اخترنا لكم

بركات (1933 - 2023) عالم الاجتماع والروائي السوري-الأميركي الذي غادر الحياة قبل أيام عن عمر يناهز التسعين.. كيف نوفِّق بين هويتيه، السورية العربية والأميركية؟ وُلد في سوريا ونشأ وتعلّم في بيروت حتى غادر للحصول على الدكتوراه من جامعة ميتشيغان، آن آربر، ورجع للتدريس في الجامعة الأميركية في بيروت لفترة قصيرة قبل أن يعود للحياة والعمل في عدد من الجامعات الأميركية في أوائل السبعينات حيث استقر للخمسين سنة التالية حتى رحيله. أسئلة الهوية والانتماء والغربة كانت تؤرقه في بحوثه الاجتماعية الكثيرة كما في حفنة الروايات والقصص التي خلّفها وراءه، وهو في هذا لا يختلف عن غيره من المثقفين العرب المغتربين، مثل إدوارد سعيد وهشام شرابي من معاصريه الأكاديميين، أو أمين الريحاني وميخائيل نعيمة وفيليب حِتّي إنْ شئنا الرجوع إلى الرعيل الأول من مغتربي العرب في أميركا.

لعل أسئلة الهوية والصراع بين الانتماء الوجداني الأصلي وبين وطن الهجرة... لعلها لا تحتدم مثلما تفعل زمنَ الأزمات الكبرى التي يجد فيها المغترب نفسه وسط بيئة سياسية وثقافية معادية لوطن المنشأ والوجدان. هذا هو الموقف الذي وجد بركات وغيره من مثقفي المهجر الأميركي أنفسهم فيه لدى اندلاع الحرب العربية-الإسرائيلية في يونيو 1967 والذي اختار أن يتناوله بالتأمل في أشهر رواياته «عودة الطائر إلى البحر» المنشورة في 1969 بعد سنتين فقط من الحرب، والتي تُرجمت لاحقاً إلى الإنجليزية بعنوان «Days of Dust» أو «أيام الغبار».

الشخصية الرئيسية في الرواية هي لأكاديمي فلسطيني اسمه رمزي صفدي يعيش ويعمل في بيروت، الذي اصطلح النقاد، ولم يختلف معهم بركات، على أنه شخصية رامزة إلى المؤلف. تصور الرواية أجواء الحرب من بداياتها المتفائلة بالنصر الأكبر إلى الهزيمة السريعة وما تلاها من هوان ويأس. تدور الأحداث ما بين بيروت ومدن الضفة الغربية في الأردن. ولا خلاف أن الرواية تسجيلية في جانب كبير منها، حيث إن الحكايات التي تصوِّر الأثر المدمِّر للحرب على حياة آلاف الفلسطينيين من موت وعاهات ودمار بيوت ونزوح قسري تعتمد جميعاً على بحوث ميدانية ومقابلات استبيانية يُجريها رمزي صفدي في الرواية، وهو عين ما فعله نظيره خارج الرواية، حليم بركات نفسه، الذي أجرى البحث الميداني في عمّان عقب الحرب بالاشتراك مع الأكاديمي الأميركي Peter Dodd وصدرت الدراسة بالإنجليزية عام 1968 عن مؤسسة الدراسات الفلسطينية بعنوان «نهر بلا جسور: دراسة لنزوح اللاجئين العرب في 1967». ولا يُخفي بركات أن الرواية جاءت كتكملة للبحث الميداني، فقد صرّح بعد ذلك بسنوات طويلة في حوار مع مجلة «الآداب» البيروتية (المجلد 48، العدد 5 – 6، 2000) بأنه أحس بأن الدراسة الأكاديمية لم يمكنها تغطية الجانب الإنساني، ومن هنا اضطلاعه بكتابة الرواية لتلافي ذلك النقص.

إن كانت الرواية واقعية تسجيلية في طرف منها فإنها توغل في الرمزية في الطرف الآخر، حيث تؤطّرها بنية أسطورية تحفل بالإشارات إلى «الكتاب المقدس» وشعراء من قبيل ت. س. إليوت وأودن، وأسطورة «الهولندي الطائر» كما صوّرها ريتشارد فاغنر في أوبراه الشهيرة، وأوراتوريو المسيح للموسيقار هاندل، مروراً بالكوميديا الإلهية لدانتي، والإلياذة لهومر، وملحمة غلغامش، والحكايات الشعبية الفلسطينية وغير ذلك. ولا شك أن بعض الإحالات الرمزية تُثري المضمون وتقوم مقام الخيط المتصل الذي يربط بين الحكايات المتشذرة القائمة على البحث الميداني. إلا أنه يمكن القول إن الرواية ينوء كاهلها تحت ثقل الإشارات الرمزية الكثيفة النابعة من قراءات الكاتب الواسعة والتي أطلق لها العنان بغير كابح.

نعود إلى سؤال الهوية والموقف من بلد المهجر، وهو سؤال أساسي يكمن وراء رواية بركات. هذا السؤال يعالجه الكاتب من طريق قصة حب محورية بين الفلسطيني رمزي صفدي وبين امرأة أميركية تُدعى باميلا أندرسون، تنتمي للثقافة الهيبية Hippie السائدة وقت كتابة الرواية والداعية إلى الحب والإخاء والسلام بين البشر. باميلا رسامة فقيرة وإن كانت مثقفة ومغرمة بالمنطقة العربية وأهلها. قصة الحب بين الأكاديمي الفلسطيني بطل الرواية وبين الأميركية باميلا هي مفارقة عمدية في صلب الرواية، فهي علاقة حب بين عربي وأميركية على خلفية صراع دموي بين العرب وإسرائيل تتبنى فيه الدولة الأميركية الطرف الإسرائيلي بلا قيد ولا شرط وفي غير احتفال بقيم الحق والعدل. على أن باميلا على طرف نقيض من حكومتها؛ فهي متفهمة للقضية العربية ومتعاطفة معها. ولعل هذا هو السبب أن حليم بركات اختار أن يصوّرها فقيرة ومنتمية إلى فلسفة الهيبيز الرافضة لقيم المجتمع الرأسمالي وللأخلاق السائدة، إذ نسمعها تقول لرمزي إن الحكومة الأميركية قد أضحت أداة في يد المؤسستين الصناعية والعسكرية، وأنها تقف ضد الشعب الأميركي تماماً مثلما هي ضد الفيتناميين والعرب.

كأن حليم بركات يسعى هنا إلى حل مشكلة انفصام الهوية والصراع الوجداني لديه بين الانتماء الأصلي وبين الوطن المهجري المعادي للوطن الأم – كأنه يسعى إلى حل يتمثل في التفرقة بين أميركا كدولة وأميركا كأفراد. الفهم والحب ممكنان على المستوى الفردي، كما يحدث بين رمزي وباميلا، اللذين لا تَحول بينهما السياسة المتعجرفة الظالمة للدولة. يحلّ بركات الصراع على مستوى آخر أيضاً هو روايته ذاتها. فهي كنص أدبي تتناصّ وتتآخى مع عشرات النصوص الغربية من مختلف مراحل التاريخ، كما رأينا في استغلال الكاتب الموروث الغربي الأسطوري والأدبي في خلفية الرواية.

على أن هذه الرؤية التصالحية التي طرحها بركات في «عودة الطائر إلى البحر» في 1969 تبدو كأنها تذهب بدداً في روايته القصيرة «طائر الحَوْم» التي أعقبتها بما يقرب من 20 عاماً في 1988، هي إن أنصفنا عمل أقرب إلى السيرة الذاتية وإن ارتدى ثوباً قصصياً شفافاً. بطل الرواية وراويها هو أستاذ جامعي أميركي عربي الأصل، ولا أظننا نطلب مؤشراً على التماهي بين الشخصية والكاتب أكثر من ذلك. كان بركات آنئذٍ في أواخر العقد السادس من عمره، وقد استقر في أميركا نحو خمس عشرة سنة متصلة. الرواية عبارة عن فعل استرجاع وتأمل للماضي يسرده ذلك الأستاذ الجامعي المولود في الكفرون في سوريا تماماً مثل حليم بركات. الحدث يدور في حقبة الثمانينات، الحقبة اليمينية المتشددة للرئيس رونالد ريغان (1981 - 1989). ولا نبالغ إن قلنا إن الكتاب هو إدانة سافرة للثقافة الأميركية، على نحو لن يستغربه مَن تابع كتابات حليم بركات غير الأدبية، وبخاصة في الوسائط الإعلامية، في تلك الفترة. فلنتأمل في تداعي أفكار الراوي أمام أنباء الغزو الإسرائيلي للبنان في 1982 والذي حظي بتأييد حكومة ريغان:

«لماذا أنا في واشنطن وجبال شنندوه؟ لماذا لم أكن فيكِ يا بيروت وقتَ حصارك؟ لماذا لم أقاوم الدبابات الإسرائيلية وهي تسحق الأزهار البرية في الجنوب؟ المقاومة ملح الأرض».

«أنتِ أيتها الحضارة المُقَنَّعَة أرفضكِ. هزيلة هزيلة. أُعلنكِ هزيلةً وحقيرةً. تُسمِّين الأبطال المحررين إرهابيين. أُعلنكِ إرهابيةً. تصنِّفين العالم إلى متحضرين وبرابرة. أعلنكِ بربريةً مع أنني أمُجُّ هذه اللغة، فربما تفهمين لغتك. أُعلنك هزيلةً وحقيرةً. أناقتكِ قناع. أزياؤك الجميلة أقنعة. أنت لا تعرفين ولكنني أنا أعرف أن هناك علاقة بين انشغال شعبك بتخفيف وزنه بسبب التخمة وجوع أفريقيا. ديمقراطيتك افتراس مهذب أنيق. مصابة بالعفن».

سؤال الهوية يواجه كل مثقف عربي في المهجر الغربي وهناك شعور بالذنب؛ شعور بالقهر، شعور بالوجود في المكان الخطأ

في هذا المقتطف بقسميه الإجابة عن سؤال الهوية الذي واجهه حليم بركات والذي يواجه كل مثقف عربي في المهجر الغربي. هناك شعور بالذنب. شعور بالقهر. شعور بالوجود في المكان الخطأ. المكان الآمن المتنعم بينما وطن المنشأ والوجدان في خطر ومعاناة. شعور أشبه بالوجود بين صفوف العدو. شعور بالتخلي وهجران القضية. ثم هناك رغبة في التنفيس عن هذا الشعور بنوع من الصراحة الشرسة في إدانة الحضارة الغربية والكشف عن زيفها ونفاقها في غير مواربة.

***

د. رشيد العناني

نقلا عن صحيفة الشرق الأوسط اللندنية ليوم: 16:54-1 يوليو 2023 م ـ 13 ذو الحِجّة 1444 هـ

شاع في دراسات ما عُرف بعصر النهضة أنّ الاهتمام الأول كان بالإصلاح السياسي وببناء مؤسسات الدولة الحديثة، ومن ضمنها الدستور. لكنّ الملف القيمي والأخلاقي ما كان بمنأى عن الاهتمام؛ أولاً لجهة التربية الوطنية، وثانياً لجهة الاهتمام بالتعليم بوصفه أساس النهوض. وفي كتابات النهضويين مثل محمد حسين المرصفي ورفيق العظم ثم محمد عبده وقاسم أمين، صارت أخلاق المدنية بين لوازم نهوض الأُمم. ووقتها بدأ كثيرون يترجمون كتب غوستان لوبون عن طبائع الأُمم، وكتب محمد عبده مقدمته للتفسير الذي سُمّي «تفسير المنار» في ما بعد، بسبب نشر دروس محمد عبده التفسيرية في مجلة «المنار»، وكان للأخلاق حظٌّ وافرٌ فيها. وتأثر هذا الملف بعض الشيء بسبب الجدال بين محمد عبده وفرح أنطون، وهو جدالٌ تطور في الجيل اللاحق للحرب الأولى إلى مماحكاتٍ مع الاستشراق والتبشير. ثم تغيرت الأجواء الثقافية والسياسية العالمية للمرة الثالثة بعد الحرب الثانية عندما ظهر ميثاق الأمم المتحدة (1945)، والإعلان العالمي لحقوق الإنسان (1948). تجادل القوميون والإسلاميون مع الميثاق والإعلان من منطلقين، الأول منطق الميثاق والإعلان أنّ حقوق الإنسان والمواطن هي حقوقٌ طبيعية؛ بينما في الإسلام والموروث أنها هبةٌ من الله. والآخر أنّ الميثاق والإعلان يكيلان بمكيالين فلا يحدث إنصافٌ في قضية فلسطين، ولا في التعامل مع الدول العربية والإسلامية التي تصارع الاستعمار وتناضل للتحرر منه! وعندما جادلَ أنصار الميثاق والإعلان أنّ الفطرة تعني ما يعنيه الحق الطبيعي، أجاب خصومهما بتفاصيل تستند إلى فكرة الأصالة التي بدأت تتعملق في ردّ ظواهر الحداثة واستعاراتها. ثم جاء مجمع الفاتيكان الثاني (1962-1965) الذي اعترف بإبراهيمية الإسلام، فاتجه الحوار المطلوب لاستكشاف القواسم المشتركة، ومنها العقدي والأخلاقي.

في العقود الأربعة الأخيرة جادلْنا بالدواخل العربية والإسلامية أنّ رؤية القرآن لحوار التفاهم والتضامُن أصلها مطلب القرآن أن تقوم العلاقات بين بني البشر على اختلاف أعراقهم وأديانهم على التعارف، وله مقصدان: معرفة الفرد للآخرين من حيث المصالح والاهتمامات لتنتفي الخصومة بالمعرفة؛ لأنّ الإنسان عدوّ ما جهل - والمقصد الآخر استكشاف القواسم المشتركة من طريق التواصل والحوار من أجل التعاون والتضامن في المشتركات. والقرآن يطلب من المؤمنين أن يأمروا بالمعروف وينهوا عن المنكر في الأخلاق والتعامل. والمعروف هو ما تعارف البشر على صلاحه وإصلاحه، والمنكر هو ما تعارف البشر على إنكاره والابتعاد عنه. وها هو في الجانبين المشترك الإنساني في القيم والأخلاق وتبادُل الاعتراف من طريق العقول والمصالح بالفضائل والرذائل، بحيث تكون السيرة والسياسة التعاملية الإنسانية أقرب إلى الصلاح وأبعد عن الفساد، ولو لم يأتِ بها الوحي أو الشرع، كما يقول ابن عقيل وابن قيّم الجوزية. وحول هذه المفاهيم كان يدور الجدال في المجال الإسلامي؛ لأنّ المحافظين والمتشددين كانوا يقولون إنّ المعروف هو ما أمر به الشارع، والمنكر هو ما أنكره الشارع. فلمّا نشب الصراع في المدى العالمي بسبب الأعمال الإرهابية، وتعاظمت الحاجة إلى الحوار مع الأديان والثقافات لاستعادة السلم مع العالم، خمدت أصوات الانعزال والقطيعة، وصارت المرجعيات الدينية إلى الاحتجاج بحديث السفينة الواحدة رمزاً لوحدة بني الإنسان في المقاربة الأخلاقية للمشكلات العالمية والتذكير بحلف الفضول أو الفضائل في مكة قبل الإسلام، حين تعاقدت بطونٌ من قريش على نُصرة المظلوم، وحماية أعراف الجوار والضيافة لزوار البيت الحرام، وهو العهد الذي حضره رسول الله (ص) شاباً، وأشاد به وأقرّه بعد البعثة النبوية، وهو الذي عدّ بعثته رسالةً أخلاقية عندما قال: «إنما بُعثت لأتمم مكارم الأخلاق». ومضياً مع هذا التنوير الأخلاقي وُقّعت «وثيقة الأخوة الإنسانية» بين البابا وشيخ الأزهر، ووثيقة مكة المكرمة للمواطنة الشاملة (2019).

إنّ هذا الإجماع على التعاون من ضمن المشترك الإنساني، والذي ما بلغته الإنسانية إلاّ بشق الأنفس، وصار رمزاه ميثاق الأُمم المتحدة والإعلان العالمي لحقوق الإنسان، بدأ يتعرض للتصدُّع لأسبابٍ وجهات عدة. الأول عجز مجلس الأمن عن صون السلم العالمي، وانتشار الحروب وتعاظمها بين الدول الكبرى الداخلة في مجلس الأمن، وبين الدول الوسطى والصغرى وفي دواخلها. والثاني: عجز مفوضيات الأمم المتحدة ووكالاتها عن حماية البشرية من المجاعات والأوبئة وفساد البيئة واضطرابات المناخ بسبب أعمال التخريب الهائلة. والعامل الثالث: المتغيرات القيمية والأخلاقية الكبيرة بسبب التقنيات الجديدة، والتي تنفي وجودَ طبيعةٍ إنسانيةٍ تتضمن الذكورة والأنوثة من أجل استمرار الحياة الإنسانية من خلال علائق المودة والعيش المشترك في الأُسَر والعائلات - والذهاب إلى أنها تاريخٌ وثقافة وعادات ذكورية مصطنعة! والإمعان في العبث وصولاً إلى الطفولة، التي يُرادُ تدمير الأُسرة من خلال «قراراتها الحرة»، باعتبار العائلة، كما سبق القول: مجرد موروثٍ يُنافي الحرية!

عام 2019 أصدر الفاتيكان وثيقةً بعنوان: «الذكر والأُنثى خلقهما الله. نحو سبيلٍ للحوار في إشكاليات نظرية الجندر في التربية». تدرس الوثيقة تأثير وسائل التواصل المغوية على صغار السن والمراهقين في الاستعمال الخاص، وفي المدارس من خلال التعليم، والتحول التدريجي للبدائع المتزايدة إلى قوانين همُّها تفكيك الأُسَر بحجة الحرية للصغار، وتسهيل مسائل تغيير الجنس بقوة القانون!

تقول الوثيقة إنّ النسْوية feminism كانت تُناضلُ من أجل المساواة والعدالة بين الجنسين باعتبار أنّ الطبيعة الإنسانية واحدة، وينبغي أن يكون المترتب على ذلك في الحياة الإنسانية منصفاً وعادلاً. أما نظرية الجندر (النوع) أو رؤاه فإنها تُلغي اعتبارات الطبيعة، التي تعدّها مصطنعة، وتُطلقُ العنان للتلاعُب بالجسد وبالعقول قبل الجسد. وتستغرب الوثيقة هذه الدعوى الجارفة التي تعبث بالعائلة وهي أساسٌ في إنسانية الإنسان، فتصبح حتى الولادة صناعية ولا تحتاج إلى الزوجين أو الأُسرة وحياة العائلة والتربية والتعليم.

بعد منتصف القرن العشرين، كان الهمُّ والعملُ لدى تنويريي المسلمين على مفهوم المعروف العالمي، وعلى التعارُف والاعتراف بين بني الإنسان، وإقرار التعدديات والخصوصيات الدينية والإثنية من ضمن المشترك الإنساني الذي يقول بالحقّ في الاختلاف من ضمن التنوع في الوحدة. والميول الجديدة توصل إلى التذرُّر لا إلى التعدد. التعدد مفهوم اجتماعياً وسياسياً، لكنه لا يعود مفهوماً عندما يتجاوز إنسانية الإنسان صائراً خارج كلّ عقلٍ ومنطق.

كان الأستاذ هانس كينغ يريد أن تتوصل الأديان إلى التوافق على أخلاقٍ عالمية. لكنّ الديانات ما عادت هي التي تحدد - إذا توافقت - الأخلاق العالمية. فيبقى السؤال: ما هو المعروف أو الفعل الفاضل، وعلى ماذا يحصل التعارف؟

***

د. رضوان السيد

عن صحيفة الشرق الأوسط اللندنية، يوم: 25/ 8/ 2023م

«جولي أو هيلويز الجديدة».. صورة نقية من الحب تُذكرنا بشعرائنا العذريين

صدرت أخيراً سيرة جديدة عن جان جاك روسو، ومؤلفها هو واحد من كبار المختصين بعصر الأنوار، إنه البروفيسور ريمون تروسون، أستاذ الآداب الفرنسية بجامعة بروكسل الحرة، وعضو «الأكاديمية الملكية البلجيكية». كُتُبه عن فلاسفة الأنوار أصبحت مراجع لكل الباحثين شرقاً وغرباً. للأسف ليست مترجمة إلى العربية حتى الآن، على الرغم من عظمتها الأكاديمية وموثوقيتها وأهميتها. متى سيهتم العرب بترجمة الكتب القيّمة التي تُغْني الثقافة العربية فعلاً وتفتح لها الآفاق؟ متى سيُعطونها الأولوية؟

ماذا يقول لنا هذا الأستاذ الجامعي الأكاديمي عن جان جاك روسو؟ إنه يعطينا المعلومة التالية التي لا تُقدَّر بثمن: عندما نشر روسو روايته الشهيرة، المدعوّة باسم «جولي أو هيلويز الجديدة»، اهتزت فرنسا، بل حتى أوروبا كلها، لقد ضرب على الوتر الحساس وأصاب النفس البشرية في أعمق مشاعرها وأقدسها: عاطفة الحب. لقد قدَّم عن الحب صورة مثالية بهيجة لا تضاهَى، وهي تُذكّرنا بشعرائنا العذريين: مجنون ليلى، جميل بثينة، ذي الرمة، ومي... إلخ. نفس النقاء، ونفس الصفاء، ونفس الحب العامر الغامر الذي ينظف القلب والروح، إنها أعظم عاطفة وأقدسها على وجه الأرض.

هل تعلمون أن هذه الرواية طُبعت 72 مرة حتى نهاية القرن الثامن عشر، منذ صدورها عام 1761؟ لو كانت هناك حقوق نشر حقيقية في ذلك العصر، لأصبح جان جاك روسو مليونيراً كبيراً، ولكننا نعلم أنه عاش على حافة الفقر طيلة حياته كلها. لو أن هذه الرواية صدرت في القرن العشرين، أو حتى في القرن التاسع عشر، أيام بلزاك وستندال، لأغنت صاحبها ولأبعدت عنه شبح الفقر إلى الأبد.3609 روسو

ضربة معلم

وحتماً لكانت قد أتاحت له أن يشتري شقة فاخرة في قلب باريس، كما حصل للطاهر بن جلون بعد نيله جائزة الغونكور. ولكننا نعلم أنه عاش مشرَّداً على الطرقات والدروب، كانوا يقرأونها في الشوارع أمام المكتبات العامة ودموعهم تنهمر مدراراً. كتبت له إحداهن: لقد بكيت يا أستاذ، لقد بكيت بحرقة مراراً وتكراراً، أشكرك من كل قلبي. لقد نظفت أعماقي والآن سكنت واسترحت. وكتبت له أخرى: كتابك ينبغي أن يُطبَع بحروف من ذهب. وأما ذلك الشخص الأرستقراطي الذي يُدعى الماركيز دو بولينياك فلم يستطع أن يتحمل موت بطلة القصة «جولي»، فسقط على الأرض مريضاً في فراشه، فطلبوا له الدكتور فوراً! وأما البارون لا ساراز فقد حبس نفسه في غرفته كي لا يسمعوه وهو يشهق بصوت عال ويئنّ ويتوجع... وأما الجنرال تيبولت فعندما وصل إلى مشارف نهاية القصة، لم يعد يبكي فحسب، وإنما أخذ يصرخ بأعلى صوته وينتحب كالمجنون. وكتب له أحد الشباب: كنت على شفا الهاوية، يا أستاذ، لقد أنقذتني، لقد شفيتني، لقد عالجتني، إنني أقدِّس شخصك وكتاباتك السامية. وهكذا تحوَّل روسو إلى قديس علماني يحل محل القديس المسيحي السابق. لقد ألف رواية تشبه «إنجيل القلوب».

هذا ما فعلته رواية روسو في أشخاص ذلك الزمان، لقد فعلت فعلها. هنا تكمن عظمة الأدب. الأدب علاج للروح الظمأى، للروح العطشى إلى المطلق: مطلق الحب والوجود. لقد نظّف روسو العصر كله بهذه الرواية، لقد طهّر قلوب الملايين، لقد علَّمهم معنى الحب والفضيلة والقيم النبيلة السامية التي تتعالى على الماديات. ولم تكن رواية عن الحب فحسب، وإنما عالج فيها أيضاً مسائل أخلاقية واجتماعية وسياسية، بل حتى دينية. كانت كل ذلك دفعة واحدة. و«بضربة معلم» صهر كل ذلك مع بعضه البعض، وقدَّم للعصر كله روايته الخالدة. هنا تكمن عبقرية جان جاك روسو (هل نعلم أنه عاش حياته كلها مع امرأة لا يحبها ولكن يشفق عليها إنسانياً ومادياً ويحترمها؟ وهل نعلم أنه أحب امرأة حباً صاعقاً بالضربة القاضية ولكنه لم يعش معها يوماً واحداً بل لم يلمسها...).

الملاحقات الضاريات

ولكن هل تعلمون ماذا حصل له بعدئذ؟ هل تعتقدون أنهم كافأوه على هذه الإبداعات العبقرية؟ العكس هو الصحيح، فبعد أن نشر هذه الرواية، نشر كتابين أساسيين سوف يدشنان الحداثة الدينية والفكرية والسياسية في كل أنحاء أوروبا هما: «إميل أو في التربية»، و«العقد الاجتماعي». وعلى أثرهما أصدرت السلطات الفرنسية الأوامر بتمزيق الكتابين وحرقهما أمام القصر العدلي. كما أصدرت الأوامر بالقبض على الكاتب فوراً وإيداعه سجن الباستيل الرهيب. ولولا أن بعض المعجبين الكبار به أبلغوه بالقرار قبيل تنفيذه بساعات قلائل، لكان قد حصل ما لا تُحمَد عقباه. قال له الماريشال دو لوكسمبورغ، أحد عظماء ذلك الزمان بعد الملك مباشرة: أمامك 24 ساعة لكي تضب أغراضك وتهرب، وإلا فسوف تحصل الكارثة. ارحل فوراً! وعندئذ هرب على وجه السرعة. وعندما وصل إلى الحدود السويسرية، انبطح على الأرض وقال: أقبل هذه الأرض، أرض الحرية! ومعلوم أنه سويسري الأصل وليس فرنسياً، على عكس ما قد نتوهّم؛ لأنه عاش معظم حياته في فرنسا، ولكن حتى هناك لم يتركوه مرتاحاً؛ لأن أفكاره الجريئة عن الدين المسيحي لم ترُقهم، فقد شكّك ببعض العقائد الأصولية الشعبوية الأكثر رسوخاً، وقال إن الدين هو المعاملة الأخلاقية: فإذا كنت شخصاً أخلاقياً مستقيماً في تعاملك مع الآخرين، فأنت أعظم مؤمن، سواء مارست الطقوس والشعائر الدينية أم لم تمارسها على الإطلاق. وقال إن المفهوم الطائفي والمذهبي للدين انتهى أو ينبغي أن ينتهي؛ لأنه كلّف أوروبا ملايين الضحايا، فالدين الحقيقي غير الطائفية، والطائفية غير الدين. وهكذا صدم في الصميم العقائد الأصولية الراسخة، وقدَّم عن الدين المسيحي صورة عقلانية مستنيرة تليق بروح الأزمنة الحديثة، ولذلك احمرّت عليه الأعين، ولم يغفر له الأصوليون والإخوان المسيحيون هذه الأفكار الهدّامة للتراث و«ثوابت الأمة»! ولذلك حقدوا عليه وعلى مؤلفاته حقداً شديداً، لهذا السبب جمعوا نسخ الكتاب ومزّقوها وأحرقوها في بيرن وجنيف، وليس فقط في باريس، وأحرقوها أيضاً في عواصم أوروبية أخرى.

ستون جهة كانت تلاحقه دفعة واحدة، كلما انتهى من جهة أمسكت به جهة أخرى، وراحت تُعمل به فعساً وتنكيلاً حتى أحرقوا أنفاسه، كانوا يلاحقونه على لقمة عيشه بشكل خاص؛ لأنهم لم يستطيعوا قتله. كان ذلك على طريقة قطع الأرزاق أو قطع الأعناق. لم يستطع أحد تحمل أفكاره الجريئة أكثر من اللزوم عن الدين، ما عدا فولتير الذي حيّاه من بعيد، على الرغم من أنه كان عدوه اللدود، كان منافسه الأكبر على عرش الآداب الفرنسية.

ومع ذلك فقد صرح بما معناه: أبيع الدنيا كلها بتلك الصفحات القليلة الرائعة التي دمّرت فيها الفهم الأصولي والطائفي والظلامي للدين المسيحي. ولكن هذا فولتير! هذا ليس تلك الجماهير الغفيرة التي تتبع الأصوليين بالملايين كالقطعان أو الخرفان. ابحثوا عن «الربيع العربي» والقرضاوي وإردوغان وبقية الإخوان! حقاً لقد جاء جان جاك روسو قبل الأوان، كما يحصل للرواد الكبار، ولذلك أقضُّوا مضجعه وهدَّدوه ولاحقوه من مدينة إلى مدينة، ومن قرية إلى قرية، ومن الجبال إلى الوديان، حتى هرب إلى إنجلترا في نهاية المطاف.

لكن أفكاره الجريئة عن الدين انتصرت بعد موته بعشر سنوات فقط، وكان يعرف أنها سوف تنتصر. وعندئذ انتقلت أوروبا من عصر الظلمات إلى عصر الأنوار. ولم يعد فيها طائفية ولا مذهبية ولا ذبح على الهوية. لقد احترق جان جاك روسو لكي يضيء للآخرين الطريق.

***

د. هاشم صالح – مفكر

عن صحيفة الشرق الأوسط اللندنية يوم: 21 أغسطس 2023 م ـ 05 صفَر 1445هـ

كيف لـ "عربي مسيحي" أن يكون إسلامويّاً؟

 إذا كان طه عبد الرحمن وأبو يعرب المرزوقي مُسْلِمان سُنّيان تقليديان ينتميان ـ عائليا/ أسريّا ومناطقيا ـ إلى فضاء تقليدي مُتديّن/ محافظ، بحيث لا يُسْتغرب منهما أن يُوظِّفا كل ما يستطيعان من أدوات المعرفة/ العلم لتأكيد عقائدهما المُسبقة، ولترسيخ التقليد الأخلاقي الذي نشأ عليه، ولاستحضار التاريخ/ التراث بحقائقه وأوهامه من أجل "استئناف صورة وهمية عن الذات في الماضي"؛ لتصنع "مجداً مَوْهوما" في الحاضر(وهذا يستلزم الدعم الصريح أو الضمني للأصولية التي تأخذ على عاتقها ـ حركيا ـ استرجاع "مجد الإسلام")، أقول: إذا كان الطرح الأيديولوجي (ما يزعمانه علما) لهذين المُسْلمين التقليديين مفهوما؛ فكيف نفهم المسلك الأيديولوجي المماثل الصادر عن "عربي مسيحي" يعيش في الغرب، ويتواصل واقعيا وثقافيا مع الغرب الحداثي في أرقى نماذجه حضورا وفاعلية ؟ كيف لـ"عربي مسيحي" أن يكون إسلامويّاً كأشد ما تكون الإسلاموية محافظة وانغلاقا وعداءً للآخر، وتوجسا منه؟

ما أراه ـ لتفسير هذه المفارقة ـ أن "الإسلاموية" هنا مُتَضَمَّنَة في "العروبوية" على نحو غير معلن، وربما غير مقصود على مستوى الوعي المباشر. لكن، حتى يتضح لك التضمين لا بد أن تتجاوز الصورة النمطية السطحية عن العداء أو التنافر بين العروبي والإسلامي، التنافر الذي كان ذا ملامح واضحة، معلنة في وقت من الأوقات؛ جرّاء دوافع سياسية؛ ينقضها ـ في العمق ـ المهاد الثقافي المشرك؛ لتكون عداء وتنافرا حقيقيا. فكلا الأيديولوجتين: العروبوية والإسلاموية هما أصوليّتان مُتعاضِدَتان مُتَخادِمتان ـ عن قصد وعن غير قصد ـ، بل ومتزاوجتان على مستوى البنية العامة للتصورات الكبرى/ الوعي (لمزيد من التفصيل في هذا، يمكن للقارئ أن يُراجع مقالي الذي نشرتُه على هذه المنصة الإعلامية في 2/7/2018 بعنوان: وحدة الوعي الأصولي: الديني والقومي).

إذن، مسيحية وائل حلاق، وهي عقيدته التي تفصله عن الإسلام كعقيدة تعبّدية، لا تفصله عن الإسلام كانتماء قومي. ليس الأمر فقط متعلقا بشعور معظم الأقليات العربية غير المسلمة أنها تنتمي ـ حضاريا/ ثقافيا ـ إلى الإسلام؛ بقدر ما هو متعلق بانتماء أشدّ جذرية وحسما، أي بالانتماء إلى وحدة وعي مشترك بين الوعي العروبي والوعي الإسلامي، بما يتجاوز ـ في هذه الحال ـ تحوّل الإسلام إلى دين قومي (فحلاق مثلا يشمل بتمجيده التاريخَ الإسلامي كله، حتى ما يقع منه خارج النطاق العربي)، وبما يتجاوز تحوّل العروبة إلى روح الإسلام ومادته الخام(وهنا أيضا، تركيز حلاق على التميّز/ الإنجاز الإسلامي، وليس العربي على سبيل التجريد والتخصيص).

يؤمن حلاّق ـ وبصرف النظر عن دوافع هذا الإيمان ! ـ أن الغرب في أعلى صُورِ تطوّره: منحط/ غير أخلاقي، وبالتالي، غير حضاري، بل ولا يَعِد مستقبلا بما هو حضاري؛ من حيث هو لا يعد ـ وفق تشكله الحداثي ـ بما هو أخلاقي، بل ولا بما هو قابل للاستمرار/ النجاح. وفي المقابل يؤمن بالعكس تماما لما هو إسلامي/ إسلاموي، فالتاريخ/ التراث الإسلامي نجح نجاحا باهرا في القديم، ولديه الإمكانيات الاستثنائية لاستئناف هذا النجاح في الحاضر والمستقبل. يقول حلاّق في مقدمة كتابه (السلطة المذهبية: التقليد والتجديد في الفقه الإسلامي، ص11): "وإذا كان التفوق الحضاري والتشريعي الغربي المزعوم ـ بكل مرونته وقدرته على التغيير و "التقدم" ـ قد فشل فشلا ذريعا في الماضي والحاضر، فهل يستمر المسلمون باستهلاك الخطاب الغربي المعرفي ؟ وإلى متى؟".

هكذا، في هجاء صريح للغرب؛ يستبطن الضد منه: المديح للتاريخ التشريعي/ الحضاري للمسلمين، وكل ذلك في "لغة قطبية"، تدعو للعزلة المعرفية صراحة. فوصف الحضارة الغربية بالفشل الذريع في الماضي والحاضر، ثم تنصيص "التقدم"؛ كإشارة إلى نفي هذه الصفة عن الغرب، لا يعكس أكثر من أزمة نفسية عاصفة، تطفح على لغة التنظير "العلمي"؛ في الوقت الذي تشكّل فيه الخيط الناظم كل هذ البحث والتنظير الأكاديمي.

إن هذا الهجاء الأيديولوجي للغرب، والذي يصل حد إنكار الوقائع الثابتة التي يعيشها العالم على مستويات كثيرة يصعب حصرها (أخلاقية، وتنظيمية، وفكرية، وعلمية/ تقنية...) يقابله ما يشبه تجميل التاريخ/ التراث الإسلامي بتزييف حقائقه التي يعرفها كل مُطلّع على هذا التاريخ/ التراث.

يقول حلاق عن استقلال القضاء في التاريخ الإسلامي ـ وهو "الاستقلال المُتخيّل" ! ـ: "إلا أن تدخل الخلفاء أو من ينوبهم في مجريات القضاء ـ رغم ندرة ذلك ـ كثيرا ما كان يتم من خلال القنوات الفقهية الرسمية المقبولة".

ويقول: "لقد كان الخلفاء ومن ينوبهم عموما يُذْعنون للشرع". ويقول ـ على سبيل التعبير الإسلاموي الدعوي ـ : "وعلى الإجمال إذا كانت هناك أية ثقافة فقهية وسياسية تعود إلى عصور ما قبل الحديثة وحافظت على مبدأ سلطة الشرع وسيادته حفاظا جيدا، فإنما هي ثقافة الإسلام" (نشأة الفقه الإسلامي وتطوره، وائل حلاق، ص260و263و263).  

مَن يتأمل مثل هذه "الهجائيات"/ "الفخريات" في تلافيف التنظير الناطق بلسان "العلم"؛ يعرف أن وراء هذا "العلم" الذي يرفعه حلاّق كشعار موضوعي، هَمٌّ أيديولوجي كبير؛ كما هو الحال مع صاحبيه المُتَفَلسِفَين (المرزوقي وطه عبدالرحمن). العلم هنا لا يُخدَم لوج الحقيقة، وإنما يُسْتَخدم لوجه الأيديولوجيا، العلم هنا ليس غاية حتى في حدوده كعلم، وإنما هو وسيلة دعائية لـ"رد الاعتبار القومي" الذي تراه الذات الجريحة يستحق كل هذا العناء.

إحساس حلاّق بـ"المظلومية القوميّة" إحساس حاد جدا، بل مرضي. ومن حيث هو على هذا المستوى من الحدة/ المرض، فهو يستقطب الأوهام في مسار بحثه عن الحقائق. في سياق هذه المظلومية التي مصدرها الغرب تحديدا، يصبح الغرب مصدر عدوان متنوّع متتابع، وهذا التنوع يتضافر ليُضَاعف مستوى العدوان وليُعَمّقه بصورة أكبر، بصورة مؤلمة ومهينة وغير قابلة للتغيير إلا من طرف الذات.

وفق منطق حلاّق؛ لا شيء ـ في مسار هذه المظلومية ـ يتغيّر للأفضل، للأكثر تسالما وتصالحا؛ "فالاستشراق مازال وجها من وجوه الاحتلال الاستيطاني (أو ما يسمى خطأ بالاستعمار) وما زال هذا الوجه يتمحور ليعضد الهيمنة الغربية، حتى صار كالسرطان المعرفي الخبيث" (السلطة المذهبية: التقليد والتجديد في الفقه الإسلامي، وائل حلاق، مقدمة حلاق للترجمة العربية، ص9و10).

هكذا يتضح أنه لم يكن الدافع الأساس لما كتبه ويكتبه حلاق (وهو أيضا واقع الحال مع المرزوقي وطه عبد الرحمن) علاقة بالعلم؛ من حيث هو "علم"؛ بل هي أيديولوجيا مأزومة؛ جوهر تأزمها ـ وإن اختلفت تمظهراته ـ كامن في طبيعة العلاقة مع الآخر/ الغرب تحديدا؛ خاصة عندما تصادمت وتخاصمت هذه الذات مع آخرها على المستوى المادي والمعنوي، في لحظة اندحار/ كسوف حضاري للذات؛ اندحار بات يُعمّق من مستوى مأساويته ما يقابله من إبهار حضاري ـ غير مسبوق تاريخيا ـ للآخر؛ إلى درجة يكون فيها هذا التقابل تقابلا بين عالمين غير قابلين للتواصل المتكافئ، بحيث يمكن الحديث حقا عن تقابل ـ أو حتى تصادم ـ حضارات.

هذا الإحساس المروع بالفراغ الحضاري الذي ينفتح على إحساس مهين الهامشية، هو ما يرسم حدود الأزمة/ التأزم. ولعل ما يزيد من مستوى غليان هذا التأزم بحق حلاق تحديدا، وبالتالي؛ من شدة تعقّده من ناحية، وشدة الإحساس المرضي به من ناحية أخرى، أن صاحبه وجد نفسه حاضرا في السياق الغربي؛ بوصفه شريكا/ مشاركا في السياق نفسه من جهة، ومن جهة ثانية، مُوَازية؛ حضر بوصفه ابن الثقافة الأخرى التي تُشَكّل هويته المفارقة، والتي تقع ـ بالنسبة للسياق الغربي ـ على هامش الهامش. أي حضر ليجد نفسه ـ في منطوق الصوت المضمر ـ محل ازدراء ثقافي من جهة الانتماء الهُويّاتي؛ في ذات السياق الذي يتألق فيه كباحث متألق يحظى بكثير من التقدير والاحترام.

والمقصود أن حلاق في هذا الصدام المباشر مع ثقافة/ حضارة الغرب، بل ومع الفضاء المعرفي الذي يتموضع فيه ـ من جهة كونه فضاء معرفيا غربيا ـ يحاول التأسيس لِنِدّية مع أقرانه في هذا الفضاء الفكري/ الثقافي الغربي؛ من جهة كونه ـ في الأصل ـ مهاجرا عربيا يتمثّل الغربُ ثقافته الأصلية كثقافة بدائية/ جامدة/ منقرضة، ثقافة عربية تنتمي إلى الإسلام الذي بات يُواجِه تهمة الإرهاب، فضلا عن تهمة الجمود الحضاري المنتهي بعداء/ رفض الحضارة المعاصرة. ما يعني أن حلاّق يواجه تهميشا/ ازدراء/ اتهاما مضاعفا؛ ابتداء، من حيث: هامشيّة الثقافة العربية/ ثقافته الأصلية (كعربي غير مسلم)، وتَثْنيةً، من حيث: انغلاق وجمود وعنف الثقافة التي تنتمي إليها ثقافته/ هويته العربية على نحو أصيل: تراث الإسلام.

طبعا، يعي حلاق أنه لو اكتفى باستحضار أمجاد التاريخ العربي مُجرّدة من أمجاد تاريخ/ تراث الإسلام (وهذا المتوقع/ المفترض ـ مبدئيا ـ لكونه عربيا غير مسلم)، فلن يظفر بشيء ذي بال، خاصة وهو يريد مُنَافَرَة الغرب (مع كل ما لهذا الغرب من عنفوان حضاري كاسح مُتَعَملق في مدى سبعة قرون من الإبداع المتتابع)، بأمجاد أمته ذات الإرث الإمبراطوري الذي يقف فيه "المُكَوِّنُ العربيُّ المُجرَّد من الإسلام"؛ هامشيا، لا يستطيع أن يصمد ولو لمنافرة جماعة/ أمّة بدائية؛ فكيف بمنافرة أعظم الحضارات. هنا، يدرك حلاّق أن لا شيء يخدم مُنَافرته الأيديولوجية سوى الإسلام تاريخا وتراثا؛ فيبادر إلى توظيفه بعد أن يبذل قصارى جهده في إجراء "عمليات التجميل".  

هكذا نرى كيف تتحوّل "البحوث العلمية" إلى "مُنَافرة تفاخريّة" في دوافعها وفي غاياتها. وإذا كانت كذلك في الدوافع وفي الغايات، فهي ـ في جوهر الخطاب ـ ليست أكثر من ذلك. لكن إذا كانت مجرد "تظاهرة فخر ذاتي" في سياق استهدافها التلقي الغربي، فإنها لن تكون كذلك فحسب؛ في سياق التلقي العربي/ الإسلامي لها. ففي هذا السياق العربي/ الإسلامي ستتجاوز حدود "نشوة التفاخر"؛ لتكون من أهم دعائم السلفيات الأصولية المتطرفة، في شقيها: الديني والقومي.

وللأسف، يبدو أن حلاق لا يخفى عليه هذا الأثر السلبي (الذي يبدو أنه يراه إيجابيا !) لكتاباته، خاصة دورها في دعم التصورات الأصولية الانغلاقية/ الانكفائة. فمن يقرأ مُقدّماته للترجمة العربية لكتبه (وهي المقدمات المُوجَّهة للقارئ العربي حصرا)، يلاحظ إلحاحه الشديد في كل هذه المقدمات ـ وفيما يشبه الاعتذار الذي يستجدي عفوا ! ـ على إيضاح أن مؤلفاته موجهة أصالة للجمهور الأكاديمي في الغرب. وكأن المطلوب من القارئ العربي أن يقنع بهذا المستوى من المرافعة التفاخرية، ولا يعتب عليه في بعض "الهفوات" التي قد يبدو بسببها كما لو لم يكن أصوليا تماما، أي أصوليا يتوافق مع الخط الأصولي: الديني والقومي، الرائج في العالم العربي؛ لأن طبيعة التلقي الأكاديمي في الغرب اضطرته لأن يراوغ قليلا؛ ويمارس ـ أسلوبا ومضمونا ـ بعض ما قد لا يروق للمتلقي العربي/ المسلم.

