقل اللغوي – تحريك ما هو مادي الجسد في تكويناته البيولوجية؟

امام هذه الاشكالية التي زامنت الفلسفة يعترف جومسكي بتشائمه من حل هذه المعضلة التعالقية بين العقل والجسد في توسيط اللغة. ويعزو الحل الى وجوب توفر امكانية التوصل لحل علمي متى ما يتحقق لنا التفريق بين استعمالنا اللغة كمقابل معرفتنا ماهية اللغة.

اود تثبيت الملاحظات التالية:

1- ارى ان تجريد اللغة من انثروبولوجيتها وجيناليوجيتها في التاصيل البيولوجي من تاريخ اختراع ونشأة اللغة، يقود الى العلاقة الاشكالية بين العقل والجسد. وعلاقة اللغة بالسلوك، وعلاقة النفس بالعقل، وجميع هذه التجليات الاشكالية تدور بالمحصلة حول المشكلة وليس الدخول في حل واف يستطيع البرهنة على ان اللغة استعداد فطري موروث وليس موضوعا بيولوجيا.

2- بنفس هذه الآلية في تاصيل اللغة بيولوجيا، بما يعزز مباحث علوم الانثروبولوجيا والتطور التاريخي للانسان، تحيلنا حل معضلة هيمنة العقل اللامادي على الجسد المادي وتجسيد ذلك انما يكون من خلال التعالقات الوظائفية بينهما ابرزها ان اللغة سلوك انساني وفهم ادراكي للعالم.

3- الفقرة الاخيرة التي تثير تشاؤم جومسكي في استغلاقها العصي على الحل هو ما لم يتم التفريق بين استعمالنا اللغة – اي بيولوجيا اللغة السلوكي – وبين اعتبار ذلك مرادفا لمعرفتنا ماهية اللغة، نجدها لا تمثل اشكالية فالاستعمال الوظائفي للغة هو الذي يمنحنا معنى اللغة بالحياة .

 

علي محمد اليوسف /الموصل

...................................

الهوامش:

 نعوم جومسكي: افاق جديدة في دراسة اللغة والعقل ترجمة عدنان حسين .

هوامش 1،2،3،4 الصفحات 19 - 21

 

علي رسول الربيعيتمثل الديمقراطية قمة للفلسفة السياسية، يرتبط فهمها ارتباطًا وثيقًا بمفهوم الاجتماعي. لذلك من المنطقي أن نسأل عن الديمقراطية في إطار الفلسفة الاجتماعية. لا يتعلق الأمر هنا بمسألة إلقاء الضوء فلسفيا على أسئلة محددة ومفصلة عن تصميم النظام الديمقراطي، بل بالأحرى بالأسس الاجتماعية الفلسفية للديمقراطية. وذلك من اجل فهم  ماتعبر عنه هذه الأسس للتواصل السياسي (الإجماع مقابل الخلاف)، ومعالجتها للتطورات العالمية الحالية (الدولة مقابل المجتمع العالمي) واستجابتهم للرقمنة (الرقمية مقابل التناظرية).

لقد أصبحت هذه المسائل أكثر أنتشاراليوم على خلفية القضايا السياسية الأكثر أهمية وراهنية. يبدو نموذج الديمقراطية غالبا في هذا السياق حتى يومنا هذا بوصفه أفضل شكل ممكن للحكم السياسي. ومع ذلك، فإن الظواهر السياسية والاقتصادية والثقافية الحالية تتحدى الديمقراطية كمفهوم نظري وكشكل من أشكال التنظيم السياسي. تتنوع هذه التحديات مثل: تعقيد التطورات الاجتماعية في مجال الرعاية الصحية سواء في دول العالم الراسمالي او الدول الاخرى القل تطورا، ظاهرة "المواطنين الغاضبين" الذين يعبرون عن خيبة أملهم من خلال في مظاهرات غاضبة؛ أو الجهود الكبيرة التي تبذلها أغلبية دول العالم لمحاربة الأزمة المالية واثرها على حياة الناس، حيث يبدو تأثير الدولة الديمقراطية خاضعًا للقيود الاقتصادية؛ وأخيرًا الاختلاف المتزايد بين المخولين باتخاذ القرارات والمتأثرين بالقرارات في ضوء المشكلات العالمية.

أدت كل هذه الظواهر إلى فتح  نقاش حول أزمة الديمقراطية. لكن لا ينبغي المبالغة في هذه المناقشات حول الأزمة، لأن تصور الأزمة قد رافق الديمقراطية لأكثر من 2000 عام، فهي  ربما جزء من مسار الديمقراطية نفسها الى حد ما. يميز ميركل[1] بين نموذجين قويين يمثلان، إلى حد ما ، أقطاب النقاش: نموذج الحد  الأدنى ويركز على الانتخابات الحرة والمتساوية، ونموذج  الحد الأقصى الذي يدمج سرديات العدالة الاجتماعية أو المواطنة النشطة أو المؤسسات في مفهوم الديمقراطية. ففي رأيه تكون نتائج الأزمة أكبر كلما زاد فهم الديمقراطية. واستنادًا إلى كلا النموذجين، لم يكن هناك عدد من الديمقراطيات المستقرة كما هو الحال اليوم. ومع ذلك، تكمن المشكلة في أن السكان عادة ما يكون لديهم مستوى عالٍ من الثقة في الإدارة والشرطة والقضاء فقط، في حين تتعرض المؤسسات الأساسية للديمقراطية التمثيلية (مثل الأحزاب السياسية) لانتقادات شديدة. تعمل الشعوبية بشكل خاص في أشكالها المختلفة حاليًا على تكثيف هذا النقد للديمقراطية. هذه خلفيات مهمة للنقاش الذي اثيره هنا.

