اخترنا لكم

السيد ولد أباه: كانط في مئويته الثالثة.. والدرس العربي

تحتفل ألمانيا هذه السنة بالذكرى المئوية الثالثة لأهم فلاسفتها وهو أمانويل كانط، الذي غيّر مجرى التفكير الفلسفي الكوني بأعماله التي نشرها في خريف حياته، وما تزال إلى حد اليوم موجِّهةً للسؤال الفلسفي العالمي. تمحورت فلسفة كانط حول ثلاثة أسئلة كبرى هي: ماذا يمكنني أن أعرف؟ وماذا يتوجب عليَّ أن أفعل؟ وما هو المؤمَّل لي أن أرجو؟ وهذه الأسئلة الثلاثة تتمحور حول إشكال جامع: ما هو الإنسان؟ السؤال الأول يتصل بموضوع المعرفة من خلال توجيه النظر لا إلى الحقائق العقلية المطلقة وإنما إلى شروط المعرفة الممكنة وفق محددات التجربة التي بدونها لا يمكن للمفاهيم المجردة أن تصل إلى علم موضوعي بالظواهر الطبيعية.

أما السؤال الثاني فيتعلق بالأخلاق التي هي قوانين العقل العملي التي تتأسس على الحرية واستقلالية الذات الراشدة، وليس على الفضيلة من حيث هي منظور قيمي جوهري للسلوك البشري. وأخيراً يتعلق السؤال الثالث بالدين الذي كتب عنه في حدود «مجرد العقل» باحثاً عن خيط وصل بين الواجب والسعادة، لتحرير الإرادة الإنسانية مِن عقالها وتوجيهها نحو فعل الخير. كل هذه الأسئلة تدور حول منظور انتروبولوجي للإنسان الحديث من منطلق حركية الأنوار التي كان كانط من رموزها الفكرية الكبرى، وقد دافع عن مبدئها الأساس الذي هو الاستخدام العمومي الحر للعقل والخروج من حالة القصور المضروبة على العقل الإنساني، مع الدفاع عن الوحدة الكوسموبولوتية للنوع البشري وفق نظام من السِّلم الأزلي الدائم. هل نحتاج في عالمنا العربي إلى عقلانية ديكارت أو تنويرية كانط؟

من المعروف أن المفكر والأديب المصري الكبير طه حسين دعا منذ عشرينيات القرن الماضي إلى اعتماد مقاييس الشك الديكارتي في كتابة التاريخ الثقافي العربي، مطبقاً هذا المنهج على الشعر الجاهلي، مما أثار ضجةً كبرى في الساحة العربية أوانها. ولقد ظلت مقولة الديكارتية مرادفةً للعقلانية، وكان الرئيس التونسي الأسبق الحبيب بورقيبة كثير الاستخدام لها، إلى حد أنه فرض على كل وزرائه وكبار موظفيه حضورَ درس أسبوعي حول العقلانية الديكارتية يقدّمه في الجامعة التونسية الفيلسوف الفرنسي الأشهر ميشال فوكو (حسب ما أخبرني أستاذي البارز فتحي التريكي الذي كان وقتَها من طلبة فوكو في الجامعة).

لم يكن لكانط هذا الحضور الواسع، ولم يتجاوز تأثيره في البداية عمل الشيخ الأزهري محمد عبد الله دراز الذي نشر في الأربعينيات كتاباً حول «دستور الأخلاق في القرآن الكريم»، ذهب فيه إلى قراءة كانطية لأخلاق الواجب في التقليد الإسلامي. ولقد تغيرت الصورة تدريجياً في مطلع الثمانينيات عندما صدر بصفة متزامنة كتاب محمد عابد الجابري «نقد العقل العربي» وكتاب محمد أركون «نقد العقل الإسلامي»، في استخدام واضح لمقولة نقد العقل الكانطية، وإن من منظور أوسع من مفاهيم ومقولات كانط. ومع أن غالبية أعمال كانط تُرجمت في السنوات الأخيرة إلى العربية، بما فيها كتاباته الثانوية، إلا أن حضور فلسفته وإشكالياته الفكرية ما يزال محدوداً وضئيلا. قد لا يكون من المجدي الرجوع إلى أعمال كانط العلمية المتجاوزة، كما أن أفكاره الفلسفية لا يمكن أن تُقرأ بمعزل عن المقاربات النقدية التي تناولتها منذ هيغل ونيتشه وهايدغر، بيد أن ثلاثةَ مفاهيمَ كانطية أساسية نعتقد أنها تدشن آفاقاً رحبة في الفكر العربي من الضروري الوقوف عندها.

أول هذه المفاهيم هو استقلالية الإنسان ورشده التي اعتبرَ أنها الدلالة الكبرى لعقل الأنوار. ومهما كان الموقف من تركة التنوير فإن هذا المفهوم يبقى صالحاً للعصر الحاضر، وهو الشرط الأساسي للتحديث المعرفي والاجتماعي الذي نحتاج إليه. ثاني المفاهيم هو ترجمة المضامين الميتافيزيقية في لغة العقل العمومي من منظور أخلاقي قيمي قادر على أن يكون مدارَ توافقات كونية شاملة. ولا شك في أن هذا التوجه يدخل في باب عملية الإصلاح الثقافي التي هي من الضرورات العاجلة في ساحتنا الفكرية العربية. وثالث المفاهيم هو الكسموبولوتية الإنسانية السلمية والمتسامحة التي يجب أن تكون الإطار الإيجابي للتعايش السلمي والتضامن الفعال مع الثقافات والمجتمعات البشرية الأخرى، وهو هدف لا خلاف حول أهميته وراهنيته. بعد أكثر من ثلاثة قرون ما تزال فلسفة كانط صالحةً لعصرنا، توجِّه لنا أسئلةً محوريةً حاسمةً، ومن هنا ضرورة إعادة قراءتها بعيون الحاضر وفي ضوء حاجياتنا الحالية.

***

د. السيد ولد أباه - أكاديمي موريتاني

عن صحيفة الاتحاد الاماراتية، يوم: 21 ابريل 2024 23:12

في المثقف اليوم