هنا نقع على ازدواجية نسبية في لغة/ مضمون الخطاب. وهذا ليس غريبا في السياق الثقافي العربي/ الإسلامي، فزعماء/ قادة القومية العربية، كما هم أيضا قادة الأصولية الحركية الإسلاموية، هؤلاء وهؤلاء (وهم المعبرون عن نمط الوعي الكلي) طالما كان دأبهم التوفّر على خطابين: خطاب لجماهيرهم في الداخل، وخطاب للآخر، وخاصة الغرب الذي يُحْرجهم ببعض إلزاماته الثقافية/ القيمية/ السياسية. وحلاّق ـ من حيث هو مُفَكّر في  ثوب سياسي ـ ليس إلا ابْناً وَفيّا لهؤلاء وهؤلاء، الذين طالما استهانوا بعقول الجماهير، وراهنوا على حبها للشعارات التفاخرية التي تضرب على أوتار عواطفها، وفي الوقت نفسه، على كراهيتها للعلم والحياد الموضوعي والتوق لمعرفة حقائق الأشياء !

***

محمد المحمود

عن موقع الحرة ليوم: 21 ديسمبر 2020

ليس مطروحاً على المستوى نفسه عند كل البشر

من دون شك؛ سؤال معنى الحياة يشغل كل إنسان واعٍ بدرجات مختلفة ومتفاوتة وانطلاقاً من خلفيات ثقافية متعددة. ولكن هذا السؤال يحمل وجهين: الوجه الأول يتعلق بمعنى الحياة عموماً، ويطال كل الكائنات الحية، فيما الوجه الثاني يختص بحياة الفرد البشري؛ بحيث إن كل فرد منا يحاول ويريد أن يفهم معنى الحياة عموماً، ولماذا يجب عليه أن يحيا، وما الغاية من حياته بصفته فرداً، وما معنى نجاحه في تحقيق مشروع حياته في هذا العالم الواسع المتعدد الأبعاد... ولكن المسألة الأساسية هنا تكمن في المعايير الثقافية التي تحكم فهم الأفراد معنى الحياة بشكل عام، وإعطاء كل فرد معنى لحياته الخاصة، مقابل معنى الحياة في المجتمع.

هذا يعني أن معنى الحياة يختلف باختلاف الثقافات البشرية. ومن دون شك، فإن هذه المسألة تبقى راهنة وتشغل وترافق كل مراحل المجتمعات عبر الإنتاج الثقافي والإعلامي، وهذا ظهر من خلال الموضوع الذي نشرته المجلة الفرنسية «Question de philo (سؤال في الفلسفة)» بوصفه ملفاً أساسياً في عددها الصادر خلال صيف 2023، تحت عنوان «إعطاء حياتنا معنى». ويبدأ عرض الملف بشرح تعبير «معنى الحياة»، فيقول إنه يشير إلى تساؤل البشر حول مصدر وطبيعة وغاية الوجود، مع العلم بأن هذا المعنى شكّل موضوع تأمل لكثير من الفلاسفة وعلماء النفس والاجتماع.

ومع ذلك، فقد أصبح هذا الموضوع موضع تساؤل الأفراد حول وجودهم في الحياة، في حين أن البعض الآخر راح يعدّ أن الوجود في هذه الحياة بدأ يفقد معناه. إذن؛ حول مسألة معنى الحياة انقسمت البشرية على الأقل إلى اتجاهين؛ الاتجاه الأول تمثّل في الملحدين، فيما الاتجاه الثاني تمثل في المؤمنين. ومن المعروف أن الملحدين لا يدّعون معرفة ماذا كان يوجد قبل ظهور الكون ولا من أين أتت الطاقة والمادة اللتان يتكون منهما هذا الكون. كما لا يدّعون الإيمان بعقيدة مسبقة يمكن أن تعطي معنىً ثابتاً للحياة، بل على العكس من ذلك؛ هناك من يعتقد أن معنى الحياة (حياتنا) يجب أن نحققه يومياً، وهناك من يعدّ أنه يجب ببساطة أخذ الجانب الأفضل والمناسب من الحياة من دون إضاعة الوقت في البحث عن معناها الميتافيزيقي. على سبيل المثال؛ بالنسبة إلى الفيلسوف الوجودي جان بول سارتر، ليس للحياة معنى مفارق، ولكن الوجود وحده يثبت معنى الأشياء، وهذا يترجم مبدأ الفلسفة الوجودية القائل: الوجود يسبق الماهية.

ووفق الفيلسوف الألماني نيتشه؛ بما أنه ليس هناك مخطط مسبق في مصدر الأشياء، فهذا يعني أنه لا معنى لأي شيء في المطلق. إذن؛ ما علينا فعله فقط هو أن نعيش وأن نتمتع بالحياة من دون الغرق في التساؤل العقيم حول واقع افتراضي. أما بالنسبة إلى المؤمنين بالأديان التوحيدية، فليس من الضروري البحث عن معنى للحياة، وذلك لأن الله هو الذي يهب ذا المعنى. وحول هذا الموقف يقول فيتغنشتاين: «إن الإيمان بالله يعني أن الحياة لها معنى واعتبار أن وقائع العالم ليست هي الكلمة الفصل أو الأخيرة». إن الإيمان بالله يعني اعتبار أن للحياة معنى. وبالنسبة إلى البعض، فإن التساؤل عن معنى الحياة يمكن أن يكون محاولة للتخفيف من حدّة السؤال المقلق: «ما معنى حياتي؟».

وقد يمكننا تصنيف الإجابات عن هذا السؤال باتجاهين عريضين: الاتجاه الأول ديني وميتافيزيقي يعدّ أن معنى الحياة يكمن في مبدأ ما وراء العالم الفيزيقي؛ يمكن أن يكون الله. إذن؛ كل أفعالنا تأخذ معناها نسبة إلى حكم يمكن أن يكون بعد الموت أو في أي لحظة في الحياة، ويحدد نوعية الحياة بعد الموت والحياة الأبدية أو التناسخ أو التقمص. أما الاتجاه الثاني فيتمثل في أنصار المذهب الطبيعي وفي الماديين وأصحاب نظرية الفيض. وهنا يمكن أن نجد تفسيرات كثيرة ممكنة: إن معنى الحياة الفردية يعود فقط إلى النوع، يعني إلى إعادة التناسل، والباقي هو مجرد وهم. وفي الأساس؛ الحياة لا تتمتع بأي معنى؛ أي إنها عبث. وبالتالي؛ فإن محدودية الإنسان تبقى جذرية؛ لأن الموت هو نهاية كل شيء وإعدام للشخص ولمعنى حياته. ولكنه يمكن أن يقترب من غائية نسبية. وأيضاً يمكننا اعتبار أنه يعود إلى الأفراد أن يبنوا جماعياً معنى لحياتهم. ولكن الفيلسوف الفرنسي موريس بلونديل وضع جسراً بين التصورين السابقين للعالم مستعرضاً الفضائل التي يجدها في العمل بالمعنى الواسع: «الربط بين التلازم وبين المفارقة».

ولكن هل مسألة معنى الحياة مطروحة على المستوى نفسه عند كل البشر؟ وهل يتم طرح مسألة المعنى انطلاقاً من حياة الفرد أو من معنى الحياة بذاتها؟ في الواقع، هناك أناس نصادفهم فنجدهم غير آبهين بأي معنى لحياتهم ولا للحياة عموماً. وهذا ينطبق على حالات اجتماعية مختلفة؛ مثل الأم التي فقدت ابنها الوحيد، أو الزوجة التي فقدت زوجها في الحرب، أو التي فشلت في حياتها الزوجية، أو الشاب الذي فشل في تحقيق أحلام عائلته، أو الأب الذي ضحّى في سبيل عائلته من دون أن يحصل على نتيجة ترضيه. في هذه الحالات يمكننا القول: «الحياة لم تعد تستحق العيش». إن علماء النفس يتفقون على أن الطريقة الوحيدة لإخراج هؤلاء البشر من حالاتهم تكمن في كسر حلقة العزلة التي وضعوا أنفسهم فيها. باختصار؛ سواء آمن الفرد بالله أم لم يؤمن، فسوف يجد شفاءه في الحب. أما السبيل الآخر لمساعدة هؤلاء الأشخاص المجروحين والمتوحدين فيكمن في مساعدتهم على العمل عبر مجموعات للتواصل والحديث، أو عبر جلسات علاج شخصية، وهذا ما يجعلهم يدركون أنهم ليسوا وحيدين، وهذا ما يساعدهم في الخروج من عزلتهم ويصبحون قادرين على مساعدة غيرهم.

إذن؛ عندما تبدو الحياة للإنسان من دون معنى، فسوف يجد نفسه يلجأ إلى الإيمان بالله، والإيمان بالآخرين، وبنفسه، وهذا ما يسمح له بالشعور من جديد بأنه كائن حي، وقد يكون متألماً، ولكنه يبقى حيّاً.

في الختام؛ قد يمكننا القول إن معنى حياتنا يتأثر بمعايير وموازين الثقافة المسيطرة في مجتمعنا. وقد يحدث أن يكون معنى الحياة متعدداً ضمن المجتمع أو الوطن الواحد، متأثراً بالتعددية الثقافية وبالخلفيات الدينية والمذهبية، كما يحدث في البلد الصغير لبنان؛ المتكون من طوائف ومذاهب مختلفة لكل منها ثقافته الاجتماعية، حتى وصل الأمر بالبعض إلى المطالبة بإقامة نظام فيدرالي حيث يتمتع كل فريق بمعنى الحياة الذي يتلاءم مع ثقافته الدينية والاجتماعية والسياسية والقومية. في الواقع، إذا نظرنا إلى المجتمعات المعاصرة، فسنرى بوضوح الفرق بينها في موضوع المعنى الذي تعطيه للحياة ولطريقة عيش هذه الحياة. وهذا يعود بشكل أساسي إلى تعدد الثقافات في المجتمع الواحد وفي المجتمعات المختلفة المتوزعة بين الشرق والغرب. وبالتالي؛ يمكننا القول إن معنى الحياة يصبح متعدداً من خلال موازين القيم الثقافية المسيطرة في المجتمعات البشرية.

***

د. حسن منصور الحاج

عن صحيفة الشرق الأوسط اللندنية، يوم: نُشر: 14 أغسطس 2023 م ـ 28 مُحرَّم 1445 هـ

الفيلسوف السويسري يهاجم الغرب والعولمة الرأسمالية

يعد جان زيغلير (المولود عام 1934) أحد المفكرين ذوي الضمائر الكبرى في عصرنا. وهو فيلسوف ومسؤول سياسي ونائب سويسري في آن معاً. كما أنه موظف عالمي كبير لأنه كان مقرر الأمم المتحدة لشؤون التغذية في العالم لمدة ثماني سنوات (2000-2008). وهو الآن نائب رئيس اللجنة الاستشارية لمجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة. وكان قد نشر سابقاً عدة كتب لافتة للانتباه. نذكر من بينها: «الكتاب الأسود للرأسمالية»، «الجوع في العالم مشروحاً لابني»، «أسياد العالم الجدد وأولئك الذين يقاومونهم»، «إمبراطورية العار» (أي إمبراطورية الرأسمالية الغربية والشركات المتعددة الجنسيات والعابرة للقارات التي تجوع سكان الجنوب وترهق دولهم بالديون وتركعهم تركيعاً)، و«حق الإنسان في التغذية»، و«لماذا يكره الآخرون الغرب؟»، و«أسلحة الدمار الشامل: جغرافية الجوع في العالم»، ثم «الرأسمالية مشروحة لطفلتي الصغيرة»، إلخ... مجموعة كتب أساسية تفضح حقيقة الرأسمالية المتوحشة وتشرح خريطة الجوع المجرم الذي يفتك بالعالم حالياً.

يقول لنا المؤلف إن هناك نظريتين متعاكستين عن الرأسمالية: نظرية المؤرخ الهولندي الشهير روتجير بريغمان ونظريته هو. فالمؤرخ الهولندي يدافع عن الرأسمالية قائلاً ما معناه: طيلة 99 بالمائة من تاريخ العالم كان 99 بالمائة من البشر فقراء مدقعين، جائعين، وسخين، أغبياء، قبيحين، مريضين... ولكن كل شيء تغير خلال القرنين الماضيين مع صعود الرأسمالية. فقد أصبح عدة مليارات من البشر بفضلها أغنياء، مرفهين طعاماً وملبساً، نظيفين، آمنين، وأحياناً جميلين!.. بل وحتى أولئك الذين ندعوهم بالفقراء أصبحوا يأكلون ويشربون ما يسد الرمق وما عادوا يموتون جوعاً. وهذا يعني أن النظام الرأسمالي هو أفضل نظام اقتصادي عرفه تاريخ العالم. لم يؤمن للبشرية فقط رفاهية العيش وإنما أمن لها أيضاً الحرية والليبرالية.

كم هو عدد الذين يموتون جوعاً في العالم حالياً؟

لكن جان زيغلير يرد عليه قائلاً: هذه النظرية خاطئة تماماً، وذلك لأن العكس هو الذي حصل في ظل الرأسمالية. وأنا أقول بأن النظام الرأسمالي مسؤول عن جرائم لا حصر لها ولا عد. ففي كل خمس ثوان يموت طفل ما قبل العاشرة من الجوع. قلت كل خمس ثوان وليس كل خمس دقائق أو خمس ساعات. كل عام يموت ثلاثة ملايين ونصف المليون طفل جوعاً، أي بمعدل عشرة آلاف كل يوم. وكل أربع دقائق يعمى شخص ما بسبب انعدام فيتامين أ. وكل عام يموت ثلاثون مليون شخص من الجوع. ومئات الملايين الآخرين يعيشون على حافة الجوع: أي يعانون من سوء التغذية وقلتها. وكل ذلك يحصل في وقت لم تكن فيه البشرية مكتظة بالثروات مثلما هي عليه اليوم. هنا تكمن جريمة الرأسمالية الغربية أو العولمة الرأسمالية سمها ما شئت. فالمنظمة العالمية للتغذية قالت لنا بالحرف الواحد: ثروات العالم تستطيع حالياً أن تطعم 12 مليار شخص بكل سهولة. وبما أن عدد سكان العالم حالياً أقل من 8 مليارات آدمي فنحن نطرح على قادة العولمة الرأسمالية والشركات المتعددة الجنسيات والعابرة للقارات السؤال التالي: لماذا تموت الملايين جوعاً، بخاصة في بلدان الجنوب؟ من المسؤول عن هذه الجريمة النكراء؟ لهذا السبب رفعنا الشعارات التالية: الجوع هو أكبر فضيحة في عصرنا. الجوع هو أحد أسلحة الدمار الشامل الكبرى التي لا يتحدث عنها أحد. الجوع جريمة ضد الإنسانية. والمسؤول عنها هو نظام العولمة الرأسمالية الذي يتحكم بالعالم حالياً. وقادة العالم حالياً هم رؤساء الشركات الكبرى المتعددة الجنسيات والعابرة للقارات. وهم أشخاص لا هم لهم إلا تراكم الأرباح والرساميل في جيوبهم. ولهم ممثلون مرتزقة يعششون في أوساط منظمة التجارة العالمية، والبنك الدولي، وصندوق النقد الدولي. وأنا كشفتهم شخصياً وفضحتهم وأعرفهم بالاسم بحكم تجربتي وموقعي في الأمم المتحدة.

ثم يضيف الفيلسوف السويسري الشهير قائلاً: ينبغي أن يعلم الجميع الحقيقة التالية: هناك أكثر من 8 مليارات شخص على وجه الأرض حالياً: ثلثاهم يعيشون في بلدان الجنوب الفقيرة عموماً قياساً إلى بلدان الشمال الأوروبي – الأميركي المكتظة بالثروات الفاحشة. هناك حوالي الـ5 مليارات شخص يعيشون هناك في الجنوب. من بينهم يعيش مئات الملايين تحت خط الفقر المدقع. إنهم يعيشون في ظروف مرعبة لا تليق حتى بالبهائم. الأمهات خائفات يومياً من عدم القدرة على طبخ أي شيء لأطفالهن. إحدى الأمهات في دولة فقيرة كانت تطبخ البحص وتعلل أطفالها به ساعة بعد ساعة وهي تبكي! وهم ينتظرون الطعام ولا يعرفون أنها تطبخ البحص! وهي تراهن على أنهم سوف ينعسون وينامون في نهاية المطاف. ولكن كيف ينام من هو يتضور جوعاً؟ الجوع كافر. هذه أشياء ينبغي أن تقال حتى ولو كانت تمزقك من الداخل تمزيقاً. شكراً للبروفيسور جان زيغلير وألف شكر. إنه حفيد جان جاك روسو حتماً. وهو على أي حال سويسري مثله. وأما الرجال أو الآباء فلا يجدون عملاً. ولذلك يشعرون بالخجل أمام زوجاتهم وأطفالهم. يشعرون بالخجل والعار لأنهم في حالة بطالة دائمة. يشعرون بأنهم فقدوا كل قيمتهم كرجال...

الخلاصة: لقد خلقت الرأسمالية نظاماً حيوانياً مفترساً آكلاً للحوم البشر. فالثروة من حظ سكان الشمال أو أغلبيتهم، وأما البؤس المدقع القاتل فمن حظ الأكثرية العائشة في بلدان الجنوب إلا من رحم ربك..

مدح الرأسمالية بعد ذمها!

على الرغم من كل هذه الحملة الشرسة على الرأسمالية إلا أن فيلسوفنا السويسري يعترف لها بميزة واحدة: وهي أن نظام الإنتاج الرأسمالي هو بدون أدنى شك النمط الأكثر ديناميكية، والأكثر إبداعاً وابتكاراً في تاريخ البشرية. لقد ولدت الرأسمالية طيلة القرنين التاسع عشر والعشرين عدة ثورات رائعة متتالية كالثورة الصناعية والعلمية والتكنولوجية. وتوجت أخيراً بالثورة المعلوماتية الإلكترونية من إنترنت وسواه. وأمنت هذه الثورات رفاهية حقيقية لأغلبية سكان الشمال، ولكن فقط للطبقات القائدة والعليا في الجنوب. وكل المخترعات الطبية والصيدلية تحققت بفضل الرأسمالية. بل وحتى اكتشاف أجواز الفضاء وأعماق البحار... إلخ. لقد جيشت الرأسمالية المواهب الإبداعية في كل المجالات. كما لعبت على وتر المنافسات والمسابقات بين البشر لكي يعطوا أفضل ما عندهم. وخلق نظام الإنتاج الرأسمالي ثروات هائلة لم تكن تحلم بها البشرية من قبل مجرد حلم. كل هذا صحيح. ولكن المشكلة ليست هنا. المشكلة هي أن هذه الثروات محتكرة من قبل أوليغارشية مصرفية صغيرة (الأوليغارشية تعني حكم القلة أو الأقلية). يضرب الفيلسوف السويسري على ذلك المثل التالي: هناك 500 شركة عالمية عابرة للقارات. وقد سيطرت عام 2017 على أكثر من نصف الإنتاج الخام للبشرية كلها. إن أرباب هذه الشركات العملاقة يتمتعون بسلطة هائلة تفوق سلطة الأباطرة والملوك والبابوات سابقاً. وأمامهم ينحني رؤساء الدول وزعماء العالم. إنهم قادة العولمة الرأسمالية الظافرة والجائرة. لقد أسست هذه الأوليغارشية الرأسمالية المعولمة نظاماً جائراً آكلاً للحوم البشر. ولو كان فيهم ذرة أخلاق أو أدنى نزعة إنسانية لما قبلوا بأن يجوع ويهان ربع سكان العالم تقريباً. وكل ذلك يحصل تحت سمعهم وبصرهم ولكنهم لا يرون ولا يبالون بعد أن ماتت فيهم الأحاسيس والضمائر. إنها رأسمالية باردة صقيعية مفرغة من كل شعور أو حرارة إنسانية. ولا سميع لمن تنادي. وهنا يكمن أكبر نقص في الحضارة الغربية الحالية.

يقول لنا البروفيسور زيغلير: هناك ألف ملياردير في العالم حالياً أو أكثر قليلاً مقابل 25 مليارديراً فقط عام 1991. وهناك من بينهم 8 مليارديرات يمتلكون ثروة هائلة ذات أرقام فلكية. وهي تعادل ثروة 4 مليارات شخص تقريباً. تصوروا الوضع: ثمانية أشخاص مقابل أربعة مليارات شخص! أو بكلمة أخرى: أربعة مليارات آدمي مقابل ثمانية حرامين فقط! كيف يمكن لهذا العالم ألا ينفجر؟ ما حاجة هؤلاء «التماسيح» لكل هذه المليارات؟ هل سيحملونها معهم إلى قبورهم؟ أين هي الفلسفة الأخلاقية؟ أين هي القيم الروحية والمثالية العليا؟ كيف يمكن لحضارة كهذه أن تستمر؟ وأصلاً هل من المعقول والمقبول أن تُدعى حضارة؟ لا حضارة بدون نزعة إنسانية تضامنية تحترم آلام الشعوب وترفض تجويعها حتى الموت!

***

د. هاشم صالح

عن صحيفة الشرق الأوسط اللندنية يوم:  16 أغسطس 2023 م ـ 30 مُحرَّم 1445 هـ

المشكلة تكمن في المغالاة المرافقة لرغبة التعبير عن الهوية الذاتية

ترتسم أمامنا في الإعلام العالمي ووسائل الاتصال الاجتماعي مشاهد التطرف المقيت الذي يصيب جميع المجتمعات الإنسانية، الغربية منها والشرقية على حد سواء. حين ينظر المرء في أسباب هذا التطرف يدرك أن الوعي الثقافي المحلي مصاب، في أغلب الأحيان، بأزمة الرهبة من الاختلاف. ومن ثم، أعتقد أن الناس يخافون من الآخر الثقافي الذي لا يلائم تصوره التصور السائد في الجماعة التي ينتمون إليها. والحال أن الجميع يعلم استحالة صهر أهل الأرض في بوتقة ثقافية واحدة حتى يستكين الخائفون من رهبة الاختلاف.

أعتقد أن المشكلة ليست في الاختلاف الثقافي، بل في المغالاة التي ترافق رغبة التعبير عن الهوية الذاتية. لذلك ينبغي النظر في مظاهر التطرف التي تعصف بهوياتنا الثقافية، حتى ندرك مقدار الأخطار الجسيمة التي تتربص بالإنسانية المعاصرة. قبل أن أخوض في تحليل ثلاثة مواقف تعبيرية متشنجة تهيمن على المشهد الإعلامي العالمي، أود أن أستحضر مقولة الوسطية الفلسفية التي نادى بها الفيلسوف الإغريقي أرسطو (384 ق.م. - 322 ق.م.) حين صرح بأن الفضيلة الأخلاقية تقوم في الوسط (in medio stat virtus)، أي في الاعتدال الذي يجتنب التطرف. ومن ثم، تنزل الشجاعة منزل التوسط بين تطرف التهور وتطرف الجبن، وينزل الكرم منزل التوسط بين تطرف التبذير وتطرف البخل. وهكذا دواليك حتى يبلغ الإنسان نضج الاعتدال في فكره وقوله وفعله.

كيف يمكننا اليوم أن نطبق هذه النظرية في معترك التصارع على إثبات أعظمية الهوية الذاتية وأحقية امتلاك موارد الأرض الاستراتيجية أو، على أضعف الإيمان، الاستئثار بإدارتها؟ أظن أن مسار التحدي الإقصائي الخطير الذي تسلكه المجتمعات في الزمن الراهن لن يفضي إلا إلى الاحتراب والإفناء. لذلك يجب على الجميع أن يعيدوا النظر في منظوماتهم الثقافية، حتى يستجلوا مواضع التطرف ويعالجوا الانحرافات الطارئة المنبثقة من ذهنية المغالاة في الدفاع عن أعظمية الهوية الذاتية. الفرق شاسع بين الابتهاج بفرادة الخصوصية الثقافية، والافتخار الاستعلائي بصلاحيتها الكونية القاهرة. ليس من هوية ثقافية محلية تصلح لجميع الناس. وليست المجتمعات مستعدة لاقتبال غزوة الهويات المنتفخة المصرة على ادعاءاتها الاستكبارية.

أعود إلى مقولة الوسطية الفلسفية الأرسطية، فأقترح تطبيقها على ثلاث قضايا خلافية تعصف بالمجتمعات الإنسانية المعاصرة. تتعلق القضية الأولى بتعريف هوية الإنسان وتحديد عناصر جوهره الأنثروبولوجي. يعلم الجميع أن بعض المذاهب اليسارية المتطرفة في المجتمعات الغربية أضحت تنكر على الكائن الإنساني حقه في التمتع بما انفطر عليه كيانه البيولوجي من قوام أصلي. تصعقنا، والحال هذه، مشاريع القوانين الغربية التي تمنع الأهل عن أن يعاينوا جنس أطفالهم، ويعاملوهم بحسب ما نشأت عليه ذكورتهم الأصلية أو أنوثتهم الأصلية. إذا كانت الطبيعة الهرمونية، في بعض الأوضاع النادرة، شديدة الترجح والتذبذب، فلا يستتبع هذا الأمر أن نستصدر القوانين التي تحرم قبول هبة الاصطفاء الجنسي الطبيعي العفوي في هوية الكائن الإنساني. في مقابل هذا التطرف تعمد بعض المجتمعات الشرقية الآسيوية العربية إلى قمع الحرية الكيانية الأصلية التي تسوغ لكل واحد منا أن يطور شخصيته، سواء أكانت ذكرية أم أنثوية، تطويراً يخالف ما اعتنقته هذه المجتمعات من معتقد سائد، وما تعودته من أعراف مهيمنة، لاسيما في حقل العلاقات الجنسية. بين المغالاة الغربية والمغالاة الشرقية ثمة وسط فضائلي اعتدالي ينبغي الاعتصام به؛ إذ إنه يملي على الجميع احترام الهوية البيولوجية الأصلية، وصون الحرية الكيانية التي تنمي الشخصية الذكرية والأنثوية إنماء وجدانياً مغنياً.

أمضي إلى القضية الثانية التي تتعلق بحرية المعتقد. تصر المجتمعات الغربية على مبدأ الحرية الفكرية المطلقة التي تبيح لكل إنسان أن يعبر عن اقتناعاته تعبيراً يبلغ ببعض الأفراد مستوى من الاستهتار والعبثية يفضي به إلى إهانة الرموز الدينية. أما المجتمعات الشرقية الآسيوية العربية فما برحت تحاذر الحريات الاعتقادية، فتمنع النقاش الفكري الحر، وتحظر تغيير المعتقد الديني على الملأ، وتستنكر الانتقادات الإصلاحية التي يصوغها أهل الاستنارة العقلية المزدانة بأصفى النيات وأخلصها. لا بد لنا، والحال هذه، من رفض الحريات التي تهين معتقدات الآخرين، واستنكار الاستبداد الذي يعتقل حريات الآخرين أيضاً. بين المغالاة الغربية في استباحة وجدان الآخر، والمغالاة الشرقية في قمع حريته الكيانية، ثمة وسط فضائلي اعتدالي ينبغي الاستمساك به؛ إذ إنه يفرض على الجميع مراعاة حقائق الوجدان الجماعي الثمينة، وصون حرية الكائن الإنساني في طاقاتها الإصلاحية البناءة.

أما القضية الثالثة فترتبط بمقام المرأة في الأزمنة المعاصرة. لا يخفى على أحد من أهل الاطلاع، الإسرافُ الذي تقع في حبائله المجتمعات الغربية، وقد طفقت تحرر المرأة من كل ما يقيدها، حتى بلغ التحرر مستوى من الإلغاء الكياني جعل المرأة ترفض أنوثتها ورقتها وأمومتها، أي دعوتها الوجودية وخصوصيتها الرسالية وفرادتها الاجتماعية. لا يجوز أن تتحول الحرية الجنسية، على سبيل المثال، إلى تعطيل الهوية الأنثوية تعطيلاً يجعل المرأة تتصرف تصرف الرجل، ويجعل الرجل أيضاً يتصرف تصرف المرأة. يقابل هذا التطرف تصور ثقافي شرقي آسيوي عربي يقيد المرأة ويحبسها في أحكام فقهية وأعراف مسلكية وأنماط لباسية لا تليق بكرامتها الإنسانية الأصلية. بين الغلو الغربي والتصلب الشرقي ثمة وسط فضائلي اعتدالي يليق التقيد به؛ إذ إنه يصون في المرأة حقيقتها الأنثروبولوجية الفريدة، ويعتقها في الوقت نفسه من أوهام الاستعلاء البطريركي الذكوري السلفي.

ذكرتُ القضايا التطرفية الثلاث هذه لأبيّن مقدار الالتباس الذي يجعلنا نخلط بين فرادة الخصوصية الثقافية، والحد الأدنى من أخلاقيات صون الحقوق الإنسانية الأصلية. إذا انبرى بعض الشبان والشابات المستيئسين يقرّعون أهلهم على هبة الحياة، ويقاضونهم أمام المحاكم على جريمة استقدامهم إلى الوجود بغير إرادتهم، فهل يجوز لنا أن نساير تشنجات وجدانهم المعذب ونشرع لهم أصول المحاكمة الظالمة هذه؟ لأسباب شتى نشأت الهويات الثقافية ونمت وتطورت، بحيث أضحت تعبر عن وجدان جماعات أهل الأرض. بيد أن أصول المعاملات بين الناس يجب ألا تخضع لأقبح ما في هذه الثقافة أو تلك، بل لأبهى ما تختزنه الثقافات الإنسانية المتنوعة. يبقى لنا أن نتفق على معايير القبح والبهاء في الثقافات الإنسانية. أعتقد أن نضج الوعي الكوني أفضى بالجميع إلى استحسان ضمة من فضائل الاعتدال التي تنقذ بعض الناس من غلواء تطرفهم، وتفضي ببعضهم الآخر إلى استثمار أعظم طاقات الإبداع في قرائن التسالم الحضاري الكوني. آن الأوان لكي نكف عن الانتصار العنفي لهوياتنا المتشنجة؛ إذ إن إقناع الآخرين بصوابية تصورنا لا يثمر في وعيهم الذاتي إلا إذا عاينوا رفعة المسلك الإنساني الطيب الذي يرافق مرافقة التصديق ما نعتنقه علانية من اقتناعات أخلاقية حميدة.

***

مشير باسيل عون - باحث لبناني

عن صحيفة الشرق الأوسط: نُشر: 6 أغسطس 2023 م ـ 20 مُحرَّم 1445

يلفت انتباهنا الفيلسوف بول ريكور في كتابه «الذاكرة.. التاريخ.. النسيان» إلى جانب مهم يخص تاريخ الفكر الغربي، خصوصًا ما يتعلق منه بفكر عصر الأنوار، فقد كانت سهام النقد، في ذلك العصر، موجهة بصورة مباشرة، إلى كل فكر ظلامي، يرتكز على التطرف والتعصب الديني، والخرافات والاعتقادات التي تتعارض مع العقل الإنساني، والدفاع في نفس الوقت عن الحريات بالأخص منها الحريات الدينية.

لقد كان التنويريون شرسين تجاه محاربة كل مظاهر هذا الفكر، وكانت سهام نقدهم تصل إلى العمق. بينما في العصر الراهن تغيّرت وجهة النقد تمامًا وصار الشك والارتياب سمة بارزة فيه، وأصبح لا يبقي على كل اعتقاد أو إيمان إلا وسعى إلى تفكيكه أو الشك في صدقه أو حقيقته.

لذلك لا يخفى على كثيرين الهجمات الشرسة التي قامت ضد كل فكر كان ينطلق من مسلمات دينية أو معتقدات لها صلة وثيقة بمفاهيم دينية.

وبول ريكور حين يبيّن الفرق بين وظيفة النقد وتوجهاته بين عصر الأنوار، والعصر الراهن، يعلم فداحة الأمر الذي أوصل الفكر النقدي الغربي إلى مرتبة الأسطورة بمسلماته التي لا يقابلها في المرتبة سوى مسلمات الفكر الديني، الذي سعى هو إلى محاربتها. هذه الفداحة لم تترك للفكر الديني خيارا آخر، سوى أن ينهض ويدافع عن نفسه، بل اضطرارا تارة، ورغبة تارة أخرى، سعى إلى تجديد خطابه، وجعله مسايرا للفضاء العلماني للمجتمعات الغربية، أو بمعنى أصح أصبح متصالحا معه.

لقد ظل الفضاء العلماني الغربي يستبعد الدين عن مجال تفكيره، وكانت تحرك هذا الاستبعاد قناعة سيطرت على جُل المفكرين والفلاسفة، رغم اختلاف مشاربهم وتوجهاتهم وتخصصاتهم، وهي أن الدين سيفقد شرعية وجوده مع تطور المجتمعات وتقدمها، وليست سوى مسألة وقت وينتهي كل شيء.

كانت الانعطافة الكبرى حدثت بعد فترة السبعينيات في القرن العشرين، حيث بدأ الدين وتأثيراته يعود بقوة، وأصبح الإقبال عليه والتمسك به يشكل ظاهرة لافتة للنظر في المجتمعات الغربية، وأصبحت مسائل من قبيل الهوية والعدل والحريات والأخلاق تفرض نفسها في المجال العام، انطلاقا من علاقتها بالدين، وأصبح رجل الدين والمسجد أو البابا والكنيسة له تأثيراته على صنع القرارات السياسية ورجالات الدولة. والسؤال هنا: ماذا كان موقف الفضاء العلماني منه؟ هل ظل على قناعته التي توارثها من عصر الأنوار، أم عمل على إزاحتها كي تستوعب التبدلات والتغيرات التي حصلت؟

هذا الرجوع سبب صدمة للفكر العلماني الغربي. لكنه لم ينفِه أو يهمشه، وهذه إحدى الميزات الكبرى للفكر الغربي، قابليته واستعداده للحوار والنقاش. لذلك كانت القوة المدهشة التي كان يمتلكها الخطاب الديني في إضفاء المعنى على حياة الإنسان، وبروزه بوصفه هوية له يتحرك من خلالها في مجاله العام وعلاقاته في الأخلاق والسياسة والاجتماع، هي التي جعلت المفكرين العلمانيين يسعون لفهم هذه الظاهرة، واستيعابها، حتى أنهم بعد التقصّي والبحث أوجدوا كثيرًا من المبررات التي ترتكز عليها في تبنّي بعض القناعات، من قبيل أن فضاء الفكر العلماني هو خارج من فضاء الدين المسيحي، لم ينقطع عنه البتة. والصلة التي تجمعهما أكبر من الصلة التي تفرقهما. من هذا المنطلق قامت كثير من الدعوات، وأطلقت كثير من المقولات التي تطالب بعدم اقتصار فهم الدين في مجاله الفردي فقط، وإنما ينبغي معاملته كما تعامل السياسة والأخلاق والعلم على اعتبار أن خطاباتها تشتمل على القوة والمنفعة، والخطاب الديني لا يختلف عنها في ذلك.

وفي هذا الإطار بدأت تتشكل الدراسات التي تعتني بالظاهرة الدينية، وأخذ المفكرون، على اختلاف توجهاتهم، ينتجون النظريات تلو الأخرى، ويقترحون على الفكر ما يغني الموقف، ويعمّق الرؤية، ويوسع الإدراك.

***

محمد الحرز

عن صحيفة اليوم: 2023/08/10

ليست صورة الغرب عند العرب شيئاً خارجيّاً. فهم حين يُبدون رأياً بالصين أو بأفريقيا أو بروسيا، يكون هذا الرأي خاصّاً بتلك البلدان والقارّات دون سواها، فلا يحمل بالتالي أيّ تحدٍّ لذواتهم أو أيّة محاكمة لها، كما لا ينطوي على مقارنة ضمنيّة أو على قياس يُقاس عليه.

مع الغرب الأوروبيّ والأميركيّ يختلف الأمر، فنكون عند حديثنا عنه كمن يتحدّث عن نفسه ولو مداورةً. وهذا عائد إلى سببين أساسيّين ومترابطين: أوّلهما أنّ البلدان الغربيّة سبق أن استعمرتنا أو انتُدبت علينا، بعد أن ورثت الإمبراطوريّة العثمانيّة التي انهارت قبل قرن ونيّف. أمّا بعد الاستقلالات، فاخترنا واحداً من نهجين حيال الغرب ودوله: عند القلّة، أقصى الصداقة معها، وعند الكثرة، أقصى العداوة لها. وكان للدعم الغربيّ لدولة إسرائيل (علماً بأنّ الشرق الشيوعيّ دعمها أيضاً) أن شحذ ما هو سلبيّ من المشاعر العربيّة. لكنْ في الحالتين، ظلّ الموقف يغلب التمحيص والتمييز والمتابعة.

وبدوره اتّصل السبب الثاني بموقع الغرب المركزيّ في صناعة العالم الحديث، وفي عداده بالطبع ما هو حديثٌ فينا. ومن خلال تأثيره في الحديث، فإنّه كان يؤثّر أيضاً في القديم لدينا، ممّا انتابه إحساس متوتّر يمتدّ من الاستفزاز إلى الحصار والتطويق.

هكذا ازدهر مبكراً تساؤل مثقّفينا الشهير عن تقدّم الغربيّين وتأخّرنا، وعن «سرّ» تفوّق الغرب وما إلى ذلك ممّا لم يُطرح على الصلة بالأمم والشعوب الأخرى.

لكنْ لئن شكّل الموقف من الغرب سبباً لتفاوت داخليّ ما بين المعجبين بذاك النموذج، وأحياناً بسياساته، والكارهين له ولسياساته، فإنّه استند إلى معرفة به يطغى فيها الخارجيّ طغياناً مبرماً على الداخليّ. فالاكتراث بالغرب عند كارهيه دار أساساً حول السياسة الخارجيّة، لا سيّما حيال منطقتنا. أمّا عند مُحبّيه فاقتصر على نتائج التقدّم الغربيّ وثماره وأشكاله، من دون التعامل مع أسبابه والمسارات التي رافقت بلوغ محطّاته الراهنة.

هكذا ظلّت قراءة الكتاب ومشاهدة الفيلم أو المسرحيّة عملاً جزئيّاً، وبمعنى ما مهنيّاً، نادراً ما يُربط بالتجربة الأعرض التي يتناولها الكتاب أو العمل الفنّيّ، أو ينبثقان منها.

وبات التناقض الأبرز هنا ما بين داخليّة العلاقة بالغرب وحميميّتها من جهة، وخارجيّة المعرفة به من جهة أخرى. فديناميّات تطوّره ونظامه الاقتصاديّ وتاريخ مؤسّساته وأفكاره ومنظومات العلاقة فيه بالجسد وسواها لم تحظ بما تستحقّه من اهتمام.

وهذا قبل أن تضيف دراسات الاستشراق معادلة «لا نريدهم أن يعرفونا» إلى معادلة «لا نريد أن نعرفهم».

والحال أنّ نظام القيم بتاريخه وصراعاته كان وظلّ أكبر ضحايا الجهل بالغرب الداخليّ، أو الغرب العميق إذا صحّ التعبير. فالأسباب التي فاقمت أزمة التعرّف إلى القيم كانت كثيرة، في عدادها ذاك التنافر في سلوك الدول الغربيّة بين السياسة الخارجيّة وسياسات القيم، خصوصاً إبّان الحرب الباردة.

فتلك الحقبة التي احتلّ فيها التنافُس المُرّ مع الشيوعيّة مرتبة الأولويّة هي نفسها الحقبة التي شهدت ولادة معظم الدول المستقلّة في «العالم الثالث» واختبارها للسياسة والعلاقات الدوليّة. وهذا إنّما سهّل قراءة الغرب بأعين غير غربيّة توحّد السلطات كلّها في السلطة السياسيّة، فترى مثلاً في ما يكتبه الإعلام، أو ما يقدم عليه فرد يحرق المصحف، تعبيراً عن سياسة رسميّة مُجمَع عليها.

وفضلاً عن ضعف التقليد الديمقراطيّ، فإنّ الحظّ العاثر للديمقراطيّة في ربوعنا، وهي ما ينظم عقد تلك القيم، زاد في إضعاف القيم المذكورة ذاتها. وبالنتيجة بات يبدو أنّ كلّ تراجع يصيب الديمقراطيّة في المعسكر الديمقراطيّ أشبه بجائزة لنا أو باعتراف بأنّنا مُحقّون وأنّنا قطعاً لسنا في موقع المهزوم سياسيّاً أو المتعثّر أخلاقيّاً. وفي المقابل، فإنّ النزاعات بين دول «العالم الثالث»، على كثرتها، نادراً ما كانت معنيّة بالقيم التي لم تحتلّ، هذا إذا احتلّت، سوى موقع ثانويّ أو دعائيّ.

وربّما وجدنا إذا ما توغّلنا أبعد أنّ سرديّة الوحدة العاطفيّة التي نسبغها على تاريخنا وواقعنا تغاير السمة الصراعيّة للتاريخ الغربيّ، والموقع المركزيّ الذي احتلّه التنازع على الحقوق فيه، وهما ما سبق أن وضع النساء في مواجهة الرجال، والعمّال في مواجهة أرباب العمل، والملاحدة في مواجهة المؤمنين... ولئن كان من السهل إدانة هذه الصراعيّة عند اقترانها بالشيوعيّة (والإلحاد)، فإنّ اقترانها بالرأسماليّة يجعل الخصوصيّات الحياديّة والطبائع والتربية والأخلاق مُرتَكز الإدانة وأساسها.

ولمّا كان مَن تستهويهم عندنا سياسات الغرب ومن لا تستهويهم يتّفقون على مواقف متشابهة حيال نظام القيم ذاك، فإنّهم حين يتناولونه لا يتوقّفون عند تاريخه وتاريخ الانقسام حوله داخل الغرب ذاته، مفضّلين النظر إليه كمعطى جامد ونهائيّ يُعرف به الغربيّون، معطى يعاكس المعطى الجامد والنهائيّ الذي هو نظام قيمنا.

وبالنتيجة، ومع تراكم هذه العناصر، وفي ظلّ التقلّبات السياسيّة، ومعها المطامح السلطويّة، زادت القدرة على التحكّم بصناعة الصورة، بحيث غدا المصنوع أقوى من صانعه. وعلى النحو هذا نمضي ونتمدّد...

***

حازم صاغية

عن صحيفة الشرق الأوسط اللندنية، يوم: الأربعاء 2 أغسطس 2023 - 16 مُحرَّم 1445 هـ

البشر أدمنوا عليها فأصبحت أول ما يبتدئون به نهاراتهم وآخر ما ينهونها به

خلال أقل من 24 ساعة على إطلاق تطبيق «ثريدز» الجديد المنافس لـ«تويتر» التحق به ثلاثون مليون مشترك يعتقد أن غالبيتهم الساحقة من مشتركي تطبيق «تويتر» أصلاً. وتطمح شركة «ميتا»؛ صاحبة التطبيقات الشهيرة «فيسبوك» و«إنستغرام» و«واتساب»، إلى إزاحة تطبيق «تويتر» عن عرشه الذي بقي عليه دون منافس جديّ بعدد مشتركين يصل اليوم إلى نحو 370 مليوناً.