إجماع أم نزاع

يتعلق أول تمييز مهم للفلسفة الاجتماعية بمسألة أي شكل من أشكال التواصل السياسي له أهمية خاصة في الديمقراطية. يلعب راولز وهابرماس من ناحية، ومن ناحية أخرى، الديموقراطيون الراديكاليون مثل شانتال موف أو بتلر دورًا مهمًا في هذا. حيث يمكن لأفكارهم (على سبيل المثال المصممة أيديولوجيًا) عن الحياة الخيرة أن تكون جزءًا من العملية السياسية. كان راولز قد حدد بالفعل حقيقة التعددية كنقطة انطلاق لفلسفته، لكنه طالب بعد ذلك بأولوية الحق والعدالة على الخير، وبالتالي لم يأخذ في الحسبان الأفكار التعددية للخير أو الحياة الناجحة. إن السمات المركزية للاستخدام العمومي للعقل بالنسبة لراولز،على هذه الخلفية، هي المعاملة بالمثل والفهم العام للقناعات المقدمة.

إن المذاهب الشاملة أو وجهات النظر العالمية، بالنسبة لراولز، هي تعليمات للحياة الخيرة، لا يمكن استخدامها علنًا  أو في المجال العام إلا إذا اجتازت مرشح العقل العملي وقبلت أولوية الحق على الخير.[2] لا يمكن للمذاهب الشاملة أن تساهم بشيء ما في الخطاب السياسي إلا إذا كانت قد مرت بعمليات ترجمة مناسبة. إن رؤى العالم التي لا تريد الالتزام بحد الاستخدام العام للعقل "أو غير قادرة على التعامل معه، لا تستطيع أن تلعب دورًا نشطًا داخل مجتمع منظم جيدًا".[3]

يرى راولز أنه يمكن أيضًا أن ندع المفاهيم الاجتماعية للعدالة تتأثر بالعقائد الشاملة، لكن ينبغي تجريدها من ذلك في الخطاب العمومي ، ايً الخطاب في المجال العام. لذلك يطالب راولز بالطبيعة الملزمة لعقد افتراضي من وجهة نظر غير حزبية ويطالب بالاحترام المتبادل في الخطاب العمومي، حيث يدين جميع المواطنين لبعضهم البعض بأسباب لتفهم لمعتقداتهم بشكل عام. فالمداولات الديموقراطية، بالنسبة له، تهدف إلى إعطاء وأخذ الأسباب التي من المحتمل أن يفهمها جميع الناس وتمثل الإجماع المتداخل أو توافق الآراء المتداخلة بين هذه المواقف.

هناك أمورًا مركزية مشتركة بين راولز وهابرماس في هذا السياق حتى لو اختلفت مقارباتهما في العديد من النواحي. يدعو هابرماس على أساس أخلاقيات الخطاب التي تم تحديدها بالفعل ، إلى تبادل معقول للحجج في المجال السياسي أيضًا ، والتي تنشأ من مفهوم العقل التواصلي. أظهر هابرماس في العديد من الكتابات كيف يمكن تطبيق هذه الرؤية الفلسفية سياسيًا. إن الديمقراطية التداولية هي الشعار الذي يقف فوق هذه الاعتبارات. يريد عند القيام بذلك ، أن يميز نفسه عن المواقف الليبرالية التي تؤكد على البعد الاجتماعي بشكل ضئيل للغاية والتي من الواضح أن السياسة فيها لا تضع في الاعتبار سوى حماية أو إنفاذ المصالح الخاصة.

تسعى الديمقراطية التداولية، في المقابل، إلى إضفاء الطابع المؤسسي على عمليات الرأي وصنع القرار، والتي يشارك من خلالها أكبر عدد ممكن من الناس في المجتمع في المناقشات حول المسائل الحاسمة للعيش المشترك. يضمن المجال العام الطبيعي و العفوي واللامركزي تعددية الآراء. يتبنى هابرماس عند القيام بذلك، أيضًا، أفكارًا براغماتية من حيث اهتمامه بتنوع الممارسات الاجتماعية التي تشكل أساس العمومي، وبالتالي للحوار والتفاوض السياسي.[4]

إن الهدف من مثل هذه الإجراءات هو إجماع معقول ومتولد بشكل تواصلي. إن هذه هي الطريقة الوحيدة، بالنسبة له،لإضفاء الشرعية على القرارات السياسية من أجل تعايشنا وحث الناس على دعمها في بيئتهم المعيشية. يغير هذا شرعية الإجراءات الديمقراطية في نهاية المطاف أيضًا. لا تعني الديموقراطية - حسب هابرماس - فقط أن السياسيين المنتخبين يالذين تحكمون في العمليات الاجتماعية ، بل تعني اعتبارًا خاصًا للمجتمع المدني أيضًا.

