اخترنا لكم

عبد الله الغذامي: التعددية والهوية

يقع مفهوما الهوية والتعددية في مأزق مفاهيمي تصادمي، وقد تصنّع الصدام من تعاقب السلوك الثقافي للبشر، فالبشر ينتمون لهويات جذرية هي في أصلها أحوالٌ طبيعية، حيث ينتمي الإنسان للأرض وللنظام الذهني لبيئته الجغرافية التي ستكون بالضرورة ذات تشابك لغوي وديني مما يخلق في النهاية لغةً خاصةً وبحد جغرافي مؤطر، وكل أرض تحمل ديناً يستجمع أحوال الإنسان مع مصيره ومع تفسيره أو تفهمه لمعنى رحيل بعض الذين أحبهم وظن أنه لن يفقدهم فإذا فقدهم أسعفه الدين في تقبل الحدث.

في حين تأتي التعددية بوصفها حقيقةً واقعيةً أيضاً، فكل لون وكل لغة وكل دين هي تنويعات لم يخترها أي إنسان بشخصه وقراره، ولكنه ورثها ممن سبقوه، وهذه تعددية حتمية تتقابل مع حتمية الهويات وكلها لا نختارها ولا نشترطها كذلك، بما أنها حقيقة ماثلة وكلنا كبشر متنوعون لغةً وديناً ولوناً ومشاعرَ وعقولاً، ولكن العلة هي في «اللاتعددية»، بمعنى تمييز عرقٍ على عرق ولونٍ على لون وأرضٍ على أرض، وهي تمايزات حدثت منذ قرون وقرون وعلى أقصى امتدادات الذاكرة، وتظل فعالة، وكلما تقوت أمةٌ أو فردٌ مالت الظروف لمصلحة التمييز ولمصلحة القوي، والتنافس مثلاً بوصفه قيمةً معرفيةً واقتصادية عظيمة وذات فوائد لا حصر لها، لكنه مع ذلك يتحول دوماً إلى تصارعٍ بناء على التمييز أولاً، بحيث يذهب الظن إلى أن النجاح هو خاصية جينية أو هبةٌ خاصة يغذي بها المرء خيالاته بأنه موهوبٌ، ومن ثم متميز عن غيره الذين سيكونون عنده أقل منزلةً وأقل عقليةً وأقل قدرات، ويجري توارث هذه المشاعر عبر الثقافة ومدونات الشعر والملاحم والأساطير ثم عبر الإعلام اليوم، فتترسخ صورٌ ذهنية تجعل التعددية خارج الاعتبار رغم وجودها الحقيقي، أي أن الوهمي يهزم الواقعي، لدرجة أننا نقول بالتعددية ونمارس التمييز في الوقت ذاته ومن الشخص ذاته، وهذا ازدواج ذهني ثقافي يكشف دور النسق المضمر في تشكيل الوعي ورسم شروطه وفق معانٍ تبنيها الذهنية المتوارثة أو ما سميته بقانون (تاء تاء)، في كتابي السردية الحرجة. ويعني تعاقب الفكرة وتواترها مما يرسخها في التصورات وكأنما هي قانون طبيعي خارج الخيارات وصناعة الثقافات.

وهنا يقع التعارض بين الهوية والتعددية إذ أثبتت الأحداث البشرية أن البشر يلجؤون إلى الهويات الجذرية كلما عصرتهم عواصف الظروف والوقائع، ويجري هنا تعمد إنكار قيم التعددية، وكلما تقدم الفكر البشري في رفع معاني التعددية وقيمتها الروحية والعقلية، تتكشف الوقائع عن نقيض ذلك، وهنا مأزق الهوية التي هي في أصلها قيمة انتماء وأمان (البئر العميقة)، لكن يثبت دوماً أن الأمان مرتبطٌ بالقوي، وكلما تقوى الإنسان تعززت عنده الهويات التي تميزه عن غيره، ولن يتم التميز إلا بكسر الآخر وجعله تحت تحكم الأقوى، هي قصة الجنس البشري أفراداً وأمماً، وهذه التناقضية تظل هي العنَوان الأخطر في تواريخ الأمم، ولم تفلح الفلسفة ولا الديمقراطية في ترويض الذهنية البشرية ليتقبل البشرُ البشرَ، رغم إدراك الجميع أن التقبل هو أسهل الطرق لصناعة السلام والأمان، ونظام الأمم المتحدة واتفاقيات حقوق الإنسان تظل مواد للتوظيف السلطوي وليس لتأمين مسارات الحياة. وهنا يكون مأزق الهوية مع التعددية، حيث تنقض إحداهما الأخرى مع تجاهل أي تفاوضية بينهما.

***

د. عبدالله الغذامي - كاتب ومفكر سعودي

عن صحيفة الاتحاد الاماراتية، يوم: 20 ابريل 2024 01:47

في المثقف اليوم