ولعّل اللافت في هذا الإقبال الهائل أن التطبيق الجديد لا يقدّم أي ميزات نوعيّة عن تطبيق «تويتر»، فيبدو كأنه نسخة مقلدّة من موقع التغريد الأزرق، ولا يمنح مشتركيه منصّة أقل انحيازاً بحكم خبرتنا الطويلة مع «فيسبوك» الذي يماثل؛ إن لم يفق، «تويتر» في الفجاجة في مصادرة الآراء؛ بل والصور أحياناً، كما أن أحداً لم يترك «تويتر» فيما يبدو ليلتحق بـ«ثريدز»؛ بل استمر التطبيقان؛ كل إلى جوار الآخر، على الأجهزة الذكيّة لملايين البشر. ولذلك يحق لنا التساؤل عن دافع هذه الملايين لإضافة «تويتر» آخر جديداً إلى جانب «تويتر» الأصلي؟ لقد أحدث ظهور الإنترنت وما لحق بها من تطبيقات وسائل التواصل الاجتماعي ثورة معرفيّة عبر تعميم وسائل استعادة المعلومات إلى أعداد غير مسبوقة في التاريخ البشري وتسهيل صيغ التواصل فيما بينهم؛ الأمر الذي دفع ببعض المتفائلين منا لتوقع قيام «يوتوبيا رقميّة»، تعوض أحلامهم المنكسرة بعدما تعثرت كل المحاولات لتأسيس «يوتوبيات ماديّة» على الأرض، فتكون بمنزلة فضاء معولم للحريّة والمساواة. لكن هذه التوقعات الساذجة لم تلبث - خلال وقت قصير لا يتجاوز عمر جيل أو جيلين - أن تحطمت على جدار «ديستوبيا مريرة ساخرة»؛ إذ إن عدداً محدوداً من شركات التكنولوجيا المتطورة عززت هيمنتها على العالم السيبراني، وحوّلت منصاتها إلى آلات لانتزاع الأموال من المستهلكين؛ إنْ ليس مباشرة، فمن خلال بيع معلومات الاستعمال لمن يرغب من الشركات والحكومات، بل ولمنظمات مشبوهة أيضاً، في اعتداء سافر على خصوصية المشتركين، ومعلوماتهم، ووقتهم. وتآكلت لاحقاً الآمال في إنترنت مجانيّ يتيح للبشر التلاقي على صعيد واحد بغض النظر عن قدرتهم الماليّة، بعدما أصبح الوصول إلى كثير من التطبيقات والمواقع متعذراً دون دفع بدل ماديّ، فيما يتطلّب بعضها مقابل الاستعمال المجانيّ التعرّض الطوعيّ لغسل دماغ من قبل شركات الاستهلاك، ومشاهدة دفق إعلانات متكرر بين الفينة والأخرى.3558 تويتر

لكن ذلك لم يكن كافياً لتنفير مستخدمي هذه المواقع والتطبيقات التي أصبح بعضها عملاقاً مؤثراً أكثر بكثير من حكومات أغلب دول العالم، حتى بدا خلال أقل من عقدين كأن البشر مشوا بأقدامهم نحو عبوديّة رقميّة، فتقبلوها دون مقاومة تذكر، وأدمنوا عليها، فأصبحت سيّدة أوقاتهم، وخصوصاً نشاطهم، وأول ما يبتدئون به نهاراتهم، وآخر ما ينهونها به. وهكذا يمكن لشركة «ميتا» أن تطلق تطبيقاً يلتحق به عشرات ملايين البشر خلال ساعات، ولشركة «أبل» أن تستقطب صفوفاً طويلة أمام محلاتها من الساعين لشراء أحدث تكنولوجياتها...

إن هذا الزحف نحو العبودية الرقمية؛ في موازاة سقوط مجانيّة الإنترنت، ستكون له تداعيات طويلة المدى على صحة الأفراد العقليّة، وضغوط إضافيّة على ميزانياتهم، ولا بدّ من أنه سيخلق نوعاً من تفاوت طبقي في القدرة على الوصول للمعلومات بين الشعوب وداخل المجتمعات السكانيّة أيضاً، مما قد يعوق تشكيل ثقافات منسجمة على المستوى الوطني، لمصلحة ثقافات بديلة افتراضيّة عابرة للحدود تجمع بين فئات الميسورين دون غيرهم.

هذا الفصل الرقمي سيدفع بالمتضررين إلى محاولة عبور الأسوار عبر المواقع والبرامج المقرصنة التي تحمل في طياتها غالباً مخاطرات التعرض إلى الفيروسات والبرمجيّات الضارة، وربما تتسبب لهم في خسائر مادية تضاعف من الفجوة الرقميّة، وتكرّس تهميش الذين يقفون على الجانب الخاسر من الصحراء السيبرانيّة الممتدة. وتهدد تكنولوجيات الذكاء الاصطناعيّ اليوم، مع تسارع اندماجها في مختلف جوانب الحياة، بتوسيع تلك الفجوات الرقميّة بشكل أكبر، وربما خلق أشكال أكثر جبروتاً مما عرفناه حتى وقتنا الرّاهن من عبوديّة رقميّة.

ويجب ألا يغيب عن أذهاننا أن كل تعاطٍ لنا مع الإنترنت وعبر مختلف التطبيقات يعني تسليم مزيد من المعلومات عنّا لهذه الشركات الكبرى؛ حيث جميع محادثاتنا ومراسلاتنا الإلكترونية، ومعاملاتنا التجارية والبنكيّة، والصور التي نتشاركها، ومجمل تعاملنا مع مواقع التواصل الاجتماعي، تتم إضافته إلى تجمّع هائل مما تسمى «البيانات الكبيرة»، التي عندما تتوفر للذكاء الاصطناعي فستمكنه من لعب دور «الأخ الأكبر» الذي يتربع على قمة الهرم، ويسيطر على أقدار البشر.

سبق الروائيون غيرهم إلى التحذير من «ديستوبيا» تقودنا نحوها مثل هذه التكنولوجيا؛ فبين «1984» لجورج أورويل، و«عالم جديد شجاع» لألدوس هكسلي، تسيطر على العالم طبقة معينة من الميسورين الذين يُسقطون القوميّة والسيادة الوطنية ونظام العائلة من حساباتهم، ويستعينون بتكنولوجيّات متقدمة لتكريس هيمنتهم على بقيتنا، مع فرق شكلي ربّما بين الصيغتين المقترحتين؛ فيتم استعباد الناس قهراً عند أورويل، بينما هم يحبّون عبوديتهم وفق هكسلي.

فأي إنسان جديد ينشأ في ظل هذه العبوديّة؛ قسرية كانت أم طوعيّة، في أغلب الأحوال سينتهي بمنزلة رقيق رقميّ عند الشركات والجهات الأخرى التي تمتلك أي جزء من هويتنا الرقمية؛ إذ إن نظامها التشغيلي قائم على أساس إساءة استغلال خصوصيتنا واهتمامنا... فلا نحن نمتلك هوياتنا الافتراضية، التي يمكن لأصحاب الشركات إلغاءها في أي وقت، ولا نحقق بصفتنا أفراداً أيّ فائدة تذكر من تراكم مشاركتنا بياناتنا الشخصية وعلاقاتنا واهتماماتنا، فيما تتحول هذه إلى مادة خام ذهبيّة يبيعها عمالقة التكنولوجيا لمن يرغب من التجار والحكومات. فبينما نحن أحرار جسدياً، فلسنا كذلك رقمياً؛ إذ نتعرّض لشكل قاسٍ من العبوديّة الافتراضيّة.

العبودية الرقمية في موازاة سقوط مجانيّة الإنترنت ستكون لها تداعيات طويلة المدى على صحة الأفراد العقليّة

ولعل الأخطر في هذه العبوديّة أننا نسقط فيها رويداً رويداً دون أن ندرك، تماماً مثل الضفدع الذي يوضع في دورق ماء وتوقد تحته النار، فيقضي دون أن ينتبه إلى أن درجة حرارة الماء تزداد حوله باطراد... فنحن مستمرون في إثراء بصمتنا الرقميّة على الإنترنت يوماً بيوم لمصلحة «الأخ الأكبر»، بينما ليس لدى أغلبنا أي خطط للتحرر، ولا حتى الرّغبة فيه.

وبالطبع؛ فإن واقع الحال يشير إلى أن معظم الأفراد لا يتوقع منهم إدارة مواجهتهم مع هذا «الأخ الأكبر» وحيدين، إذ لا بدّ من هيئات عامّة توعيهم، وتسندهم، وتتولى المهمة عنهم، أقلّه في الحدود الدنيا. لكن التجارب الحاليّة في هذا الإطار - وربّما باستثناء محاولات أوليّة عند الاتحاد الأوروبي لحماية مواطني دوله الأعضاء من التغوّل الكليّ لشركات التكنولوجيا - تبدو إلى الآن غير مبشّرة، بعدما تحوّلت أنظمة الحماية التي بنتها الدول الكبرى، مثل روسيا والصين وإيران، إلى مجرد «تطبيقات تويترات أخرى» بنسخ رديئة أحياناً، مع انعزال مستخدميها فيما تشبه «غرف صدى» ضخمة نسبياً على وسع البلد الواحد، لكنها أقرب إلى سجن جماعي لا يسهل لأبناء الثقافات الأخرى؛ بمن فيهم الأصدقاء والمتعاطفون، عبور أسواره.

***

ندى حطيط

عن صحيفة الشرق الأوسط اللندنية ليوم:  24

يوليو 2023 م ـ 07 مُحرَّم 1445 هـ

رحيل هاري فرانكفورت الذي اشتهر بسبب مقالة قصيرة

لم يكن هنري فرانكفورت، الفيلسوف الأميركي والأستاذ المتقاعد من جامعة «برينستون» الذي رحل عن عالمنا قبل أيّام، قد لحق بعالم وسائل التواصل الاجتماعي عندما اكتسب شهرة مفاجئة في عام 2005 بصفته أوّل فيلسوف قبض على مفهوم «الهراء (بالإنجليزيّة Bullshit)» وذلك عندما أعادت دار النشر الملحقة بجامعة «برينستون» طبع مقالة قصيرة له من الثمانينات بنسخة مجلَّدة بعنوان «عن الهراء On Bullshit» قفزت سريعاً إلى أعلى قوائم الكتب الأكثر مبيعاً في الولايات المتحدة. ربما كانت الأجواء مناسبة ذلك الحين، عندما كان رئيس الولايات المتحدة وقتها جورج دبليو بوش.

الكتاب - المقالة أخرج فرانكفورت (1929 – 2023) من عزلة تقاعده ليصبح ضيفاً مألوفاً في برامج المقابلات الرئيسية على المحطات التلفزيونية الكبرى، ويكسب منحة من ستة أرقام من أحد كبار الأثرياء الأميركيين لاستكمال التدقيق في ماهية هذا الهراء، أنتج على أثرها عام 2006 آخر أعماله الرئيسيّة «بشأن الحقيقة» أو «On Truth»، الذي حقق نجاحاً وانتشاراً أقل من كتابه «عن الهراء».

الثيمة المركزيّة لمقالة «عن الهراء» بعد البحث في ماهيته -كتعابير يلقيها البعض للترويج المزيّف لأن ثمة شيئاً إيجابياً وجيداً يحدث، على الرغم من أنه ليس كذلك- كانت عن ضرورة التمييز بين الهراء والكذب. إذ على عكس الكذب الذي يجب أن يضع الحقيقة في الاعتبار من أجل تلفيق نقيضها التام، جادل فرانكفورت بأن الهراء غير مبالٍ مطلقاً بالحقيقة، ومعنيّ أساساً بترك انطباع معيّن في ذهن المتلقي لا أكثر، ودون أي اهتمام حقيقي بالحقائق الأساسية. ولذلك فإن الهراء «ليس نتاج خطأ، بقدر ما هو عمل تزييف متعمّد».3535 غلاف كتاب حول الهراء

غلاف "حول الهراء"

لقد حقق فرانكفورت شهرة واسعة لا شك يحسده عليها كثير من الأكاديميين بفضل مقالة قديمة قصيرة لا تزيد عدد صفحاتها على سبع وستين. وإذا كان ذلك دلالة على شيء، فسيكون حتماً ذلك الإحساس المتزايد عند عدد كبير من الناس في أيّامه بغلبة الهراء على الشأن العام، وتحوله إلى إحدى أبرز سمات ثقافة مجتمعات عصر ما بعد الحداثة. ولعله لو طال به العمر لوسّع كتابه عدة مئات من الصفحات، بعدما أصبحت مواقع التواصل الاجتماعي بمثابة أكواريوم هائلٍ لاستعراض قدرات البشر في التنافس على إنتاج الهراء المدّون، والمسجّل، والمصوّر.

هاري جوردون فرانكفورت، الذي توفي في دار للمسنين في سانتا مونيكا بكاليفورنيا إثر أزمة قلبيّة عن عمر يناهز 94 عاماً، كان اسمه لدى ولادته في ولاية بنسلفانيا عام 1929 ديفيد برنارد ستيرن، لكنّه ولأسباب غامضة انتقل سريعاً لعهدة عائلة يهوديّة أخرى بلا أولاد، ليصبح الطفل الوحيد لناثان وبيرثا فرانكفورت، اللذين أعادا تسميته ومنحاه لقبهما.3536 غلاف كتاب حول الحقيقة

غلاف "حول الحقيقة"

خسر ناثان -والده بالتبني- وظيفته كمحاسب خلال مرحلة الكساد الكبير في الولايات المتحدة وانهيار سوق الأسهم عام 1929، وهو ما أورث هاري نوعاً من قلق مزمن بشأن المال. وعندما بلغ رشده كانت الخيارات الطبيعيّة لأولاد الفقراء مثله؛ إما أن يصبح عازف بيانو مثل والدته أو حاخاماً عند تخرجه في المدرسة الثانوية العبريّة. ويبدو أنّه لم يمتلك الموهبة للعزف، وأحس بالاختناق من «الهراء الصاخب» الذي كان يختلط في مدرسته العبريّة مع الهواء، فانتهى إلى دراسة الفلسفة في جامعة «جونز هوبكنز» في بالتيمور، حيث حصل على الإجازة الجامعيّة الأولى منها في 1949، قبل أن تمنحه ذات الجامعة درجة الدكتوراه عام 1954.

ولعل من الشخصيّات التي تركت على تفكيره أثراً لا يُنسى، كان الفيلسوف النمساوي الكبير لودفيغ فيتجنشتاين، الذي التقاه لفترة وجيزة في جامعة «كورنيل» وكانت إحدى قلاع الفلسفة الغربيّة الأهم ذلك الحين بينما كان يُجري أبحاثاً للدراسات العليا. ويرتكز فرانكفورت في مقاربته للهراء على مقطع شعري قيل إن فيتجنشتاين كان يتخذه شعاراً شخصيّاً له حول الإتقان البالغ الذي كان يشعر به معماريو الكاتدرائيات القديمة الهائلة والذي كان سرّه الإحساس الدائم بأن الربّ «موجود في كل مكان». عند فرانكفورت، فإن عالم أولئك البنائين العظام مُقاس بدقّة ومحميٌّ بضمير فلا مكان فيه للهراء أبداً.

خدم فرانكفورت بالجيش الأميركي لعامين خلال الحرب الكوريّة قبل أن يحصل على وظيفته الأولى مدرساً للفلسفة في جامعة ولاية أوهايو. وهناك بدأ بدراسة أعمال الفيلسوف الفرنسي من القرن السابع عشر رينيه ديكارت، وعنه نشر كتابه الأول، «الشياطين والحالمون والمجانين - 1970». وقد انتقل بعدها إلى جامعة «روكفلر» في نيويورك، وهناك أنجز أهم أعماله عبر أوراق مترابطة مهمة نشرها بين ستينات وتسعينات القرن العشرين حول المسؤولية الأخلاقية، وحرية الإرادة، جعلته مرجعاً يُقتبس عنه في رفضه مبدأ الاحتمالات البديلة الذي يكون الشخص وفقه مسؤولاً عن فعله من الناحية الأخلاقيّة حصراً عندما تتوفر له بدائل للتصرّف بشكل مغاير، فجادل بكون الشخص المسؤول أخلاقيّاً عندما يقْدم على فعلٍ ما يقوم بذلك لأنّه يريد القيام به بغضّ النظر عن توفر البدائل من عدمه، معتبراً فعل الإرادة، أكثر من العقل أو الأخلاق، هو الجانب المحدِّد للحالة الإنسانية. والنتيجة الأنيقة لنظريّته هذه في الحريّة الشخصيّة هي أن الشخص عندما يأتي بفعل ما، فإنه لا يكشف فقط عن الطّريقة التي أراد أن يتصرف بها، ولكن أيضاً عن نوع الشّخص الذي يطمح إلى أن يكونه.

واصل فرانكفورت استكشاف العلاقة بين القيم الشخصية والإرادة الإنسانية خلال أبحاثه في الثمانينات من القرن الماضي فنشر ورقة بحثية مفصليّة بعنوان «أهمية ما نهتم به»، جادل فيها بأن رغباتنا الأكثر أهمية هي تلك التي لا يسعنا إلا أن نتحرك للعمل عليها، بغضّ النظر عن الظروف المانعة، لأنها تحدد ما نقدر أو نطمح أن نكون عليه. ومن المفارقات، كما كتب، أن هذا الافتقار إلى الحرية بسبب الظروف المانعة هو الذي يعطي حياتنا معنى من خلال نضالنا لتحديها.

بعد جامعة «روكفلر»، انتقل فرانكفورت في عام 1976 إلى جامعة «ييل»، ثم إلى جامعة «برينستون» بدايةً من عام 1990، ليحال هناك إلى التقاعد في 2002 ويعيَّن أستاذاً فخريّاً مدى الحياة. وكان قد تزوج مرتين، وترك ابنة من كل زواج وثلاثة أحفاد.

كان فرانكفورت نموذجاً للصدق وظل طوال حياته الأكاديمية معنياً بقضايا الحريّة والمسؤوليّة الأخلاقية وعدواً للخداع والتزييف

ومع أهمية إنتاج فرانكفورت في فضاء الفلسفة الأكاديمية العاجيّ، فإن تحليله القصير -لكن العميق- لماهية ظاهرة الهراء نبّه الملايين من واقع أن هذا النوع من المخاتلة والخداع هو العدو الأكبر للحقيقة من الكذب. وقد قرّع بلا رحمة نزوع كثير من الأشخاص في المجتمعات (الديمقراطيّة) إلى إبداء الرأي في كل ما يمر بهم، دون خبرة، أو إعداد مسبق، لا سيّما في فضاءات السياسة والإعلام والإعلان والعلاقات العامّة، حيث تكاد تقترب مساحات واسعة من ممارسة هذه المهن إلى نوع من تصنيع مستمر للهراء دون توقف عن أو اكتراث لكيفية سير الأمور على أرض الواقع.

لقد كان فرانكفورت نموذجاً للصدق في مساعيه الفلسفية، وظل طوال حياته الأكاديمية معنياً بقضايا الحريّة والمسؤوليّة الأخلاقية والإرادة، وعدواً للرداءة والخداع والتزييف، ليس فقط كبروفسور يلقّن تلاميذه أفكاراً مجردة، بل أيضاً «كإنسان يحاول التعامل بطريقة منهجية بسيطة مع الصعوبات العادية لحياة يريدها أن تكون ذات معنى»، وفق ما قال في مقابلة صحافية.

***

ندى حطيط

عن صحيفة الشرق الأوسط اللندنية يوم، 3 – 8 – 2023م

كان من عادتي عندما أريد الاستحثاث على العمل والفاعلية وسط ظروفٍ بالغة الصعوبة، أن أستشهد بمقولة ماكس فيبر (1864-1920) عن أخلاق الرسالة أو الاعتقاد أو الاقتناع من جهة، وأخلاق المسؤولية من جهةٍ أخرى. والنوع الأول مبدئي وغائي، وكانطي في الأساس (أخلاق الواجب)، والآخر عملي ويتقصد اختيار الوسائل واختبارها لبلوغ الإنجاز أو إمكانه. وهذا النوع يمكن أيضاً إعادته إلى «العقل العملي» الكانطي، وإن لم يأتِ عنده بهذه الصيغة المترابطة.

لقد انصبّ على الأطروحة الكانطية في الأخلاق في النصف الثاني من القرن العشرين وإلى اليوم نقد هائل، بسبب التطورات الراديكالية في اعتبار الفردية أو الفردانية. فمع أنّ كانط أقام الأخلاق على الأساسيات العقلية، وليس على الدين؛ فإنّ الواجب العقلي الأخلاقي عنده لا يختلف في الإلزام عن الديني. ولذلك؛ كان من ضمن نقض مشروع التنوير لدى الفلاسفة الجدد، ضرب الأخلاقيات الكانطية، وليس بدءاً بالمعاصرين، بل وبدءاً بنيتشه (1900).

ومع أنّ الفردانيات والذواتيات صدّعت الفلسفة الأخلاقية؛ لكنّ مقولات التنوير ما أمكن الاستغناء عنها، فظهرت في ميثاق الأمم المتحدة، وفي الإعلان العالمي لحقوق الإنسان.

بين دثائر التنوير، والفلاسفة الجدد، توسط مشروعٌ فلسفيٌّ للقيم، قيم الخير وقيم العدالة. وفي كلا المشروعين هناك خلاف حول دور الدولة الذي يناصره جون راولز في: نظرية العدالة. بينما يذهب آخرون إلى نصرة قيم الخير في المجتمع المدني العالمي. وفي حين يريد راولز التخفيف من آثار الفردانية المتنامية بتدبير الدولة للمجتمع، يريد دعاة الخير والفضيلة الرجوع إلى بعض كلاسيكيات الفلسفة، حيث تتقدم الفضيلة عند أفلاطون، والخير العام عند أرسطو. بيد أنّ هذه النزعة المعادية للفردانية والنسبوية تعدّ أن التداولية المعتمدة على النقاش الحر في العمل العام، هي في الحقيقة تغادر الفردانية لتقدم مصلحة الجماعة على المصالح الفردية.

لماذا هذا النقاش المشتغل في العقود الأربعة الأخيرة بشأن الفردانية أو الجماعاتية، والعدالة أو السلام؟

لأنّ الملحوظ أنّ النزاعات تتعاظم بشأن المجالات الاستراتيجية والموارد، والصراعات على من هو الأَولى بتولّي السلطة في بلد معين - ومن الناحية الشعارية تجري تغطية تلك النزاعات بالحديث عن العدالة والشرعية والسلام.

ولذلك؛ ينصرف مفكرو الزمن الحاضر للحديث عن «الفعل الأخلاقي» من دون تنظيرٍ كثير. فهل السياسة فعلٌ أخلاقي؟ هذا هو رأي معظم الدارسين الأخلاقيين. إنما من الذي يُصدر الحكم على هذا العمل أو ذاك بأنه أخلاقي أو غير أخلاقي. ماكس فيبر عدّ أن السلطة الشرعية تستطيع ممارسة الإرغام بالداخل لحماية الاستقرار، والهيبة تجاه الخارج لحماية السلام. ورأى جون راولز أنّ العدالة الداخلية تنشر الاستقرار، وبحسب كانط، فإنّ الدول الدستورية المتشابهة في قوانينها تستطيع أن تكون واثقةً من السلام الدائم أو الأبدي، ولو اضطرت في المدى الطويل إلى إلغاء الجيوش!

لنذهب إلى الفيلسوف ألسدير ماكنتاير صاحب الكتاب الشهير: «بعد الفضيلة» (1981)، والكتب الشهيرة الأخرى في فلسفة الأخلاق، وآخرها صدر عام 2016 وهو بعنوان: «الأخلاقيات في النزاعات والحداثة». من المعروف أنّ ماكنتاير مع الأطروحة القائلة إنّ مصلحة المجتمع فوق كل مصلحة؛ ولذلك جادل راولز وهابرماس طويلاً وأحياناً في المبادئ وأحياناً أخرى في مواصفات «الفعل الأخلاقي»: من يحدِّد ما إذا كان الفعل أخلاقياً أم غير أخلاقي؟ وبحسب ماكنتاير: الفعل الأخلاقي هو الذي يكون أقرب إلى المصلحة العامة للمجتمع. من هو صاحب السلطة أو الرأي في التحديد؟ هو الذي تكون مصلحة المجتمع العامة عنده هي الغالبة، وسواء أكان سياسياً أم مثقفاً يمتلك الوسائل الحرة لنشر آرائه.

وها نحن نشهد نزاعات من أنواع مختلفة، وبعضها مشتعل وبعضها الآخر قابل للاشتعال. ولو فرضنا على سبيل المثال أنّ ماكنتاير وزملاءه من المفكرين حكموا على طرفٍ في أحد النزاعات بأن عمله غير أخلاقي لأنه ضد مصالح مجتمعه أو المجتمع العالمي: فكيف سيؤثر أو يؤثرون؟ يقول ماكنتاير: من طريق التوجه للرأي العام، وللمؤسسات الدولية.

وعندما قيل له: لكنّ أريك هوبسباوم، المؤرخ الراحل للقرن العشرين، ذكر أنّ ثلثي القضايا التي تُعرض على مجلس الأمن الدولي لا تجد حلاً؛ أجاب: كل هذه التساؤلات عن الفاعلية المقصود منها الدفع باتجاه الإعراض عن أخلاق المسؤولية. وبالطبع، هذه الأخلاق أو المسالك تتأثر بثقافة الأفراد ونزعاتهم؛ لكنّ النزعة العالمية للمسؤولية بلغت ذروة نضجها حتى لدى الذين يلوذون بالفردانية الأنانية!

يعدّ ماكنتاير أنّ الفردانية أصعب بكثير مما يحسب الكثيرون. فأن تقف في وجه الرأي العام أو السلطة بشأن أخلاقية هذا الفعل أو ذاك هو من الصعوبة بمكان، ليس بسبب الخوف من العاقبة على الجسد والحرية على أهميتهما؛ بل بسبب عدم التأكد من سلامة الموقف. أما إذا كان المقصود بالفردانية عدم المسؤولية، والانصراف إلى الهموم أو اللذائذ الخاصة، فتكون أمراً آخر، ربما كان اليوم المشكلة الأكبر في العالم: عدم الإحساس بالمسؤولية وسواء أكنا مع أخلاق الواجب أم لم نكن. كل كلامنا - كما يقول ماكنتاير - عن تقدم اعتبار المصالح العامة على المصلحة الفردية، لا يقتصر على الأبعاد الأخلاقية. بل ولأنّ الفردانيين صاروا أساتذة وصاروا سياسيين وصاروا رجال أعمال (وهم غالبية). ولذلك؛ المفروض أنهم يعملون مع مراعاة مصالح الجموع، وبهذا المعنى يكون فعلهم أخلاقياً؛ لأنه يتصدى للقضايا العامة مثل تغيرات المناخ والفقر والجوع والهجرة، وانضباط الأسواق، والعناية بآثار الثورة التكنولوجية الرابعة أو الخامسة!

في أخلاق الرسالة التي طالبنا بها القرآن: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. والمعروف هو ما تعارف الناس على قبوله واستحسانه، والمنكر ما تعارف الناس على رفضه واستنكاره. وهكذا، فنحن لا نستطيع أن نقف على الحياد أو إظهار عدم الاهتمام أو الاكتفاء بالقول إننا عاجرون. لا بد من المشاركة بالمعنى الإيجابي وبقدر ما يستطيع كلٌّ منا، وأن يبقى ديدننا: تقصُّد الفعل، والفعل الأخلاقي بالذات.

***

د. رضوان السيد

عن صحيفة الشرق الأوسط اللندنية في يوم: السبت: 22 يوليو 2023 - 05 مُحرَّم 1445 هـ

المفكر المغربي في ذكرى رحيله الثانية

عامان مرّا على رحيل المفكر المغربي البارز محمد سبيلا دون أن تنطفئ جذوة الأسئلة الحارقة عن البنية المفاهيمية للفكر العربي المعاصر، وعن راهنية سؤال الحداثة المتجدد ومداراتها التي طالما ذكّر بها المفكر الراحل قراءَه ومن قاسموه قلق البحث في حيثيات الواقع الاجتماعي وحركة الأفكار داخل عالم عربي ما زال ينشد الانتقال نحو مجتمع الحداثة المعرفية. لقد كان سبيلا متحمسا لفكرة الحسم النظري مع العناوين الكبرى حين أدرك مبكرا أهمية الجانب المفاهيمي في تشريح حالة الحداثة العربية، مبتعدا في نفس الوقت عن سرديات غيره من الكُتاب الذين انشغلواْ - كما رأى - بالاستنتاجات المتعجلة والقول بالبداهات، ثم ما لبثواْ أن وقعواْ في مطب التسليم بفكرة التعدد داخل الحداثة حين قسّموا بنيتها الواحدة إلى حداثات كثيرة متناثرة كالشظايا على صفيح واقعي غير محدد.

وفي جانب متصل، لم يتفق سبيلا مطلقا مع أولئك الذين انجرفواْ دفعة واحدة صوب تتبع موجات ما بعد الحداثة، زعما منهم بأنهم بذلك يواكبون مسار التطور الإنساني، في حين كانواْ يكتفون بقراءة ما خلّفته التحولات الأخيرة في الغرب من متغيرات متسارعة على صعيد الروابط الاجتماعية وتشكيلات الهوية، وهو ما حذا بقسم كبير منهم في الأخير إلى القول بتخطي الغرب لمرحلة الحداثة، ما يعني عدم جدوى الخوض في سياقها النظري عربياً. لكن سبيلا ظل يفند هذا الرأي، مستأنسا بآراء كثيرة نابعة من عمق المنظومة الفكرية للغرب الأوروبي تؤكد أن ما بعد الحداثة لم تكن في حقيقتها إلا تجليا صافيا للحداثة بعد أن تخلصت من أوهامها حسب وصف الكاتب المجري زيغمونت بومان (Zigmunt Bauman). لقد كان سبيلا بعيدا عن هذا المنحى في التفكير، فهو يرى في الحداثة كيانا واحدا غير مجزأ ولا تؤثر فيه حدود المجال والزمن ومعطيات البيئة التراثية، لأنه يشكل من حيث المبدأ بنيةً تنظيمية واحدة لها مدارات كثيرة تبدأ بالتقنية وتنتهي بالثقافة مرورا بالتنظيمين السياسي والاقتصادي. كما أن التسلسل الاسمي للحداثة، من وجهة نظره، لا يكون على شاكلة ما قبل أو ما بعد، بل ينحو منحى معياريا مستقلا لا يأخذ بآثار الخصوصيات الاجتماعية، ولا تكون الحداثة من هذا المنظور إلا سيرورة مركبة لها أدوات انطلاقها الخاصة ولها شروط استدامتها أيضا. ومثل سائر المثقفين المشغولين بقراءة التحولات الكبرى التي يشهدها العالم العربي، سجل محمد سبيلا ملاحظاته حول أحداث ما سمي بـ«الربيع العربي»، فكان يرى في صعود تيار الإسلام السياسي أمرا غير مفاجئ، وله مسوغاته الموضوعية في ظل المعطيات التي راكمها التحول الاجتماعي العربي المطرد، وما تمخضت عنه تناقضات الحكم التقليدي في البلدان العربية على امتداد عقود طويلة من الزمن. ومع انطلاق التغيير الذي شهدته أنظمة الحكم في بلدان الثورات كان سبيلا يقول بإمكانية مراجعة هذه التيارات الإسلامية لخطها الفكري مع وصولها للحكم انسجاما مع متطلبات التعاطي الجديد مع المجتمع من موقع مختلف عما كان عليه الأمر في العقود السابقة.

لقد كان سبيلا على ما يبدو ينتظر من حركات الإسلام السياسي أن تتحرر هي الأخرى من أوهام اليوتوبيا الدعوية وخطاب المثاليات، وأن تنخرط في الحراك السياسي المستند على مبادئ الديمقراطية التشاركية التي تلفظ الإقصاء والشمولية، وهو بذلك لا يؤيد آيديولوجيا الإسلام السياسي، بل يشير إلى أن هذا المخاض الطارئ على المشهد السياسي العربي يمثل جزءا من حركة التاريخ في المنطقة. لكن المفكر الراحل كان من أبرز الكتاب المغاربة الذين خصصواْ حيزا مهما من كتاباتهم لمناهضة الخطاب العنيف داخل أدبيات التيارات الإسلامية التي تؤمن بحكم يستند في جوهره على الشرعية الدينية، وقد دعا في هذا الصدد إلى ما أسماه بـ«عقلنة الخطاب الديني والانحياز التام لفكرة الدولة المدنية كبديل لدولة الكهنوت».

لقد كرّس سبيلا في أدبياته الفكرية حضور الرافد الفلسفي المستند على منهجية استفهامية تحيط بالأفكار، ثم تحفظ لها حياديتها ولا تستهدف من وراء دراستها قياس صدقيّة مضامينها فقط، بل تظل مشغولة أكثر من أي شيء آخر بالإشارة إلى الملاحظات الرئيسية في متنها النظري، وهو ما من شأنه أن يفسح المجال لبعث رؤى أخرى جديدة تبتكر سياقها التحليلي وتؤسس من جانبها لخلاصات تصب كلها في نفس الاتجاه الذي يخدم البحث المعرفي المخلص للحقيقة. وقد توج ذلك على نحو صريح بعمله المشترك مع المفكر المغربي عبد السلام بن عبد العالي: سلسلة «دفاتر فلسفية / نصوص مختارة». وقد أشار لهذا العمق الفلسفي عند الكاتب الراحل عدد كبير من المثقفين المغاربة المعاصرين، منهم أمين عام منتدى أصيلة الثقافي محمد بن عيسى الذي نوه في جلسة تكريمه في إطار «خيمة الإبداع» عام 2017، بأدوار محمد سبيلا المؤثرة في تعزيز مكانة الفلسفة والتحسيس بأهميتها، باعتبارها صانعة لقيم الحرية والاجتهاد الإنساني في قراءة الواقع.

ولعل هذه الخلفية الفلسفية هي ما يفسر ثراء المتن الفكري عند سبيلا في منجزه ككل، إذ يمكن للقارئ أن يلمس بوضوح غزارة المراجع النظرية التي يتكئ عليها المفكر الراحل في سائر أبحاثه المنجزة، والتي اعتمدت مقاربات علمية محددة واضحة المعالم، أطّرتها المنهجية التحليلية الصارمة من حيث الإشكاليات المطروحة والبناء البحثي والخلاصات، وقد كان العقل الفلسفي عنوان ورشته الفكرية الأبرز من حيث آليات البناء النظري والأسئلة المحورية في البحث. على أن أول إصدارات الراحل محمد سبيلا كان «مدارات الحداثة» سنة 1987، وبهذا العمل ارتبط اسمه طويلا واستمر على ذلك حتى النهاية، فكان آخر ما نشره كتاب «الشرط الحداثي» سنة 2020.

وبين العملين مرحلة طويلة من الأسئلة التي يبدو أن أبرز ثمارها كان هو «التحدي المزدوج» الذي طرحه سبيلا على طاولة النقاش، موضحا أنه تحدّ ببعدين اثنين، فهو تحد يواجه من جهة رؤية العرب وقراءاتهم التراثية لمسألة الخصوصية الثقافية والتجلي الهوياتي داخل العالم الراهن، ويواجه من جهة ثانية النموذج الغربي للحداثة الذي لم يحرر مشروعه القائم على فكرة التقدم الإنساني من مشروع آخر موازٍ تقوده نزعة الهيمنة الغربية.

لقد حاول محمد سبيلا أن يرسم ملامح واضحة لمنظوره الفلسفي حول مسألة الحداثة بين الواقع والآفاق، وهو ما جعله يلخص تجلياتها الحالية في مظهرين أساسيين، الأول تمثله الصورة السياسية التي تشهد انتقالا مطردا نحو حداثة سياسية جزئية تتشكل أساسا عبر تطوير آليات التعددية الانتخابية والمشاركة المتنامية في القرار، أما الثاني فتمثله الصورة الفكرية التي يحددها الخطاب الثقافي السائد في المجتمع والذي ينبغي أن يرسم معالم حداثة ثقافية حقيقية. ولعل هذا الأمر هو ما يمثل في نظر سبيلا أزمة الحداثة العربية باختصار، ذلك أن الزمن التاريخي الذي تتحكم فيها التحولات الاجتماعية ويواكبه الانتقال السياسي نحو الديمقراطية يمر بوتيرة أسرع بكثير من الزمن الثقافي الذي يظل إيقاعه بطيئا وغير قادر على التأثير في بنيات المجتمع الفكرية والمعرفية. لم يتفق سبيلا مطلقاً مع أولئك الذين انجرفوا دفعة واحدة صوب تتبع موجات ما بعد الحداثة.

***

الرباط: عمر الراجي

نقلا عن صحيفة الشرق الأوسط اللندنية في يوم: 30 يوليو 2023 م ـ 13 مُحرَّم 1445 هـ

لا يزال تأثير فلسفة نيتشه يتجدد؛ الدراسات والحوارات، والشروحات تصدر عنها باستمرار. عن النظريات الخارقة التي ابتكرها، والأسلوب الجديد، والشذرة المكتنزة. جيل دلوز رأى أن الفيلسوف هو «شاعر المفاهيم»، ونيتشه قاد رحلة «شعرنة الفلسفة»، وهي الآلية التي أُعجب بها مارتن هيدغر في بعض كتاباته، وفي طريقة قراءاته لشعراء عصره، فهيدغر كتب النصوص الشعرية علاوة على «شعْرنة الفلسفة» لتصبح مدججة بالصور والرموز ومحاطة بهالة من الغموض الساحر، غير أن تلك «الشعْرنة» لا تحوّل النص إلى محض خيال. فشعْرنة نيتشه، داهمت كل الفلسفات والفنون.

الفلسفة ليست كيانات منفصلة أو قبائل متناحرة، وإنما وحدات تتعدد؛ لذا كتب جيل دلوز: «نرى ماركس، والقبسقراطيين، وهيغل ونيتشه، يمسك بعضهم بأيدي بعض في رقصة دوارة تحتفل بتجاوز الميتافيزياء».

قبل أيام قرأتُ حواراً مهماً مع ميشال أونفري، أجراه فرانز أوليفييه غيسبيرت، وترجمه لصالح مجلة «حكمة» الحسن علاج.

فيه عرّج أونفري على تجربته الطويلة مع نصوص نيتشه وفلسفته ونظرياته. رأى أن المرء ينبغي عليه «أن يقتفي أثره الخاص. الإنسان الذي أكد في (هكذا تكلم زرادشت) أنه ينبغي على المرء أن يبتكر الحرية -إنه البرنامج الوجودي طيلة حياة بكاملها وهو برنامجي أيضاً- ليس معلماً متسلطاً، إنه نموذج كما هو الشأن في الفلسفة القديمة برمتها، حيث لم يكن التفلسف يكمن في الإطناب، أو الثرثرة، أو كتابة كتب فلسفة، بل أن يعيش المرء حياة فلسفية، وأن يعيش حياة ملائمة، متوافقة مع ذاته عينها. أشاد نيتشه بفضيلة قلّما يتم الحديث عنها، لدينا معرفة ضئيلة بها، أو تكاد تكون منعدمة، علاوة على ذلك صعوبة الاسم، الذي هو الاستقامة، ألا وهو: المصداقية المُرتابة. الاجتهاد في عيش حياة نزيهة، ذلك ما أحتفظ به لنفسي منه».

ويلخص أونفري رؤيته عن نيتشه بقوله: «يتحدث نيتشه، في بداية كتابه زرادشت، عن تحولات ثلاثة: ينبغي على المرء أن يكون جملاً لحمل أثقال الماضي، ثم أسداً من أجل التخلص من هذا الماضي، بهدف التحول إلى طفل بمعنى بلوغ (براءة الصيرورة)، التي تسمح بابتكار فلسفة جديدة. إن هذه الجدلية في مراحل ثلاث، بمعنى جدلية هيغلية لا تزال، ولو أنها ما بعد هيغلية، هي جدلية نيتشه ذاته، التي تمنح بطريقة مُشفَرة، كما هو في غالب الأحيان، مفاتيح عمله برمته».

لكن ما زمن الجمل لدى نيتشه؟!

«يعد زمن الجمل لديه هو زمن قارئ شوبنهاور، حيث يضع كتّاب العالم كإرادة وتمثل رهن إشارته وجهات نظر فلسفية جديدة: حيوية أحادية، هي حيوية الإرادة التي تجعل الثنائية القديمة اليهودية - المسيحية متجاوزة، والتي تقدم تفسيراً لحيوية لما يوجد، هذه الإرادة الشهيرة، التي هي ليست إرادة علماء النفس، قوة الاختيار، الإرادة، بل قوة تجعل من كينونة الكائن ممكنة؛ فلسفة تراجيدية يتقاسم السأم والمعاناة، بمقتضاها، حياة كل إنسان، لكنها تؤكد في نفس الوقت التأمل الجمالي بشكل عام، والموسيقي بشكل خاص، تسمح بتأمل حتمية السلبية. وهو أيضاً الزمن الفاغناري حيث التقى الكاتب المسرحي، ويرى أنه بإمكانه العمل معه كي يجعل من الأوبرا، مناسبة لإضفاء الجمالية على السياسة، انطلاقاً من الأساطير، كما فعل الإغريق مع مسرحهم. إنه زمن ولادة التراجيديا».

بينما «يعد زمن الأسد زمناً أبيقورياً. لقد واصل الصداقة المحطمة مع المؤلف الموسيقي الألماني، الذي لم يجعل من مدينة بايرويت مختبراً، لبناء سياسة انطلاقاً من الموسيقى الألمانية التي تخصص لتعزيز دينامية أوروبية، بل مكاناً مكرساً لشخصه، مع الطبقة الأكثر ثراء، التي موَّلت مشروعه. إنه زمن كتاب المعرفة المرحة، والصداقة الأبيقورية، متأثراً بالفكر الفرنسي؛ فولتير والأخلاقيين الفرنسيين».

أما «زمن الطفل فهو زمن الفلسفة النيتشوية الحقة، إنه زمن إرادة القوة، والعود الأبدي، والإنسان الأعلى، ومحبة القدر كإيثيقا إنسان جديد، وقد تخلص من الجِمال والأسود، إنه بالتأكيد زمن كتاب (هكذا تكلم زرادشت)، قصيدة عظيمة ومذهلة».

لكن من تجربته ما الكتاب المفضل لديه من كتب نيتشه؟!

يجيب بطريقة مركّبة: «أعتقد أن القارئ فهم أن الأمر يتعلق بكتاب (هكذا تكلم زرادشت)، إلا أنه ذلك الكتاب الذي ينبغي عبره الختم، حينما يكون المرء قد قرأ كل كتبه! إنه كتاب المعرفة المرحة، وذلك من خلال مقدمته الرائعة، وعلاوة على ذلك، فإنه يقوم بتركيز كل ما قام به نيتشه: خفة، عمق، أسلوب، أناقة، حيوية، صفاء، جذرية».

الخلاصة، أن الأثر الذي تسبب به نيتشه كبير جداً، حتى هو حين قال عن نفسه: «أعرف قدري... ذات يوم سيقترن اسمي بذكرى شيء هائل رهيب؛ بأزمة لم يُعرف لها مثيل على وجه الأرض، أعمق رجّة في الوعي... فأنا لست إنساناً، بل عبوة ديناميت» -حينها- ربما توقع أن يكون له أثره الكبير لكن ليس إلى هذا الحد المتواصل والمتجدد

***

فهد سليمان الشقيران

......................

نقلا عن صحيفة الشرق الأوسط اللندنية في يوم: الخميس، 20 يوليو 2023 - 02 مُحرَّم 1445 هـ

هل يمكن لعمل أدبيّ واحد أن يجمع بين التأمّل الميتافيزيقيّ والنقد السياسيّ والنظرة اللاهوتيّة التي تزعم إضاءة طريق الخلاص، وأن يكون، في الوقت نفسه، سيرة ذاتيّة ورحلة وملحمة وقصيدة حبّ رائعة؟

هذا ما كانته «الكوميديا الإلهيّة» لدانتي أليغيري، شاعر القرن الـ14 الإيطاليّ، وقد استغرقت رحلتها سبعة أيام ونصف اليوم، وإن استغرقت كتابتها، وكان في الخامسة والثلاثين، عشر سنوات.

والحال أنّ كلمة «إلهيّة» أضافها إلى العنوان جيوفاني بوكّاتشيو، الشاعر والأديب الذي لم يعرف دانتي، وتوفي بعد وفاته بعشرات السنين، لكنّه كان من أوائل من درسوا نصّه.

«الكوميديا» جاءت في أقسام (cantiche) ثلاثة (وأجزاء ثلاثة): الجحيم والمَطهر والفردوس، أمّا بطلها الراوي فدانتي نفسه، منتقلاً إلى الهداية من موقعه كـ«ضالّ في غابة معتمة»، تعبيراً عن استيلاء الخطايا على إيطاليا، ومتخيّلاً مجازيّاً رحلة الروح إلى الإله. هكذا نراه يوغل أبعد فأبعد في مهاوي الجحيم، مُشاهداً أشكالاً مختلفة من العقاب الفاحش في أمكنته التسعة: البرزخ والشهوة والشراهة والطمع والغضب والهرطقة والعنف والاحتيال، وصولاً إلى الدائرة التاسعة المرعبة التي هي الخيانة.

لكنّ «الكوميديا» هي أيضاً موقف من الأرضيّ. فدانتي، الجنديّ والسياسيّ الفلورنسيّ المؤمن، بل المسكون بأنّه مسيح آخر، كان بالغ النقديّة للكنيسة، كره خصوصاً محسوبيّاتها وممارساتها في شراء المناصب وبيع الإعفاءات من الخطايا. ولمّا كان حزب «السود» المؤيّد للبابويّة الطرف الداعم لتلك الأفعال، كان دانتي من قادة حزب «البيض» الذين دافعوا عن حرّيّات أكبر لفلورنسا حيال البابويّة، كما كان الأكثر جهراً بموقفه من البابا. وفي 1302 نجح «السود» في نفيه من مدينته التي لم يعد إليها، إلاّ أنّه، في ذاك المنفى، أنتج عمله العظيم.