"فلم تعد قدرت العملية الديمقراطية على إضفاء الشرعية وحدها، ولا حتى في المقام الأول، من المشاركة والتعبير عن الإرادة، ولكن من الوصول العام لعملية تداولية" التي تسمح بتوقع نتائج مقبولة عقلانيًا. يغير هذا الفهم النظري لخطاب الديمقراطية المتطلبات النظرية لشروط شرعية السياسة الديمقراطية.[5]

إن مثل هذا الفهم للسياسة القائمة على أخلاقيات الخطاب هو ماينكره الديمقراطيون الراديكاليون. ترتبط في هذه النظرية، التي تتبع بالمعنى الأوسع فلسفة هيجل الاجتماعية، خطوط مختلفة من التقاليد مثل  عناصر من ماركس أو أنطونيو جرامشي أو دريدا. تمثل النظرية الراديكالية للديمقراطية، في المناقشة الحالية، نقيضًا مهمًا للنظرية الليبرالية للديمقراطية، وسنبين  من خلال النظر في اقتراحات موف كمثال.

تتميز الديمقراطية، في تفسير موف، بطبيعة متناقضة لا يلتقطها التيار الليبرالي السائد. المفارقة هي أن الديمقراطية تجمع بين وجهين متعارضين ظاهريًا، وهما الحرية الفردية ومبدأ المساواة. وتعتبر أن التوتر بين الجانبين لا يمكن التغلب عليه حيث يمثل  وفي الوقت نفسه قوة دافعة مركزية للديمقراطية.

طورت موف جنبا إلى جنب مع إرنستو لاكلو أساسًا اجتماعيًا فلسفيًا لاعتباراتهم الديمقراطية النظرية في وقت مبكر من الثمانينيات.[6] يظهرالمجتمع فيها كشكل معقد من الخطاب،ويبدو هنا تاثرهم بمنهج  فوكو التحليلي للخطاب. لا ينشأ المعنى، بالنسبة لموف، من خلال الإشارة إلى العالم الخارجي، ولكن في الخطابات الاجتماعية والسياسية فقط. فالخطاب هو مجموع اجتماعي يتغير ديناميكيًا باستمرار. إنهم يعتقدون بسبب هذه الديناميكية وعدم القدرة على تثبيت المجتمع على معنى واحد، أن المجتمع دائمًا غير مستقر وهش. لهذا السبب توجد دائمًا حجج جديدة حول ترسيخ أو تثبيت الخطابات؛ وهذه هي السمة المركزية للسياسة.

تشرح موف هذه الاعتبارات من خلال اللجوء إلى الفلسفة السياسية ونظرية كارل شميت تحديدا، أحد أكثر الفلاسفة الاجتماعيين إثارة للجدل في القرن العشرين. فالسمة المركزية للسياسة بالنسبة لشميت، هي التمييز بين الصديق والعدو. فيتشكل المجتمع من خلال الهويات الجماعية التي تستبعد بعضها البعض بالضرورة وبالتالي تتقاتل. ينتقد شميت الليبرالية لأنها: أولاً، تركز كثيرًا على الفرد وتتجاهل تلك الهويات الجماعية، وثانيًا، تبالغ في تقدير إمكانات الاتحادات الاجتماعية.[7]

تتعاطف موف مع فهم الديمقراطية بوصفها تعددية فيما يتعلق بالنضالات السياسية، لكنها أنتقدت شميت ايضا لأن تميل أعتباراته نحو شكل شمولي للمجتمع. هذا هو السبب في أنها تدعو إلى التحول من العداء إلى نوع من الخصام بوصفها نظرية سياسة تؤكد على الجوانب الإيجابية المحتملة لأشكال معينة من الصراع، وتسعى لإظهار كيف يمكن للأفراد قبول هذا الصراع وتوجيهه بشكل إيجابي.  فترى أنه في الديمقراطيات يمكن محاربة المواقف بديلا عن مفهوم العداء؛ حيث "لكل فرد الحق في تمثيل مواقفه بشكل قوي وعاطفي. فيكون الخصم هنا عدو شرعي، يقبله المرء على الأقل موجودًا و إنه جزء مبررمن النضال السياسي.

تنتقد موف، مع هذا المفهوم للديمقراطية الراديكالية،الفهم الليبرالي للديمقراطية. فمن وجهة نظرها ، يرى مفكرون مثل هابرماس أن القليل جدًا من السياسة هو ساحة للنضال العام. إنها لا تفهم هذا الصراع على أنه صراع بين الأفراد، ولكنه صراع داخل حقائق خطابية، أيً بين علاقات القوة/ السلطة المنظمة بشكل  خطابي.