وفي ملحمته «انتقم» دانتي من بعض هؤلاء، فشاهد في الجحيم خُطاة يتفسّخون كفيليبو أرجنتي، السياسيّ الأريستوقراطيّ الفلورنسيّ وأحد زعماء «السود»، وتحدّث مع خاطئ كان يحترق ولم يكن إلاّ البابا نيكولاس الثالث الذي أخبره أنّ الاثنين اللذين سيخلفانه في البابويّة سيشغلان مكانه نفسه. وبقسوة لا تعرف التحفّظ رأى دانتي أنّ بعض الخطاة يستحقّون عقوبات أشدّ إيلاماً، ما اعتُبر تشكيكاً بقرار الإله في تحديد درجة العقاب.

وهذا ما لم يكن مألوفاً في العالم القروسطيّ، خصوصاً في الشعراء، لكنّه كان استباقاً لعصر النهضة الذي عرف ولادته في فلورنسا نفسها. فدانتي وإن مثّل العالم المذكور ونظرته إلى الكون وإلى تمزّقاته وإخفاقاته، فهو أيضاً قدّم بطلاً جديداً هو «رجل النهضة» واسع الأفق والمتجرّئ، وعبّر عن روحيّة النهضة لجهة قدرة الفنّ على صنع العالم، ما سوف نراه لاحقاً مع ليوناردو وميكال إنجلو.

لقد كُتبت «الكوميديا الإلهيّة» بالإيطاليّة، حين كانت اللاتينيّة لا تزال لغة الكتابة والنخبة المتعلّمة، وهذا ما ضمن لها أوسع نطاق من الانتشار والقراءة. بيد أنّ ذاك الإنجاز، الذي عُدّ حدثاً لغويّاً وبالتالي قوميّاً، أدّى إلى تصنيفه مؤسّساً للّغة الأدبيّة الإيطاليّة الحديثة.

ومعروف أنّ دانتي كان قد باشر وضع بحث باللاتينيّة حول اللغة المحلّيّة وأهميّتها لكنّه لم يكمله.

ورغم الصور الكالحة والعنيفة في الجحيم، فإنّ «الكوميديا» قصّة حبّ كذلك. فدانتي الذي زُوّج زواجاً مُدبّراً لابنة أحد الأعيان الفلورنسيّين، كان عاشقاً لامرأة أخرى اسمها بياتريس بورتيناري. ومع أنّ الشائع عن هذا الحبّ الغريب أنّه لم يلتقِ بها إلاّ مرّتين، إحداهما حين كانت طفلة، فاعتبر أنّها بسبب جمالها «ابنة الإله»، والثانية كانت بعد تسع سنوات وقد تزوّجت، فقد أصبحت بياتريس مصدر استلهامه لمدى الحياة. فهي، التي صوّرها كائناً سماويّاً، أطلقت رحلته الى حُفر الجحيم ثمّ إلى شرفات جبل المطهر، مواكِبة سفره الطويل إلى أن ينتهي به المطاف وجهاً لوجه مع الإله. ولئن توفّيت بياتريس فجأة وهي في الرابعة والعشرين، فإنّ دانتي خلّدها بأن أبقاها الروح التي ترشده، فصارت في «الكوميديا» مثال المقدّس المرفوع إلى أعلى ذرى الفردوس.

وإلى بياتريس، شارك في قيادته فيرجيل، الشاعر الرومانيّ الذي ولد قبل المسيح بسبعين سنة، فلعب في رحلته دور العقل المشخصَن. وهذا ما كانت له دلالة رمزيّة تتعلّق بالنظرة الجديدة إلى القدامة الرومانيّة، حيث ما لبث عصر النهضة أن أعاد اكتشاف العالم القديم وجُعل فيرجيل رمزاً للثقافة الكلاسيكيّة الأوروبيّة. أمّا دليل دانتي الثالث، بعد بياتريس وفيرجيل، فهو القديس برنار كلايرفو وهو مفكّر مسيحيّ عاش في القرن الثاني عشر وكان أحد مُصلحي النظام البنيديكتيّ في الكنيسة، وصاحب آراء صوفيّة استهوت دانتي. ومع كلايرفو تنتهي الرحلة الملحمة.

لقد قال دانتي إنّه يستوحي شعره من الروح القدس، وظهر من يقول إنّه أهمّ شاعر في تاريخ العالم، كاد يقنع قارئه بأنّه رأى فعلاً ما رآه ومَن رآه، وإنّه التقى الرب كما تقول الأسطر المئة الأخيرة من قصيدته. ورغم انقضاء قرون على نشر «الكوميديا»، فإنّ ما احتوته من موضوعات الحبّ والخطيئة والخلاص تبنّاه فنّانون وكتّاب لا حصر لهم، من رودان إلى دالي وإزرا باوند.

وثمّة بين النقّاد من أضاف أنّ الشاعر الإيطاليّ الكبير تأثّر بأبي العلاء المعرّي في «رسالة الغفران»، وبابن عربي في «ترجمان الأشواق»، وهو ما لا يصعب إيجاد البراهين عليه في زمن ازدهر خلاله التأثّر والتاثير بين العوالم.

***

حازم صاغية

عن صحيفة الشرق الأوسط اللندنية في يوم: 19 – 7 – 2023م

من الضروري التفريق بين «الخوف» و«القلق» ذلك أن الخوف ينصبّ في الغالب على مواضيع ومصائر، بينما «القلق» إحساس من قبل الموجود بثغرات تتعلق بمعلوماته عن وجوده، وقد يفرّغ القلق من المسببات فيصبح مفتوحاً، وغفلاً من الأسباب، وهو القلق الغامض، كما أن القلق يرتبط كثيراً بمستوى «التفكير» فهي صفة ملازمة للمفكرين والفلاسفة، لذا كان «القلق» موضع ثناء في كثير من مدونات التاريخ أو السيَر، انظر مثلاً كتاب عبد الرحمن بدوي (شخصيات قلقة).

لكن الخوف حالة مختلفة عن حالة القلق، فالخوف يشترك الناس في الإحساس به، مهما تضاءلت أسئلتهم الكبرى، الخوف إحساس له طابع حياتي يومي، أن يخاف الإنسان باستمرار من «مصير» أو أن يخاف على أولاده وذويه من الكوارث والمصائب التي تأتي بغتةً من دون سابق إنذار.

برتراند راسل فيلسوف وكاتب إنجليزي من أشهر فلاسفة القرن العشرين، ووُصِف بأنه أهم علماء المنطق الذين ظهروا منذ عصر الفيلسوف الإغريقي أرسطو، ويُعد من أعظم الفلاسفة، حصل على جائزة نوبل عام 1950 ونوط الاستحقاق ذو القيمة الكبيرة والذي قلده إياه الملك جورج السادس عام 1949 وجائزة سوننج من جامعة كوبنهاجن عام 1960.

لم يوجِد الإنسان بعد وصفة سحرية تمكّنه من هزيمة الخوف، يتحدث عن «راسل» هذا قائلاً: (الإنسان يشعر بنفسه عاجزاً على نحوٍ خاص، وهناك ثلاثة أشياء تخيفه، الأول: هو ما يمكن أن تفعله به الطبيعة، تصعقه، أو تبتلعه أو تغمره بزلزال، والثاني: هو ما يمكن أن يفعله به البشر الآخرون، والثالث: وهو عنصر له علاقة متينة بالدين، هو ما يمكن أن تدفع به انفعالات الهوى في عنف اندفاعها للقيام بأشياء يعرف أنه سيندم على القيام بها عندما يستعيد هدوءه، هذا ما يجعل الناس يعيشون في حالة من الهلع الدائم). يوضّح «راسل» في نصه السالف إلى أن الخوف حدّ الهلع الذي يسيطر على الناس في يومياتهم المعتادة مردّه إلى «العجز» فحينما يشعر الإنسان بعجزه عن التحكّم في المصير أو المآل الذي يمكن أن يصبغ لحظاته الآتية يشعر بالخوف والترقب، لذا هو في حالة استنفار مستمرة.

إن أعنف أنواع الخوف أن يجبن الإنسان عن مواجهة ما يخاف منه، ولو على مستوى التفكير، والمهم أن يحوّل الفرد ذلك الخوف السطحي اليومي إلى محرضٍ يمكّنه من التفرد بذاته، والوصول إلى حالةٍ من الاستقلال في الرأي أو الاستقلال في البداية في تفسير معنى «الخوف» والخروج من أزمة ذاتية قوامها «الأميّة في مواجهة فحوى الخوف» وذلك عبر هجر الجهل والبدء في دراسة الذات والعالم والوجود والكون والمحيط ليصل إلى مرحلةٍ من التعلم والكدّ والبحث تساهم في «عقلنة الخوف».

***

فهد سليمان الشقيران - كاتب سعودي

عن صحيفة الاتحاد الاماراتية في يوم: 18 يوليو 2023 01:14

قد لا يصحّ القول إنّ الجاحظ كان فيلسوفا إذا كنا نقصد بالفلسفة ذلك النظام الفكري المتماسك، المحكم التصميم والبناء، لأن أبا عثمان عمرو بن بحر الجاحظ لم يكن يُنسّق أفكاره بغرض التقدّم ببناء شامل، كفلسفة أفلاطون أو أرسطو. ولا يمكن لنا أن نعدّه فيلسوفا، إذا كانت الفلسفة هي الدراسة التي تعيد كل المعارف الإنسانية إلى بعض الأصول الأساسية بغرض الظفر بنظرة شاملة إلى العالم الذي نعيش فيه، فالجاحظ لم يكن يملك رؤية أصيلة لتطور المجتمع، ولم يكن يعرف الكثير في ما يتعلق بفلسفة العلوم وفلسفة التاريخ.

لكن إذا عدنا إلى تقسيم أرسطو الفلسفة قسمين: الفلسفة الإلهية والفلسفة الطبيعية، لوجدنا عند الجاحظ الكثير من هذا التفلسف، فقد ناقش مواضيع ميتافيزيقية وطبيعية، وناقش قضية وجود الله والردّ على الملحدين، وانشغل بدراسة الطبيعة وما فيها من إنسان وحيوان وجماد. وكانت طريقته في التفلسف تنطلق من دراسة الشيء الملموس المحسوس، ثم ينتقل منه إلى المجردات والعقليات. وكان منهجه عقليا، بمعنى أنه يُحكّم العقل في كل ما يبحث به، ويخضع الأمور لمحك النقد، ويجعل الشك طريقا إلى اليقين. وكان يفسر القرآن بالعقل ويدحض الإسرائيليات والمرويات التي تتصادم مع العقل.

ولا غرابة في هذا فقد كان رأسا من رؤوس المعتزلة، تلك الفرقة التي انقرضت منذ زمن بعيد، وإن كان أثرها باقيا وواضحا في المفكرين في زماننا، فرقة العقل. سبب انقراض المعتزلة كفرقة، بمعنى اختفاء من ينتسبون إليها، ترجع بداياته إلى فتنة القول بخلق القرآن ذاتها. وكم شوّه خصوم المعتزلة مقولتهم، فالمعتزلة دعاة تنزيه، أي تعظيم لله، بحيث لا يتصورونه شبيها بمخلوق (ليس كمثله شيء) وعندما أتوا إلى صفة الكلام، استشنعوا جدا أن يوصف الله بأنه يتكلم ككلام البشر، فيلزم أن يكون له فم وأسنان وصوت، ولذلك قالوا إن الصوت الذي سمعه موسى في طور سينا، هو صوت خلقه الله في الشجرة. بعد هذا صار خصوم المعتزلة يختصرون عبارة المعتزلة "القرآن كلام الله مخلوق"، فأصبحت "القرآن مخلوق" حتى تصوّر البعض أن المعتزلة ينكرون أن يكون القرآن كلام الله.

بسبب الرغبة في التنزيه والتصور الصحيح، اضطهد المعتزلة الناسَ بقضية خلق القرآن، وكانوا يرون أن دين المرويات التي تكاثرت في الكوفة قد أصبح خطرا على الإسلام نفسه. وممن اضطُهد أحمد بن حنبل

بسبب الرغبة في التنزيه والتصور الصحيح، اضطهد المعتزلة الناسَ بقضية خلق القرآن، وكانوا يرون أن دين المرويات التي تكاثرت في الكوفة قد أصبح خطرا على الإسلام نفسه. وممن اضطُهد أحمد بن حنبل، ويروي أهل الحديث إن ابن أبي دؤاد المعتزلي قال في مجلس محاكمة ابن حَنْبَل أمام الخليفة المعتصم: "اقتله يا أمير المؤمنين فإنه كافر"، وأنه جُلد وأثخن جسده بالجراح وبقيت آثارها حتى موته. هذه القصة بهذا السياق أنكرها الجاحظ من أساسها وروى قصة أخرى تخالف كل ما في مدونات الحنابلة والسلفيين مخالفة جذرية. لا شك أن الجاحظ عقل كبير ومثقف رفيع وأديب ألمعي له فضل وأيّ فضل على اللغة العربية وعالم الفكر كله، ولا يمكن لمنصف أن يتجاهل شهادته، فقد عاصر فتنة خلق القرآن وكان من المقربين ذوي الحظوة عند العباسيين. ولد الجاحظ في سنة 159 هـ ومات سنة 255 هـ، وولد أحمد بن حنبل سنة 164 هـ ومات سنة 241 هـ وهذا معناه أن الجاحظ ولد قبل أحمد ومات بعده، وهو بذلك خير من يقدم لنا الرأي الآخر في هذه القضية، خصوصا أن الجاحظ لم يكن من المعتزلة المتعصبين للمذهب بل كان ينصح طلابه بضرب الأقوال بعضها ببعض، لكي يكشف ذلك عن جبين الحقيقة.

حاصل ما قرره الجاحظ في رسالته "خلق القرآن" أن أحمد بن حنبل الذي لم يذكر اسمه "لم ير سيفا مشهورا، ولا ضُرب ضربا كثيرا، ولا ضُرب إلا ثلاثين سوطا مقطوعة الثّمار، مشعَّثة الأطراف، حتى أفصحَ بالإقرار مرارا".  أي أن أحمد بن حنبل، بحسب الجاحظ، أقرّ بخلق القرآن في مجلس الخليفة مرارا ولم يصمد كما اشتهر عنه. وهذا رأي صادم يختلف عن المشهور عند أهل الحديث وعامة المثقفين من المهتمين بالتاريخ.

لا يمكن لباحث موضوعي أن يرضى بقدح السلفيين في الجاحظ بناء على رغبتهم في إسقاط شهادته كما فعل شمس الدين الذهبي حين ترجم للجاحظ في كتاب "سير أعلام النبلاء"، فقال: "كان ماجنا قليل الدين، له نوادر". ومما لا شك فيه أن كتاب الذهبي "سير أعلام النبلاء" كتاب تربوي مهم، لكن كتب السير بدورها لا تخلو من التعصب، فالذهبي على الرغم من أنه من أنزههم، وأحفظهم للسانه، إلا أن التعصب لأهل الحديث ظاهر في كتابه. الشخصيات الوارد ذكرها في "سير أعلام النبلاء"، إما أن تكون للزعماء السياسيين أو لرجال الدين أو للأدباء، وهم المثقفون في تلك الحقبة. وأقل الناس حظا في كتاب الذهبي وأمثاله هم الأدباء، إذ لا يخصهم إلا بصفحة أو نصف صفحة، والزعماء السياسيون والأبطال المغاوير أحسن منهم حظا، لكنهم لا يصلون عنده لمستوى رواة الحديث والفقهاء وقيمتهم. من ذلك أننا نجد الذهبي يخص أحمد بن حنبل بمائة وإحدى وثمانين صفحة (في الطبعة الحديثة)، ويخص الجاحظ بخمس صفحات فقط، ويخص صلاح الدين الأيوبي وكل معاركه العسكرية والسياسية وحروبه التي خلدها التاريخ باثنتي عشرة صفحة!

أحمد بن حنبل، بحسب الجاحظ، أقرّ بخلق القرآن في مجلس الخليفة مرارا ولم يصمد كما اشتهر عنه. وهذا رأي صادم يختلف عن المشهور عند أهل الحديث وعامة المثقفين من المهتمين بالتاريخ

وصف الذهبيُ للجاحظَ بأنه "ماجن قليل الدين" يحتاج إلى وقفة، لأنك حين ترجع لترجمة الذهبي في الكتاب نفسه لأبي نواس فستجد أن أشدّ ما قاله الذهبي فيه هو: "ولأبي نواس أخبار وأشعار رائقة في الغزل والخمور، وحظوة في أيام الرشيد والمأمون. مات سنة خمس أو ست وتسعين ومائة. وقيل مات سنة ثمان وتسعين عفا الله عنه". تأمل هذا الزيف! "الجاحظ ماجن قليل الدين" وأشنع ما في أبي نواس هو "الأشعار الرائقة في الغزل والخمور، عفا الله عنه". في طبيعة الحال، وصف الجاحظ بالمجون وقلة الدين له علاقة برسالته عن "خلق القرآن" ورسالة له أخرى أطلق فيها على أهل الحديث والمرويات لقب "النابتة"، وفي غيرها وصفهم بأنهم "حشوية". ليس إلا ذاك. ولأبي نواس فضيلة ودَين على أهل الحديث، فهو الشاعر الذي هجا خصمهم إبراهيم بن سيّار النظّام. النظام هو هرم المعتزلة الأكبر، بل هو من وجهة نظري أذكى وأعمق المتكلمين المسلمين قاطبة.

من هنا نعرف أن هذه الألقاب "حشوية" و"نابتة" ترجع إلى الجاحظ، وقد تكون معروفة قبله، فيكون بذلك ناقلا لا ساكّا. وفي كلا الحالتين، قد نرى أن ما نعيشه في ثقافتنا العربية ليس بصراع جديد، بل قديم، فهو صراع المثقفين من علماء اللغة وأهل المرويات وجماعة المحتكرين للحقيقة، معركة لا تزال متقدة منذ أيام الجاحظ، بل قبله، مع أن كل هذا الذي سردناه لا يعني أبدا ترجيح رواية الجاحظ، بل يكفي أن نصل إلى شيء من النسبية هنا، نسبية الشك.

***

خالد الغنامي

عن موقع المجلة في يوم 12 يوليو 2023

ما بين 200 و 800 قبل المسيح ظهر كثيرون من كبار رموز التاريخ ومؤثّريه، في عدادهم كونفيوشيوس وبوذا والأنبياء العبرانيّون (عاموس وأشعيا وأرميا...) وسقراط وأفلاطون وأرسطو، وكذلك زرادشت (علماً بأنّ دراسات أحدث عهداً ردّت الأخير إلى حقبة أسبق). وهؤلاء الذين ولدوا في الصين والهند وفلسطين واليونان وإيران شكّلوا أبطال الحقبة التي سمّاها الفيلسوف الألمانيّ كارل ياسبرز «العصر المحوريّ» (The Axial Age) والذي يتكثّف خصوصاً حوالى 500 ق. م، مشكّلاً الاندفاعة الحضاريّة الثانية في التاريخ بعد حضارتي مصر وما بين النهرين.

في هذه القرون الستّة شهد العالم تغيّرات كبرى طالت الاقتصاد والتشكّل الإمبراطوريّ وطرائق الحكم وأحجام المدن، فبدا أنّ البشريّة تقفز قفزة تطوّريّة في نظرتها إلى الذات والعالم.

ولم يكن ياسبرز أوّل من قال بهذا التحقيب، لكنّه أوّل من صاغه وبلوره على النحو هذا، كاسراً السرديّة المسيحيّة – الأوروبيّة للتاريخ الإنسانيّ والتي شطرته إلى ما قبل المسيح وما بعده. ففكرة الثالوث المسيحيّ كانت، بحسب هيغل، محور الانعطافة التاريخيّة الكبرى التي أكّدت مركزيّة المسيح. ومع أنّ ياسبرز ذكر أنّه استلهم هيغل، غير أنّ فكرة «العصر المحوريّ»، كما حملها كتابه «في أصل التاريخ وهدفه» (1949)، أحدثت انقلاباً كاملاً على تحقيبه.

لكنْ يبقى أنّ السمة الأعمق لـ«العصر المحوريّ» ظهور رؤية متعالية (transcendental) قال بها أنبياء ذاك الزمن وفلاسفته. هكذا أعيد تقييم السياسات والأخلاقيّات الأرضيّة، أو جرى استبدالها، عملاً بالرؤية المذكورة وإملاءاتها. وكان للمكوّن الدينيّ الجديد أن أملى تغيّرات وتجديدات في اللاهوت والطقوس على السواء. فالسلطة القصوى والأخيرة (لله أو للآلهة) باتت تتعدّى العالم الطبيعيّ فيما بات يُرى إلى مسارات الكون بوصفها دورات تمثّل حركة المقدّس.

وهذا التجاوز لما يتعقّله البشر لا يطال بالضرورة الحيّز المكانيّ، بل مفاده أنّ معايير الزمان والمكان التي نعرفها في حياتنا لا تنطبق على ما وراء الكون. وهذا ما لا نستطيع، نحن البشر، استيعابه لأنّنا محكومون بشروط الزمان والمكان.

فـ«العصر المحوريّ» بالتالي هو الزمن الذي يروح فيه البشر يفكّرون في محدوديّة قدرتهم على الفهم ويندفعون، للمرّة الأولى، إلى التفكير بتلك القوّة التي تتعدّاهم وتستطيع ما لا يستطيعونه.

وهم قبلذاك لم يفكّروا في عالم غير هذا العالم، كما لم يظنّوا أنّ ثمّة واقعاً بديلاً له. وهذا هو التحوّل من دين مؤسّس على الطبيعة إلى دين متعالٍ على الطبيعة يولد معه العامل الخارق (supernatural) المجهول والغامض.

وبالطبع فُكّر قبل «العصر المحوريّ» بالآلهة بوصفهم أعلى من البشر وبأنّهم يملكون ما هو أقوى كثيراً من قواهم، لكنّ الآلهة ظلّت شبيهة بالبشر تقيم معهم في العالم نفسه، وإن اختبأت أحياناً في الكهوف والوديان.

كذلك لم يخطر لأحد، قبل ذاك العصر، بأنّ الجميع يمكن أن يتساووا في مكان ما. فقد كان من خارج المُتَخيّل أن يتساوى الحاكم والكاهن الأعلى، وعلى أيّ مستوى كان، مع الراعي والمزارع. لكنّ «العصر المحوريّ» انتصر لفكرة أنّ الناس يستطيعون، على الأقلّ، أن يملكوا طاقات وقدرات تؤهّلهم أن يكونوا متساوين، وأن تحاسبهم بالتساوي عدالة كاملة كانت فكرتها قد ظهرت للتوّ أيضاً.

فأحدٌ لم يفكّر قبلاً بأنّه قد يصعد إلى السماء وقد يُحاسَب بموجب المعايير نفسها التي يحاسَب بها الأقوياء، وكان كلّ ما يُرجى من تقديم الأضاحي للآلهة التخفيف من عناء الحياة ومصاعبها على هذه الأرض حصراً. والحال أنّ الحساب الأخير والجنّة والنار وما بعد الحياة هي، بمعنى ما، طلب لعدالة تعوّض عن نقص العدالة على الأرض.

بالطبع لم يؤدّ «العصر المحوريّ» إلى إلغاء الأضاحي للمعابد وممارسات أخرى من هذا القبيل، إذ أنّ أموراً كهذه تستلزم قروناً، لكنّ نوعاً جديداً من الممارسة الدينيّة بدأ يشقّ طريقه، ومعه بات ما يحصل في المعبد ليس الشيء نفسه الذي يحصل في حياة البشر.

ومع الحاجة إلى معرفة «أسرار» الكون والدين بدأت تظهر طبقة الأخصّائيّين. ففي الهند، تأثّرت الهندوسيّة، مع أنّها أقدم عهداً من «العصر المحوريّ»، بجديد العصر المذكور. هكذا نشأ «الغورو»، وهو يختلف عن الكاهن الذي يقتصر دوره على المعبد القديم وتقديم الأضاحي.

فـ«الغورو» يعلّم أناساً ليسوا بالضرورة دينيّين كيف يُمَتِّنون علاقتهم بالمرجعيّة الأخيرة والنهائيّة بما يُكسب حياة صاحبها إضافة نوعيّة. والشيء نفسه يصحّ في اليهوديّة، حيث نشأ التقليد الحاخاميّ، والحاخام، كالغورو، يعلّم الناس الزمنيّين كيفيّة التوافق مع الله.

وبسبب نشوء المتعالي المجهول، ولد تحوّل أنثروبولوجيّ يعيد تعريف البشر بما يتعدّى دورهم الاجتماعيّ ومظهرهم الطبيعيّ، مركّزاً على الروح والنفس بوصفهما جزءاً من «الخارق» أو امتداداً له. هكذا بات المجتمع الإنسانيّ، للمرّة الأولى في التاريخ، موضوعاً للتحليل التأمّليّ.

لقد ذهب بعض النقّاد إلى أنّ عيب نظريّة ياسبرز هو كعيب الرأي المسيحيّ – الأوروبيّ في القرن التاسع عشر عن قدوم المسيح بوصفه المنعطف الأكبر في العالم. صحيح أنّ نظريّة «العصر المحوريّ» تأخذ في حسابها الصين والهند وفلسطين وتكسر الواحديّة الأوروبيّة والمسيحيّة.

إلاّ أنّ نقّادها رأوا أنّها ترى العالم بعيون أوروبيّة. فياسبرز، في عرفهم، أزاح المسيح عن الصدارة ليضع فيها كونفيوشيوس وبوذا وأشعيا وسقراط، إلاّ أنّه لم يتخلّ عن فكرة الصدارة نفسها.

***

حازم صاغية

عن صحيفة الشرق الأوسط اللندنية في 11 – 7 – 2023م

يحمل العقل باعتباره سلة فكرية جامعة، العديد من الآراء والقيم المحددة للسلوكيات، إذ بنيت وتشكلت ملامحها بناءً على حمولتها المتراكمة، سيما أنها خليط «دسم» بين معطيات التراث والحداثة، ونزر من رشفات المستقبل.

وفي النظر للعقل، الديني منه على وجه الخصوص، فإن فهم أساليبه المنتهجة في طرائق التفكير، والحصول على أقرب صورة مشابهة له، تتطلب عناية بحثية تفكيكية، فاصلةً بـ«غربال» المنهجية والموضوعية العلمية بين الكم التراثي الفكري (الإيديولوجي)، والآخر المبني على الخرافة والتقليد، وفي ذلك مهمة صعبة المنال ولكنها ليست بالمستحيلة، سيما أن أقرب مثال حي على ذلك يتمثل في المحاولات الحثيثة لتنقية التراث الإسلامي من عوالق التراكمات، وتحريره من ثقلها الملتصق بقوة تارة في جسد ذلك التراث، وتارة «أقوى» في عقول وارثيه، إذ يقل ذلك التراث في قلوبهم قبل عقولهم موقع إرث الفلاحين القدامى لقطعة من الأرض، دون إدراك ما قد يعتريها من زلازل، أو يتغير عليها من مناخ.

ومن ذلك فإن حتى النظر في بنية العقل الديني، واستلهام طرائقه في الاستدلال والاستنباط، لا تكون من خلال نافذة جامدة تقر بالموافقة دون الفهم، بل إن الأحرى والأقرب للدقة بعد التمييز بين مادة الدين «التأسيسية» المتمثلة بالنصوص الدينية المقدسة كالقرآن الكريم والسنة النبوية في الدين الإسلامي، وبين النصوص الثانوية، التي تمثلها النتاجات العلمية والثقافية المبنية على الفهم الموروث والشروحات والتأويلات التي كان كل منها ذو علاقة مع «أبوية» زمكانية.

وعليه، فلا يمكن فهم ألفبائية العقل الديني، دون فهم عناصر التفريق الآنف، والعمل على أساسه، إذ يقول المفكر محمد أركون فيما دون من مادة «التراث المقدس»: «دُوِّنت بعد فترة طويلة نسبياً من تاريخ النبوَّة، وبناءً على الذاكرة الشفهيَّة للصحابة أو الحواريين...إلخ (...)، وفي أثناء عمليَّة الانتقال من التراث الشفهي إلى التراث الكتابي تضيع أشياء، أو تُحوَّر أشياء، أو تُضاف بعض الأشياء، لأنَّ كلَّ ذلك يعتمد على الذاكرة البشريَّة، وهي ليست معصومة إلا في نظر المؤمنين التقليديين الذين يصدّقون كلَّ شيء. كما يعتمد [ذلك] على الصراع الإيديولوجي أو التنافسات الحادَّة على السُّلطة التي لا تخلو منها بدايات أيّ دين».

العقل الديني وأسس الاستدلال التي اتكئ عليها، لا يكون احتضان جوانبها دون إسفاف أو تبذير دون الوعي بالإشكاليات التي واجهت فهم ذلك العقل، أو شاركت في تكوينه، إذ هي متصلة والأسس التي آل للارتكاز عليها والاستدلال من خلالها، وكأنها منظار يوضح كل ما أشكل فهمه، ففي التكوين الديني للعقل، لا يمكن إهمال «الترسبات» الفكرية التي تحدد بوصلة اتجاهه في الحياة عامةً، سيما أن تطور العقل يعيش علاقة طردية نشطة مع الكم المعرفي والثقافي، ومن هنا اعتمد ابن خلدون على رأيه في أن النفس الناطقة للإنسان توجد فيه بالقوة، ولكن قدرتها على الخروج من طور «القوة» إلى طور «الفعل»، محكوم بمدى حصولها على «تحديثات» العلوم، وامتلاك ثروة «نظرية»، تجتمع مولدةً للإدراك الحقيقي.

ولو أن ذلك فُهم حد الإدراك، وأُدرك حد الفعل والتصرف، لما وقع كثر من العلماء والنظار في فخ «القداسة المزيفة»، وذلك من خلال استيعاب كنه الاجتهادات السابقة، وحسن تصنيفها، إذ هي تنزيل للمطلق من مصادر التشريع كـ(الكتاب والسنة)، في حركة النّسبي (الحاضر المتغير)، وليست صورة جامدة ممتدة في ذات «النوتة» على كافة المجتمعات الإنسانية جمة التحول، ولذلك السبب كان الدين «عالمياً»، فمن أين يجيء الإصرار لدى البعض على استنساخ التراث وإلصاقه بحذر، وذلك يخالف بالأساس ميزات العقيدة؟ تتجلى خلاصة الوصول للعقل الديني، والسير به على وجه الحقيقة إلى محطة الاستدلال القويم، في أي دين أو شرع وجد بحكمة إلهية قاصدة تذليل الصعاب للإنسان، وتوجيهه لإعمار الأرض، وإعانته في أداء رسالة وجوده، والغاية من ذلك الوجود، يستلزم القفز عن «المعضلات الكبرى» التي تتلخص في جهل منعقد بفهم التشريع (نصوص القرآن الكريم، السنة النبوية، ...)، أو جهل منبعه قصور الفهم بالمنهجيات التي تعاملت مع أصول التشريع، أو جهل متصدر للمجتمعات والعقول من خلال تولية غير الكفؤ لمنبر الاجتهاد والحكم الشرعي.

وعليه فإنه لا يمكن التسليم لأي أفكار أو معتقدات تخالف مقاصدية العلم الديني، الذي وجد لتوسيع المدارك، وحسن معرفة الخالق، والأخذ بيد الإنسان للأيسر والأقوم، ارتفاعاً به عما يعيق رسالة استخلافه من مظاهر الفساد والخراب، والإرهاب، والكراهية، وتقريباً لطموحاته من كل ما هو نفيس في الفهم، والفكر، والفعل.

***

د. محمد البشاري

عن صحيفة الاتحاد الإماراتية في يوم: 25 ابريل 2022

في سن التسعين يُصدِر هذه الأيام المفكرُ المغربي عبد الله العروي كتابَه الجديد «الفلسفة والتاريخ» الذي يختلف جزئياً عن الكتاب الذي أصدر بالفرنسية تحت العنوان ذاته عام 2016. وكثيراً ما يعتبر العروي فيلسوفاً، وإن كان ينفي عن نفسه هذه الصفة ويؤكد أنه مؤرخ، حتى ولو كان يستند في عمله التاريخي إلى مفاهيم ونظريات فلسفية.

والواقع أن سلسلة المفاهيم التي خصصها للحرية والدولة والعقل والتاريخ والأيديولوجيا تدخل في الكتابة الفلسفية بأسمى معانيها. والمعروف أن المؤرخين المحترفين في المغرب يرون أن العروي ليس مؤرخاً بالمعنى التقليدي، حتى ولو كان ألَّف كتابَه المرجعيَّ الهامَّ حول تاريخ المغرب (العربي) وكَتبَ عن الجذور التاريخية للوطنية المغربية.

ولا شك في أن العلاقة بين الفلسفة والتاريخ لم تكن بديهيةً ولا طبيعية في الماضي، وإن تزامنت نشأةُ الفلسفة مع ظهور علم التاريخ في العصر اليوناني. لقد اعتبر افلاطون وآرسطو أن التاريخ لا يمكن أن يكون علماً برهانياً دقيقاً، لأن مجالَه هو التغير والاحتمال، في حين أن المعرفةَ الصحيحة هي إدراك الكليات الثابتة.

لكن العلاقةَ تغيرت جذرياً منذ ما دعاه لوي التوسير «اكتشاف ماركس قارةَ التاريخ» (والأصح أن هيغل هو الذي اكتشف هذه القارة)، حيث أصبحت الفلسفةُ نمطاً من الانطولوجيا التاريخية، وغدا التاريخُ هو حقل الاستكشاف الفلسفي الأبرز. وبالعودة إلى العروي، نلمس هنا أنه منذ مقدمة كتابه الأخير يتعرض لهذا الإشكال، مستنتجاً أنه «ليس من السهل إذن التنصل من قبضة التاريخ، حتى عندما يقرر المرءُ نظرياً التقليلَ من تأثيره».

والحقيقة أن العروي ألّف كتابَه للرد ضمنياً على الذين انتقدوا نزعتَه «التاريخانية»، وفي مقدمتهم محمد عابد الجابري في كتابه «الخطاب العربي المعاصر». ومع أن جانبَ السيرة الذاتية الفكرية يطغى على الكتاب، فإن الغرض الأساسي منه هو توضيح هذه النزعة التاريخانية والدفاع عنها، في أصولها النظرية، وفي تطبيقاتها العملية المتمحورة حول أطروحة الشيخ والسياسي وداعية التقنية، والتي بلورها في كتابه الأول «الأيديولوجيا العربية المعاصرة».

ما يميز «التاريخانية» هو الوعي بالتحديد السياقي للحدث التاريخي، أي اعتباره إطاراً ضابطاً للتصورات والمواقف، ولا يمكن الخروج عنه بمطلقات عليا متعالية، تتجاوزه وتسبقه. وذلك ما عبّر عنه بالرجوع إلى تمييز بندتو كروتشه بين التاريخية التي تتعلق بظروف تشكل الظاهرة الحدثية والتاريخانية التي تعني أنه «لا يتصور أي مبدأ يساعد على ترتيب الوقائع وتوجيهها وجهة مقنعة إلا ما يبرره التاريخُ ذاتُه».

ووفق هذا الرأي، لا يمكن تأويل الخطابات والأفكار إلا في سياقها التاريخي الذي تنتمي إليه، وليست العبرة بمضامينها ذاتها. فالفقيه الإصلاحي (مثل محمد عبده وعلال الفاسي) يستخدم مقولاتِ التنوير الأوروبي والحداثةَ في إطارٍ سجالي جدلي فرضه الاحتكاكُ مع التاريخ لكنه يظل في انفصام مع حركية الزمن الحاضر. ونفس الحكم ينطبق على السياسي الليبرالي المتشبث بمثال الحرية لأغراض أيديولوجية، دون الوعي بالثمن المعرفي والاجتماعي الباهظ للتحول الليبرالي المنشود في السياق العربي مقارنةً بالتجربة الأوروبية الحديثة.

أما داعية التقنية فيسلك طريق البرغماتية النفعية في مشروع النهوض، لكنه لا يخرج من المأزق الأيديولوجي المتولد عن سطحية نظرته للاكتشاف العلمي والإبداع التقني واعتقاده الساذج بسهولة استيرادهما من لدن الدولة الوطنية الناشئة. وهكذا يخلص العروي إلى القول بأن «المثقف العربي إذا وعى الوضعَ الذي يعيش فيه يعي بالضرورة أن فكرَه أيديولوجيٌ بطبعه، أي أنه خاضع لحكم تاريخ شمولي، وأن فكره جدلي بالتعريف، وأن هذا الطابع الجدلي يوحي بأن لا أفق له سوى التاريخانية». والتاريخانية التي يقصدها هنا تقوم حسب عباراته على المنفعية الأخلاقية والفلسفة الوضعانية وترفض العودة للميتافيزيقا أو الانطولوجيا.

ومع أن العروي يتجنب في كتابه الحديثَ عن الكتابات الفلسفية العربية الحالية، والتي لا شك في أنه مطلع عليها، لكن من الواضح أنه يقصد الاتجاهات الظاهراتية والتأويلية والتفكيكية التي تستأثر بجانب وافر من اهتمام المشتغلين بالفلسفة في الساحة العربية الحالية. وقد تكون «العقدة الفلسفية» الواعية لدى العروي ناتجة عن إدراكه بأن الفكر الفلسفي في اشتغاله واهتمامه لا يمكن أن يتنصل من الميتافيزيقا ومن الإشكالات الوجودية الجوهرية التي هي خارج الزمنية التاريخية، ولو في أبعادها المفهومية والفكرية المحددة. وإذا كان فيلسوف الحداثة الأكبر إيمانويل كانط قد علَّمنا أن الفلسفةَ أصبحت تفكيراً إشكالياً في الحاضر، فهو نفسه الذي نبَّهنا إلى أن الميتافيزيقا ليست تفكيراً نظرياً مجرداً محضاً، بل هي الموجِّهاتُ الضابطةُ لنمط الوجود البشري في مرتكزاته الأخلاقية والمجتمعية.

***

د. السيد ولد أباه - أكاديمي موريتاني

عن صحيفة الاتحاد الامارتية ليوم: 25 يونيو 2023 23:37

عالم وردي جميل لا ينقصه أي من الاحتياجات والمأمولات التي توفر رغد الحياة، والكثير من العناية بـ«الأنا»! إن هذا الاتجاه، حول سعي الإنساني وجهوده في مسار البحث عن الحلول الجماعية، كثيراً ما غرق في الطريق المؤدية لنجاة الفرد فقط، في صورة مخالفة لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «مثلُ المؤمنين في تَوادِّهم، وتَراحُمِهِم، وتعاطُفِهِمْ، مثلُ الجسَدِ إذا اشتكى منْهُ عضوٌ تداعى لَهُ سائِرُ الجسَدِ بالسَّهَرِ والحُمّى».. فهل يعبر الشعور الجمعي اليوم عن حالة من التراحم الجماعي أم أنه منشغل بعلاج حُمّى الفردية؟

عاشت المجتمعات الإنسانية تجمعاً واتحاداً في الفكر والمسعى، صانعةً «أقطاباً» متنوعة في انتماءاتها وأهدافها الكبرى، وهذا كله قبل أن تذوب تلك الشمعة بلهيب الفردانية العازف عن المشاركة في الأهداف الجمعية، والمتقوقع على الذات والكسب الشخصي والجري وراء غاية السعادة وارتشاف ملامحها دون الالتفات لحقيقة وجود الآخر.

ولعل الذي ساعد في تضخم الفردانية في الأوساط العربية دون غيرها، وعلى غير المعتاد، أن ذلك مثل رد فعل غير مباشر على الظروف السياسية المتقلبة التي عاشتها المنطقة، والأزمات الاقتصادية، بالإضافة لبعض الإحباط المتعلق بالوضع المعيشي، وتنامي معدلات الهجرة سعياً لتحقيق نجاح فردي وارتقاء معيشي. إن الانغماس في «لذة النزعة الفردانية» سيؤول بلا شك لتضاعف المظاهر الاجتماعية والانعكاسات الاقتصادية المؤلمة والقاسية، منتِجةً المزيداً من الفقر والتشرد والجوع، كما ستعمل على محق «الطبقة الوسطى» في المجتمعات بصورة غير مسبوقة!

وعلى مستوى التكوين المجتمعي، فلن تكتفي هذه النزعة الموحشة بتمزيق جسد الأسرة، وإلغاء ملامح الترابط الأسري والقبلي الذي كان أحد المواثيق الغليظة في المجتمعات، مما يعني مضاعفة التحديات وازدياد الأعباء على الدول والحكومات. وفي حين يخيل لأحدنا أن مثل هذه الظواهر والاتجاهات الفكرية وترجماتها السلوكية تقتصر على فئة محددة، وبالتالي فهي ذات أثر محدود، تتمدد اليوم ملامحُها بكيفية لا تؤثر على تكوين هذا الكوكب الاجتماعي الذي أفرز نماذج مترهلة ومفككة فحسب، بل تمتد لكبرى التحديات التي ترهق العقول القاطنة على هذا الكوكب، والتي يعد خطر التدهور البيئي أحدها. فالفردانية مغرقة في الاستهلاك اللامسؤول وفي تبديد الفائض عن الاستهلاك الضروري أو اللازم. وبما أن الفردانية متعلقة بالفرد، فهل يمكن الدفاع عنها كحرية شخصية؟

وكيف يمكن الإصغاء للطروحات التي تراها تحت بند «الحريات»، وبالتالي فإن لها ما لها من الأثر على الأمن الروحي والفكري والصحي والغذائي لكافة مخلوقات العالم. وبالإمعان في تفاصيل نسب الهدر المتعلق فقط بالطعام لعام 2019، نجد أن 17 بالمائة من إجمالي الإنتاج الغذائي العالمي مصيره الإتلاف والهدر، مع أن ملايين البشر يتطلعون لمضغ «حفنة أرز»! نجحت السياسات الحديثة والرسالة الإعلامية «المكثفة» في تشكيل صورة ثقافية متوارثة بين الأجيال، تطمح دائماً لتحقيق فردانيتها بمنأى عن العالم وضجيجه.

فقد رسخ هذا الإعلام وتلك السياسات صورَ الشباب الساعي لتحقيق ذاته، والذي تمت إحاطته بمادة إعلامية وإعلانية دسمة تمجد الفردَ وتعطيه دورَ البطولة باختلافه عن الكل، في الغاية والهدف وأسلوب الحياة، ممثلين نماذج «مخالفة» للنظام العام! إن النزعة «الفردانية» هي بداية النهاية لكل مستقبل خطط له الإنسان، ولا بد من نزعه بدل رتقه ونسج مظلة واسعة متينة من المشتركات الإنسانية وتعزيزها بكل ما أوتي الإنسان من قوة، لا سيما الثوابت التي رسخها الإسلام والمتجلية في صور التعاون والتراحم والإغاثة والتشاور وإعادة «دور العلماء» والفقهاء من خلال نقد السلوك المجتمعي، وإرشاده للبدايات المجدية التي تنقذ أبناءنا من التطرف والتفسير المنحرف للنص الشرعي، وذلك من خلال جسر ثابت من الثقافة الرصينة والفهم المتزن والنظرة المعتدلة.. إلى جانب السياسات والقوانين الحيوية التي تنقل أفراد المجتمعات من عزلة الفردانية لسعة الجمعية الرؤوم.

***

د. محمد البشاري

عن صحيفة الاتحاد الاماراتية ليوم: 27 يونيو 2023 23:30

ما لا شكّ فيه أنّ مساهمة الإغريق القدامى لحضارتنا الإنسانيّة خضعت للأسطرة والمبالغة. لكنّها تبقى، بعد حذف الأسطرة والمبالغة، مساهمة جبّارة وأكبر من أيّة مساهمة أخرى.

فهناك حضارات كثيرة سبقتها وعاصرتها، وفاقتها في مجالات الدين والروحانيّات والميثولوجيا. لكنْ حين يصل الأمر إلى فهم عالمنا وتأويله على نحو عقلانيّ غير ميثولوجيّ، يأتي الإغريق، لا سيّما أثينا، أوّلاً.

فالأخيرة استفادت من موقعها البحريّ واعتمادها على التجارة واتّصالها بالعالم الخارجيّ، وكان هذا على الضدّ من معظم الحضارات النهريّة التي قام اقتصادها على الزراعة، ما جعلها أشدّ انكفاء وأكثر انضباطاً بإملاءات الطبيعة.

ولربّما كان بروميثيوس، بين الأبطال الأسطوريّين الكثيرين الذين أنتجتهم ثقافة الإغريق، الأشدّ تمثيلاً لتلك الروحيّة الثقافيّة المتجرّئة: فمن حبّ البشر انبثق الإلحاح على تزويدهم بنار الآلهة، تلك الشعلة المقدّسة، وذلك في تحدٍّ صريح لرغبة زوس، إله السماء في الأساطير الإغريقيّة.

أمّا المعادل العمليّ لامتلاك الشعلة المقدّسة فإنّ الفلسفة والديمقراطيّة وفنّ العمارة والرياضة والتراجيديا باتت تجد أصولها الأولى هناك، علماً أنّ تغيّرات نوعيّة طالت معانيها لاحقاً. كذلك اختُرعت النقود، بين 600 و700 قبل المسيح، في مملكة ليديا باليونان. كذلك فالكثير من الكلمات التي نستخدمها راهناً، ومعظمُها يصف مفهوماً أو سلوكاً عريضاً، فجيء به من أسماء المدارس الإغريقيّة التي سبقت سقراط: يصحّ هذا في «ذرّة» (atom) و»كلبيّ» أو «سينيكيّ» (cynic) و»متشكّك» (sceptic) و»أكاديميّ» (academic) و»رواقيّ» (stoic) و»تجريبيّ» (empirical)...

إذاً هكذا كانت بداية البداية، مع القرنين السادس والخامس قبل المسيح، وقد مثّلتها موجة الفلاسفة والعلماء الذين سُمّوا «فيزيائيّين» و»فلكيّين»، تبعاً لاهتمامهم بالعلوم، وخصوصاً الفيزياء وعلم الفلك.

ولئن أثبت التطوّر العلميّ اللاحق أنّ هؤلاء ارتكبوا قدراً معتبراً من الأخطاء، فالعالم القديم الذي خرج منه العلم، كما الفلسفة، كان مليئاً بالأساطير والقصص المُتخيّلة في تأويله. والحال أنّ الخلفيّة العلميّة التي كانت متوافرة حينذاك، وشكّلت مادّة انطلاقهم، بدت فقيرة جدّاً تكاد تقتصر على فكرتين: وجود العناصر الأربعة الأولى، النار والماء والأرض والهواء، ومبدأ التناقضات ما بين سخونة وبرودة، ورطوبة وجفاف، وارتفاع وانخفاض... لهذا فحين تُقرأ تلك البدايات ينبغي التفكير دائماً بحدود ذاك الزمن وقدراته.

فعلماء ما قبل سقراط وفلاسفته هم علماء ما قبل العلم وفلاسفة ما قبل الفلسفة ممّن طرحوا أسئلتهم عن نظام الطبيعة وعمليّاتها وموادّها، وكذلك عن أصول الكون، بحيث بدأ معهم ميلاد العلم مصحوباً بميلاد الفلسفة. وبرفضهم الأخذ بالقصص والأساطير، أو الملاحم، صار فهم العالم يتمّ في العالم نفسه عبر تعميق معرفتنا به. وفي مقابل أسئلة «سِفر التكوين»، وقبله ملاحم ما بين النهرين، لم يَدُرْ اهتمام الإغريق حول مَن صنع الكون، بل انصبّ على الأسئلة العمليّة: ممّاذا صُنع الكون، وكيف تشكّل؟... وبدل أسئلة «مَن؟» و»لماذا»، أُعطيت الأولويّة لسؤالي «كيف؟» و»ماذا»؟ وكان من أبرز هؤلاء طاليس الذي حاول العثور على تفسير طبيعيّ للظاهرات بدل التفسيرات التي تردّها إلى أهواء الآلهة، كما تكهّن بالكسوف، وتلميذه أناكسيمندر، وكان أوّل إغريقيّ يضع رسوماً بيانيّة فلكيّة وجغرافيّة، وأناكسيمِنيس الذي وصف الحالة البدائيّة للأشياء ككتلة تتعرّض للضغط فتغدو ريحاً وغيوماً وماء، وأنيكساغوراس، أستاذ بيركليس، أبرز حكّام أثينا الديمقراطيّة، والذي اكتشف عمليّة التنفّس في النبات والأسماك، وهيراقليطس الذي نقل العلم من الفلك إلى الأرض، فرأى أنّ كلّ شيء يتدفّق ويتغيّر، وحتّى أكثر الموادّ جموداً ينطوي على حركة غير مرئيّة، فيما النار محرّك الأرض والتاريخ، وإيمبيدوكليس الذي دفع فكرة التطوّر إلى أعلى، حيث لا تنشأ العضويّات عن تصميم مسبق بل عن فعل انتخاب، ولوسيبوس الذي رأى أنّ الضرورةَ الدافعُ الدائم وراء الأشياء وحركتها، وتلميذه ديموقريطس الذي اعتبر أنّه لا يوجد في الواقع سوى الذرّات والفراغ، وأنّ عدداً لا محدوداً من العوالم سبق أن نشأ قبلاً، كما ينشأ الآن، وسوف ينشأ دوماً، وأنّ الكواكب تتصادم وتموت فيما تنهض من الفوضى عوالم جديدة، وفيثاغور صاحب الكثير من الاكتشافات العلميّة ومعادلات الرياضيّات، ما أجاز تسميته «أب الرياضيّات»، وتلميذه فيلولوس الذي قال إنّ في الإمكان تقسيم العالم إلى موادّ غير محدودة وأشكال تحدّ منها وتؤطّرها، وأنّه يمكننا استخدام الرياضيّات كي تُظهر التناسق الذي يجمع بين الموادّ والأشكال المتنافرة كما يحصل في الموسيقى، وبارمينيدس الذي دفع الفلسفة نحو المنطق الاستنتاجيّ (deductive) بوصفه وسيلة لتوكيد الحقيقة، مقابل الاكتفاء بمراقبة الظاهرات الطبيعيّة، وزينو الذي لا يزال يُذكر مرفقاً بالمفارقات التي استخدمها دفاعاً عن وحدة الواقع، وكان النقاش مستعراً حول ما إذا كان الكون واحداً أم كثيراً، وميليسّوس الذي جادل بأنّ الواقع غير محدود وأنّ الفضاء الفارغ مستحيل، وبروتاغوراس السفسطائيّ الذي صوّر الإنسان بوصفه مقياس كلّ شيء آخر، وعُدّت آراؤه تعبيراً راديكاليّاً مبكراً عن النسبيّة...

وقد تفرّع هؤلاء وسواهم إلى مدارس فكريّة تسمّت باسم مكان المدرسة، كالإيليّين نسبة لمستعمرة إيليا، أو باسم مؤسّسها، كالفيثاغوريّين، أو باسم أطروحتها الأمّ، كالذريّين والسفسطائيّين ممّن امتدّ الزمن بمدرستهم حتّى عاصروا أرسطو.

هذا ولم نصل بعد إلى ثالوث سقراط وتلميذه وتلميذ تلميذه ممّن ارتكزوا إلى الجهد الذي قدّمه السابقون ليقدّموا لمن جاء بعدهم كنوزاً أشدّ إبهاراً.

***

حازم صاغية

عن صحيفة الشرق الأوسط اللندنية ليوم: 25 – 6 – 2023م

لأن طيب تيزيني في كتابه «من التراث إلى الثورة: حول نظرية مقترحة في قضية التراث العربي»، استعمل تعبير السلفية أداةً لتفسير التاريخ العربي الفكري، القديم والحديث، فلقد اهتم أن يميز بين النزعة السلفية والسلف. فالأولى، وهي المعني بها في كتابه، هي - كما قال - «تقوم على اشتقاق الحلول والمواقف المطلوبة أولاً وأخيراً من الماضي الذي كان العصر الذهبي للسلف الصالح، أما السلف فهم أولئك الذين عاشوا في مرحلة ماضية منصرمة، من دون أن يكونوا كلهم ذوي نزعة سلفية». ثم قدم ملخصاً قصيراً لنشأة النزعة السلفية وتاريخها الممتد إلى القرون الحديثة.

ومع معرفته بتاريخ نشأة المذاهب الإسلامية، إلا أنه أشار إلى أن نشأة مذهب الجبرية ومذهب أهل السنة والجماعة كانت في أواخر حياة النبي محمد! في دراسة له عنوانها «طيب تيزيني بين جاذبية المنهج ومزالق التطبيق» منشورة في العدد الأول من مجلة «الفكر العربي»، عام 1978، أمسك رضوان السيد عن مناقشة ما أشار تيزيني إليه، قائلاً: «لا أفهم له سبباً، وربما كان كله خطأ مطبعياً أو سبق قلم، ولا أريد أن أضيف إلى هذا شيئاً بانتظار سماع رأي المؤلف في هذه العبارة اللاتاريخية».

وما أشار طيب تيزيني إليه ليس خطأ مطبعياً ولا سبق قلم، هو هكذا يرى ويعتقد! بدليل أنه في الطبعات اللاحقة للطبعة الأولى من الكتاب التي راجعها رضوان السيد نقدياً لم يحذف ما أشار إليه أو يعدِّل فيه.

يقول تيزيني في فصل «نزعة المعاصرة» من كتابه «لقد اتهم إسماعيل مظهر - كما اتهم معه طه حسين ومن قبله محمد عبده وآخرون عديدون - بارتباطه بالاستعمار البريطاني أو الفرنسي أو الطلياني، وبأن آراءه التحديثية لم تكن إلا بتوجيه من هذا الاستعمار. إن هذا الموقف ذا المصدر السلفي الديني المتزمت نشهده مثبوتاً، بأشكال مختلفة وبدرجات متباينة، في كتب عديدة صدرت سابقاً ولاحقاً، منها على سبيل المثال (الفكر الإسلامي الحديث وصلته بالاستعمار الغربي) لمحمد البهي - صدر عام 1960 - و(ذيل الملل والنحل للشهرستاني) لسيد كيلاني - صدر عام 1961 - و(الفكر الإسلامي المعاصر: دراسة وتقويم) لغازي التوبة - صدر عام 1969. في هذا الكتاب الأخير مثلاً تكمن دعوة لرفض وإدانة كل فكر تجديدي كان ممثلاً بمحمد عبده أو بطه حسين أو عباس محمود العقاد، أو حتى بمالك بن نبي، وفيه في نفس الوقت إبراز وتبجيل مطنب لحسن البنا. لماذا؟».

إجابة تيزيني عن سؤاله هذا: لماذا؟ كانت باقتباس تعليمتين دينيتين متزمتتين من «رسالة التعاليم» لحسن البنا، أوردهما غازي التوبة في كتابه ضمن 38 تعليمة لشيخه حسن البنا.

وهذا التعليل تعليل غير صحيح. فتبجيل غازي التوبة المطنب لحسن البنا كان لأنه إخواني ونشأ نشأة إخوانية، فلو كان السبب تعاليم حسن البنا الدينية المتزمتة لما كان وصم في كتابه المذكور تقي الدين النبهاني وحزبه، حزب التحرير الإسلامي، بالانحراف الفكري على مختلف المستويات. فالنبهاني وحزبه لا يقلّان عن البنا وجماعته، في التزمت الديني. وما كتبه غازي عن النبهاني وعن حزبه يدخل في نطاق التنافس الحاد والصراع المحموم بين الإخوانيين والتحريريين على تمثيل الإسلام الحزبي الصحيح.

وعرض طيب تيزيني لما جاء في الكتابين الأولين يحتاج إلى تصويب في المعلومات.

كتاب البهي الذي صدر في أول طبعة منه عام 1957، لم يتهم صاحبه محمد عبده بالارتباط بالاستعمار البريطاني، بل دفع هذه التهمة عنه، فهذه التهمة - اتباعاً لجمال الدين الأفغاني - اتهم بها السيد أحمد خان في الهند.

وقد خلا كتاب البهي من أي اتهام سياسي أو ديني لإسماعيل مظهر، فالمتهمون عنده هم طه حسين وعلي عبد الرازق وزكي نجيب محمود وخالد محمد خالد ومصطفى محمود ورشدي صالح.

يصعب تصنيف محمد سيد كيلاني ضمن أي تيار من التيارات الدينية المعاصرة. كما أنه شخصية غريبة الأطوار لا تلتئم مع أي تيار أدبي أو فكري، ولا مع أي تيار ديني أو علماني.

وقبل أن أخوض في هذا الحديث أوضح أن كتيّبه الذي ذكره طيب تيزيني، صدر ضمن تحقيقه لكتاب «الملل والنحل» للشهرستاني.

في هذا الكتيب الملحق بتحقيقه لكتاب الشهرستاني، أراد محمد سيد كيلاني أن يكون كتيّبه في بابه الأول، استدراكاً فيما فات الشهرستاني ذكره من أصحاب الديانات القديمة، وإكمالاً في بابه الثاني لكتاب الشهرستاني في الحديث عن أديان ظهرت بعد عصر الشهرستاني، وكذلك كان الأمر في الباب الثالث الذي جعل عنوانه «المسلمون المعاصرون». في الفصل الثاني من هذا الباب، الذي كان عنوانه «المجتمع الإسلامي وثورته على القديم»، كان من بين الموضوعات المثيرة في هذا الفصل اتهامه على عبد الرازق بأنه في كتابه «الإسلام وأصول الحكم» سرق من كتاب «الخلافة وسلطة الأمة»، الذي أصدره المجلس الوطني التركي. وكان محمد محمد حسين في الجزء الثاني من كتابه «الاتجاهات الوطنية في الأدب المعاصر»، قد قال قبله «وتأثر المؤلف به واضح في كثير مما جاء في كتابه من آراء، وهو يشير إلى إعجابه به في إشارة صريحة في بعض المواضع». وفي عرضه لكتاب «الخلافة وسلطة الأمة» ذكر محمد محمد حسين أن الذي ترجمه من التركية إلى العربية عبد الغني سني بك عام 1924.

وليثبَّت كيلاني التهمة على علي عبد الرازق غيّر عنوان الكتاب التركي إلى «الإسلام وسلطة الأمة»، وغيّر عنوان كتاب علي عبد الرازق إلى «الإسلام ونظام الحكم»، وعلق قائلاً: وبين الاسمين تشابه كما ترى! وفي الفصل الثالث من الباب الثالث الذي جعل عنوانه «بين الكفر والإيمان» تحدث عن منصور فهمي ورسالته للدكتوراه في فرنسا التي كان موضوعها «حالة المرأة في التقاليد الإسلامية وتطوراتها»، وأخبر أن فترة الشك لم تطل عنده. وتحدث عن طه حسين وكتابه «في الشعر الجاهلي»، وعن أمين الخولي وإشرافه على رسالة «الفن القصصي في القرآن الكريم» لمحمد أحمد خلف الله.

وفي الفصل الرابع من الباب تحدث كثيراً عن إسماعيل مظهر وتجربته مع الإلحاد، وتحدث قليلاً عن تجربته مع الإيمان.

من مقال كتبه أحمد حسين الطماوي تحت عنوان «رحيل سيد كيلاني صاحب ربوع الأزبكية» نشرته مجلة «الهلال» بتاريخ 1 مارس (آذار) 1999، بعد وفاة كيلاني بشهرين، يعرف قارئ هذا المقال، أن الراحل له تجربة مبكرة مع الإلحاد في أول كتاب صدر له عام 1937، وهو كتاب «الشريف الرضي: عصره، تاريخ حياته، شعره». وللحديث بقية.

***

علي العميم

نقلا عن صحيفة الشرق الأوسط اللندنية في يوم: 25 – 6 – 2023م

قوة الفكر في ذاته بصرف النظر عن حامله

كانط: «إذا كان كل الناس يكذبون، أيكون الصدق تبعا لذلك مجرد وهم؟» ويقصد بذلك، أن الأخلاق متعالية عن قائلها، بغض النظر عن التطبيق. قد أعطي درسا رائعا في الأخلاق وبشكل مقنع جدا. لكنني خسيس وفاسد في الحياة العملية. فهل يعني هذا أن الدرس باطل؟ أكيد لا. فالدرس قوته في ذاته، بغض النظر عن الممارسة. وبحديثنا عن الفيلسوف خصوصا، فنحن ننتظر منه سلوكا نبيلا، ونريد منه أن يعيش عمليا، مثاله المقترح، وهو ما يزيد من إجلالنا له. لكن هل تصدق المعادلة هذه في كل الحالات؟ وهل سيرة الفلاسفة الواقعية تتلاءم وأفكارهم؟ ومن ثم، هل نكتفي بقراءة أطروحة الفيلسوف، أم من الضروري أن نعرج على حياته الخاصة، لنرى مدى التطابق بين الادعاء والتطبيق؟ هل نحكم على الفيلسوف من خلال نسق فكره ومعقولية موقفه وحججه المقدمة للإقناع؟ أم نراهن على سلوكياته وأعماله الميدانية؟ بكلمة واحدة، هل ينبغي الربط المباشر بين أفكار الفلاسفة وتصرفاتهم؟ أم لا بد من الفصل بينهما والنظر إلى الفكر بصرف النظر عن قائله؟

بالطبع، ما يدعو إلى طرح هذا الإشكال، هو ما نجده في سير بعض الفلاسفة من إحراجات قد لا تليق بهم كنخبة مفكرة، إلى حد أنك لو قرأت حياة بعضهم أولا، قبل متن فلسفته، لربما كان ذلك مانعا للاستمرار في القراءة، ومن ثم الاطلاع على أطروحاته التي تكون في الغالب عميقة جدا.

سنقف في مقالنا هذا، عند بعض النماذج التي فيها شرخ بين عمق الفكر وتفاهة الحياة، بين مواقف البعض الصلدة المدعمة بقوة، وبين سلوكا هذا البعض اللاأخلاقية والمخجلة أحيانا. إذ من النادر أن نجد تلاؤم السلوك بالفكر، وكأن الفكر أنظف وأطهر، أو لنقل إن الفكر مستقل عن العمل.

فرنسيس بيكون

يعد فرنسيس بيكون (1561-1626)، أحد كبار المنهج الاستقرائي في العلم. حيث عمل على مهاجمة سلطة القدماء بكتابه الشهير: «الأرجانون الجديد»، معلنا فيه أن الإنسان بحاجة إلى جهد شاق حتى يستطيع قراءة العالم على ما هو عليه، وليس كما يريد. وذلك لن يتم عنده إلا بتنقية العقل وتطهيره من أغلاطه وأوهامه، وحصرها في أربعة هي:

* أوهام القبيلة، أو أوهام الجنس: خاصة بالطبيعة الإنسانية (خداع الحواس مثلا).

* أوهام الكهف: وهي مرتبطة بكل ذات، من حيث: طبيعة الشخص، وتجربته، وصلاته الخاصة، وقراءاته.

* أوهام السوق: خاصة باللغة، باعتبارها عائقا يشوش على العقل.

* أوهام المسرح: خاصة بتقليد أنساق التفكير والمذاهب. فهي بمثابة مسرحيات تخلق عوالم زائفة وهمية، وتوجه التفكير وتعطل إمكاناته.

لكن إذا كان هذا الفيلسوف قد كتب وأبدع، فإن تأملنا لحياته الشخصية قد يثير فينا الاشمئزاز. فهي مليئة بالغدر والدناءة والخسة. فذات يوم، ترافع، وهو المحامي، ضد أحد رجالات البلاط البارزين، ويدعى إيسيكس Essex، مطالبا بتوقيع أقصى العقوبات عليه. وأعدم سنة 1601، والغريب أن هذا الشخص هو من كان السبب في أن يصبح بيكون مستشارا للتاج الملكي. ومن جهة أخرى، كان يصطنع الملق والدسائس لبلوغ أغراضه. بل اختلس أموال الدولة ومثل أمام المحكمة في قضية رشوة، فتم تغريمه أموالا وحرم من عضويته في البرلمان.

* جان جاك روسو

إنه الفيلسوف الأنواري (1712 - 1778) المعروف، الذي لا يخلو زماننا من بعض أفكاره. فهو كاتب «الاعترافات» التي قدم فيها نموذجا فريدا في السيرة الفضائية. وكتب في التربية مؤلفه الشهير «إميل أو التربية»، حيث قال عبارته الشهيرة: «كل شيء يخرج من يد الخالق صالحا، وما أن تلمسه يد الإنسان يصيبه الاضمحلال». وقد أعلن صرخة انتقاد مبكرة لخطورة التقدم على القيم الإنسانية. كما أنه كان من دعاة فكرة صلاح الفرد وفساد المجتمع. فالفرد يولد بفطرة طيبة نقية وطاهر، لكن بيد المجتمع إفسادها أو حمايتها. فالشر الذي يحدثه الإنسان ليس أصيلا فيه أبدا. كما ألف روسو في الفلسفة السياسية «في العقد الاجتماعي». وهو الكتاب الذي جرى حمله في الثورة الفرنسية. وساهم روسو بنظريته في عقلنة العمل السياسي وترشيده. فأصبح التدبير العام، يجري بمعزل عن الأشخاص، ويتجه نحو التجريد الجماعي وقوة الإرادة العامة والتعالي. بكلمة واحدة، لا أحد أصبح مع روسو سيدا، بل السيادة للقانون المفروض من طرف الكل.

لكن هذا العطاء الفكري وهذا التأثير الذي أحدثه في الأجيال اللاحقة، لا توازيه أبدا سلوكياته اليومية. فسيرته، تظهر لنا أنه عاش، أحيانا، على نفقة الأغنياء وأصحاب النفوذ. كما أنه وهو المنظر للتربية الحديثة، إلى درجة أن كتابه يسمى «إنجيل المعلمين»، حيث يعظ فيه بأهمية التربية الصالحة للأطفال وللأبوة والأمومة الجيدة، نجده يقيم علاقة غير شرعية مع خادمة الفندق «تيريز»، التي تنجب له خمسة أولاد، يسلمهم إلى ملجأ اللقطاء غير عابئ بالمسؤولية، ومن غير أن يترك ما يدل على أصلهم في المستقبل. ناهيك عن بعض ممارساته الجنسية ذات الطابع المازوشي. إذ ظل طوال حياته، يعبد الشابات الارستقراطيات، وكانت لديه عنهن خيالات ساذجة. وعندما استقر لسنوات عند «مدام دو فارن»، التي كان يعتبرها كأمه التي حرم منها، كان يلتذ بالركوع تحت قدميها، ويطيع أوامرها المتعجرفة، ويسألها الصفح والغفران. وكان يتقن دور العاشق الباكي.

* مارتن هايدغر

يعد مارتن هايدغر (1889-1976)، من أكبر نقاد الحداثة والحضارة الغربية. فهو من اعتبرها انغمست في الموجودات وأهملت الوجود. وهو السؤال الحقيقي عنده. إنه صاحب كتاب «الكينونة والزمان» الصادر سنة 1927، والذي يعده الباحثون أهم إصدار في القرن العشرين. وهو صاحب مفهوم «الدازاين»، الذي يعني به الوجود الإنساني لحظة اكتشاف الوجود، لحظة الإنصات لندائه والاستجابة لصوته من لدن الإنسان، باعتباره الكائن الوحيد المعني بمسألة الوجود. يعتبر هايدغر أن الحضارة الغربية جعلت سؤال الوجود مغيبا ومنسيا ولا مفكرا فيه، لصالح سؤال الموجود. فالعقل الغربي، منذ سقراط حتى الزمن الحديث، انغمس في عملية محاصرة الموجودات بطريقة محكمة ورياضية، لكنها أهملت الوجود. هذا الهجران للوجود هو لب فلسفة هايدغر، وسبب أزمة الغرب ودخوله في تقنية ضربت المعنى، الذي لن تكون استعادته إلا بالدازاين، وهو الخيط الهادي الرابط لجسور شعرية مع الوجود.

لقد اعتبر هايدغر أن الحضارة الغربية حفرت قبرها بنفسها، حين حولت الوجود إلى طبيعة.

بكلمة واحدة، يعد فكر هايدغر، كما قالت عنه عشيقته الفيلسوف، حنا أردت: «المساهم في تحديد الشكل الروحي للقرن».

هذا جزء من بعض عمق الرجل، لكن ماذا عن حياته الخاصة؟

إنه رجل الريف الألماني المتشبع بالحس الجرماني، ذو النزوع النازية، الذي سيتنكر لأستاذه اليهودي الفيلسوف «هوسرل»، الذي لعب دورا أساسيا في المكانة الأكاديمية التي حظي بها. كذلك سيتنكر لحبيبته وطالبته حنا أردت، التي كانت أيضا يهودية، عاشت معه علاقة حب عاصفة رغم كونه متزوجا. وكان يلقبها بـ«حورية الغابة»، وتلقبه هي «بقرصان البحر». في سنة 1933، جرى انتخاب هايدغر رئيسا لجامعة فريبورغ، وانضم إلى الحزب الاشتراكي الوطني، وقدم خطاب العمادة الداعم للنازية وكله حماسة، معلنا أن الجامعة يجب أن تعكس معنى الإثنية4 والوطنية، وأن تشارك في المهمة الروحية للشعب الألماني. فـ«القيم البطولية لهذا الشعب جاء وقتها، وهتلر هو الإحساس العميق المجسد لطموح ألمانيا». هذه الموالاة للنازية بكل إسهامها في تصفية اليهود من الوسط الثقافي الألماني، جعلت هايدغر في وضع محرج في المستقبل. وبدأ التساؤل: كيف لفيلسوف فذ من طراز هايدغر، أن يتوجه نحو ميول عنصرية؟ وكيف يمكن حل معضلة الالتزام السياسي بالإبداع الفكري؟

* ميشال فوكو

ينتمي ميشال فوكو (1926-1984)، إلى التيار المسمى «ما بعد حداثي». وهو صاحب عبارة «موت الإنسان». حيث سيوجه ميشال فوكو نقده للحداثة، بنحته مفهوم «الإبستمي»، ويقصد به ذلك النظام الخفي المستثمر بصمت أثناء الممارسة، الذي يحدد شروط المعرفة في حقبة تاريخية معينة، والتي بمقتضاها يعترف لخطاب عن الأشياء بأنه الحقيقة. فهو نظام لا أحد يفكر فيه ولكن يخلق شروط التفكير. ولقد استخدمه فوكو بمرادفات متعددة كالنسق، والبنية، وفضاء للتنظيم والأرضية الإبستمولوجية، وشروط الإمكان وأوليات تاريخية، وكلها تجمع على معنى واحد، هو أن هناك «لا شعور معرفيا»، أي ذلك المستوى المتخفي والعميق، وتلك الطبقة التحتية التي تشكل شروطا قبلية لإنتاج المعرفة. كما أن هذا الفيلسوف، هو من نبه إلى «ميكروفيزياء السلطة»، حيث لم تعد السلطة فقط فيما عهدناه (الملكية، الحكومة، البرلمان...) بل هي توجد في كل مكان حيثما وجد الصراع. بين العاشق والمعشوق، بين المعلم والتلميذ، بين رب العمل والعامل.. وتوظف في هذه العلاقات كل استراتيجيات السلطة الممكنة.

لكن رغم كل المنجز الهائل لهذا الفيلسوف، فقد كانت حياته مخجلة ومقززة. فقد كان يتعاطى المخدرات بأصناف متعددة (الحشيش، الأفيون، مخدر L.S.D). بل كان مثلا، يمارس اللواط، ويعيش مع شريكه «دانييل ديفيرت». بل عندما كان يدرس في تونس، وقع في كمين وضعته له الشرطة، حيث اقتاد شابا إلى المنزل كان، في الحقيقة، شرطيا متنكرا. الأخطر من كل ذلك، أنه كان يتردد على صالات السادية والمازوشية، وحمامات الشواذ العامة في سان فرانسيسكو، بعد إنهائه مباشرة لمحاضراته، ليموت بالإيدز، وكان يقول: «كيف أخاف من الإيدز وأنا قد أموت في حادث سيارة».

***

المغرب: محسن المحمدي

عن صحيفة الشرق الأوسط اللندنية في: 3 أغسطس 2016 م ـ 28 شوّال 1437 هـ

على الفيلسوف ألا ينسى أنّ قيمته الفعليّة مستمدة من مدى تأثيره في الجمهور

بدأت الفلسفة، وفق ما يخبرنا الكُتّاب الأوروبيّون في شوارع أثينا القديمة، عندما كان سقراط (470 ق.م – 330 ق.م)، المعلّم المحبوب يجتمع بالشبان، وبعضهم من علية القوم مثل أفلاطون وإلسبيادس، ويتحداهم لمساءلة الأوضاع القائمة للعالم من حولهم، في السياسة والطبقات، كما في الأخلاق ومعنى الوجود، طارحاً عليهم أسئلة أساسيّة، ما زالت إلى يومنا هذا موضع أخذ وردّ. وعلى الرّغم من أن سقراط لم يترك إرثاً مكتوباً - إذ نعرف عنه من خلال ما دوَّنه تلميذه أفلاطون - فقد شكلت هذه المجموعة الصغيرة من الشبّان الأثينيين محبِّي الحكمة الذين تحلقوا حول معلمهم المثير للجدل، نواة ما يُعرَف بالفلسفة (الغربيّة)، وأطلقت إلى الفضاء العام في مدينة أوروبيّة بارزة حينئذ مساراً يعتبر الحياة بغير بحث وحديث وشكّ غير جديرة بأن يحياها أيّ إنسان - أقلّه من غير العبيد - ونهجاً منفتحاً للتفكير والتفلسف مع الجمهور وله، خارج الأبراج العاجيّة للأكاديميّات والمدارس العليا.

على أن هذا المزاج الديمقراطيّ في التفكّر التفاعليّ بشؤون الحياة والمجتمع ما لبث أن انزوى تدريجيّاً مع غياب سقراط بقبوله تعاطي السمّ، وفق حكم نخبة أثينا عليه - لإفساده عقول الشبان - وانسحبت الفلسفة تالياً إلى أروقة الخاصّة وغرف الدّرس المنعزلة ومجالس الأثرياء المتنورين، ولم يعد متوقعاً، ولا مسموحاً للعامة، بعبور بوابة العوالم الفلسفيّة، لا بلّ أصبح جزء من الإعداد الفلسفيّ يتعلّق بالتّدريب على استخدام لغة ومصطلحات مغلقة على الجمهور يقتصر إدراكها على ذوي الاختصاص، لا سيّما في العصور الوسطى؛ أي عندما وجد المتعاطون للفلسفة أنّ السلامة في المجتمعات التي تهيمن عليها الأديان تقتضي إبقاء العامة (والسلطات) عند مستوى الظاهر حصراً.

عزل الفلسفة (الغربيّة) - وحاملها العربي/ الإسلامي خلال عصور الظلام الأوروبيّة - عن العامّة، زرع في ذهن الجمهور ردّة فعل سلبيّة تجاه الخطاب الفلسفي بعمومه، وأصبح تعاطيها عند رجل الشارع - وغالب أرباب السلطة - كناية عن إزجاء الوقت بما لا طائل من ورائه، ولا منفعة عمليّة، ومهنة من لا مهنة له.

وقد استمرت هذه الحال إلى وقت قريب، رغم محاولاتٍ بذَلها بعض فلاسفة الأنوار، ولاحقاً كارل ماركس، ورفيقه فريدريك إنجلز، خلال القرن التاسع عشر، لتقريب بعض المفاهيم الفلسفيّة الأساسيّة للناشطين من العمّال والنّقابيين، لكّن تلاميذهما ما لبثوا وخلعوا على الممارسة الماركسيّة للفلسفة غموضاً نخبوياً، وانتهت الماركسيّة بدورها كما أنظمة التفكير الفلسفيّ الأخرى، نادياً مغلقاً على الخاصّة والمتفرغين.

قفزات الألفية الثالثة

وإذا كان الفلاسفة في القرن العشرين قد نجحوا - لعوامل عدّة متقاطعة - في نيل مكانة أكثر قبولاً من الجمهور، وتحوّل بعضهم مثل جان بول سارتر، وجيل دولوز، إلى مشاهير، إلا أنّ ذلك لم ينعكس بالضرورة على الخطاب الفلسفي (الغربيّ)، الذي ظلّ إلى حد بعيد نخبوياً ومتحذلقاً، وساعدت السلطات - لأسباب مفهومة وبشكل مباشر أو غير مباشر - في تكريس إبعاده عن الحياة اليوميّة للمواطنين. ولعلّ قراءة أي عمل لدولوز مثلاً تُظهر سريعاً استغلاق المقاصد على غير المتخصص، والحاجة إلى تدريب مستفيض قبل الإقدام على محاولة عبور النّص واستكناه معانيه.

على أنّ اقتراب الألفيّة الثالثة جلب معه قفزات هائلة في العلوم النظريّة بالاستفادة من تطور تكنولوجيا الاتصال والذكاء الاصطناعي وأدوات البحث العلمي على نحو انتقلت معه مادة العمل الفلسفيّ، ربما من دون اسمها، إلى مجالات الفيزياء وعلوم الأعصاب والجيولوجيا والآثار والرياضيّات والعقول الإلكترونيّة والقانون، فيما انتهت مدارس الفلسفة بالأكاديميات الغربيّة دون مادتها إلى الارتباك، وانقسمت بين الفضاءات الرئيسة الثلاثة لها الألمانية والفرنسيّة والأنجلوسكسونية، إلى مجالات غير مترابطة: في مكان ما تسعى إلى وضع معايير محددة للدّقة أو العدالة أو الحقيقة، دون أن يعبأ بها أحد، وفي مكان آخر تعمل على معالجة قضايا نظرية أو عملية موغلة في التخصص بحيث يتعذّر الاستفادة من معطياتها، أو هي في مكان ثالث لا تزيد عن مصانع خريجين خبرتهم مضغ التراث الفلسفي المتراكم منذ «جمهوريّة» أفلاطون، وكتابة مطولات في المقارنة بين المدارس الفلسفيّة لا يقرؤها أحياناً سوى أفراد معدودين على الأصابع، وينتهي أغلبهم إلى تولّي وظائف في البنوك، أو يعملون مساعدين للسياسيين.

على أنّ ثمة شبحاً جديداً يحوم، اليوم، في سماء الفلسفة الغربيّة: الفلسفة الشعبيّة. لقد أدرك بعض أساتذة الفلسفة المعاصرين عبث خروجهم التاريخي عن نهج سقراط، وانطلق بعضهم في البحث عن مناهج وقنوات لأخذ منافع ما تبقّى من مادة علمهم إلى الجمهور، وطرح أفكار حول طرائق يمكن من خلالها لغير المتخصصين - أفراداً ومجموعات لا بل ومجتمعات - الاستفادة من الفلسفة في تفكيك علاقة الإنسان بالعالم حوله، في ظلّ انتهاء الأفكار اليقينيّة الكبرى التي استعان بها أجدادنا على تمضية الوقت، والقناعة المتزايدة باستحالة التنبؤ بالمستقبل بأي درجة مقبولة من الدّقة. فظهرت في ألمانيا مثلاً مدرسة «التوجه أو Orientation Philosophy» التي تخاطب أساساً الأفراد غير المتخصصين، وتمكِّنهم من استخراج خلاصات عمليّة من مجمل النتاج الفلسفي المتراكم، وتوظيفها بعيداً عن المسائل المغرقة في التجريد، للنظر في وسائل أكثر نجاعة عند إدارة تموضعهم من العالم والأشياء والناس والأحداث، ومنح إنسان القرن الحادي والعشرين الأدوات للتعاطي مع المؤقت والعابر والمتغيّر، وتحسين قدرته على اتخاذ القرارات في أجواء عدم التيقّن الغالبة، مع محاولة القبض على الكيفيّة التي تكتسب فيها تلك القرارات (العمليّة) قيمة معنوية وأخلاقية، وكيف تتأثر بالظواهر المستجدّة للعولمة والرّقمنة، وأسرار علاقتها بالميتافيزيقا، ودائماً دون توقع أسباب أو مبررات أو تقييمات عالمية سرمديّة الطابع. أما في فرنسا، فقد توسعت ظاهرة «الفلسفة الشعبيّة»، وعمد فلاسفة جدد إلى تعميم الممارسة الفلسفيّة، عبر إصلاح لغة الخطاب الفلسفيّ باعتماد نماذج مبسطة تمكِّن الإنسان العاديّ من استيعاب مغازيها، وكذلك بطرحها موضوعات راهنة وعمليّة، واستخدام قنوات متعددة للربط مع الجمهور، سواء من خلال وسائل الإعلام، أو مواقع التواصل الاجتماعي على الإنترنت، أو حتى من خلال المقاهي الفلسفيّة، ونزول الفلاسفة من معتزلاتهم إلى الشارع مجدداً. أما في الحيّز الأنجلوساكسوني فقد تبلور ما يُعرَف بـ«الفلسفة العامّة»، وهما فعلياً مدرستان متوازيتان، إحداهما تستهدف جلب الفلسفة إلى حيّز الفضاء العام، عبر تقديم معالجات لمسائل مطروحة وآنيّة في السياسة والقضايا الاجتماعية وأخلاقيات العلم والقانون، والأخرى بجلب الفلاسفة أنفسهم إلى الأماكن العامة، والانخراط في نقاشات فلسفيّة مع الجمهور غير المتخصص ضمن بيئات غير أكاديميّة.

عودة متأخرة لسقراط

وتطرح هذه العودة المتأخرة للفلسفة إلى الطريقة «السّقراطيّة» تساؤلات حول التأثيرات بعيدة المدى للاشتباك المُستعاد بين «محبة الحكمة» والجمهور العام، فهل سينعكس توسيع نطاق الجدل الفلسفيّ وقاعدة المنخرطين به إيجاباً على «المحتوى»، أم أنّه سيؤدي في المحصّلة إلى ابتذال الخطاب، وانخراط الفلسفة في دوامة الشعبوي والمسيَّس والمنفعل؟

إن الفلسفة، اليوم - بعد أن فقدت حصريتها في تعاطي الأسئلة الكبرى لمصلحة العلوم الصاعدة - تتطلب أن يصبح الفيلسوف تلميذاً للمعرفة المجتمعية، وألا ينسى أنّ قيمته الفعليّة مستمدة من مدى تأثيره في الجمهور، وأنّه في النهاية جزء من هذا الجمهور، مع الإقرار بأن المحتوى الفلسفيّ يمكن أن يستفيد بقدر كبير من التواصل مع الفضاء العام، أقله لناحيّة طرح الأسئلة، أو إعادة صياغتها، تماماً كما يمكن للجمهور أن يستفيد من الاحتكاك بالفلسفة في العثور على إجابات قد تكون أكثر عقلانيّة - بمعنى التغلّب على الأحكام المسبقة، والمعلومات المضللة، والمنطق الخاطئ، والمواقف الغريزية - تجاه التحديات التي تستمر الحياة باستيلادها له. وقد يكون ذلك أفضل ردّ اعتبار للحكيم سقراط من نخبة أثينا، التي أرعبها أن يبدأ العامة التفكير وطرح الأسئلة.

***

ندى حطيط

عن صحيفة الشرق الأوسط اللندنية في يوم: 13 يونيو 2023 م ـ 24 ذو القِعدة 1444هـ

جاءت مقولة «ألا تعرف فأنت عالم»، في حقلين معرفيين مهمين، أولهما في الفقه والثاني في الفلسفة، ففي الفقه وردت مقولة (من قال لا أعلم فقد أفتى) ويستشهدون لها بقصة الإمام مالك، حيث سُئل عن أربعين مسألةً، فقال في ست وثلاثين لا أدري وأجاب عن أربع، وهذه من أخلاقيات المعرفة الفقهية خشية أن يقع المرء في ذمة الناس ويقول عن الله ما لا يعلم، وستكون هذه قربى من الله وعلامةً على قوة الإيمان بالله وبحق الله، يقابلها فلسفياً مقولة «agnostic/ لا أدري» التي ابتدأت علميةً ثم أصبحت فلسفية، وقد ابتكرها توماس هكسلي العالم البيولوجي الأسكتلندي في القرن الثامن عشر، حيث وجد نفسه عاجزاً عن إثبات أو نفي وجود الخالق حسب ما لديه من علم وحسب محاولاته للوصول لجواب، وقصد بالمقولة أن يعلن عن عجزه ولم يكن يطرحها كنظرية فلسفية، ولكنها مع الزمن تحولت لتكون منهجيةً تعم بين الفلاسفة والعلماء، وينطلقون منها ليس للبحث عن الخالق كما فعل هكسلي، ولكن لتجنب فكرة البحث أصلاً، وعمت المقولة بشيوع مفرط واستسهال للقول، وكأنها عذرٌ عن «اللابحث»، وعدم الرغبة في العلم بتعمد إلغاء السؤال، وفي ذلك يقول دوكينز لو قلنا بوجود الخالق لتعطل البحث البيولوجي، أي أنه يجزم بعدم وجود الخالق أولاً ودون بحث ودون سؤال فقط ليشرع بعد ذلك في البحث في الكون الذي لا هو مخلوق من خالق ولا هو خلق نفسه، فقط هو موجود وكفى. وهذا تعطيل عقلي وذهني ومنهجي، ولا يمنح دوكينز نفسه فرصةً معرفية احتمالية، بل يقطع عبر إغلاق النظر، وهنا تتحول مقولة لا أعرف من مقولة أخلاقية علمية إلى مقولة فقط لتبتعد عن الله، فتخالف بذلك شروط البحث العلمي في معالجة افتراضات السؤال، والغريب فيها أن علماء وفلاسفة قبلوا بها، مع أن الشرط الفلسفي يؤكد أن الفلسفة هي مشروع في الأسئلة، ومع هذا يجري تعطيل أهم وأخطر سؤال يلاحق العقل البشري، وقد أشار كل من برتراند راسل وستيفن هوكينج إلى أن البشرية تتوق لمعرفة سر الكون، وتظل تتوق لهذه المعرفة، وعن خالق هذا الكون، غير أنهما معاً يعودان ويمتنعان عن طرح السؤال رغم أنهما معاً يؤكدان حاجة البشر إليه وإلى جواب عنه، فكيف إذاً يبرران لنفسيهما تجنب طرح السؤال الكبير هذا، وليس من سبب علمي ولا أخلاقي لذلك، ولن تقوم مقولة «لا أدري/ agnostic» في العلم وفي الفلسفة إلا بوصفها خللاً منهجياً عميقاً لأنها فقط تعطل السؤال، وتبني سياسة الهروب، وهذا ما منح المقولة راحةً ثقافية كأنها حالة تخدير عقلي تشبه الإدمان الذهني، وتتواتر المقولة بين الكبار مما سهل جريانها وتمريرها، رغم لا علميتها ولا أخلاقيتها المنهجية.

***

د. عبد الله الغذامي

عن صحيفة الاتحاد الاماراتية في يوم: 10 يونيو 2023 01:16

بعد قرابة أربعين سنة على رحيل أهم فلاسفة فرنسا المعاصرين، ألا وهو ميشل فوكو، يصدر له في أيامنا هذه كتابٌ أساسي بعنوان «الخطاب الفلسفي»، وهو في أصله دروس جامعية ألقاها في عام 1966. في هذا العام بالذات، نشر فوكو كتابَه المحوري «الكلمات والأشياء» الذي هزّ الحقل الفلسفي العالمي وحوَّله وهو في الثلاثينات من عمره إلى أحد أبرز فلاسفة الغرب المحدثين. وفي كتاب «الخطاب الفلسفي» لا نكتشف الجديدَ في فكر فوكو، وإن كانت أهميةُ هذا العمل تكمن في تقديمه تصوراً مكتملا ومتناسقاً حول الفلسفة من حيث المنحى والوظيفة والمنهج.

وبالنسبة لفوكو لم تعد الفلسفة نمطاً من المعرفة العقلانية المكتملة التي تكشف عن حقائق الوجود وأصوله في ما وراء مظاهر الأشياء وتقلبات المعاني اللغوية، بل أصبحت نمطاً من تشخيص الحاضر، من داخل الخطاب الذي لا يحيل إلى دلالة أصلية ولا حقيقة خفية، بل هو أنساق وتموجات تنبع من داخل المنظومة التعبيرية نفسها. وهنا نلمس شغف فوكو المعروف بالفيلسوف الألماني نيتشه الذي يرجع إليه هذا التصور التشخيصي للفلسفة، في أبعاده التفكيكية النقدية، حيث تنهار مقومات الحقيقة والوجود والأخلاق وفق نظرة تأويلية حيوية شاملة للواقع.