وتوجه موف نقطة ثانية من النقد إلى المفكريين الليبراليين: أذ تتجاهل النظريات الليبرالية للديمقراطية، في رأيها، الروابط داخل المجتمع. إنها تؤكد على غرار فالزر،[8] على لحظة العاطفة، التي تفسرها بوصفها محرك للعمليات الديمقراطية. "تتمتع السياسة دائمًا  ببُعد من الحزبية العاطفية وهذا بالضبط ما هو مفقود في تمجيد للديمقراطية غير المتحمسة وغير المتحيزة اليوم ".[9] تدور نظريات الديمقراطية الراديكالية حول نقد أساسي للفهم الليبرالي للعقل. فيشير المفكرون ذوو الطابع الليبرالي، وفقًا لتقدير موف، إلى مفهوم شكلي ولكنه قوي للعقل الذي يريد ربط التعددية الاجتماعية بالوحدة. وضرب هابرماس مثلا على ذلك أيضًا من مفكرين ما بعد الحداثة مثل Wolfgang Welsch ، الذي "يريد أن يربط التعددية بالوحدة، على الرغم من أنه لم يعد قادرًا على كشف كيف  أنه مازال من الممكن تصور هذه الوحدة".[10] وهكذا يتم دفع تعددية الآراء الاجتماعية (على أنها غير معقولة) إلى المجال الخاص. يمكن تمثيل ذلك من خلال اعتبارات هابرماس حول المجتمع ما بعد العلماني، حيث يعتبر المعتقدات الدينية مبهمة وبالتالي يتم تفسيرها جزئيًا في البيئة الأخلاقية الخاصة.[11] تسير تأملات راولز حول التعاليم الشاملة في اتجاه مشابه جدًا. تعكس هذه الاعتبارات مرة أخرى من منظور الديمقراطية الراديكالية ،انخفاضًا في قيمة التعددية، والذي يرتبط أيضًا بالتمييز الليبرالي (الذي يجب انتقاده) بين الخاص والعام.

إن هذا له تأثير أيضا على مسألة البُنى الديمقراطية العالمية. بينما يؤمن المفكرون التداوليون بالحجة العقلانية لبناء مؤسسات عالمية مشتركة، يركز آخرون مثل موف على أهمية  الأخذ في الحسبان  الخلافات والنزاعات بين مختلف الجهات الفاعلة على المستوى العالمي وفي مناطق محليًة.[12] ومن الأمثلة على ذلك تركيزهم على تعددية النماذج الديمقراطية في مناطق مختلفة من العالم.

تشير العديد من مناهج الديمقراطية الراديكالية، من الناحية الفلسفية، إلى دريدا. حيث يفسر الديمقراطية التوافق مع تفسيره للقانون كشيء قادم، فيصفها بأنها "ديمقراطية قادمة".أيً  يشير " إلى إمكانية جذرية لانتقاد وإعادة صياغة العلاقات السياسية القائمة. فالديمقراطية وعد يجب خلقه وتجديده مرارًا وتكرارًا في الخطاب الاجتماعي. فتعني قادمة أن الديموقراطية رؤية تتغير أو تتجدد من قبل الناس كل يوم. شيء يجب العمل من أجلها. هناك ضرورة ملحة لأن العمل على الديمقراطية القادمة لا يمكن تأجيله.[13]

 

الدّكتور عليّ رّسول الرّبيعيّ

............................... 

[1] Merkel, W .: Is the crisis of democracy an invention? In: Reder, M./Cojocaru, M.D. (Ed.), Future of Democracy: End of an Illusion or Departure to New Forms? Stuttgart 2014, 25-46

[2] Rawls, J.:Political Liberalism, ‎ Columbia University Press; 2005,133-135.

[3] Wallner, J .: Rawls and Religion. On the legal conception of religion in the work of John Rawls. In: Austrian Archives for Law and Religion (50 / 3-4), 2003, 554-587.

[4] Nida-Rümelin, J .: On the philosophy of cosmopolitanism. ln: Journal for International Relations (13/2), 2006, 227-234.

[5] Habermas, J.:The Theory of Communicative Action, Volume 2: Lifeworld and System: A Critique of Functionalist Reason.

[6] إرنستو لاكلو ، شانتال موف: الهيمنة والاستراتيجية الاشتراكية،ترجمة، هيثم الناهي، المنظمة العربية للترجمة، 2016.

[7] Mouffe, C.:On the Political, ‎ Routledge,2011. 

[8] Walzer.M.: Spheres Of Justice: A Defense Of Pluralism And Equality,Basic Books, 1984.

[9] Mouffe, C.:On the Political, ‎ Routledge,2011. 40-41.