لقد مضى نصف قرن على أفكار فوكو التي شغلت على نطاق واسع المهتمين بالحقل الفلسفي في العالم أجمعه. والواقع أن النصف الثاني من القرن العشرين كان بالفعل فوكويا (وليس دلوزياً كما توقع فوكو نفسه)، بمعنى أنه سادت فيه أفكار الحفر الخطابي والنقد التشخيصي وموت الإنسان.. وتحولت إلى جزء من الثقافة العامة المشتركة. بل إن الانتفاضات الشبابية والاجتماعية الكبرى التي عرفتها بلدان كثيرة في العالم نهاية الستينيات تمت في سياق انتشار أفكار فوكو حول السلطة والرغبة والذات.. إلى حد أن البعض اعتبر أن تأثيرَه في الغرب المعاصر لا يقل عن تأثير روسو وفولتير في الثورة الفرنسية. بيد أن تحولات كثيرة حدثت بعد رحيل فوكو (في يونيو 1984)، وكان هو نفسه قد انتبه إلى إرهاصات بعضها في دروسه وأبحاثه الأخيرة مثل الحالة النيوليبرالية التي اجتاحت العالَم وشكّلت السمةَ الكبرى في ديناميكية العولمة.

لقد هيمن على الحقل الفلسفي الراهن إشكالان كبيران من وحي الثورة التقنية الاقتصادية الحالية: يتعلق أولهما بمعايير الحرية والذاتية في سياق تراجع وانحسار الدولة الوطنية السيادية، ويتعلق ثانيهما بمنزلة الحقيقة مع نشوء الثورة الرقمية التي قوضت الثنائية التقليدية للمعرفة بين الواقع والوهم. وبخصوص الإشكالية الأولى، نلمس أن بعض الفلاسفة الحاليين من أمثال جورجيو أغامبن وتوني نغري، طوروا أطروحةَ «السلطة الحيوية» التي بلورها فوكو في السبعينيات، من منظور جديد. ووفق هذه المقاربة، تكون المعادلة السياسية الجديدة ليست على ما تقدم عادة حالة سياسية ما بعد قومية على أساس الشراكة الاقتصادية، وإنما هي تجسيد لمنطق الدولة الشاملة في الرقابة المعرفية والقانونية الرخوة وتسيير الرغبات الحيوية الجماعية، وصولا إلى ما أطلقت عليه جوشانا زيبوف «رأسمالية الرقابة» التي هي البديل الجديد عن الليبرالية الحرة المفتوحة التي اتسمت بها الدولة القومية التقليدية.

أما الإشكالية الثانية فهي أكثر ارتباطاً بالمبحث الفلسفي الأصلي الذي هو الحقيقة والوجود، مع بروز نقاش نظري جديد حول منزلة الحقيقة في عالم لم يعد فيه من الممكن الفصل بين الوقائع الموضوعية والبناءات التقنية المعتمدة على الذكاء الاصطناعي والاقتصاد غير المادي والشبكات الافتراضية التواصلية. لقد شاعت في السنوات الأخيرة مقولة «ما بعد الحقيقة» التي تحيل إلى ظاهرتين متمايزتين هما من جهة القطيعة الإبستمولوجية مع فكرة القانون العلمي المترجِم للواقع التجريبي، ومن جهة ثانية القطيعة السياسية الأخلاقية مع معايير العدالة والحرية وشفافية المجال العمومي. وفي الحالتين، نحن أمام انهيار المسافة التقليدية بين الوقائع والتأويلات، وبروز ما سماه الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب «الحقائق المبنية البديلة».

وقد أصدرت الفيلسوفة الفرنسية كلودين تيرسلين في الآونة الأخيرة كتاباً سجالياً بعنوان «ما بعد الحقيقة أو النفور من الحق»، سعت فيه إلى إنقاذ فكرة الحقيقة من حيث هي اعتقاد مبني على براهين رصينة ترسم خطاً فاصلا بين اليقين والوهم. واعتبرت تيرسلين أن المطلوب اليوم هو استعادة مشروع الميتافيزيقا الكلاسيكية من حيث طموحها إلى المعرفة المتجردة والموضوعية للأشياء بدلا من النظرة الاختزالية للوجود في التأويلات والتعبيرات الخطابية. ما تريده تيرسلين وأصحاب الأنطولوجيات الجديدة هو الخروج من الحقبة الفوكوية التي طبعت الفلسفة المعاصرة.

***

د. السيد ولد أباه - أكاديمي موريتاني

عن صحيفة الاتحاد لإماراتية في يوم: 5 يونيو 2023 00:29

لا تزال الإسلاميَّة التركيَّة موضوعاً يستحق التأمل ويستقطب إليه التفكير، ليس فقط لأنه حدث مستمر، بل لأنه أنموذج أو حالة ملتصقة بذاتها إلى حد كبير، غير قابلة للقياس على الحالات الإسلامية التي عرفناها في بلدنا والعالم العربي، تعبّر عن خصوصية مركبة في الواقع التركي.

فهي من حيث التكوين والجذور "صوفية" لها تركيزها على الإيمان وعالم المعنى، لكنها ليست صوفية فردية أو طرقية منعزلة وساكنة، لا يشغلها إلا حلقات الذكر والوجد والزوايا وبقية الممارسات الخاصة بالطرق الصوفية. هي صوفية بقوامٍ معرفي وتحيّز اجتماعي عميق ومؤثر، كما رأيناها عند سعيد النورسي (1877 - 1960م) و"حركة النور"، التي تهيكلت اجتماعياً من حول نصوص "رسائل النور". 

التكوين والجذور

وهي في الميول الاجتماعية العامة كما اتضحت معالمها الأولى مع عدنان مندريس (1899 - 1960م) وسليمان ديميرل (1924 - 2015م) أقرب ما تكون إلى التوجّهات المناهضة للإيديولوجية الكمالية بهذا القدر أو ذاك. وقد تعامل الناس معها بوصفها قوى إسلامية وإن لم تكن كذلك بالتوصيف الدقيق، على أساس هذا التمايز ومن خلال هامش تقاطعها مع الكمالية، داخل الدولة الكمالية نفسها.

وقد دام ذلك إلى أن حانت لحظة نجم الدين أربكان (1926 - 2011م) حين تكاثفت الإسلامية التركية أكثر، وأصبح لها إرث ثقافي وفكري وقاعدة معرفية، ورؤى ومواقف وسياسات، كلّ ذلك عبر التجليات الحركية للأربكانية، ابتداءً من حزب النظام الوطني، إلى حزب السلامة، مروراً بحزب الرفاه، وانتهاءً بحزب الفضيلة.

كملاحظة عامة، نرى أنَّ من تحدّث في العالم العربي عن "إخوانية" الإسلامية التركية، إنما انساق إلى هذا التوصيف من خلال الظاهرة الأربكانية، التي بقيت حاضرة على واجهة الحياة السياسية أكثر من ربع قرن، وإلا من الصعب الحديث عن "إخوانية" الإسلامية التركية، من خلال تجلياتها السابقة على أربكان، وتلك الموازية لها أو اللاحقة عليها مثل حركة الخدمة وفكر مؤسّسها محمد فتح الله كولن، أو الأردوغانية وقاعدتها الحركية المتمثلة بحزب العدالة والتنمية.

كولن وحركة الخدمة

بالانتقال إلى وجه آخر من وجوه الإسلامية التركية، يضعنا تطوّر هذه الحالة خلال القرن الأخير، أمام عنصر جديد من عناصر المركب الإسلامي الخاص بتركيا المكوّن لذاتية الإسلامية التركية، لكن هذه المرّة عبر رمزية محمد فتح الله كولن، ودالته الحركية المتمثلة بحركة الخدمة.

الإسلامية التركية مع كولن (ولد: 1938م) تحوّلت فكرياً إلى طور الهجوم، بدعوتها إلى إسلام تركي متصالح على حدّ سواء مع الحداثة والدولة العصرية والغرب. كما تحوّلت واقعياً واجتماعياً وعملياً إلى فعل المبادرة، عبر "حركة الخدمة" بأنشطتها المعروفة، لتنتج من تفاعل هذين الإطارين الفكري والواقعي، هويتها الخاصّة عبر مفهوم "الإسلام الاجتماعي" أو "الإسلام الأناضولي أو التركي" أو "الإسلام التنويري المعتدل".

بهذه الوصوفات جميعاً، لا يمكن أن ندرج إسلامية فتح الله كولن في النطاق الإخواني، ولا حتى أن نصنّفها في الحيّز المتأثّر بها. فهذه الإسلامية برمزية مؤسّسها كولن تدخل في نطاق ما نسميه بالإسلامية الأبوية، في استعارة مستمدّة من النزعة الأبوية في علم الاجتماع، وتدخل معرفياً في نطاق الإسلام الإنساني والحضاري، وقيمياً وأخلاقياً في نطاق الإسلام المعنوي والروحي، مع نزعة على غاية من الدقة والبرمجة والبراعة في الخدمة الاجتماعية، لاسيّما التربية والتعليم والسكن والصحة، يتخللها وعي برامجي عميق لدور الثروة والمال والاقتصاد، ومن ورائهما الإعلام. وقد جاء ذلك في نطاق حرص متميّز على الذاتية التركية والهوية الوطنية الخاصّة، وألّا تُصنّف الإسلامية التركية بهذه المواصفات، تحت ظلّ التبعية لأيّ حركة من قوى الإسلام السياسي العربي، بوجهيها الحركي والسلفي، بخاصّة الإخوان والوهابية، لأسباب عدّة فكرية وموضوعية ونفسية، منها نفسياً شعور الإسلامي التركي، أنه قائد غير مقود، ورائد غير تابع.

إسلامية العدالة والتنمية

من أحشاء هذه المكوّنات الثلاثة؛ الإيمانية أو المعنوية النورسية الفاعلة المتفاعلة، والحركية الأربكانية الشجاعة الصبورة الصلبة، والتجديدية الكولونية المبدعة البارعة في وعيها للتعليم والمال وتوظيفها للإعلام، وُلد حزب العدالة والتنمية. بيدَ أنَّ المفاجأة هي أنَّ هذا الحزب لم يأتِ جمعاً تراكمياً تكديسياً جامداً لما سبقه، ولا حلقة عادية في سيرورة الإسلامية التركية، بل تطوّراً نوعياً في هذه الإسلامية، فاق مكوّناته التي انبثق عنها وتقدّم عليها جميعاً. لقد جاءت هذه النقلة النوعية لدى العدالة والتنمية بفعل حذاقته في التقاط فرصة داخلية مواتية، بعد فشل متراكم للعسكر ولحكومات الحقبة الكمالية ما بعد 1923م، وتحوّلات إقليمية مساعدة مثل ضعف العراق ومصر، ودولية متمثلة بتحوّلات ما بعد انهيار الاتحاد السوفياتي وانتهاء الحرب الباردة، وهو بمجموعه أهّل تركيا للانتقال من الدولة الهامشية، إلى الدولة المؤثّرة أو دولة محور، توطئة لإعادة تموضعها في نطاق دولة المركز.

في ضوء ذلك كله نخلص في هذا التصوّر العام، إلى أنَّ العدالة والتنمية في الإسلامية التركية، لا يمثل تطوّراً خطياً جامداً لهذه الإسلامية، بل عكست الإسلامية في خطّ هذا الحزب النموّ التراكمي والتطوّر النوعي معاً.

علامات فارقة

فإيديولوجياً لم يتبنَّ الحزب بشأن الدين والدولة، أطروحةَ تحويلِ تركيا إلى دولةٍ إسلاميةٍ على أساس الشريعة كما هو حال إيران، بل استعاض عن ذلك باستحضار العثمانية كإطار نظري داخلي جامع، لمجتمع إسلامي يتسم بخصلتي التنوّع الثقافي والحرية الدينية. فالعثمانية عند حزب العدالة والتنمية، هي ليست ستراتيجية خارجية لتركيا، كما يصوِّرُ ذلك عددٌ غيرُ قليل من المحللين للشأنِ التركيِّ، بل هي إطارٌ نظريٌّ لتوحيدِ المجتمعِ التركي داخلياً في مقابل الموروث الكمالي الماثل في العلمانية والتغريب، ومن ثمّ من الصعب القول إنَّ تركيا تريد العودة إلى الإطار الإمبراطوري في علاقتها مع الإقليم والعالم من خلال العثمانية، لكن أيضاً من دون أن يعني ذلك أنها لا تبحث عن دور خارجي؛ بالعكس هي تطمح بهذا الدور وتريده وتسعى إليه وتمارسه، لكن من خلال "العمق الستراتيجي"؛ هذه الستراتيجية التي يمكن أن تتحوّل فيها "العثمانية" إلى مكوّن من مكوّناتها، وشتّان بين الأمرين.

لقد انعكست الإسلامية الاجتماعية لحزب العدالة والتنمية، بالجمع التوفيقي بين الوطنية والقومية، وإعطاء مكانة مميّزة للأسرة والالتزام الديني، واحترام تقاليد العثمانية التاريخية، التي راحت تملأ الخزين النفسي والوجداني المتحفّز للأمة التركية وتزيح بالتدريج موروثات الكمالية. ولا ريب أنَّ حزب العدالة والتنمية استطاع في هذا الطريق تحقيقَ تسوياتٍ حاسمةٍ في إشكالياتٍ عديدةٍ، فكرية وثقافية وحضارية، على مستوى الهوية والانتماء الديني، والدولة والمجتمع، والإسلام والغرب، الأمة التركية والأمة الإسلامية، كما على المستوى السياسي والستراتيجي.

إشكالية الدين والدولة

باختصار شديد يفيدنا السياق التأريخي للمئة عام الأخيرة، أنَّ التأريخ التركي بعد إنهاء السلطنة والخلافة عامي 1923 و1924م، هو تأريخ العلاقة الملتبسة بين الإسلام والدولة، بنفي الإسلام كاملاً على عهد الكمالية وحزبها الوحيد حزب الشعب الجمهوري. ثمّ بفتح المجال لبعض منافذ الإسلامية المخفّفة في البداية مع عدنان مندريس (رئيساً للوزراء: 1950 - 1960م) ومن بعده سليمان ديميريل، وتورغت أوزال وبعد ذلك تنظيم هذه العلاقة بصيغة أفضل مع نجم الدين أربكان (رئيساً للوزراء: 1996 - 1997م) وأحزابه الأربعة. في جميع هذه الأطوار كان التقدّم للدولة، والحالة الإسلامية تُنظّم من خلال ضوابط الدولة، إلى أن جاء المنعطف بتقدّم الإسلامية أو اللاعلمانية أو العلمانية المؤمنة كما يحلو للبعض أن يسمّيها، على العلمانية الحادّة الوقحة الشرسة ودفع دولتها خطوات إلى الوراء، مع عبد الله غول ورجب طيب أردوغان وحزبهما؛ حزب العدالة والتنمية.

إلى جوار هذا المسار السياسي لحركة الدولة، كانت هناك البطانة المعرفية للإسلامية التركية بأطوارها الكبرى، ولاسيّما مع سعيد النورسي وفتح الله كولن، من دون إغفال تأثير مراكز الإشعاع الأخرى، من مثقفين وإعلاميين ومفكرين وأكاديميين، وأنصار العثمانية التأريخية والإسلام التركي.

الإشكالية هنا وإن كانت مزدوجة بين الإسلام والدولة، لكنَّ السياق التأريخي يثبت لنا تقدّم الدولة التركية وتحكّمها بالإسلامية ورموزها وتياراتها.

الإصلاحية والتغيير

الإصلاحية لها الهيمنة على الإسلام التركي؛ والنقطة الجوهرية في الحركة الإصلاحية عدم صدامها مع الدولة، والتوفيقية هي المرتكز العميق لفكرها ونشاطها المعرفي؛ التوفيق بين العلم والإيمان، والعقل والدين، والأصالة والحداثة، والغرب والإسلام، بحثاً وراء كلّ ذلك عن سُبل نهوض المسلمين وتخطيهم تخلفهم ومواكبة العصر، لأنَّ السؤال الأساس للإصلاحية الإسلامية، هو سؤال النهضة؛ لماذا تخلّف المسلمون وتقدّم الآخرون؟ ومن ثمّ فإنَّ هاجسها وشاغلها الذي يقضّ مضاجعها، هو التقدّم.

داخل هذه الرؤية أو التكييف للإسلام، تتموضع في إطار الإسلامية التركية عناصر مهمّة، منها المعنوية؛ المعرفية الفكرية؛ الإيمان العميق بالعقلية العلمية أو مركب العقل والعلم والإيمان؛ القناعة الراسخة بالتعليم الحديث بشقوقه الثلاثة العلمي والإنساني والديني، المتكاملة في ما بينها، وأنَّ التعليم هو الطريق للتحديث الاجتماعي والاقتصادي والسياسي، وهو ضرورة للانخراط في العولمة الإيجابية. ثمة في داخل هذه الإسلامية أيضاً مكانة متميّزة للقومية التركية واحترام للماضي التركي ومقاربة ذلك كله بمفهوم الأمة الأناضولية؛ مع تأكيد كبير لأهمية الخدمة والبذل والأخوة الإنسانية، وبإسلام لا عنفي ومتسامح منفتح على العالم أجمع، يبحث عن عناصر الاشتراك والتصالح بدلاً من القطيعة؛ الحوار من أدواته الفاعلة بخاصّة الحوار بين الأديان والثقافات.

من النتائج المترتّبة على جملة هذه العناصر، تبنّي صيغة لإسلامٍ متصالح مع تربته وبيئته الإنسانية المحلية وانتمائه الوطني لتركيا، موازنٍ ببراعة بين الوطنية والأممية، فلا يغتال الهوية الوطنية تحت ذريعة الأممية الإسلامية، كما لا يهدر الأممية كقيمة ثقافية وحضارية لدين عالمي كالإسلام. منفتح على العقلانية والحداثة والعولمة، وقبلهما العلم والتكنولوجيا والتحديث؛ يحرص على صلات مفتوحة مع الغرب والعالم؛ إسلام متسامح حواري غير عنفي، اشتهر عن أحد رموزه الفكرية، قولته المشهورة: "الإرهابي لا يمكن أن يكون مسلماً، ولا يمكن للمسلم أن يكون إرهابياً"، والأهمّ من ذلك ما ذهب إليه كولن: "لا حلّ لمعضلة العنف إلا بمشروع حضاري، جوهره إعادة بناء الإنسان على شروط الوراثة والاستخلاف والعمران" (يُنظر: مواقف في زمن المحنة، ص 14).

غياب العنف

عشتُ تجربة تأمّل طويلة في الإسلامية التركية، من زاوية محدّدة، هي عدم اصطباغها بالعنف والدم. فقد شغل بالي كثيراً عدم تورط الإسلامية التركية بالعنف، وأنها بقيت محصّنة ضدّ سفك الدماء، في الأقلّ على مستوى اتجاهاتها الكبرى.

التفسير العميق للظاهرة يعود في ما أرى إلى منهج الإسلامية التركية نفسها، وإلى بنيتها ما بعد إسقاط السلطنة والخلافة، وقيام الجمهورية التركية الحديثة ونظامها الكمالي العلماني؛ تحديداً إلى عقلها وفكرها ومنهجها الإصلاحي، وإذا شئنا الإضافة يعود ذلك أيضاً إلى إطارها الإيماني المعنوي.

الإسلامية التركية مع النورسي وكولن وحتى مع أربكان، وكتحصيل حاصل مع العدالة والتنمية، لم تعش أزمة مع شرعية الدولة الموجودة، حتى وهي تختلف مع منهجها العلماني، بل آمنت بالعمل من داخل الدولة كوجود واقعي موضوعي قائم فعلاً، وقبلت بممارسة دورها بأدوات هذه الدولة، ولذلك لم تجد جدوى بل وحتى معنًى، للاصطدام بهذه الدولة ومواجهتها. عندما تقرّ بشرعية الدولة ولو بالحدّ الأدنى القائم على أساس شرعية الأمر الواقع، فلن تعيش مع هذا الكيان مشكلة ناشئة عن الحكم عليه بعدم الشرعية، ومن ثمّ لا تنجرّ إلى مواجهته بالأسلوب الانقلابي الثوري المستند إلى مبدأ التغييرية الشاملة، على مستوى الوسيلة والستراتيجية، وعندئذ فلا يحدث التصادم المرعب بينك وبين الدولة، على حدّ ما حصل مع الإسلامية الانقلابية ذات المنطق التغييري، بوجهيها الحركي والسلفي.

فرضية التفسير الإصلاحي

الإصلاحية الإسلامية ببساطة تعتبر الدولة الموجودة هي دولتها بشرط الإصلاح والتعديل، وليست دولة كافرة فاقدة للشرعية، والمجتمع القائم هو مجتمعها ومادّتها في العمل، وليس مجتمعاً كافراً أو جاهلاً. وعندئذ تتحمّل الدولة الموجودة والمجتمع القائم وتصبر عليهما بالإصلاح، ولا تجد مسوّغاً يدعوها إلى مواجهتهما بالعنف والدماء، لتنقلب المواجهة إلى مواجهة عكسية ومضادّة من قبل النظم المستهدفة، ويغرق الجميع بالعنف والدماء.

لاختبار صلاحية فرضية التفسير هذه، يكفينا أن نمرّ على تجارب العالم العربي والإسلامي من حولنا. ففي العراق والشام ودول شبه الجزيرة العربية، وفي مصر والسودان وشمال أفريقيا، وفي باكستان وأفغانستان وإيران ونيجيريا، اصطبغت العلاقة بين الإسلاميين وأنظمة هذه البلدان بالدموية والعنف، لا فرق بين عنف السلطات والحركات بديهياً من دون مساواة بين الاثنين. هيمنة الحركات الإسلامية الانقلابية على الساحة في هذه البلدان، وتبعيتها لرؤيتها القائمة على أساس عدم شرعية الأنظمة، أدّتا إلى دخول المواجهة معها بشتى ألوان العنف المسلح وغيره، وردّت السلطات على هذا العنف بشراسة ودموية مضاعفة مرّات عديدة على عنف هذه الحركات، لتكون الحصيلة أنهار من الدماء حصدت أبناء المجتمع الواحد، من الخندقين معاً.

هذا درس من الإسلامية التركية نضعه بين أيدينا للبحث والتأمّل، فقد طفح كيل الدماء في بلدنا وغيره، وحصد العنف خيرة الشباب والطاقات من أبناء المجتمع الواحد. الأمض من ذلك هي النتائج المؤلمة لكلّ هذه الدماء والتضحيات الجسام. فمن خلال الخبرات المنظورة لم تزد تجارب المواجهة الدموية بين الإسلامية الانقلابية والأنظمة، على أن تكون عاملاً من عوامل تخريب البُنية الاجتماعية، وتقسيم المجتمعات، وتلكؤ التنمية، وتعطيل الصناعة والاعتماد على الذات، وانهاك الاقتصاد، واستنزاف الثروات بالمزيد من أجهزة القمع، والجنوح صوب العسكرة الغبية للمجتمع، وتكريس صورة الطاغية واعتباره خياراً لابدّ منه للبلد واستقراره، وإعلام الصوت الواحد، إلى بقية الإخفاقات التي نعايشها في حياتنا اليومية، مما يكشف بمجموعه عن حالة خراب الداخل والتبعية للخارج، وأن تكون بلداننا مشلولة بعيدة عن نطاق الحيوية الفاعلة. في مقابل ذلك استطاعت الإصلاحية الإسلامية حيثما حلّت، في تركيا وقبلها ماليزيا ومن بعدهما أندونيسيا، أن تحقّق مكاسب لمجتمعاتها وبلدانها، لا مجال للمقارنة بينها وبين بؤس الإسلامية التغييرية، بوجهيها الحركي والسلفي.

***

جواد علي كسار - كاتب وباحث عراقي

عن صحيفة الصباح البغدادية ليوم: 31 – 5 – 2023م

في فقرة أخرى من كتابه «اليوم والغد»، كان عنوانها «الرابطة الدينية حماقة»، قال سلامة موسى: «إذا كانت الرابطة الشرقية سخافة؛ لأنها تقوم على أصل كاذب، فإن الرابطة الدينية وقاحة، فإننا أبناء القرن العشرين أكبر من أن نعتمد على الدين جامعة تربطنا، وقد كان مصطفى كامل لجهله بروح الزمن يخبرنا، ولا يزال فلول المحررين من (المؤيد) و(الحزب الوطني)، يخبروننا - نحن المصريين - عن الإسلام في الصين تحت عنوان (أخبار العالم الإسلامي). وقد شبعت تركيا من الجامعة الإسلامية ونفضتها عن نفسها وتخلصت منها، لا لأنها أضاعت دينها ولم تعد تؤمن به، بل لأنها لم تعد تؤمن بفائدة الجامعة الإسلامية بعد أن خبرتها في الحرب الكبرى، فوجدتها قصبة مرضوضة لا تغني ولا تنفع». 

مصر كان يتنازعها تياران: تيار الجامعة الإسلامية أو الاتجاه العثماني، وتيار القومية المصرية. والتيار الأول أقدم من التيار الثاني. وكان التنازع بينهما حول هوية مصر: هل هي هوية مصرية عثمانية، أم هوية وطنية قومية مصرية؟

التيار الأول يختلط الدين فيه بالعلمانية، والتيار الثاني لا يخلط بين الدين والدولة الوطنية التي تقوم على أساس علماني. كما أن «الرابطة الشرقية» تختلط الدعوة الدينية فيها بالدعوة العلمانية.

محمود شاكر قدّم «الرابطة الشرقية» و«الرابطة الدينية» في كلام سلامة في إطار الإسلام وحده، وفي مقالاته مناط حديثنا كان يقدم سلامة ولويس عوض - بتضليل وافتراء - بوصفهما عميلين للاستعمار الغربي والتبشير المسيحي الغربي. ولوضع كلام سلامة موسى، المنتمي لتيار القومية المصرية، في سياقه الموضوعي سأورد ما أخلّ شاكر به من كلامه.

يقول سلامة موسى: «إننا في الجامعة الإسلامية نتأخر عن الزمن الحاضر بنحو ألف سنة، فقد كانت لأوروبا جامعة مسيحية هي أصل الحروب الصليبية، وقد أسفت أوروبا على ارتباطها بهذه الجامعة، ولم تعد إليها بعد أن خسرت فيها الأموال والأرواح». موقفه الرافض - وهو المسيحي - للجامعة المسيحية أو الرابطة المسيحية، لم يستحضره شاكر في اقتباسه منه، لغرض طائفي إسلامي.

يقول ماهر شفيق فريد - وهو يتحدث عن لويس عوض - في كتابه «دراسات نقدية»: «وهو لميوله الموسوعية، يخرج عن مجال تخصصه، كما في كتابه عن (رسالة الغفران)، حيث ارتكب بضعة أخطاء، من أطرفها قراءة (تغصّ بالصليان)، وهو نبات صحراوي، على أنها (تغصّ بالصلبان). ما جر عليه سفر (أباطيل وأسمار) الضخم لمؤلفه العلامة محمد محمد شاكر. ولا أستطيع أن أشاطر يحيى حقي وزكي نجيب محمود وشكري عياد وعبد العزيز الدسوقي والحسّاني عبد الله إعجابهم بهذا الأخير، وهو سفر يختلط فيه العلم الغزير بالسباب الغزير».

استناداً إلى وصف ماهر شفيق فريد الصحيح لكتاب «أباطيل وأسمار»، وباستخدام ألفاظه التي استعملها في هذا الوصف، أقول: إن نقد شاكر في بعض مقالات كتابه «أباطيل وأسمار» لسلامة موسى، لم يكن فيه علم غزير، بل سباب غزير.

قد يظن البعض أن في حديثه عن تاريخ تعبيرَي «السلفية» و«الرجعية» في مصر، في القرن الماضي إلى عام 1943، علماً دقيقاً، لأنه حديث يأتي من معاينة ومن معاصرة. وبخلاف ما يظنون، فإن في حديثه عن التعبير الأول، خلطاً وتخليطاً بتعمّد، للتحريض الديني الإسلامي على سلامة موسى، إذ إنه محيط باللغة العربية، وملّم بعلم العقيدة وعلم الحديث، وهو ذو توجه سلفي منذ نشأته الأولى.

وفي حديثه عن التعبير الثاني، جهل كثير.

كما أن في حديثه عن هذين التعبيرين، تحاملاً طائفياً على المسيحيين الشوام المتمصرين، ممثلين بأصحاب الصحف والمجلات في مصر، وعلى الأقباط، ممثلين بسلامة موسى ولويس عوض، وسامي داود.

يقول شاكر: «فمن معسكر الصراع بين الحضارة الغازية، وبين الحضارة الإسلامية أو بقاياها يومئذ، ظهرت كلمة (السلفيين) مقرونة بتبغيضها إلى العامة، وتصويرها في صور منكرة تكرهها النفوس. ثم بدأت الكلمة تدخل في محيط الصراع الاجتماعي، فمن أول ما أذكر من ذلك أن المسمى سلامة موسى، صنيعة المبشّر ويلككوكس، كان أكثر الناس استعمالاً للفظ (السلفيين) للدلالة على التأخر والتشدد والتخلف».

ويقول: «بعد قليل رأينا لفظ (الرجعيين) يحل محل (السلفيين) فجأة، وهو لفظ سهل على لسان العامة وغير العامة، وإذا بنا نراه مستعملاً على ألسنة ضرب من الكتّاب أمثال سلامة موسى من صبيان التبشير وسفهائه الذين يسافهون عنه، وعلى ألسنة أصحاب الصحف من نصارى لبنان المقيمين في مصر، والمستولين (!) على صحافتها كلها يومئذ. ثم لم نلبث إلا قليلاً حتى رأينا هذا اللفظ ينتقل للدلالة على الحياة الإسلامية كلها، واشتق له مصدر هو (الرجعية)، يستعمله الكتّاب إذا أرادوا التورية عن الإسلام، تهرباً، من أن تنالهم تهمة الطعن في دين الدولة... وظل هذا هو معنى (رجعي) إلى نحو سنة 1943، حين بدأت الحركة الشيوعية في الظهور، فاستخدمت اللفظ للدلالة على الأنظمة التي كانت تقاومها، لما فيها من الفساد والتعفَّن، وإن كان اللفظ عندهم أيضاً كان دالاً على مثل ما كان يدل عليه عند أعوان الاستعمار والتبشير بالحضارة المسيحية الوثنية الغربية».

وكان قد قال في مبتدأ حديثه هذا: «فقد بدا لي أن أعود إلى لفظ سلف في مقالتي الماضية، وهو اللفظ الذي استخدمه أجاكس عوض، واستخدمه المسمى سامي داود، وكلاهما يضمر في هذا اللفظ معنى بعينه، إذ جعل العموم تورية عن الخصوص، وكلاهما سيئ المقصد في هذه التورية».

صحيح أن سلامة موسى كان أكثر المثقفين من أبناء جيله، استعمالاً للفظ «السلفيين»، للدلالة على التأخر والتشدد والتخلف، لكن غير صحيح أن لفظ «الرجعيين» حل محل لفظ «السلفيين» عنده. فهو ظل يستعمل هذين اللفظين بمعنى مترادف.

سلامة موسى يستعمل لفظ سلفية بالمعنى اللغوي العام، وليس بالمعنى الديني الإسلامي الخاص، مفهوماً وجماعة.

فالسلفية في استعمالاته تترادف مع القديم ومع التليد ومع الكلاسيكية في المصطلح الغربي التي يترجمها إلى «التليدية»، ومع الاتجاه إلى الماضي في اللغة والأدب والثقافة والسياسة والحياة والدين.

سلامة موسى استعمل لفظ سلفية مقروناً بجماعة دينية مسلمة مرة واحدة، وذلك في كتابه «تربية سلامة موسى» الصادر عام 1947.

يقول في هذا الكتاب: «ما زلنا نعيش في أسر التاريخ بأدب أغلبه سلفي، نفكر بمزاج سلفي، في لهجة سلفية. وأدبنا هو أبعد الآداب عن روسو، بل لقد أصبحت حركاتنا الاجتماعية سلفية أيضاً، كما نرى في حركة الإخوان المسلمين». وللحديث بقية.

***

علي العميم

عن صحيفة الشرق الأوسط اللندنية في يوم 28 – 5 – 2023م

تستمر عجلة الحياة في الدوران، ترافقها قوة التغيير كـ «سنة كونية مستدامة» طالت الوجودَ كلَّه، حتى لامست الأمور المعنوية، وتوجُّهَ الإنسان وشعورَه تجاه الأشياء. وفي التركيز على المعنوي قبل الحسي المتوقع بطلاقة تعرضه للتغير المستمر، نجد أن الثقافة ومستوى الوعي الإنساني وطريقة التفكير باتت تتشكل بإصغاء تام لتفاصيل المعطيات التاريخية والثقافية والاجتماعية.

ومن المعلوم أن الشغف بالتطور والتقدم حلم يرافق المجتمعات الإنسانية كافة، ومن ذلك تعمل على استثمار أدوات التغيير والتبديل لجعل كل ما لديها من «رأسمال» مادي ومعنوي، يبدو أفضل وأكثر جدوى. وهنا لا بد من الاستفسار عن تغيرات القيم وتبدلات معايير الأخلاق، فهل هي ذات جدوى في جدتها، أم أن كل طارئ يلامسها يغير من هويتها فيفقدها قيمتها الحقيقية؟

إن الذات البشرية التي شغلت عقول الفلاسفة والمفكرين، متفقين جميعاً على ضرورة انتقالها من التقوقع الفردي إلى سعة الهوية الاجتماعية المندمجة المنتجة للتعايش والتطوير والنهوض الحقيقي، وذلك في ظل ارتباط بشري بمظلة عليا من القواعد الأخلاقية المبنية على المشتركات التي يجمع عليها الكل.. عانت من مستجدات لم تكن في الحسبان، ففي حين اتكأ الإنسان في اعتماده الأخلاقي على تعاليم النص التشريعي الديني ومصفوفة القوانين المنظمة الوضعية، فإنه بات يواجه تدهوراً ملحوظاً في منظومة القيم، في هيئة إقصائية لكل الآمال المبنية على حلم أفلاطون ومدينته الفاضلة، لتتحول الاتجاهات نحو شح قيمي، وتخبط بين التوجه النفعي والأخلاقي، مع ازدياد في وتيرة العنف والكراهية.

وفي هذا السياق، تُطرح مفارقات عدة، وتعرض تفاصيل أُشبعت أجزاؤها وتداعياتها وأسبابها، وتبقى الحاجة قائمة للتعرف إلى مصير المشترك الأخلاقي والنظام القيمي، في ظل تلك المعطيات «الثقيلة» على كاهل الإنسان وملامح «عقله الأخلاقي». وحتى نكون منصفين في تناول التحديات الإنسانية عموماً، والمتعلقة بالتحول القيمي والأخلاقي بشكل خاص، لا بد أن نعترف بأن تضخم حجم هذه المشكلة ترافق والعديد من التطورات الحاصلة على أدوات ووسائل الفهم والتوعية ونشر الثقافة الأخلاقية، فباتت تشكل فرصة واسعة لاستبدال الثغرات والنقاط السوداء على خريطة الوعي الإنساني بالمكنون القيمي.

وهذا بالإضافة إلى أن اعتبار التجارب الإنسانية السابقة محطة وقوف يؤدي للاستزادة بكافة السيناريوهات المحتملة، مما يعني استدراك الخطى الخاطئة وتحويلها لجسور عبور نحو المحطة الأخلاقية الكبرى. إن تحويل تحديات التغير الأخلاقي في المجتمع لفرص تغتنم، وبخاصة في نطاق بعيد كل البعد عن الواقع التنظيري المحدود، يكمن في بناء قيم أفراد المجتمع، ورغم أنها ليست بالمهمة الهينة، فإنها ليست بالمستحيلة في ظل تسخير العقل كنعمة ربانية وهبها الله للإنسان.

وهنا نكون قد وصلنا لعقدة الحكاية في التحولات القيمية، وأدركنا أنها تؤول لولادة الفرص، أو لتكاثر التحديات بقرار من الإرادة الإنسانية وحدها، فأخلاق الإنسان «رأسماله» المعنوي ومرآة الواقع التي تؤدي لانعكاس بهي كما يريد، والأدوات الحديثة ومعطيات التقانة وتشعباتها اللامحدودة هي الأخرى بين يديه، يستطيع أن يوجهها ويسخرها في المجال الأصوب، وذلك من خلال اعتماد الوسائل كافة وتطويعها في نشر الأسس الأخلاقية الكبرى، وتوسيع مساحة الوعي بانعكاسات البيئية الأخلاقية ونقيضها، وتسليط الضوء على الاستراتيجية الأقرب للواقع، ابتداءً من الفرد فالعائلة فالمجتمع فالعالم العريض. لا سيما أن نتاجات الوجود القيمي الحقيقي هو أحد أطراف معادلة النهوض والازدهار والتصدي للتحديات، بل وتحقيق الأمن والسلام في شتى بقاع الأرض.. إذ ترسيخ معاني التسامح والتراحم، والإصغاء والحوار.. مما يصنع الإبداع من فرادة التنوع والمسؤولية الجمعية.

***

د. محمد البشاري

عن صحيفة الاتحاد الاماراتية في يوم: 26 مايو 2023 00:38

منذ التسعينات من القرن الماضي، ذهب مفكرون استراتيجيون إلى أنّ قياس ماكس فيبر (1864-1920) لشرعية الدولة بأنها التي يكون من حقها احتكار العنف لم يعد صحيحاً. لأنّ قوى أخرى داخل الدولة صارت تمارس العنف ضد السلطات القائمة أو في حضورها من دون أن تكون تلك السلطات قادرةً على المعالجة أو الإخماد! وقد تفرع على ذلك بحثٌ آخر هو إعادة قراءة أنماط الشرعية باتجاه النقد أو التوسيع. ففيبر نفسه يقول إنّ للشرعية ثلاثة أنماط هي: النمط التقليدي القائم على الأعراف والعادات المتوارثة التي أطبق عليها الناس مثل الأنظمة الملكية. وقد تذكر المراقبون مدى قوة هذا النمط في حفل تتويج الملك البريطاني تشارلز الثالث، وقد ذهبوا إلى أنّ هذه التقاليد شكلاً ومضموناً تبلغ قرابة الألف عام؛ رغم التغير الكبير الذي طرأ عليها. أما النمط الثاني فهو النمط الكارزمي، حيث تتجدد وتقوى «شرعية» زعيمٍ قائمٍ وصل إلى السلطة بأسلوبٍ غير تقليدي، فحقق انتصاراً ردّ به عدواناً أو أسر مخيلة الجمهور بقدراته الخطابية أو الإنجازية. لكنْ إذا كان «القبول» النخبوي أو الشعبي يهبُ نوعاً من الشرعية؛ فهل يمكن المصير إلى اعتباره «نمطاً» رغم أنه لا يتكرر غالباً، أو قد يتحول طغياناً؟ والنمط الثالث هو النمط الدستوري الحديث الذي يقوى ويتمتَّن بالانتخابات الحرة، والانتظامات القانونية التي تُكسبُه الاستمرار العلني المعروف والمتوافق عليه نمطيةً تجعل من المسوَّغ اعتبارها شرعيةً، شأن الأنظمة التي سادت في النظام العالمي الحديث والمعاصر. وهكذا وفي النمطين الأول والثالث يصحُّ القول باحتكار العنف مسوِّغاً للشرعية استقراراً واستمراراً، وتحقيقاً لمتقضيات الشرعية التي تظهر آثارها في أنّ الدولة التي تستحقُّ هذا الاسم، هي التي يتمكن القائمون على السلطة فيها من أن تكون لهم شوكةٌ في الحماية بالداخل، والدفاع أو السيادة تجاه الخارج. وأصل هذا أتصور مقولة توماس هوبز أنّ الدولة هي المخرج الوحيد من «حرب الكل على الكل» وعلى حقّها في احتكار العنف أو منعه تقوم شرعيتها من أجل استمرار الاجتماع الإنساني.

من أين أتى إذن «النمط الجديد» إذا صحَّ التعبير، والذي تبزغ فيه فئة أو فئات بالداخل الاجتماعي تمارس العنف السلطوي متحديةً الشرعية القائمة من دون أن تتمكن السلطات القائمة من إزالتها؟ يعيد مفكرو الأنظمة السلطوية ذلك إلى القرن العشرين وما بعد الحرب الثانية حين شاعت مقولات حروب التحرير بأميركا اللاتينية وأفريقيا وتفاقمت ظواهر العنف الداخلي في أجواء الحرب الباردة بحيث صار ذلك نمطاً من أنماط الصراع بين الجبارين؛ فيتدخل أحدهما أو كلاهما في مناطق نفوذ القوة الأخرى داعماً أو مشجِّعاً. بيد أنّ هذه الممارسات - والتي تنقض أهمَّ وظائف الدولة وميزاتها - تراجعت أو تضاءلت لصالح النمط الحديث للدولة؛ وبخاصةٍ عندما تفوقت الولايات المتحدة ونظامها في الوضع العالمي العام والعلاقات الدولية.

إنّ العقود الأخيرة شهدت استثناءات معتبرة في الوضع العالمي العام لجهة تعددية السلطات التي تدّعي لنفسها حقّ استخدام العنف تارةً لمقاومة سلطةٍ قائمة، وطوراً للحصول على حق تقرير المصير لأقليةٍ مضطَهدة، أو أخيراً من أجل القيام بوظيفةٍ أو مهمةٍ كان على الدولة القيام بها وأعرضت عنها أو عجزت. وهذه الصنوف من العنف المسلَّح بداخل الدول موجودة على الأكثر في العقود الأخيرة في أفريقيا والعالم العربي. والملحوظ أنه يظهر في الغالب في أنظمةٍ حصلت فيها انقلابات عسكرية أو تطورات غير عادية، تحولت إلى ما يشبه «النمط» الذي يعني ضعف الدولة وعجزها عن إنفاذ ممارسة «احتكار العنف». ويشير المحلِّلون إلى أنّ هذه الظاهرة: الدولة/ الميليشيات، ظهرت أولاً بالصومال، ثم انتشرت واستمرت في الحرب الباردة وما بعدها وإلى اليوم.

لقد شاعت في مواجهة هذه الظاهرة المخربة للدولة ووظائفها مصطلحات مثل: الدولة الفاشلة، أو الدولة الانقسامية، أو السلطة التي فقدت شرعيتها. وفي العادة، وعندما يتفاقم العنف بين السلطة القائمة والميليشيات، أن يجتمع مجلس الأمن ويُصدر قراراً أو قرارات، ويضغط تحت الفصل السابع من أجل إنهاء العنف لصالح الدولة. ثم تطورت الممارسة إلى التوسط من أجل وقف النار، والسعي للحوار والمصالحة الداخلية. وخلال ذلك كلّه تتوالى التصريحات بالتحذير تارةً من التدخلات الخارجية، وطوراً بالتحذير من انقسام البلاد وتقتُّتها، أو سواد ظروف الحرب الأهلية.

المؤرخ الكبير الراحل أريك هوبسباوم هو صاحب العبارة المشهورة: في ثلثي الحالات فإنّ مجلس الأمن الموكل إليه صَون الأمن الدولي، يعجز عن اتخاذ القرار بسبب الصراعات بين الدول الكبرى بداخله، أو أنّ قراراته لاستعادة الأمن والاستقرار بالداخل في الدول المضطربة يتعذر إنفاذها! فأما الراديكاليون فيتجاوزون مجلس الأمن وقراراته ويذهبون في بعض الحالات ومن أجل الإنقاذ من العنف، إلى القول بالتقسيم. وقد شاع أنّ هذه الفكرة حملها بعض السياسيين الأميركيين في حالة العراق بعد الغزو. ويذهب فريقٌ آخر إلى اعتبار العنف ناجماً عن المركزية الشديدة في الدولة؛ ولذلك يقترحون الفيدرالية أو الكونفيدرالية. وبالنظر لعدم النجاح في وقف العنف رغم التقسيم أو الفيدرالية في عدة حالات؛ فإنّ فريقاً ثالثاً يذهب إلى الاستمرار بدعم وحدة الدولة، وهي الممارسة السائدة حتى الآن في حالات سوريا وليبيا واليمن. وهناك فريقٌ رابعٌ متشكك من دون أن يطرح بديلاً، فالميليشيات أو قوى ما دون الدولة أو تحتها صار من المتعذر مصالحتها أو تقاسم السلطة معها أو حتى تسليمها السلطة (!) لأنّ حياتها قائمة على ممارسة العنف أو أنّ اقتصادها هو اقتصاد عنف، كما في الميليشيات المنتشرة في دول الساحل الأفريقي منذ عدة عقود- وتارةً باسم الدين، وطوراً باسم الإثنية أو التحرير، وأحياناً من دون اسمٍ ولا عنوان!

تقوم الفكرة الغربية السائدة للدولة أنها لمنع العنف، وتحسين حياة الناس بحيث لا يلجأون للعنف. وصحيح أنّ بعض الدول ما حسّنت عيش الناس، لكنّ الميليشيات ما حسّنت حياة الناس أيضاً، أو فكّرت في ذلك! وقد كان المعتقد أن الناس يخافون من عنف الدولة، لكنّ السائد لدى العرب منذ أعوامٍ وأعوام: الخوف على الدولة من الفوضى ومن الميليشيات. فالمطلوب الدولة والدولة من دون شروط.

***

د. رضوان السيد

عن صحيفة الشرق الأوسط اللندنية ليوم 26 – 5 – 2023م

منذ 12 مليار عام تقريباً أعاد الإنسان موقعه الكوني والوجودي، فذهب يبحث عن أسس تتوافق مع توسع إدراكه للمكان، وتوازي رحابة تصوراته للزمان، وعلى طول تلك الرحلة لم يكن البحث سوى وسيلة لقهر جمرة السؤال والتفكّر.

ننشد فكرة الصيرورة واللا انتهاء في فلسفة هيراقليطس المبثوثة في شذراته التي أعيد بعثها من جديد في المنعرج الفلسفي الحديث، فهو بثّ «الغموض، والصيرورة» ومنه استفاد نيتشه كثيراً، خاصةً في نظرية «العود الأبدي» ورجوع نار هيراقليطس، ونهره الذي يجري دائماً بلا توقف، والزمان الذي لا يمكن أن ندركه مرتين.

ربما كان مُشعل الحداثة رينيه ديكارت بوصفه العالِم من جهة، والفيلسوف من جهة أخرى، هو واضع «المنهج» الأبرز في تاريخ العلم الحديث، لقد ألّف مقالته «مقالة في المنهج» سرد فيها رؤيته عن ضرورة تدوين العلوم النظرية وفق هندسة «إقليدس»، فهو رأى أن على علم كالفيزياء - مثلاً - أن يتأسس على مبادئ مماثلة لأصول هندسة «إقليدس»، بتلك المقالة عرّج على ملامح ثورة سماها بعض المؤرخين «الضربة الكبرى»، فهو سكن الجزء الأكبر من عمره، وجامل رجال الدين في ذلك العصر، حتى رسم منهجه الذي افتتحه بـ«الشك» ورمى الكوجيتو (أنا أفكر إذن أنا موجود) في مرمى ذلك القرن، وبقيت الفلسفة لقرونٍ تالية تدور حول الأسئلة أو البحوث أو المناهج التي وضعها وبوبها ورسمها رينيه ديكارت.

هذا مع دورٍ أساسيّ قام به فرانسيس بيكون، الذي نادى في كتابه (الأورجانون الجديد) بأهمية تخلص العلماء من التصوّر المسبق! قبل الشروع في أي عملية بحث، وكان تأثير «بيكون» له نفحه «تاريخية»، فهو دوّن الكثير من التشكيلات النظرية، لكن نظرياته لم تفرز أيّ بعد يمكن أن يوصف في سيرورة العلم بالجهد القطيعي، الذي يعتمد على الفصل في النتائج، والوصل في التساؤل، وهي القطيعة التي لم تنجح كل الثقافات الشرقية في انتهاجها، وربما لا يوجد غير الثقافة الأوروبية من أوجدت هذه القطيعة الجامحة التي تنفصل من جهة وتتصل من جهة أخرى، ذلك أن تاريخ العلم تاريخ «قطائع» و«أخطاء» حسب إبستمولوجيا «باشلار»، كل ذلك الجهد الذي بذله بيكون لم يتجاوز التأثير المرحلي، وسيرته الذاتية تنضح بمراداته من تأسيساته تلك.

مجيء كانط سيهدّئ من ذلك الاختلاف، بين بيكون، وديكارت، ذلك أن نظريته تقوم على تحويل ذات الباحث إلى مبدأ متعال يجمع وقائع التجربة، ويجمع توزّع الأحداث، لتدبيجها في توليفات عقلية وأنساق منطقية وفق مقولات تستمد أسسها من صلب أسس علوم العصر وأهمها الزمان والمكان. واستمرّ الجهد البشري في سعي حثيث لإزالة غشاوة امتدت طويلاً، حتى جاء العلم بما لم تستعد له الفلسفة، فلا يمكن تخيّل الصدمة التي أحدثتْها نظرية النسبية، ونظرية الكم على سير الفلسفة، وبلغ من شدّة الصدمة، إعلان البعض «نهاية الفلسفة»! لكن جيل دلوز رأى أن هذه المقولة التي روّجت في القرن العشرين، مجرّد موضة انتشرت في فرنسا، لكن سيبقى دور الفلسفة كممارسة، وإن كان سيتنوّع من جهة المحمول والموضوع.

كل تلك الأحداث تبرهن على ضرورة المحافظة على الحسّ السؤالي لدى الكائن، ومحاربة السؤال بالأجوبة أو بالخوف تعتبر من أشدّ الأخطار التي تهدد إمكانية قيام روح علمي يطمح إليه كل إنسان.

***

فهد سليمان الشقيران - كاتب سعودي

عن صحيفة الاتحاد الاماراتية في يوم: 16 مايو 2023

هل المتنبي شاعر عظيم؟ الجواب: نعم؛ وبلا تردّد، بل هو أعظم شعراء العربية في رأي الأغلبية الساحقة من النقاد العرب في القديم والحديث. وأكثر من ذلك؛ لا تكاد الذائقة العربية العمومية (الذائقة التي تتجاوز حدود الاختصاص النقدي) تُجْمِع على مَحَبَّة وتعظيم ـ بل وتقديس ـ أحد شعرائها العظام كما تُجْمِع على محبة وتقديس امبراطور البيان العربي: أبي الطيب المتنبي؛ وكأنما هي قد نصّبته ـ بلسان الحال ـ مُتَحَدِّثا رسميا بمكنوناتها الواعية واللاواعية، أو كأنما هو المُمَثِّل الشرعي والأسمى لِتَصوّرها الأخلاقي/ القِيمي العام.

لم يكن زمن المتنبي زَمَناً له كفرد، بل هو "زمن الروح العربية" منذ فَجْر ميلادها الأول، زمنُ عمرو بن كلثوم التغلبي الذي زعم أنه مَلأ البَرَّ حتى ضاق عنه، وملأ ظهرَ البحر سَفِيناً؛ بينما هو ـ في الواقع ـ يتحدّث عن قبيلته الصغيرة الهزيلة التي يهزمها ثمانون فارسا من القبيلة الأخرى المنافسة. وأيضا، هذا الزمن هو زمن الحطيئة "الشحّاذ" بامتياز. ثم ـ وهو الأخطر ـ  زمن الأخطل التغلبي، زمن قلب الحقائق رأسا على عقب؛ عندما يتحوّل ـ بالادعاء الشعري ـ أحدُ أكبر السفّاحين في تاريخ الإسلام إلى "خليفة الله يُسْتَسقَى به المَطرُ". وهو كذلك زمن جرير؛ عندما يُصِبح الحجّاج بن يوسف (الذي هو عار التاريخ الإسلامي) البطلَ الذي سدَّ مطلع النفاق، وأرسى قواعد الأمان...إلخ تلاوين الزمن العربي الشعري البائس.

المتنبي، شاعر القرن الرابع الهجري، ليس أكثر من مجرّد تكثيف إبداعي هائل لهذه الأزمنة في صورة زمن نموذجي. مضى على "زمن المتنبي" أكثر من ألف عام، تلاعبت سنواتُها السِّمَان، كما العِجَاف ـ وهي الأكثر ـ بالعالم العربي؛ حتى "أُحْمِدَ الصَّمم"؛ كما يقول المتنبي ذاته. ولكن "روح زمن المتنبي" لا تزال تتمدّد وتتجدّد؛ في مجالي القول والفعل. ما يعني أنها روح خالدة، وهُويّة مُلازمة، تجري المُتغيّرات على سطحها، وتعصف المتحولات بشواطئها؛ وهي وحدها الثابت اليقيني الناظِم لِمَسار الأجيال في الزمان والمكان.

إن هذه الروح التي يُعبِّر عنها "زمن المتنبي" هي روح سلبية تُنَاقِض وتُنَاهِض روحَ الحداثة من ألِفها إلى يائها. ومن ثم؛ يتعذّر الجمع بينها وبين إرادة التقدم.

لقد حاول الإنسان العربي مطلع القرن التاسع عشر استلهام عصر الأنوار الأوروبي، وبدا أوائلَ القرن العشرين وكأنه مُصَمِّم على هذا الاستلهام مهما كان الثمن، بدت المُقَدِّمات واعدة، ولكنه تعثّر، ثم توالت انتكاساته الكارثية. هكذا يبدو زمن التنوير العربي  (التنوير المأمول؛ وإن لم يتحقق) وكأنه محاصر ـ ولا يزال ـ بزمن المتنبي/ بزمن العرب الأقدم والأقدس، الزمن المترع بالمتخيل الجميل، والذي لم يكن أكثر من أغنية على شِفَاه الشعراء الحالمين، ولكنها أغنية تحدو بها الركبان، وتَسْكُر بها جِمَال القافلة، فلا ينفع حينئذٍ أن تنادي بأعلى صوتك: رِفْقاً بالقوارير.

تحدثت في مقال سابق عن "داعشية المتنبي"، أي عن تمجيد العنف الدموي في شعره، وكيف أن العنف ظهر وكأنه غاية في حدّ ذاته؛ ليصبح القيمة الأسمى. وهي القيمة التي لم يبتدعها المتنبي، وإنما استلهمها من أسلافه، وزاد عليها من إبداعه ما جعلها ـ على قتامتها وبشاعتها ـ قيمة عُليا، تُصَان ولا تُدان. وبالطبع؛ لم يكن هذا العنف الدموي إلا وجها وحدا من أوجه خطاب التخلّف في شعر المتنبي.

اليوم، لا بد من التأكيد على حقيقة أن المتنبي شاعر الفخر الكاذب بلا منازع، شاعر الادعاء العريض، الادعاء اللاّمعقول، بل الادعاء الفارغ الذي يقف به على تخوم الجنون؛ في حين أنه يبدو ـ إبان تلقيه عربيا ـ مُبرّرا ومعقولا !

طبيعي أن يُسْتَسَاغ كل هذا الفخر الأجوف بلا حساب؛ لأن الأنا المتفرّدة المُتَورّمة عند المتنبي ليست إلا تلك الأنا الجمعية عند شاعر القبيلة الأول. وهذه الأنا في حالتيها (= المتفردة والجمعية) هي نقيض مبدأ المساواة الذي هو أسّ الأسس في نظام المدنية المعاصرة التي لا يوجد فيها أناس من "ذهب" وآخرون من "تراب/ رغام".

يقول المتنبي عن نفسه وعن بني زمنه:

وَما أَنا مِنهُمُ بِالعَيشِ فيهِم

       وَلَكِن مَعدِنُ الذَهَبِ الرَغامُ

يقصد أنه وإن كان يعيش بين الناس، فليس هو من نوع هؤلاء الناس، ليست قيمته كقيمتهم. وطبعا، يستدل على ذلك بكون الذهب يسكن التراب، دون أن يعني ذلك أن قيمة الذهب تساوي قيمة التراب الذي يحتويه. فهو ـ وفق دعواه ـ ذَهَبٌ خالص، وسائر الناس مجرد تراب خالص، ولن يضيره العيش في أوساطهم، بل سيبقى محتفظا بقيمته على كل حال.

كما يقول أيضا على سبيل الادعاء الكاذب:

سَيَعلمُ الجَمْعُ ممن ضَمَّ مَجْلِسُنَا

بأنَّني خَيْرُ مَن تَسْعَى بِه قَدَمُ

ويقول أيضا:

وَرُبَّما أُشهِدُ الطَعامَ مَعي

مَن لا يُساوي الخُبزَ الَّذي أَكَلَهْ

هكذا، باحتقار صريح، حتى لجلسائه الذين قد يُشاركونه طعامه، إذ قيمتهم عنده لا تساوي الخبز الذي يأكلونه. وكونهم يأكلون معه، لا يعني ـ في زعمه ـ أنهم يساوونه؛ لأنه شيء، وهم شيء آخر مختلف تماما. إنه لا يقبل أي ملمح من ملامح مساواته بالآخرين في أي سياق. ولهذا يقول صراحة في بداياته الشعرية الأولى:

أمِط عَنكَ تَشبيهي بِما وَكَأَنَّهُ

فَما أَحَدٌ فَوقي وَلا أَحَدٌ مِثلي

وعلى العموم، أشعاره في الفخر الكاذب كثيرة جدا، وهي تنطوي على مبالغات صبيانية، مُضْحِكة في كثير من الأحيان، ولكنها مُسْتساغة إلى حد كبير في الذائقة العربية التي استمرأت مثل هذا الادعاء البهلواني منذ أيام جاهليتها الأولى التي كانت لا تتقن غير مضغ الكلام.

وإذا كان المتنبي شاعر مديح كاذب بالدرجة الأولى، فهو شاعر هجاء كاذب بالدرجة الثانية. وأخطر من الكذب هنا أو هناك، هو التقلب العبثي بين مديح وهجاء كاذبين. أي أن الكلمة الصادقة غائبة تماما؛ بعدما ما جرى التلاعب بها بين المتناقضات؛ حتى فقدت قيمتها التعبيرية. وعندما تغيب الكلمة الصادقة من رجل مهنته صناعة الكلام، لا بد وأن يغيب الموقف الصادق، لا بد أن تسقط الدلالات، وتتلاشى مدلولاتها، وتفتح العدمية أبوابها على كل الاحتمالات.

وضمور المبدأ الإنساني في شعر المتنبي، هو انعكاس لضموره ـ بل غيابه شبه الكامل ـ في التراث الشعري العربي، ومن ثم في منظومة القيم السائدة. فالمتنبي يُلِحُّ على "أصل الشر" في الإنسان، وأن "الإنسان ذئب لأخيه الإنسان"، وأن على كل إنسان أن يعامل بني جنسه بهذا المنطق المتوحش. يقول:

وَمَن عَرَفَ الأَيّامَ مَعرِفَتي بِها

وَبِالناسِ رَوّى رُمحَهُ غَيرَ راحِمِ

فَلَيسَ بِمَرحومٍ إِذا ظَفِروا بِهِ

وَلا في الرَدى الجاري عَلَيهِم بِآثِمِ

ويقول عن علاقات المودة بين الناس:

إِذا ما الناسُ جَرَّبَهُم لَبيبٌ

فَإِنّي قَد أَكَلتُهُمُ وَذاقا

فَلَم أَرَ وُدَّهُم إِلّا خِداعاً

وَلَم أَرَ دينَهُم إِلّا نِفاقا

كما يقول أيضا:

فَلَمّا صارَ وُدُّ الناسِ خِبّاً

جَزَيتُ عَلى اِبتِسامٍ بِاِبتِسامِ

وَصِرتُ أَشُكُّ فيمَن أَصطَفيهِ

لِعِلمي أَنَّهُ بَعضُ الأَنـامِ

هكذا، الخداع هو الأصل في العلاقات، والشك بالإنسان ضرورة عقلية؛ لمجرد أنه إنسان؛ لأن الإنسان ـ وفق هذا الزعم ـ متربص بالإنسان لا محالة؛ لأن طبعه العدواني/ الذئبي هو الطبع الأصيل الذي لا يستطيع تجاوزه. وبهذا، ليس ثمة تراحُمٌ، بل تزاحم وتخاصم، ثمة صِراع أزلي، لا تبدو التفاعلات البَيْنِيّة السِّلْمِية/ الوَدُودة ـ من قول أو فعل ـ إلا أداة من أدوات الصراع. والمتنبي هنا يؤكد أن تَسْمِيم العلاقات بهذا التصور المتوحش، ليس مجرد رأي مقابل رأي آخر، بل هو الحق المؤكد بمعطيات الواقع، وبالتالي، فاكتشافه واستشعار مدى خطورته من علامات النباهة والذكاء واتساع المعرفة بالإنسان.

وباستجداء المال إلى درجة "الشحاذة"/ التسوّل المجاني؛ يصبح الفعل المنتج المؤسس للحضارة بلا قيمة. المال ليس مقابل العمل، بل مقابل الإبداع في فنون التسوّل، مقابل الكذب الرخيص. وكلما كان الاستجداء أكثر مهانة؛ ارتفع توقّع العطاء. لهذا، لا يستنكف المتنبي أن يقول ـ متسوّلا ـ مَن سيهجوه بعد ذلك بأقذع الهجاء:

أبا المِسْكِ هل في الكأس فَضْلٌ أنَالُه

فإني أُغَنِّي مِنْذُ حِينٍ وتَشْرَبُ

وَهَبْتَ على مِقْدَار كَفّي زَمَانِنَا

وَنَفْسِي على مِقْدَار كَفَّيْكَ تَطْلُبُ

إنه يطلب المزيد من العطاء بلا حياء، وكأن العطاء المجاني حق مستحق، وكأن التسوّل ـ بوقاحة ـ مهنة شريفة تكتب في الأشعار الخالدة ! لهذا، لا يكفّ حتى في آخر لقاء له مع كافور أن يقول له:

وفي النفس حاجات وفيك فطانة

سكوتي بيان عندها وخطاب

إنه يطلب من كافور أن يتفهم حاجاته قبل أن يشرحها، أن يعطيه قبل أن يسأل / يتسوّل، بل ويتمنّى عليه أكثر مما صرّح به في سؤاله/ في تسوّله. يستجدي كل هذا الاستجداء الإنسانَ ذاته الذي سيخصّه بالهجاء العنصري الشهير، بل بالهجاء الذي يُجَرِّدُه فيه من صفته الإنسانية؛ ليضعه ـ صراحة، وبلغة سُوقيّة ـ في خانة الكلاب.

وتجدر الإشارة إلى أن صور الاستجداء ليست صورا عابرة في شعر المتنبي، بل هي من ثوابت ديوانه، وبعضها تصل درجة عالية من ابتذال النفس؛ حتى وجدناه يتسوّل طعامه/ زاد رحلته. يقول:

وَقَد قَصَدتُكَ وَالتَرحالُ مُقتَرِبٌ

وَالدارُ شاسِعَةٌ وَالزادُ قَد نَفِدا

فَخَلِّ كَفَّكَ تَهمي وَاِثنِ وابِلَها

إِذا اِكتَفَيتُ وَإِلّا أَغرَقَ البَلَدا

المهم هنا، أن ما يجمع بين الفخر الكاذب، والمديح الكاذب، والتسوّل المجاني، هو توهّم أن مجرد الادعاء إنجاز، وأن الكلام الفارغ/ الخالي من الحقيقة، يستحق أن يقابله المال، المال الذي يُفْتَرض أن يكون في علاقاته التبادلية مقابل إنجاز حقيقي. وهذا التوهّم سائد في الذهنية العربية، حيث بدا لها ـ على امتداد تاريخها وإلى اليوم ـ أن ما تقوله فعلته حقا، أي ما نَوَت فعله أو ادّعت فعله على مستوى القول، توهّمت أنها فعلته حقا، وتعاملت على هذا الأساس؛ لتصبح في علاقة انفصام بين الأقوال والأفعال.

أخيرا، تضيق المساحة عن كثير من الإضاءات التي تربط بين زمن المتنبي، وزمن الحداثة المضاد؛ على مستوى القيم/ المبادئ الفاعلة. وفي كل الأحوال، ليس المقصود نفي شعر المتنبي ولا تهميش عبقريته الجمالية، بل ولا اعتباره عبقرية شعرية ماضوية ينبغي تجاوزها...إلخ، ليس هذا المقصود، بل المقصود تحديدا هو أن "زمن المتنبي" يساوي "زمن اللاّحضارة"، وأن التقدم الحقيقي رهين بالخروج منه إلى زمن آخر، إلى زمن مختلف تسوده قِيَمٌ/ مبادئ مغايرة تماما لتلك القيم/ المبادئ التي كان شعر المتنبي هو لسانها الأكمل والأجمل، كان مرآتها الأكثر صفاء على امتداد عشرة قرون من تاريخنا الذي لا يزال فاعلا فينا، لا يزال يصنع حاضرنا ومستقبلنا بكل إصرار وعناد؛ وإن لم نشعر بذلك في كثير من الأحيان.

***

محمد المحمود

عن الحرة في يوم: 27 فبراير 2023

في حوار أخير معه على شاشة قناة CBS، قال ساندر بيتشاي، رئيس مؤسسة غوغل الشهيرة ذات المحرك البحثي الأهم عالمياً، إن حركة الذكاء الاصطناعي تحتاج إلى فلاسفة ومفكرين في الإنسانيات والأخلاق، وليس إلى المهندسين والفنيين وحدهم.

فالرهان المستقبلي بالنسبة لبيتشاي يتعلق بالثقافة والقيم والأخلاق، وليس فقط بتقنيات الاتصال والطرق السيارة للمعرفة الرقمية، فلا بد بالنسبة له أن «يتأقلم الذكاء الاصطناعي مع القيم الإنسانية».

وقد ذهب إلى الرأي نفسه عددٌ من كبار المتخصصين في الذكاء الاصطناعي في عريضة منشورة، من بين موقعيها «إيلون ماسك» الرئيس الجديد لشركة «تويتر»، و«ستيف وزنياك» مؤسس شركة «آبل» (بمعية شريكه الراحل ستيف جوبيز). والخوف هنا هو من أن تصبح حركة الذكاء الاصطناعي خطراً على صدقية المعلومات ودقتها، وذلك من خلال التلاعب بالمضامين المعرفية للتقنيات التواصلية، والتصرف فيها تضليلا وتوجيهاً، انتهاكاً لمعايير حرية التفكير والوعي التي هي أساس النزعة الإنسانية الحداثية.

بعد الموجة الأولى من الذكاء الاصطناعي، دخل العالَمُ عصرَ التقنيات الذكية القوية، التي قد تكون متمتعة بقدرات الوعي والحرية والإحساس، بما ينذر بنشأة ما أطلق عليه الفيلسوف الفرنسي ليك فري «ما بعد الإنسانية»، وهو العصر الذي سيصبح فيه البشر اليوم «الحيوانات المستخدمة» من الأجهزة الاصطناعية الذكية حسب توقع إيلون ماسك.

لقد بدأ الحديث يعلو بالفعل في كثير من البلدان الصناعية المتقدمة حول اختفاء عدد كبير من الوظائف والأعمال التي سيتم الاستغناء عنها بفضل الذكاء الاصطناعي الجديد، ومنها المهن التعليمية والطبية والمالية.. بل تحدَّث البعضُ عن نهاية مفهوم العمل ذاته الذي تأسست عليه هياكل الدولة الوطنية الليبرالية الحديثة.

ومن ثم لا يتردد بعضُ الكتاب والباحثين في الكلام عن تفكك المجتمعات المعاصرة ونهاية الحرية الإنسانية وعودة الإنسان إلى نمط جديد من العبودية واستبداد الآلة التقنية المنفلتة من كل رقابة وتحكم. وعلى عكس هذا التصور، يرى ليك فري أن الحاجيات المصطنعة هي التي خلقت تاريخياً فرصَ العمل، وبالتالي فإن كل مرحلة من مراحل التقدم العلمي تبدع مسالكَ وآفاقاً جديدةً للشغل بقدر ما تقلص من نماذج أخرى لم تعد تتلاءم مع سوق العمل الجديدة. أما السؤال القيمي، فقد واكب نشأة العلوم التجريبية وتطبيقاتها التقنية منذ البداية، بما عكسته الكتابات الفلسفية والأخلاقية منذ مطلع العصور الحديثة.

ولقد شهد هذا التوجهُ دَفعةً قويةً مع تنامي الاقتصاد الصناعي الاستهلاكي والتقنيات العسكرية ذات الدمار الشامل، بما تجلى بوضوح في كتابات الجيل الأول من فلاسفة مدرسة فرانكفورت ما بعد الحربين والفلاسفة والكتاب الوجوديين بعد الحرب العالمية الثانية.

إلا أن السؤال القيمي عرف بالفعل تحولاً كبيراً مع نشأة التقنيات الاتصالية التي أن فسحت المجال لما أطلق عليه البعض «العولمة السعيدة»، والتي ولَّدت تحدياتٍ غير مسبوقة تزايدت مع وتيرة الذكاء الاصطناعي الراهن. ما أطلق عليه ليك فري «الحالة ما بعد الإنسانية» بدأ عملياً في ظواهر ستغير قريباً طبيعة البشر مثل: السيارة ذاتية القيادة، واستبدال الخلايا المتهالكة، والنسخ الإلكتروني للدماغ الإلكتروني.. والعقبة هنا ليست تقنية مادية بل أخلاقية قيمية، كما يقر ويتخوف أهل الاختصاص أنفسهم.

وكانت الفلسفة قد نشأت مع سقراط لمواجهة تحد مماثل هو الإمكانات الواسعة التي توفرها الثورة العلمية الأولى المتمحورة على الرياضيات، من حيث بناء الخطاب وبثه في الميدان العمومي المفتوح الذي كان أوانها هو «أغورا» المدينة. لقد اعتبر سقراط أن الحاجة إلى الفلسفة تتمثل في تصفية سيلان الكلام المفتوح والمنشور وفق معايير برهانية أخلاقية تحمي الحقيقةَ والعدالة من تلاعب الخطباء والبلغاء (السوفسطائيون).

ومع قيام الثورة العلمية الثانية المتمحورة حول الفيزياء، تجدد التحدي نفسُه، بانبثاق مشروع السيطرة على الطبيعة وامتلاكها الذي اعتبره ديكارت مهمةَ العلم التجريبي، وهو وفق عبارة ميشال سر «إعلان حرب» متكامل سيفضي لاحقاً إلى مسار الهيمنة المزدوجة على الطبيعة والإنسان الذي شغل كثيراً الفلاسفة المعاصرين.

ولم يكن مشروع إيمانويل كانط الساعي إلى إنقاذ الميتافيزيقا والأخلاق من تجاوزات التصور المجرد للعقل (ميدان المعرفة) سوى محاولة أخرى للإنقاذ الفلسفي للحقيقة والعدالة. ما نخلص إليه هو أن موجةَ الذكاء الاصطناعي، والتي هي الطورُ الجديدُ من الثورة التقنية الراهنة، تستوقف الفلسفةَ مجدداً في مهمتها القيمية والعقلانية التي لا سبيل للاستغناء عنها، وهي اليوم مطلوبةٌ أكثر من أي وقت مضى.

***

د. السيد ولد أباه - أكاديمي موريتاني

عن الاتحاد الاماراتية في يوم: 24 ابريل 2023 00:07

مقال الشيخ محمد الغزالي «بين الهلال والصليب» الذي ضمَّه إلى كتابه «من هنا نعلم» الذي هو ردٌّ على كتاب خالد محمد خالد «من هنا نبدأ»، هو – كما قلنا في المقال السابق – في الأصل ردّ على حملة من حملات سلامة موسى على جماعة الإخوان المسلمين. ومقاله هذا كان مقالاً مقحماً في كتابه؛ إذ لا صلة له بموضوع ردّه على كتاب خالد محمد خالد «من هنا نبدأ».

إنَّ الشيخ محمد الغزالي في مبتدأ مقاله حين نزع الإيمان الديني من قلب المسلم محمد التابعي، وحين نزعه قبله من قلب اليهودي أينشتاين، لم يكونا هما المستهدفين بهذا النزع، بل هو فعل ذلك رشوة للأقباط، لكي يتيسر له نزع الإيمان الديني من قلب القبطي سلامة موسى.

فهو يريد أن يفصل سلامة موسى عن الأقباط، بالزعم أنه ملحد ومعادٍ للأديان، وأنه أنشأ عصابة من الأقباط عددها قليل لهدم الأديان التي من ضمنها الدين المسيحي. واعتقد أنه بهذا القول أنه سيؤلب الأقباط على سلامة موسى من ناحية دينية.

إنَّ الشيخ الغزالي حينما خاطب القمص سرجيوس سرجيوس في مقاله «بين الهلال والصليب»، لم يسلكه – كما الاثنين الآخرين – في «عصابة سلامة موسى»؛ لأنه كان رجل دين قبطياً. وكان أقصى ما قاله عن الهيئة الدينية القبطية، عبارة عارضة، هي أن بعض رؤساء الكنيسة قرروا أن يجاروا العصابة الملحدة في أعمالها ضد الإسلام وضرورة فصله عن الدولة رسمياً.

اشتهر سلامة موسى في خطابه السياسي والفكري بعلمانية صلدة وحادة إلا أنه لم يكن ملحداً، وبخاصة بإيمانه الديني المسيحي الذي لم يكن يجاهر به، أو يعلنه، لكي يكون متسقاً مع علمانيته الصلدة والحادة. وهذه مسألة كان يعرفها عنه الأقباط اللاهوتيون والأقباط العلمانيون، ويعرفها عنه الأقباط الطائفيون من هذين الاتجاهين.

فهو مع علمانيته الصلدة والحادة، كان منخرطاً في النشاط الاجتماعي والثقافي لجمعية الشبان المسيحيين، منذ أن انضم إلى عضويتها في عام 1922.

فلو كان ملحداً لما قبلت هذه الجمعية أن يتولى فيها توجيه الشباب المسيحيين وغير المسيحيين، من المسلمين واليهود، ثقافياً واجتماعياً.

يروي علي جواد الطاهر قصة حصلت له مع سلامة موسى في شبابه. وقبل أن تحصل هذه القصة كان مثل كثيرين في مصر وفي العالم العربي يصنف سلامة موسى بحسب خطابه السياسي والفكري العلني. فهو تعرف إلى بعض كتب سلامة موسى وهو في المرحلة المتوسطة (أو الإعدادية) من دراسته، وافتتن بآرائه. وقد بلغت هذه الفتنة حدّها الأعلى بأن سلامة موسى وكتابه «في الحياة والأدب» هما اللذان – لا هو – اختارا له الدراسة في القسم العلمي لا القسم الأدبي في مرحلة دراسته الثانوية، مع أنه نشأ نشأة أدبية!

يقول في قصته مع سلامة موسى: «وها أنذا في حارة شعبية أرقى أربعاً أو ثلاث عتبات نحو باب قديم متين، وتمتد اليد إلى الجرس، فيفتح الباب وتطل امرأة – لا شك في أنها أم البيت – ووراءها فتاة – لا شك في أنها البنت التي كان يحلم بها صديقي الذي كان صديقي – قالت السيدة المحترمة: يمكنك الالتقاء به في جمعية الشبان المسيحيين. فشكرتها وودعتها، ولكن العجب من هذا الكاتب الذي علمنا شيئاً، ويلتقي في المكان الذي لا يكون فيه! وتذكرت ما كان من أسماء أولاده: خوفو وخفرع (وربما ميكرع)... وما روي في غير مصلحته من أشياء أخرى تضعه في موضع المتناقض.

لا أدري كيف بلغت بيته... ولا أتذكر كيف وصلت إلى مقر الجمعية، ورأيته وجلست أحدّثه ومعي حماستي التي صحبتني من عراق 1947، ومن كتبه... وأفكاره... واندفع... ولكنه ليس معي... وحين ذكرت له أخباراً عن مكانته عند القارئ العراقي، وذيوع كراسه عن (الحرية)، بدا – على غير افتعال – وكأنه لا يعرف شيئاً عن هذه المكانة. وسأل: هل يجيز نوري السعيد بيع كتبي؟

ولم يطل اللقاء... لأن أهراماً شاهقة قد تهاوت من مخيلتي، ولم يكن سلامة موسى الذي إزائي سلامة موسى الذي ملأ ذهني. وافترقنا على غير سعي إلى اللقاء. وانتهى في النفس شيء اسمه سلامة موسى، فقد مات فيها سنة 1948 (وليس 1958 حين مات فعلاً عن إحدى وسبعين سنة)».

هذه القصة ذكرها علي جواد الطاهر في مقاله «حدود القراءة وآفاق المعرفة»، المنشور في جريدة «الجمهورية» ببغداد بتاريخ 25/10/1985، وأعاد نشره في كتابه «أساتذتي ومقالات أخرى» بعنوان مختلف، هو: «سلامة موسى».

وأوردت هذه القصة؛ لأنها تعبر عما قلته عن نوع علمانية سلامة موسى التي تلتبس على قارئ كتبه، مع إدراكي أن خيوط القصة مهلهلة...

يقول علي جواد الطاهر في مقاله المشار إليه: «وبلغ القاهرة، والحال متوترة، والنقراشي وفاروق في أعلى مراحل الشدة. بلغ وتهيأ له أن يقرأ كتاب (تربية سلامة موسى) في بلد سلامة موسى».

في هذا الكتاب تحدث سلامة موسى عن تجربته في جمعية الشبان المسيحيين، وتحدث كثيراً عن هذه الجمعية. فما العجب – بعد أن قرأ هذا الكتاب – أن يكون سلامة موسى في هذا المكان؟!

لماذا في اللحظة التي أخبرته زوجة سلامة موسى فيها أن زوجها في جمعية الشبان المسيحيين، تذكّر أن من أسماء أولاده: خوفو وخفرع؟!

فما الصلة بين جمعية مسيحية بروتستانتية وبين الأسماء الفرعونية؟!

سلامة موسى ذو اتجاه فرعوني، فما التناقض في أن يسمي بعض أولاده بأسماء فرعونية؟!

صدم سلامة موسى علي جواد الطاهر بأنه غير مكترث بأن له مكانة عند القارئ العراقي. وكان يجب عليه ألّا تصدمه هذه الحقيقة؛ فسلامة موسى مثقف قومي مصري إقليمي يخاطب القارئ المصري، ولا يعنيه أن يكون له قارئ في «الشام»، وفي «بغداد»، وفي «نجد»، وفي «اليمن»، وفي «تطوان»، مع أنه – والحق يقال – له تأثير «تنويري تبسيطي» لدى أجيال متتالية من القراء العرب في القرن الماضي. وهذه الحقيقة تنسف ادعاء الغزالي في ذلك المقال، بأن مريديه عصابة قليلة النفر من الأقباط.

هل هو – حقاً – مات سنة 1948 في وجدان وعقل علي جواد الطاهر لسبب وطني عرقي، قبل ميتته الفعلية سنة 1958؟

وهل صدق على جواد الطاهر في روايته التي قال فيها: «وافترقنا على غير سعي إلى اللقاء»؟

في مقال له عنوانه «في جامعة فؤاد – القاهرة شباط (فبراير) 1947 – حزيران (يونيو) 1948» نشره في مجلة «الرواد»، وأعاد نشره في كتابه «فصول ذاتية من سيرة غير ذاتية»، كان قد قال: «وسلامة موسى ومقر مقابلاته: جمعية الشبان المسيحيين، قابلته وزاد إعجابي به، وهو الذي يعجبني منذ زمن بعيد».

فأيهما الناسخ، وأيهما المنسوخ في أحاديث ذكرياته المصرية؟

التناقض الواضح عند سلامة موسى أنه على علمانيته الصلدة والحادة كان يكتب في مطبوعة طائفية، هي جريدة «مصر»، وأكثر من هذا أنه تولى رئاسة تحريرها لمدة من الزمن.

هذا التناقض الواضح، كان قد أشار إليه الكاتب الماركسي القبطي أبو سيف يوسف الذي كان يكتب في مجلة «الفجر الجديد» الشيوعية ما بين عامي 1945 و1946، تحت اسم رأفت يوسف وأ. يوسف.

ففي أثناء حملة موسى على الإخوان المسلمين عام 1946، رد عليه بمقال عنوانه «لن نسمح باستغلال الدين للتفرقة بين أبناء الشعب».

وقال في هذا المقال عن جريدة «مصر»، إنها «تعالج المشاكل في نطاق طائفي، فتثير بذلك الحقد العنصري عند الأقباط. وسلامة موسى يهاجم الإخوان المسلمين في هذه الجريدة، فلا يحاول أن يعلو على مستواها، بل يكتب ويدور في حدود الطائفية... فهو لا ينقد الإخوان المسلمين على أساس قومي وطني، ولكن على أساس عنصري ديني».

الشيخ الغزالي يعلم أن سلامة موسى غير ملحد بالمسيحية، لكنه يتبع سياسة الإخوان المسلمين مع الأقباط في ذلك الوقت، وهي سياسة الاحتواء والمداراة من أجل ألّا يثيروا كثيراً من العواصف حول دعوتهم إلى تطبيق الشريعة الإسلامية. ولينفوا عن أنفسهم قبلها تهمة التعصب الديني، وهي التهمة الموصومون بها هم و«الحزب الوطني» وحزب «مصر الفتاة» من قبل الأقباط ومن قبل قوى وطنية.

ومع حرص الإخوان المسلمين على هذه السياسة إلا أنهم يخرجون – أحياناً – عنها، فيكتبون مقالات فيها تعصب طائفي، تسبِّب غضب الأقباط وسخطهم عليهم.

نقد الشيخ محمد الغزالي الديني العنيف لسلامة موسى في ذلك المقال لم يكن له أثر يذكر في كتب الإسلاميين وفي مقالاتهم، مع أنهم كثيراً ما يقتبسون من كتبه ومن مقالاته الصحافية.

وقد يكون السبب في هذا أن كتابه «من هنا نعلم» الذي إلى عام 1954، طبع أربع طبعات، لم يطبعه الشيخ طبعة خامسة وسادسة وسابعة وثامنة... مثل باقي كتبه؛ فكتابه هذا يحضر اسمه في كتب الإسلاميين وفي مقالاتهم عند تطرقهم في الحديث لخالد محمد خالد وكتابه «من هنا نبدأ»، فيقولون: وتصدى له الشيخ محمد الغزالي بكتاب «من هنا نعلم»، ثم يذكرون أن خالد محمد خالد تراجع عما دعا إليه وعما قاله في كتاب «من هنا نبدأ» في كتاب ألّفه بعد سنوات طويلة، هو كتاب «الدولة في الإسلام». وهذه المعلومة يقدمونها بوصفها انتصاراً ثانياً لرد الغزالي في كتابه «من هنا نعلم».

فكتاب الشيخ محمد الغزالي «من هنا نعلم» يحضر اسمه عند الإسلاميين بطريقة تمجيدية واحتفائية بمضمونه الذي يدعون أنه رد علمي ملجم، وبعنوانه الذي يباهون بأنه عنوان الاعتدال في الردود والمناظرات. ويقدمون صورة ناقصة لموقفه الناقد للأزهر في تفكيره بسحب شهادة العالمية من خالد محمد خالد، للادعاء بأنه يتمتع بمناقبية أخلاقية عالية. وقد نجح الإخوان المسلمون بتسويقهم الدعائي للشيخ الغزالي، خطاباً ومواقف، بأنه رجل الاعتدال والتسامح والانفتاح على المخالفين والمختلفين معه. وهذه الصورة هي بخلاف ما هو عليه حقيقة.

بعد كتابة الشيخ محمد الغزالي عن سلامة موسى في ذلك المقال المكرس للهجوم الديني عليه، لم يخصه مرة أخرى بمقال ديني هجائي قدحي.

تناول الشيخ محمد الغزالي لويس عوض بالنقد الديني الطائفي مرة واحدة، وكانت هي المرة الأولى والأخيرة. ففي مجلة «الدوحة» كتب ثلاثة مقالات في موضوع متصل، وهو الدفاع عن محمد عبده وجمال الدين الأفغاني، وصد هجمات بعض الإسلاميين القادحة فيهما.

المقال الأول، عنوانه «وجهة نظر في أقدار الرجال: لماذا الهجوم على محمد عبده والأفغاني؟». نشر في مجلة «الدوحة»، بتاريخ 1 يوليو (تموز) 1983.

المقال الثاني، عنوانه «يا جمال الدين... لماذا يهاجمونك ويحقدون عليك إلى هذا الحد؟ مدرسة رائدة وإمام ضخم». نشر فيها بتاريخ 1 ديسمبر (كانون الأول) 1983.

المقال الثالث، عنوانه «متى تهدأ هذه الزوابع؟! هل كان الأفغاني ومحمد عبده خارجين عن الإسلام؟». نشر فيها بتاريخ 1 يناير (كانون الثاني) 1984.

ففي مقاله الثاني قال: «وفي هذه الأيام المهزولة من تاريخنا العلمي والسياسي تتعرض سيرة جمال الدين الأفغاني لمطاعن شديدة من صنفين متباعدين جداً. فالدكتور لويس عوض يصب جام غضبه على الثائر الإسلامي الحر ويصفه بكل موبقة، فهو مغامر مجهول، كافر مجنون، مخاطر مغمور، زنديق مخبول، ملحد مأجور، أفّاق دسّاس دجّال متلوّن... إلخ».

أشار بعدها إلى أن أحمد بهجت وسامح كريم في «أهرام» 29-8-1983 كتبا تعليقات على طريقة لويس عوض في البحث والحكم، وأنهما «بيّنا أن الرجل كان يرجع إلى تقارير المخابرات الدولية، ويستقي من مصادر لا تعرف بالنزاهة والصدق».

وأشار إلى أن جابر قميحة «كتب مقالاً تحت عنوان (التزوير وأمانة الكلمة)، يكشف فيه أن الدكتور لويس في حديثه عن جمال الدين كان قاصر البحث غائب المنهج»، ثم قال هو عن لويس عوض: «والدكتور لويس عوض رجل واسع الاطلاع على الثقافة الغربية، شديد الولاء لأغراضها، وأعتقد أن كرهه لجمال الدين نابع من حبه لدينه واحترامه لدور أوروبا في احتلال الشرق الإسلامي، وتغييرها الواجب لعقله وضميره!

وقد نفّس عن كوامنه بالأسلوب الذي هاجم به جمال الدين! ومع أني لا أتوقع أن يقول الدكتور لويس كلمة طيبة في جمال الدين أو في محمود شاكر إلا أني فوجئت بهذا الضغن الشديد على زعيم من زعماء الإصلاح الإسلامي!

فلنترك التيار الصليبي ورجاله وطرائقه في النيل مِنّا! ولننظر إلى صنف آخر من الناس يحارب مجددي القرن الماضي، ويستميت في تجريحهم».

وبعد أن أنهى جولة مناقشته وردوده على آراء بعض الإسلاميين القادحة في شخص الأفغاني وفي سيرته وفي أفكاره، من دون أن يسمي أحداً منهم، ختم مقاله بقوله: «وقد تلاقى هذا البعض مع الدكتور لويس عوض في التهجم على جمال الدين الأفغاني.

والدكتور لويس يرى أن يعقوب حنّا الذي خان مصر وانضم إلى الجماعة الفرنسية هو زعيم قومي عظيم القدر (!) وأن جمال موقظ الشرق الإسلامي في العصر الحديث جاسوس ملحد (!)

وكما قلت، لا عجب في موقف الدكتور: وإنما العجب في موقف الذين تلاقوا معه في ضرب رجل الإسلام، والجنون فنون».

ويسعني أن أقول: إن تعرّض الشيخ محمد الغزالي للويس عوض بالنقد الديني الطائفي لم يكن بنيّة مجابهة دراسته «الإيراني الغامض في مصر»، بل الغرض منه كان التشنيع على الإسلاميين القادحين في جمال الدين الأفغاني بأنهم يلتقون مع لويس عوض – وهو من هو في سوء السمعة الثقافية والفكرية عندهم – في القدح بالأفغاني.

فالشيخ الغزالي كتب مقاله الأول في موضوعه المتصل في مجلة «الدوحة»، وكانت مجلة «التضامن» اللندنية التي كان يرأس تحريرها فؤاد مطر، ما تزال تنشر مقالات دراسة لويس عوض عن الأفغاني التي بدأت نشرها بتاريخ 16 أبريل (نيسان) 1983. وكتب مقاله الثاني في تلك المجلة الذي وظف فيه اسم لويس عوض ضد الإسلاميين القادحين في الأفغاني، بعد أن انتهت مجلة «التضامن» من نشر سلسلة مقالات لويس عوض الثمانية عشر عن الأفغاني بتاريخ 10 سبتمبر (أيلول) 1983.