[10] Welsch, W .: reason. The contemporary critique of reason and the concept of transversal reason. Frankfurt / M. 1995.139.

https://ecommons.cornell.edu/handle/1813/54

https://ecommons.cornell.edu/bitstream/handle/1813/56/Welsch_Reason_traditional_and_contemporary.htm?sequence=1

[11] https://socialtheoryapplied.com/2015/05/14/awareness-missing/

[12]https://philpapers.org/go.pl?id=MOUWWO&proxyId=&u=http%3A%2F%2Fwestminsterresearch.wmin.ac.uk%2F6633%2F1%2FMouffe_2008_header.pdf

[13] https://ces260jh.files.wordpress.com/2013/01/derrida-rogues-two-essays-on-reason.pdf

 

مجدي ابراهيملم يكن "ديكارت" ببعيد عن الصواب حينما أراد أن يمثل لمبدأ العقل بمجاز الشمس؛ لتشبيه مبدأ العقل كمبدأ أولي لكل العلوم؛ كالشمس في إشراقها وإشعاع نورها على الأشياء لتضيئيها؛ فكما تطل الشمس على العالم لتنيره فكذلك نور العقل يطل بإشراق المعارف ويقول "ديكارت" في كتابه قواعد لهداية الذهن، أو قواعد لتوجيه الفكر: "إذا أراد أحد أن يبحث عن الحقيقة؛ فيجب عليه ألا يدرس فكراً خاصَّاً؛ لأن العلوم جميعها متحدة فيما بينها، ويرتبط بعضها ببعض. واختلاف الموضوعات أمرٌ عرضي والضامن لمعرفتها واحد وهو وحدة العقل والحقيقة". فهذه الوحدة العقلية إنما هى نور العقل الذي هو كالشمس في إشراقها تطل على العالم لتنيره، وكذلك يطل العقل بنوره بالعلوم والمعارف فيكشف وحدتها وينير غسقها ويجمع شتات ما تفرّق منها ويلم جزئياتها وتفاصيلها تحت مبدأ كلي معرفي عام. 

ــ المراجعة منهجُ فلسفي:

وربما جهل كثيرون أهميّة المراجعات الفلسفية من طريق جهلهم بتطبيق القاعدة الرابعة والأخيرة من قواعد المنهج الديكارتي؛ الأمر الذي لفت انتباه المفكرين المعاصرين إلى خلوّ الساحة القلمية الفكرية من أمثال هذه الدراسات، وكشف كتاب المفكر البارز الدكتور عصمت نصّار، أستاذ الفلسفة الإسلامية والفكر العربي بآداب القاهرة : "مراجعات فلسفية في الفكر العربي الحديث" (الصادر عن دار نيوبوك للنشر والتوزيع في طبعته الأولى بالعام 2018م)، عن هذه اللفتة الغائبة، فصدّر مقدّمة كتابه بتصدير وافٍ عن مصطلح المراجعات، إذْ قال: لم يشغل مصطلح المراجعات الفلسفية (Revisions Philosophy) موقعه الذي يستحقه على مائدة البحث الفلسفي، ولم تدرجه معظم المعاجم المتخصصة ضمن موادها. وذلك على الرغم من عنايتها بالمصطلحات التي انبثقت منه أو احتواها في جوفه، مثل الشرح والتفسير والتأويل والتأكد من سلامة أسس المناهج والرؤى النقدية للقراءات المعاصرة؛ فجميع تلك المصطلحات لا تعدو أن تكون ماصدقات لمفهوم المراجعة" (ص 11).

وراح يشرح منزع النهضويين والمجددين من الفلاسفة بداية من "هيرقليطس" إلى "جاك دريدا"، وتوكيدهم على أن القيمة الحقيقية للعقل تكمن في قدرته على المراجعة الحرة؛ ولأن العقلية الناقدة هى وحدها العقلية القادرة على المراجعة حتى إذا وجد العقل كان النقد ضرورة لازمة له، يأتي بمنأى على أية سلطة سابقة حدّدت معاني الكلمات وفسّرت العبارات وأوّلت النصوص ووجهت القراءات.

يعمل النقد بمعزل عن السلطات، وهو لا يعمل إلا بمراجعة فاحصة متأملة.

وتعرّضت المقدّمة التي تصدّرت كتاب "مراجعات فلسفية" إلى قواعد فرنسيس بيكون وديكارت؛ وهما ينشدان العلماء بضرورة تطبيق آلية المراجعة، لاختبار معارفهم ومشاهداتهم. فمن الواجب مراجعة ما علق في الذهن من معارف وأخبار ومعتقدات قبل الشروع في تأسيس المعرفة العلمية على أسس حقيقية مستمدة من الواقع؛ فالعقل البشري أشبه بالمرآة التي لا تقوم بوظيفتها كاملة إلا إذا تم صقلها صقلاً تاماً حتى تزول عنها الأوساخ ثم توجيهها التوجيه المناسب نحو الضوء؛ الأمر الذي يمكنها من ظهور الشيء المراد رؤيته ظهوراً كاملاً على سطحها.

وهذا ينطبق على العقل؛ إذ يجب أولاً أن يبدأ الإنسان بتطهير عقله ممّا علق به من أوهام (كأوهام الكهف، والجنس، والمسرح، والسوق) التي حدّثنا عنها "بيكون"، والتي من شأنها أن تعوق تفكير العقل السليم حتى يمكنه التوجه نحو المعرفة اليقينية؛ ثم يمُكن العقل صاحبه من المعرفة الصحيحة بالفعل. وتكمن المراجعة في عمليتي تنظيف المرآة حتى لا ينعكس على سطحها أشياء غير موجودة في الواقع بفعل ما حاق بها من فساد، ثم مراجعة المعارف الذهنية المتوهمة التي أختزلها العقل دون تدقيق أو نقد أو شك.

للمراجعة ممّا لا شك فيه دور فاعل مُؤثر، وبالغ التأثير، في مجال كشف الحقيقة. وهى عند "بيكون" المدخل الرئيس الذي لا غنى عنه للوصول للحقيقة العلمية، والآلية الأقوم لتنقية الذهن من أوهامه.

وكما حدثتنا مقدمة كتاب "مراجعات فلسفية" لمؤلفه الدكتور عصمت نصار، عن "بيكون"، تحدثنا كذلك عن "ديكارت" بفحص ثلاث كتب منهجية (مقال في هداية الذهن، والتأملات، ومقال في المنهج) يتبيّن من خلالها وجوب مُراجعة المعارف الذهنية التي اختزلها العقل من الموروث الثقافي أو المعارف الحسية أو المقولات الذهنية غير المتسقة؛ وذلك عن طريق الشك في مصداقيتها ثم نقد سياقاتها من طريق خطوات أربعة: 

ــ أولها: عدم قبول الغامض والملتبس والمعتم من المصطلحات والأفكار والمعتقدات، وقبول ما هو واضح ومتميز بذاته، أي بديهي. ومعنى كلمة بديهي هنا أنها موصولة بالحدس؛ فكل ما هو بديهي إنما هو نتيجة حدس.

والحدس ـ كما علمنا فيما تقدّم ـ مرحلة أولية يأتي بعدها الاستنباط العقلي، ثم تحليل مضمون ما سلمنا بصحته من الأفكار، ثم إعادة ترتيبه.

ــ وأخيراً : مراجعة ما استقر العقل على صحته من حيث الشكل والمضمون، ثم إحصاء الأفكار الصحيحة وإدخالها ثانية في الذهن باعتبارها معارف معقولة وأقرب إلى اليقين منها إلى الشك. يقول "ديكارت" : لا أستطيع عندما يكون لديّ سلسلة من الروابط أن أحدّد بدقة إذا كنت أتذكرها كلها، لذلك يجب عليّ أن أعيد النظر فيها مرات عدّة بحركة ذهنية متصلة من حركات الفكر حتى إذا تصورت إحداها بالحدس والبديهة انتقلت منها إلى غيرها ... وهكذا إلى أن أتبين كيف يمكنني الانتقال من رابطة إلى رابطة بسرعة لا تدع مجالاً للذاكرة فأحصل بمثل هذا على حدس للكل في وقت واحد" (ص12من الكتاب المذكور).

ويقول في كتابه "مقال في المنهج" عن القاعدة الرابعة التي ذكرناها فيما تقدّم : أن أعمل في جميع الأحوال من الإحصاءات الكاملة والمراجعات الوافية ممّا يجعلني على ثقةٍ من أنني لم أغفل شيئاً يتصل بالمشكلة المعروضة للبحث" (ص 12).

ويحدّثنا في كتابه "التأملات" عن المراجعة باعتبارها ملكة ناقدة قادرة على الاستقصاء والتحليل والوصول إلى الحقائق متسقة الأجزاء، وتكشف في الوقت نفسه عن علة الأخطاء التي يمكن للذهن أن يقع فيها بفعل السلطات السائدة أو المعارف الزائفة. ويضيف "ديكارت" أن عملية الإثبات أو النفي والحكم على الأفكار التي يحتويها الذهن لا يمكن وقوعها إلا بإرادة حرَّة؛ فيقول :" لكي نثبت أو ننفي الأشياء التي يفرضها الذهن، ولكي نقْدِم عليها أو نحجم عنها، علينا أن نتصرّف بمحض اختيارنا دون أن نحسّ ضغطاً من الخارج يُملي علينا ذلك التصرّف". فحرية الإرادة من أجل هذا ركيزة أساسية من ركائز حركة الذهن في البحث عن الحقائق.

وصفوة القول : إنّ "ديكارت" لم ينظر لقاعدة المراجعة على أنها آلية للتأكد من صحة خطوات منهجه؛ بل كان أشمل وأوسع؛ إذْ جعل المراجعة الركن الرئيس لإثبات صحة الحكم والاستنتاج والاستنباط وإزالة اللبس والغموض من مفاهيمنا وأذهاننا؛ لكأنه يريد يقول إن في المراجعة رؤية يجب التنبه إليها، وذلك إذا ما توافر فيها خصائص هى : الأناة والرويّة، والشمول والإحاطة، والنظام والترتيب (ص :13).

ــ تكوين الرؤية الخاصّة:

يلزم للباحث العلمي في مجال العلوم الإنسانية؛ إذا هو طبق قواعد المنهج الفلسفي، أن يستخلص من وراء هذا التطبيق رؤية خاصّة. فقد سبقت الإشارة إلى أن جوهر البحث العلمي يكمن في إضافة الجديد واقتحام المجهول، وما دون ذلك ركود يتنافى مع المنهجية العلمية. وماذا عساه يكون الحال فيما لو كان البحث بحثاً فلسفياً، له شروطه وخصائصه في فحص المقروء والمكتوب؟

ولا جرم في أن منهج العلم يواجه الذات (ذات الباحث) ويعلو عليها، ويفرض قيوده صارمةً في خطواته المنهجية على البحث العلمي في سبيل الموضوع إذا كان يريد كشف الحقيقة وتكوين رؤية خاصّة بصاحبها؛ يتبيّن من خلالها تطبيق قواعد المنهج العلمي. وعلى هذا الأساس؛ لا يعرقل مسيرة البحث العلمي لدى الباحث المنهجي بما فيه من بعد أكاديمي غير كونه يركل الموضوعية منذ بداية طريق سيره في المنهج، ويظل يعبد مُقدِّساً ما يسمى بالبعد الذاتي، مع أن هذا الأخير ضرورياً في اختيار موضوع البحث والرجوع إلى ما يقرّره النص من مضمون يتفاعل مع الذات الباحثة؛ ليكوّن ـ من ثم ـ رؤية خاصّة بذات الباحث.

لكنه غير ضروري في بداية الطريق وغير ضروري أيضاً في إضفاء البعد الذاتي قبل موضوعية العلم؛ فيما لو أردنا تطبيق قواعد المنهج الفلسفي كما تبينت لنا فيما سبق؛ لأن العلم الذي يتعارف عليه مجموع الباحثين، لم يعد يعترف بأبعاد الذات بقدر ما يُخلي تماماً بينه وبين كل نزعة ذاتية أولية كشرط من شرائط الكشف عن الحقيقة في أول الطريق. وليس هنالك ما يشفي غُلة باحث سوى التسليم بضوابط البحث العلمي والفلسفي المتعارف عليها.

ولأجل هذا؛ كان من البديهي لكل بحث علمي جيد من أمرين : ترتيب المقدمات ترتيباً منطقياً خالياً من الخطأ والتشويش يسهل عليك وعلى كل ناظر بعدك إلى موضوع كموضوعك أن يستنتج النتائج من تلك المقدمات في صورتها الأخيرة.

ثم التنزه التام عن الأغراض والأهواء بدفع الشبهات؛ لأن الانقياد إلى الغرض مرض، وتحكيم الهوى في البحث العلمي باطل لا محالة، يخفي حقيقة ما عساه يتوصل إليه الباحث من نتائج أسفرت عنها مقدمات. وهو عينه المراد بالتخلي عن النزعة الذاتية وشوائب التعصب قبل الأخذ بالموضوعية الأمينة لمعالجة القضية التي يكون الباحث بصدد البحث فيها.

ولعلّ أهم السمات الخاصة ـ ولو فيما نراه نحن ـ بالباحث الأصيل، ذلك الذي ينفرد بين فئة الباحثين بقدرة الرد والتمحيص وقدرة الإقناع الشافي فيما يتصل بالمسائل التي يكثر فيها الخلاف، وتنشب حولها اضطرابات الأخذ والرد، والقيل والقال؛ هى أن تكون له مقدرة بالغة على خوض غمار البحث ومشكلاته، ولا يكون ممن يبحثون ولا يعيشون أبحاثهم وموضوعاتهم بأعصابهم ودمائهم، فتأتي أبحاثهم من غير باحثين رؤية وتحليلاً. فليس يكفي أن أحشد كماً هائلاً من الفقرات والنصوص في موضوع اخترته للبحث فيما هو أمامي من ركام الآراء والمذاهب لأستخرج منها جديداً صالحاً للقبول، وأرفض ما قد تجاوز بحكم الزمن صلاحية القبول. وهذه ظاهرة غريبة تشيع في الدراسات الفلسفية على التعميم، وفي الفلسفة الإسلامية على وجه الخصوص : تكرارٌ مع اجترار سافر، وقلة هضم تدل على ضعف العقل من أول وهلة؛ ناهيك عن التقليد والمحاكاة وعدم القدرة على مجاوزة ألفاظ النصوص وحرفيتها.

ومن المؤكد أن النصوص بالنسبة لمجال الدراسات الفلسفية والإنسانية كالمواد الأولية الخام بالنسبة لمجال العلوم الطبيعية، لا يمكن لباحث أن يتخطاها. ولكنها مع ذلك هى جامدة صماء لا تنطق بذاتها إلا إذا استنطقها الباحث بمنهجيته وترتيب فكرة في الذهن عنها واضحة. هذا الاستنطاق للنصوص ومحاولة الحفر الدائم في أغوارها هو الذي يشكل رؤيته الباحث الخاصة لها. فليس من رؤية بدون تأمل وتفكر واستبصار. 

وإنك لتجد أكداساً من الكتب والدراسات لا تقدِّم جديداً فيما يُراد منه من مفهوم "الرؤية الخاصة" عن طريق منهج الحفر في النصوص، وتحليل المشكلة إلى عناصرها الأولية وأجزائها البسيطة كما نبهنا عليه "ديكارت" من كتابه مقال في المنهج، في قاعدته الثانية (قاعدة التحليل العقلي). ثم استخراج الرؤية الخاصة بذات الباحث بعد التحليل ثم التركيب ثم المراجعة والتنقيح. ولكن كل ما تراه هنالك مجموعة من النصوص والنقولات رُصت رصاً غير مضبوط بمنهج ـ أياً كان هذا المنهج ـ يُراعى فيه كشف حقيقة النقطة البحثية أولاً؛ والرؤية الخاصّة ثانياً، وافتقرت من ثم إلى طريقة التحليل والتقسيم والتنظيم والتركيب والمراجعة، ثم الوقوف أمام النصوص والفقرات بدايةً وقفة الناقد الممحص (لا وقفة الناقل المقلد) يقبل ما يراه صالحاً للقبول وفق مبادئ بديهية، ويرفض ما يتجاوز بحكم الزمن أو بحكم التقليد كل السلطات التي تقيّده وتفقده صلاحية القبول.

ولأجل هذا، لا يكون مصير تلك الأكداس المتراكمة والأبحاث التي ليس منها جدوى، غير الركون المهمل على رفوف المكتبات.

إنما الباحث الحق هو الذي ينفرد بين فئة الباحثين بالرؤية التحليلية ولا ينفرد بجمع المادة العلمية أو نقل النصوص من أصولها، أو من غير أصولها، (أعني نقلها من باحثين سابقين عليهم نقلوا بدورهم مثل هذه النصوص وتركوها مهجورة بغير نقد ولا تمحيص لم يستنطقوها، ولم يعرفوها ما هو مكنون خفيٌّ فيها) ثم رصها رصاً مشوهاً يكون من غير الجدير قرائتها في طبعات جديدة من غير إضافة وفي غير تحليل.

وعلى الباحث في مجال البحث النظري الفلسفي، إنْ أراد أن يكون باحثاً بحق، أن يعيش المادة ويهضمها ويضيف عليها من نفسه ما شاءت له الإضافة دون الإخلال بالمنهجية المتبعة، وهو من بعدُ إزاء كل اضطراب في الآراء والأفكار لا يرضى بديلاً عن الوضوح والبساطة. يبدأ بأضعف الآراء وأبسط الأدلة تدعيماً لما يقول، فإذا أراد تقوية آرائه حول قضية بعينها أو مشكلة من المشكلات، فلا يجري قلمه أولاً إلا على أضعف الأدلة سنداً لرأيه، ثم يتدرج من الرأي الضعيف إلى الدليل القوي. ولو كان هنالك عدة أدلة لهذا الرأي لوجب أن يتدرج من الضعف ثم إلى القوة ثم إلى الأكثر قوة، فإذا أستوفى سائر دلائل الرأي واضعاً في اعتباره هذا التدرج المنطقي من ضعف الأدلة إلى أقواها كان برهانه واضحاً مقبولاً في العقل والمنطق وبداهة الرأي السديد.

هنالك تصبح الرؤية الخاصة للباحث محققة بالفعل. ثم لا تزال هنالك مرحلة أخيرة لا تخفى على الباحث الأصيل وهى أن يلقى في روع القارئ أدلته إلقاء ذكياً يمرّنه بالانتقال بالفكرة من الجزء البسيط إلى الكل المركب؛ يلقيها بصورة كلية بعد أن استوفى أجزاءها التفصيلية، ولا ينقصها سوى الدليل الوجيه بحيث ينقله من جانب المعارضة إلى جانب الموافقة، وهو لا يزال يبعث في ذهن القارئ حيرة التشكك ويظل محتفظاً بأقوى أدلته لا يبوح له بها على الإطلاق إلا إذا اشتدت حيرة الشكوك في ذهن القارئ، فإذا أطمن إلى ذلك غاية الاطمئنان، ألقى بأقوى أدلته؛ لتصادف عقلاً متردداً فتجذبه جذباً إلى رأي الباحث فلا يعتقد غيره في هذه النقطة أو تلك من آراء.

لكن هذا لا يتأتى بحال إلا بعد هضم المادة وتكوين الرؤية واستخدام المنهج التحليل النقدي ـ بالدُّربة والتمرين ـ إزاء كل مقروء ومكتوب استخداماً حسناً. وليكن في معلومنا جميعاً : أنه كلما هضمنا من الحقائق أكبر قدر ممكن، استطعنا ترويض عقولنا على إفراز وتكوين الرؤية الخاصة بنا؛ وبمنهج معقول مقبول. وإني لأذكر عبارة لــ "بيرك" يقول فيها :"الحقائق للعقل كالطعام للجسم. وعلى هضم الحقائق هضماً لائقاً تتوقف قدرة الإنسان العقلية وحجاه، كما تتوقف العافية والصحة على الطعام. وإن الرجل الذي يهضم عقله أكبر عدد من الحقائق لهو أعقل الرفاق في المجالس، وأقدرهم على المناظرات، وأرقهم في الحياة معاملة ومعاشرة".

(وللحديث بقيّة)

 

بقلم: د. مجدي إبراهيم

 

في المثقف اليوم