إن الشيخ الغزالي لو كانت نيته مجابهة دراسة لويس عوض «الإيراني الغامض في مصر»، لقال بالعكس، وهو أن لويس عوض التقى أخيراً بالإسلاميين الذين يطعنون بتاريخ جمال الدين الأفغاني؛ ذلك لأنهم كانوا يطعنون بتاريخه وسيرته قبله بما ينوف على العشرين عاماً.

دراسة لويس عوض عن الأفغاني في الأصل كان قدمها لجريدة «الأهرام» التي يعمل بها، لنشرها، لكنها رفضت نشرها. فغضب لويس عوض من جريدته واستقال منها.

وقد أثارت مقالات الدراسة حين نشرها في مجلة «التضامن» وعند نشرها فيها ردوداً وتعليقات كثيرة في مصر وفي العالم رافضة لها، يصعب حصرها.

وما قاله الشيخ الغزالي عن لويس عوض في مقاله الثاني لم يكن له صدى في كتب الإسلاميين وفي مقالاتهم في عقد الثمانينات وأول التسعينات الميلادية؛ لأنه قاله ضمن موضوع لا يحظى رأيه فيه بالقبول لدى أغلبية الإسلاميين.

فالشيخ الغزالي كان ضمن فئة قليلة من الإسلاميين، رفضت قدح الإسلاميين الديني والسياسي بالأفغاني ومحمد عبده. فأهمل تيار الإسلاميين الديني والسياسي بالأفغاني ومحمد عبده. فأهمل تيار الإسلاميين العريض رأي هذه الفئة ولم يتعرضوا له حتى بالرد والمناقشة.

استشهد الشيخ محمد الغزالي في كتاب له صدر عام 1991، اسمه «تراثنا الفكري في ميزان الشرع والعقل» بكلام للويس عوض حول صلة العلمانية بالإسلام، من دون أن يثلب في الرجل ويقدح فيه.

فتحتَ عنوان «الحضارة لا تبنى بخصام الكون»، قال في كتابه: «ورجال محمد عندما بنوا لكتابه دولة، كانوا يسبحون في بحر الحياة، ويتعاملون بذكاء مع تياراته ومدّه وجزره، أو بتعبير الدكتور لويس عوض، كانوا علمانيين خبراء بالمادة والمجتمع وشؤون الحياة كلها.

سئل الدكتور لويس: هل يحافظ الإسلام حتى يومنا هذا على دعوته الشاملة؟ فأجاب: كلّا، وإذا كان الإسلام قديماً قد استطاع التغلب على بيزنطة؛ فلأنه كان ديناً علمانياً أكثر من الدين المسيحي في القرن السابع، وكان ديناً معنياً بأمور الحياة، كما كان معنياً بالغيبيات والروحانيات! على حين كان نظام بيزنطة روحانياً مغرقاً في الغيبيات، ثم قال الدكتور: ويبدو أن ما تحلم به الجماعات الإسلامية هو الإسلام البيزنطي!».

علّق الشيخ الغزالي على كلام لويس عوض، قائلاً: «ولست بصدد التعليق الموسع على كلام لويس عوض، وإنما يهمني الإشارة إلى أن التربية الإسلامية الصحيحة تقوم على فقه واسع في الحياة والأحياء، في الأرض والسماء، في كل ما يؤثر فينا ونؤثر فيه...».

الشيخ الغزالي استشهد بكلام لويس عوض الذي ينحو منحى تاريخياً في تحليل صلة التاريخ الإسلامي والتاريخ المسيحي بالعلمانية؛ لأنه استحسنه وأعجب به، ثم راح في تعليقه عليه يصوغه صياغة إسلامية إنشائية محدثة.

نأتي إلى ثالث الثلاثة المدنسين عند الإسلاميين، وهو غالي شكري.

وفق مراجعة سريعة، لم يتعرض الشيخ الغزالي لغالي شكري بذم إسلامي في كل كتبه وفي كل مقالاته. وللحديث بقية.

***

علي العميم - كاتب وصحافي سعودي

عن صحيفة الشرق الأوسط اللندنية ليوم: الأحد - 10 شوال 1444 هـ - 30 أبريل 2023 مـ رقم العدد [16224]

العنوان أعلاه ليس مزاحاً. فـ»أب الشعوب» كانت له مساهمته في علم اللغة أيضاً.

والحال أنّ القائد التوتاليتاريّ، الآتي من حزب يستند إلى فكرة، مدعوٌّ دائماً لأن يبدو مثقّفاً في الأفكار والكتب، وهو قد يكون كذلك فعلاً، علماً أنّ الحقيقة تلك تنزع السحر الذي تحاط به الثقافة أحياناً ولا تستحقّه دائماً. ذاك أنّ الكتب والأفكار تشكّل للعقائديّ مادّة لا تتوفّر للسياسيّ التقليديّ، كما لا يعيرها الأخير بالضرورة، ولفظيّاً على الأقلّ، أهميّة مماثلة. فتشرشل وكيسنجر وبريجنسكي وكرايسكي وسواهم كانوا أيضاً مثقّفين، إلاّ أنّ تبريرهم لسياساتهم لم يستند بالدرجة نفسها إلى مقدّمات فكريّة، بل إلى إنجازات فعليّة تُحسب بالوقائع والأرقام.

أمّا ستالين فأصدر، في 1950، «الماركسيّة ومسائل اللغويّات»، وهو الكتيّب الذي عدّه شيوعيّون وماركسيّون كثيرون أفضل ما كتبه. لكنّ مادحي هذا العمل، ممّن لم يكن الخوف وراء مديحهم، كانوا كمن يناقشون في الخلّيّة المغلقة نقاشاً يراه سواهم سخيفاً أو بديهيّاً: فالأحزاب الإيديولوجيّة تفرض نظريّة يراد تحويلها إلى معتقد شبه دينيّ، فإذا أعاد أحدهم النظر فيها، استجابةً لظروف تتطلّب إعادة نظر، عُدّ كلامه العاديّ جدّاً باهراً يلامس العبقريّة.

كتيّب ستالين بدأ مقالةً طويلة نشرتها صحيفة «برافدا»، وقيل أنّه كتبها وأعدّها قبل سنوات على ثورة 1917، ثمّ أضيفت إليها الأسئلة التي زُعم أنّ الرفاق طرحوها عليه وأجوبته عنها.

وكانت «برافدا»، وبمباركة ستالين طبعاً، قد افتتحت مناقشة المسألة اللغويّة، في الاتّحاد السوفياتيّ متعدّد اللغات، كما في النظريّة الماركسيّة، عبر مقالات مهّدت لمقالة ستالين التي غدت كتاباً.

يستعير الكاتب، في البداية، تواضعاً يعلن معه نقص خبرته في اللغويّات، لكنّه يعلن أيضاً تضلّعه في موقف الماركسيّة منها. ومعروف أنّ الأخيرة تقصّر المسافات بين المعارف وتتيح إصدار الفتاوى فيها شريطة التقيّد بحذافيرها كمرجعيّة شبه دينيّة. وبدون أن تخلو مساهمة ستالين من آراء في قواعد اللغة ونظامها، يؤكّد أنّ اللغة لا تنتمي إلى «البنية الفوقيّة» (الدولة والسياسة والقانون والثقافة...) التي تنبثق، ماركسيّاً، من العلاقات الاقتصاديّة أو «البنية التحتيّة»، وأنّها بالتالي لا تعكس مصالح الطبقة الحاكمة ولا تحميها، بل يمكن للجميع استخدامها بمعزل عن طبقاتهم تسهيلاً للتواصل بينهم. فإذا كانت البنية الفوقيّة نتاج عصر ونمط إنتاج بعينهما، فاللغة نتاج عصور كثيرة كما تتعايش مع أنماط إنتاج عدّة.

فالأحداث التاريخيّة الكبرى، كالثورة البلشفيّة، تضيف إلى اللغة مفردات «مرتبطة بصعود إنتاج اشتراكيّ جديد»، كما تتساقط معها كلمات فقدت راهنيّتها، لكنْ لا هذا ولا ذاك يغيّرانها على نحو ملحوظ لأنّها ليست صنيع طبقة بل نتاج طبقات المجتمع كلّها، تماماً كما قد تخدمها كلّها.

ويكرّر ستالين حججاً أخرى لتوكيد الفكرة ذاتها، فيشرح ما قصده فريدريك إنغلز حين تحدّث عن اختلاف اللهجات (لا اللغات) على أساس طبقيّ في بريطانيا، وما قصده صهر ماركس والشيوعيّ الفرنسيّ بول لافارغ بحديثه عن اللغة الفرنسيّة قبل الثورة وبعدها، وما قصده لينين بكلامه عن وجود ثقافتين طبقيّتين في ظلّ الرأسماليّة إلخ... نافياً، في الحالات جميعاً، أن يكون المقصود انتقالاً من لغة إلى أخرى، أو انفصالاً «طبقيّاً» داخل اللغة ذاتها.

لكنّ الشرّير في رواية ستالين هو اللغويّ نيكولاي ياكوفليفيتش مار، خبير اللغات القوقازيّة، الذي توفّي قبل 16 عاماً على صدور الكتيّب الستالينيّ. فمار أدخل على اللغويّات معادلة «غير صائبة وغير ماركسيّة» عبر توكيده «الطابع الطبقيّ» للّغة، فخرّب اللغويّات السوفياتيّة بما يناقض تاريخ الشعوب واللغات كلّها.

ومار كان قد عُرف أصلاً بنظريّته التي سُمّيت «اليافثيّة» (نسبة ليافث أحد أبناء نوح)، ومفادها أنّ لغات القوقاز تتّصل باللغات الساميّة للشرق الأوسط، وأنّها انتشرت على امتداد أوروبا قبل وفادة اللغات الإندو-أوروبيّة إليها.

وهي نظريّة صيغت قبل ثورة 1917، فحين حلّت الثورة أيّدها مار بحماسة وتطوّع لخدمة نظامها. هكذا خلط نظريّته الأصليّة بالماركسيّة وبالصراع الطبقيّ، مجادلاً بأنّ المستويات اللغويّة المتعدّدة إنّما تحاكي طبقات اجتماعيّة مختلفة وتتجاوب معها. فالبورجوازيّة البريطانيّة مثلاً تتحدّث بإنكليزيّة أقرب إلى الفرنسيّة التي تتحدّث بها البورجوازيّة الفرنسيّة ممّا إلى الإنكليزيّة التي تتحدّث بها الطبقة العاملة في إنكلترا. أمّا أن تكون وحدة اللغة عنصر توحيد للشعب الذي يتكلّمها فهذا، عنده، مجرّد وعي زائف أنجبته القوميّة البورجوازيّة. كذلك ادّعى مار أنّ اللغات الحديثة تميل، مع قيام المجتمع الشيوعيّ، لأن تندمج في لغة واحدة، مستنداً إلى الحملة التي شُنّت في روسيا العشرينات والثلاثينات لإبدال الأبجديّة السيريليّة بالأبجديّات اللاتينيّة، ومن ثمّ إبدال أنظمة الكتابة التقليديّة للغات الاتّحاد السوفياتيّ بأنظمة تستخدم الكتابة اللاتينيّة، أو خلق أنظمة تستند إلى الكتابة اللاتينيّة للغات السوفياتيّة التي كانت حتّى ذاك الحين لا تتمتّع بنظام كتابيّ.

وكانت هذه الميول إلى الليْتَنة (Latinisation)، وهي تعود قروناً قليلة إلى الوراء، جزءاً من النزعة المتأوْرِبة لدى بعض الانتلجنسيا الروسيّة، ورثها عنهم البلاشفة في طورهم الأوّل السابق على الصعود الستالينيّ بمضامينه الآسيويّة والشرقيّة.

وبالفعل باتت نظريّة مار النظريّة الرسميّة المعتمدة في روسيا بوصفها تمثّل «العلم البروليتاريّ» ضدّاً على «العلم البورجوازيّ». هكذا كُلّف صاحبها، ما بين 1926 و1930، بإدارة المكتبة الوطنيّة لروسيا، كما بقي حتّى وفاته في 1934على رأس المعهد اليافثيّ التابع لأكاديميا العلوم.

ولئن ظهر من أشار إلى أنّ أرنولد شيكوبافا، اللغويّ الذي عُرف بشدّة معارضته لمار ولنظريّاته، هو الذي أوحى لستالين بأفكار كُتيّبه، إن لم يكن هو نفسه من كتبه، يبقى أنّ المداخلة التي حملت توقيع الزعيم أدّت إلى دفن نظريّة مار، بحيث بدأ اللغويّون الروس يؤكّدون على أولويّة اللغة الروسيّة وعلى ضرورة أن تنصبّ الأبحاث عليها.

فالقواسم المشتركة مع العالم اللاتينيّ لم تعد مرغوبة، فيما بات صَهر السوفيات من غير الروس في اللغة والثقافة الروسيّتين هو المطلوب. أمّا إحكام قبضة ستالين على الحياة، بما فيها اللغة، فتفكّ باقي اللغز الذي توسّلَ الثقافة والأفكار ليجعل من ستالين عالماً لغويّاً.

***

حازم صاغية

صحيفة الشرق الأوسط اللندنية في يوم: الأحد - 3 شوال 1444 هـ - 23 أبريل 2023 مـ رقم العدد [16217]

فجأة، أصبح الأمر كما لو أننا واجهنا كائنات جديدة تماماً على شاشات هواتفنا الذكية وجهاً لوجه.

على مدى الأشهر القليلة الماضية، تدفقت أحاديث الذكاء الصناعي إلى وسائل الإعلام الاجتماعية في أميركا، وإلى حد ما، كوابيسها الجديدة، مع النص تلو الآخر، مما أثار شكلاً جماعياً و«ألفيّاً» مما وصفه ناقد القرن التاسع عشر جون روسكين على نحو لا ينسى بالمغالطة المثيرة للشفقة - أو الميل الإنساني للغاية إلى إسقاط هذه السمات التي نراها سمات أساسية للبشرية على الكائنات غير البشرية. مع «شات جي بي تي» و«بينغ شات»، نحن لا نكتفي بإبراز العمق، أو الشفقة، أو الحياة الداخلية، ونحن نتوسل إليهم لأجل «سرد غزو العراق بكلمات غنائية مناسبة لأميرة ديزني»، أو «شرح لفتى في الرابعة من عمره لماذا صُنع قناع الموت للملك توت عنخ آمون لامرأة»، نحن نقرأ ذعرنا الوجودي الخاص في ردود الروبوتات، ونراها بصورة أقل كحيوانات أليفة مثل العديد من وحوش فرانكنشتاين، حتى عندما يتبعون أوامرنا بكل بساطة.

ما مدى خطورة روبوتات الدردشة؟ إنها لا تزال ترتكب الأخطاء الأساسية بصورة روتينية لدرجة أنه من المبهم، ومما لا جدوى منه، الإشارة إليها بأنها مجرد «هلاوس»، كما يميل إلى ذلك مهندسو التعلم الآلي والذكاء الصناعي.

(هل كانت جرعات الذكاء الصناعي صغيرة للغاية أو ربما مخطئة عندما اقترحت أن ليبرون جيمس كانت لديه فرصة جيدة جداً للفوز بجائزة أفضل لاعب في الدوري الأميركي للمحترفين هذا العام؟) إنها عُرضة إلى التضليل، ومنحازة بطرق تقليدية للغاية وإن كانت مزعجة. بعضها مُدرب على قواعد البيانات التي لا تصل إلى يومنا هذا، بحيث إن أي أسئلة حول الأحداث الأخيرة (مثل انهيار بنك وادي السيليكون) من المرجح أن تولد إجابات غير مجدية أو عكسية، مما يجعل من «حالة الاستخدام» الرائدة اليوم لهذه الأدوات، كصورة من صور البحث على الإنترنت، عسيرة الفهم بعض الشيء.

لكن الذكاء الصناعي يُظهر أيضاً بعض التقدم المثير للحيرة بوضوح، ليس فقط في المهام الملموسة، وإنما في تلك المثيرة للأعصاب أيضاً: روبوت الدردشة الذي يستعين بموظف بشري من بوابة «تاسك رابيت»، أو حل كلمة التحقق الآلية، وروبوت آخر يكتب كوداً بلغة برمجة «بايثون» الخاصة به لتمكين «هروبه». هذه ليست أمثلة على استقلالية الروبوت بقدر ما هي انعكاسات لحالة القلق الراهنة - في كل حالة، دُفعت الروبوتات من قبل المراقبين البشر لاختبار حواجز الحماية - ومع ذلك لا يزالون قلقين، في مؤشرات بأن شيئاً غريباً ومزعجاً يحدث الآن.

تتقدم التكنولوجيا بسرعة فائقة، حتى إنه قد يبدو من قبيل الغرور، الاعتقاد بأننا ندرك بالحقيقة ماذا نفعل في خضم ذلك كله. لكن العديد من أولئك الذين قضوا العقد الماضي غارقين في التعلم الآلي يعتقدون أنهم يعرفون، في الواقع، وبأننا بحاجة إلى التفكير بعبارات مزرية للغاية.

من الشائع أن نسمع دعوات ثورة الذكاء الصناعي كحدث مهم مثل وصول الإنترنت، لكن التحضير لزلزال ثقافي مثل الإنترنت شيء، والتحضير لما يعادل الحرب النووية شيء مختلف تماماً. وهو أمر لافت للنظر بصفة خاصة، نظراً للطوباوية المنتشرة بين مهندسي الإنترنت الأصليين، فما مدى البؤس الذي يستشعره أولئك الذين يدخلون المرحلة التالية بشأن العالم الذي يعتقدون أنهم يتكاثرون فيه.

كتب عالم الأعصاب إريك هويل في نظرة تأملية واسعة الانتشار حول الحالة الراهنة تحت عنوان فرعي: «الذكاء الصناعي لدى مايكروسوفت ينذر في الواقع بتهديد عالمي كبير»، يقول: «في المرة الأخيرة كان لدينا منافسون من حيث الذكاء، وهم أبناء عمومة الجنس البشري، مثل الإنسان البدائي (نياندرتال)، والإنسان المنتصب، وإنسان فلوريس أو (الإنسان القزم)، وإنسان دينيسوفا، وغيرهم الكثير». وتابع الدكتور هويل: «لنكن واقعيين: بعد القليل من التزاوج، من المحتمل أننا قتلنا الكثير».

صرخات القلق الأكثر صراحة يتردد صداها عبر الإنترنت منذ شهور، بما في ذلك من إليعازر يودكوسكي، الأب الروحي لوجودية الذكاء الصناعي، والذي أخذ مؤخراً كل ما يمكن أن نسميه «عكس مسار النصر» يأساً من التقدم الذي أحرزه الذكاء الصناعي، والفشل في إقامة حواجز حقيقية في وجه تقدمه المريع. أخبر يودكوسكي اثنين ممن أجروا المقابلات معه أننا قد نكون على أعتاب إنجازات عظيمة في الذكاء الصناعي الخارق، إلا أن الفرص التي سوف نحظى بها لمراقبة هذه الإنجازات ضئيلة للغاية؛ «لأننا سنموت جميعاً». ونصيحته، بالنظر إلى مدى استحالة تصديقه لخروج الذكاء الصناعي بأي نتائج جيدة على الإطلاق، كانت: «الانطلاق للقتال بكرامة».

حتى سام ألتمان، الرئيس التنفيذي اللطيف لشركة «أوبن إيه آي»، الشركة التي تقف وراء أكثر روبوتات الدردشة الجديدة إثارة للإعجاب، قد تعهد علناً «بالعمل وكأن هذه المخاطر وجودية»، وأشار إلى أن يودكوسكي قد يستحق جائزة «نوبل» للسلام لدقه ناقوس الخطر بشأن تلك المخاطر. كما كتب مؤخراً أن «الذكاء الصناعي سوف يكون أعظم قوة للتمكين الاقتصادي، وكثير من الناس سوف يصبحون أثرياء بصورة أكبر مما قد رأيناها في أي وقت مضى»، ثم قال مازحاً عام 2015: «سوف يؤدي الذكاء الصناعي على الأرجح إلى نهاية العالم، لكن في الوقت نفسه، سوف تكون هناك شركات عظيمة!».

بعد عام واحد، وفي موضوع لمجلة «نيويوركر»، كان ألتمان أقل سخرية في الحديث عن مدى بؤس نظرته للعالم. وأقر قائلاً: «أنا أعد العدة للبقاء على قيد الحياة؛ بمعنى مواجهة احتمالات مثل الحشرات العملاقة المصممة مختبرياً، والحرب النووية، والذكاء الصناعي الذي يهاجمنا. وقال: «مشكلتي أنه عندما يسكر رفاقي فإنهم يتحدثون عن الطرق التي سوف ينتهى بها العالم، أحاول ألا أفكر في ذلك كثيراً، لكنني أملك أسلحة، وذهباً، ويوديد البوتاسيوم، ومضادات حيوية، وبطاريات، ومياهاً، وأقنعة واقية من الغاز، وبقعة كبيرة من الأرض في «بيغ سور» بولاية كاليفورنيا يمكنني الطيران إليها».

قد لا تكون هذه وجهة نظر عالمية بين العاملين في مجال الذكاء الصناعي، لكنها أيضاً ليست وجهة نظر غير شائعة. في أحد الاستطلاعات عام 2022 التي استشهد بها كثيراً، سُئل خبراء الذكاء الصناعي: «ما هو الاحتمال الذي تضعونه على عدم قدرة الإنسان التحكم في أنظمة الذكاء الصناعي المتطورة المستقبلية، التي تسبب انقراض البشر أو على نحو مماثل الحرمان الدائم والشديد من تمكين الجنس البشري؟». وكان متوسط التقديرات يبلغ 10 في المائة، واحدة من 10 فرص. وقد صنَّفت نصفُ الاستجابات الفرصَ بأنها أعلى من ذلك.

وفى استطلاع آخر، قال نحو ثلث الذين يعملون بنشاط في التعلم الآلي إنهم يعتقدون أن الذكاء الصناعي سوف يجعل العالم أسوأ. ووصف زميلي عزرا كلاين مؤخراً هذه النتائج بأنها محيرة للغاية: فلماذا إذن تختارون العمل على تطوير الذكاء الصناعي؟

***

ديفيد والاس ويلز - خدمة «نيويورك تايمز»

عن صحيفة الشرق الأوسط اللندنية في يوم: الاثنين - 4 شوال 1444 هـ - 24 أبريل 2023 مـ رقم العدد [16218]

منذ جمهورية أفلاطون والتّطلّع إلى الفردوس الأرضي يأخذ بألباب كثير من المفكرين

منذ جمهورية أفلاطون والتّطلّع إلى الفردوس الأرضي يأخذ بألباب كثير من المفكرين

يُؤَكِّد كثيرٌ من الباحثين في سوسيولوجيا الأديان أن الإيمان الديني يُقَدِّم وَعْداً طُوباويا بالخلاص الأخروي/ نعيمِ العالمِ الآخر؛ بحيث يجعل من الألم والمعاناة والشقاء في هذا العالم الدنيوي عذابا مُحْتَملا. فالإنسان المؤمن لا يرى هذه الحياة الدنيا كلَّ الحياة، لا يراها البداية والنهاية، بل يراها جزءا ضئيلا عابرا في حياة سرمدية، يراها شوطا واحدا من ملايين الأشواط، يراها لحظة من أزمنة الأبدية المكتوبة على الجبين.

ماذا يعني كل هذا للإنسان المؤمن؟

يعني أن كل ما يحدث في هذه الحياة من رخاء أو شقاء، هو ـ رغم حقيقته ـ مجرد وَهْمٍ أو هو أشْبُه بالوهم. وفي هذا عزاء؛ وأي عزاء!

ثم هو يعني ـ بالضرورة ـ أن الفردوس المنتظر لن يكون على هذه الأرض، وأن الجحيم الحقيقي كذلك، كلاهما في السماء؛ لا في الأرض؛ مهما انفتحت آلام المُعَذَّبين ـ بالفقر وبالجوع وبالجهل وبالاضطهاد وبالاستعباد ـ على الجحيم. ولا ضير حينئذٍ؛ أن يُحْتَمَل هذا الجحيمُ الدنيوي العابرُ، الهامشي التافه؛ من أجل الفردوس الخالد في السماء.

هذه هي الطوباوية الدينية/ السماوية باختصار. وعلى الضفة الأخرى المقابلة لها ثمة طوباوية أخرى، طوباوية دنيوية/ علمانية/ أرضية؛ ترى أن هذه الحياة هي الحياة استغراقا؛ وليس ثمة ما وراءها. ما يعني أن الشقاء في هذه الحياة هو شقاء كامل وشامل، شقاء حتى آخر رمق، شقاء بلا تعويض، بلا أمل ينتشل الروح من عذابات الجسد التي تفتك بالروح أيضا. كما أن ما يستطيع الإنسان أخذه من هذه الحياة على سبيل الاستمتاع والظفر بأكبر قدر من الرخاء الممكن، هو النعيم حقا، هو النعيم المتحقق على سبيل اليقين وعلى سبيل الاستغراق، هو الفردوس الموعود في الحاضر الموجود. ومِنْ ثَمَّ، فَمَنْ لم يَظفر بحظ من النعيم والرخاء في هذه الدنيا؛ فهو إنسان العذاب والآلام الذي سيخرج من هذه الحياة خاسرا، إذ لا تُوجَد أشواطٌ أخرى قابلة للاستئناف، لا تُوجَد فرصةٌ أخرى ولو على سبيل التخيّل الذي يمنح الأشقياء وَهْمَ عزاء.

منذ جمهورية أفلاطون والتّطلّع إلى الفردوس الأرضي يأخذ بألباب كثير من المفكرين، وكثير من الساسة أيضا. ومنذ ظهور الأنبياء والتّطلّع إلى الفردوس السماوي يذهب بالمؤمنين مذاهبَ شتّى؛ من الرهبنة والانعزال، إلى التبشير والجهاد ومحاولة فرض عقائد الإيمان على الآخرين. وبين هؤلاء (= المؤمنين بالفردوس السماوي) وأولئك (= المؤمنين بالفردوس الأرضي) يقع الإجماع ـ وجدانيا وفكريا ـ على عدم الرضا بالواقع الدنيوي، وتقرير أنه واقع بائس يجب الخروج منه ولو بأعظم التضحيات.

أي هذين الفِردَوسَين له حظ من الواقع؟ أيهما تَحقّق؟ وإلى أي مدى تحقّق؟ وبأي ثمن؟

واضح أن تقييم تحقق الفردوس السماوي مستحيل. هو في "عالم الغيب"؛ ولا نافذة له عبر "عالم الشهادة" على سبيل الاختبار الإمبيريقي/ التجريبي. ولكن ـ وهو السؤال المحوري هنا ـ هل يفصل المؤمنون حقا بين هذين العالمين: عالم الغيب وعالم الشهادة؟ ومِن ثَمَّ؛ هل الوَعْد بفردوس سماوي/ أخروي يستنفد أيَّ وَعْدٍ آخر خارج عالمه؟ أي هل مثل هذا الوعد يكون ـ بالضرورة ـ على حساب أي وعد آخر؟

بلا شك، مذاهب الرهبنة الكاملة تقول بالفصل وبالتمايز التناقضي القاضي بأن من يتغيّا فردوسَ الدنيا/ الأرضي؛ فليس له حظ في فردوس الآخرة/ السماوي، والعكس صحيح، فمن يتغيّا فردوس السماء، فلا حظ له في فردوس الأرض. ولكن، حتى في مثل هذه الحال؛ أليس استهداف فردوس السماء يكون بعمل راهن على هذه الأرض؟ وإذا كان الأمر كذلك، أي العمل على هذه الأرض يصنع فردوس السماء، فما طبيعة هذا العمل؟ أليس ـ في أقل أحواله وأكثرها سلبية دنيوية ـ ترشيدا للسلوك الإنساني بما يعود بالخير على الجميع؟ أليس هذا الترشيد ـ في حال واقعيته والإخلاص له ـ يصنع ملامحَ فردوس أرضي، أو ـ على الأقل ـ يُقَلّل من حجم الجحيم الأرضي الذي يبلغ أقصى مداه في عدوان الإنسان على أخيه الإنسان؟

هذا في حال مذاهب الرهبنة التي يتضح أنها لا بد أن تصل بين فردوس الأرض وفردوس السماء؛ من حيث طبيعة التدين الخالص ذاته؛ رغم تأكيدها على الفصل. أما المذاهب الأخرى، بما فيها معظم مذاهب الإسلام، فهي تشتغل على الراهن الدنيوي/ الفردوس الأرضي؛ في الوقت نفسه الذي تشتغل فيه على فردوس السماء. بل أكثر من ذلك، هي تشترط الفردوسين ببعضهما، فلا سبيل إلى الفردوس الأرضي (مهما عَمَّ الرخاء المادي والاطمئنان المعنوي) إلا بالعمل وفق شروط فردوس السماء. وطبعا، لا سبيل إلى فردوس السماء؛ إلا عبر فردوس الأرض، أي أن يعيش المؤمن "نعيم الإيمان" على هذه الأرض، وهو النعيم الحق؛ رغم كل ما يعانيه من بؤس وآلام.

في التراث الإسلامي تتردد على ألسنة العُبّاد المُتَزهّدين مقولة: "ثمة جنة في هذه الدنيا، مَن لم يدخلها لن يدخل جنةَ الآخرة"، ويقصدون أن ثمة سعادة هائلة بالإيمان، لا تتحقق إلا للمؤمن الحق، وتزدهر مفاعيلها بأعماله الصالحة التي تعود بالخير عليه وعلى مجتمعه. وهذه السعادة الهائلة لا بد وأن تغمر كل أنواع الشقاء الدنيوي المعاش، فلا يشعر المؤمن معها بأي شقاء، أي يعيش فردوس الأرض الذي هو ـ وفق هذه الرؤية ـ شرط الظفر بفردوس السماء.

في الإصلاح الديني البروتستانتي، الكالفيني خاصة، جرى الربط بين سعادة الدنيا وسعادة الآخرة، بين نجاح الدنيا ونجاح الآخرة. فبعد أن كان الاشتغال بالنجاح الدنيوي رذيلة؛ على اعتبار أنه انصراف عن العمل للآخرة، أصبح ـ وفق هذا الإصلاح ـ فضيلة؛ على اعتبار أن التوفيق/ النجاح في هذه الدنيا دليل على التوفيق/ النجاح في الآخرة، أي أن القادر على تحقيق ملامح فردوس أرضي آني، هو المستحق ـ بصورة أولية ـ لفردوس السماء.

في اعتقادي أن هذا الربط البروتستانتي/ التّطهّري بين الفردوسين: فردوس الأرض وفردوس السماء (وثمة ملامح مشابهة له في الفكر الإسلامي) هو الذي خَفَّف حدة التناقض بين الفردوسين عبر التاريخ. وهو بذاته الذي يقضي بأن ليس ثمة مسارات دينية خالصة؛ كما أن ليس ثمة مسارات علمانية خالصة؛ إذ ما أريد للديني وللعلماني أن يعملا حقا ـ كُلٌّ بطريقته ـ على اجتراح مسارات تستهدف انتشال الإنسان من جحيم الحياة: من جحيم الشقاء الإنساني الملازِم.

***

محمد المحمود

عن الحرة في يوم: 20 فبراير 2023 

قبل أيام، أعيد طرح معنى «العلمانية الجزئية»، وهو معنى طرحه عبد الوهاب المسيري بإزاء «العلمانية الشاملة»، وهو طرح منقوص، وقد كتب ضده الصديق حمد الراشد كتاباً كاملاً بعنوان «دفاع عن العلمانية ضد المسيري»، وهو في غاية المحاججة العلمية الرصينة.

لقد شكّل استصحاب إرث مفهوم العلمانية في القرون التالية للحروب الأهلية الأوروبية، عائقاً أمام فهم البعض لجدوى الاستخدام، وآية ذلك أن إلصاق تاريخ المسيحية بالمفهوم استعمل على المستويين «الآيديولوجي الأصولي» و«الأكاديمي الفكري»، وكل ذلك يعبر عن قراءة مدرسية للمفهوم، بعيداً عن التطوّر الذي شهده من خلال تعدد التطبيقات للمفهوم عبر نماذج دول كثيرة بالشرق والغرب.

يستظهر البعض جملة: «ما لقيصر لقيصر، وما لله لله»، وذلك من أجل وضع العلمنة بإزاء الدين بما يشبه «النقض»، وهذا يعزز من حجج التيارات الرجعية المناوئة للدولة المتجددة الطامحة لاستخدام أنجح المفاهيم وأقدرها على ضبط التفاوت الاجتماعي والصراعات الطائفية والاختلافات العرقية، ولولا العلمانية لكانت المجازر والدماء تملأ هذا العالم.

من بين من وقع في فخ مرادفة «العلمانية» بـ«الدين»، مفكر مرموق مثل محمد عابد الجابري، وذلك في كتابه «الدين والدولة وتطبيق الشريعة»، وقد ناقش طرحه هذا جورج طرابيشي في كتابه: «هرطقات»، وقد شنّ طرابيشي هجوماً مبرراً على طرح الجابري الذي يمكن التذكير به؛ فهو يطرح «الديمقراطية» بديلاً عن «العلمانية»، ويشرح رأيه قائلاً: «في رأيي أن من الواجب استبعاد شعار (العلمانية) من قاموس الفكر القومي العربي، وتعويضه بشعاري (الديمقراطية) و(العقلانية)، فهما اللذان يعبران تعبيراً مطابقاً عن حاجات المجتمع العربي... إن مسألة (العلمانية) في العالم العربي مسألة مزيفة؛ بمعنى أنها تعبر عن حاجات بمضامين غير متطابقة مع تلك الحاجات»، ثم يضيف تعبيراً عجيباً عن «العقلانية السياسية»؛ إذ يقول: «الديمقراطية تعني حفظ الحقوق؛ حقوق الأفراد، وحقوق الجماعات، والعقلانية تعني الصدور في الممارسة السياسية عن العقل ومعاييره المنطقية والأخلاقية، وليس عن الهوى والتعصب وتقلبات المزاج».

ما ذكره الجابري عن وظيفة «العقلانية السياسية» هو ذاته وظيفة «العلمانية»، لكنه يهرب منها؛ لسببين اثنين، الأول: إقناع المجتمعات بالعقلانية السياسية (التي تقوم بوظيفة العلمانية نفسها)، لتحرير المعنى من الإرث الديني المعادي للقيم التي تنتجها العلمانية، والذهاب إلى مصطلح آخر يُطمئن جموع المسلمين بأن العلمانية لا ضرورة لها، وإنما الأولوية للعقلانية، وذلك انطلاقاً من اعتقاد الجابري بأن العلمانية في المجتمعات العربية مَن نشرها هم «مسيحيو الشام»، وبالتالي لا حاجة للمسلمين بمفهوم يروِّج له المثقفون المسيحيون. السبب الثاني: يلخّصه بقوله: «عبارة (فصل الدين عن الدولة) عبارة غير مستساغة إطلاقاً في مجتمع إسلامي؛ لأنه لا معنى في الإسلام لإقامة التعارض بين الدين والدولة». وهنا يشترك الجابري مع الاعتراض الراديكالي على مفهوم العلمنة، ويأخذ الفهم السطحي للعلمانية باعتباره القول النهائي. يخشى الجابري من «فصل الدين عن الدولة» لاعتباره مما يخدش المفهوم السياسي الإسلامي وأدوات «تطبيق الشريعة».

لكن الفهم الذي اعتمده الجابري من أجل نقض مفهوم العلمانية، في غاية النقص؛ إذ تطوّرت استعمالات المفهوم، وتحرَّر تدريجياً من الإرث المسيحي الديني، ولم يعد مجرد «فصل» سطحي بين الدين والدولة، بل تشكّلت العلمانية بوجوه جديدة ومتعددة مع نمو وتطوّر النظريات الفلسفية السياسية المتجاوزة لكلاسيكيات العقد الاجتماعي (من روسو إلى كانط)، وبالتحديد مع النقلة الكبرى التي ساهم بها جون راولز في أبحاثه عن العدالة المنصفة، التي تُعدّ زلزالاً في مفهوم العقد الاجتماعي، وتطويراً لتصوّرات وظيفة الدولة، وتُعدّ من أفصح النظريات الواقعية التي تحاول إيجاد الميزان السياسي (البعد الأخلاقي ليس جوهرياً) لضبط حالات التفاوت وتحديد مفهوم الإنصاف بين الفرد والدولة والآخر، لكن الأستاذ الجابري أخذ العلمانية كما يفهمها الناس، ثم نقض ما يفهمه الناس عنها.

إن الحشو الآيديولوجي للمفهوم اجتاح حتى بعض المفكرين، متناسين أن العلمانية مفهوم حي يكبر مثل الناس، ويتطوّر وتتعدد استخداماته وتتنوع تطبيقاته، وأثبتت تجارب كبرى أن علمنة الدولة لم تقضِ على الأسس الثقافية ولم تعادِ الدين؛ بل إن انتعاش الأديان لا يكون إلا من خلال العلمانية، وذلك لأمرين اثنين؛ أولهما: أن العلمانية تؤسس للتضابط بين مجموع الأديان، بحيث يتم إنصاف الديانات وأتباعها ضمن القوانين المتبَعة، كما هي الحال في العلمانية الهندية بكل التعددية الدينية واللغوية والعرقية والكثافة السكانية؛ إذ أسهمت العلمانية في حماية المسلمين، ولولاها لتمَّ سحق المسلمين على يد المتطرفين الهندوس. الثاني: أن العلمنة ليست آيديولوجيا؛ بل هي فضاء عام، ولا تخلق واقعاً جديداً؛ بل تبوّب الاختلافات بين الجموع وتعمل على تبيئة المجال الديني للفرد بما يجعل التدين أكثر تهذيباً وأشد تأنقاً.

في آخر المطاف؛ إن الجلبة والهستيريا تجاه المفهوم إنما تعكس الجهل بتطوره وتحولاته وعثراته أيضاً، ولكن من دون العلمانية يستحيل تأسيس دولة مدنية، هذه معادلة بسيطة لكل قارئ في تاريخ الشعوب والنظريات السياسية وتجارب الدول والأمم.

***

فهد سليمان الشقيران - كاتب وباحث سعودي

عن صحيفة الشرق الأوسط اللندنية في يوم: الخميس - 29 شهر رمضان 1444 هـ - 20 أبريل 2023 مـ رقم العدد [16214]

 

كان عالم الاجتماع الفرنسي «أوليفيه روا» قد نبَّه في دراساته الأولى حول ظاهرة الغلو والتشدد في الديانات العالمية الكبرى إلى العلاقة العضوية بين التطرف الديني والانسلاخ من التراث الثقافي ومن التقليد التأويلي، بحيث إن الجماعات المتشددة تدّعي وهماً العلاقةَ المباشرةَ بالنص دون توسط، وتلغي كل السياقات التفسيرية والتنزيلية للنص في الواقع والتاريخ.

وفي كتابه الصادر مؤخراً بعنوان «تسطيح العالم.. أزمة الثقافة وهيمنة المعايير»، يذهب «روا» إلى أن ما نشهده راهناً في مختلف المجتمعات والبلدان هو انهيار مفهوم «الثقافة» نفسه الذي هو الأرضية العميقة للحمة الاجتماعية.

ما يعنيه «روا» بالثقافة هنا هو معناها الأنثروبولوجي المحوري، أي مجموع السلوكيات والنظم القيمية والمؤسسية التي تحدد طبيعةَ مجتمع ما وتميزه عن غيره. فما نشهده راهناً ليس قيام ثقافة كونية جديدة أو بروز أوضاع تثاقفية على أنقاض ثقافات مهزومة أو متجاوزة، كما يحدث كثيراً في التاريخ، وإنما انهيار الثقافة نفسها الذي هو أخطر وأبعد شأواً من انحسار الأيديولوجيات الذي كثر الحديث عنه في نهاية القرن العشرين.

ولئن كان روا قد استخدم مقولةَ «أزمة الثقافة» التي هي عنوان أحد كتب «حنة أرندت»، فإنه ذهب أبعد من أطروحة الفيلسوفة المذكورة في نقدها للانتقال من ثقافة السؤال والتصور إلى ثقافة الدعاية والتعبئة. ما يقصده روا هو أن العالَم شهد في العقود الأخيرة ظواهرَ ثلاث متداخلة هي: التفسخ الثقافي الكامل، والترميز التواصلي، والتقنين المعياري.

ولقد ارتبطت هذه الظواهر بمسارات كبرى هي: الحركة النيوليبرالية التي حولت مختلفَ أوجه الوجود الإنساني إلى سلع تجارية، والنزعة الفردية الجذرية التي نقلت الإنسان من ذاتية الوعي العقلاني إلى ذاتية الرغبة الموغلة في الخصوصية الضيقة، والصناعات التقنية الكبرى التي تقوم على مبدأ الرقمنة الشاملة للوجود البشري.وكما أن الثقافة بمفهومها الأنثروبولوجي تحولت إلى مجرد دوائر ثقافية مغلقة متجاورة لا رابط بينها، وإن كانت تتغذى من نفس المتجر الثقافي الكوني دون تمحيص عقلي أو برهاني، فإن التواصل بين البشر أصبح موضوع ترميز تقني شكلي يستخدم الإشارات البصرية ويستعمل اللغة في حدودها الضيقة.

ومن هنا يتوجب التوسع في وضع قواعد التبادل والتواصل وفق معايير الخصوصية وحقوق التميز الفردي. إن النتيجة الكبرى لهذه التحولات هي، حسب روا، تحلل النظم الاجتماعية التي تعاني في كل الدول الصناعية المتقدمة من أزمة عميقة، تبرز في انهيار المؤسسات العمومية وطغيان النزعات الشعبوية المدافعة عن الهويات الخصوصية المغلقة التي هي النقيض الموضوعي لأفكار الكونية والعقلانية والذاتية التي قامت عليها الحداثة الغربية.

وإذا كانت بعض الأقلام تحدثت سابقاً عن مسار «الخروج من الدين» في الغرب، فإن الوضع اليوم يتمثل في انسحاب مسار نزع القداسة عن القيم الحداثية نفسها، وفي مقدمتها مقولة التقدم التي هي ركيزة الحداثة الأوروبية. ما نريد أن نبينه هو أن أطروحة روا تستوقفنا في ثلاثة مستويات كبرى:

أولاً: ما نشهده في عالمنا العربي الإسلامي من انفصام خطير بين مقوماتنا الثقافية الجوهرية والثقافة المعلبة الرائجة المتقاسَمة على نطاق واسع. لا يعني الأمر هنا الدفاع عن الجمود التراثي، لكن التجربة بيّنت لنا أن محاولات الانفصال عن التقليد والقطيعة معه تفضي في غالب الأحيان إلى عكس ما تنشده، بحيث إن التجديد والتحديث لا يمكن أن يتما إلا بالقراءة الثرية والنفَس التأويلي الخصب للمدونة التراثية التي هي الأثر الحي لديناميكية تأويلية طويلة ومتنوعة تفتح آفاقاً رحبةً للإبداع والاجتهاد.

ثانياً: ما نلمسه من قصور وفقر في الشخصية الثقافية ناتج عن ضعف ومحدودية الاطلاع على عيون المعارف والآداب والعلوم في تراثنا الثقافي. ومن هذه العيون أمهات الشعر من معلقات جاهلية ودواوين أموية وعباسية وأندلسية، وكتب الإمتاع والمؤانسة والحِكم والمأثورات، فضلاً عن كتب السلوك والأخلاقيات والفضائل.

ثالثاً: طغيان الثقافة الرقمية السريعة التي تخلق وهماً زائفاً بالمعرفة الموضوعية والاطلاع الشامل، في حين أنها تدفع للكسل العقلي، وتضعف القدرات النقدية والعقلانية، وتنتج ثقافة هي أقرب إلى الرموز الشكلية التي تحدث عنها روا. قبل سنوات، كان الحديث يدور حول «صراع الثقافات»، وشاع أوانَها وهمُ الصدام بين الثقافة الغربية بجذورها اليهودية المسيحية والثقافة الإسلامية. ما يتبين اليوم هو أن التحدي يكمن في استعادة مفهوم الثقافة نفسه الذي أصبح إشكالياً وعصياً على التحديد.

***

د. السيد ولد أباه - أكاديمي موريتاني

عن صحيفة الاتحاد الاماراتية في يوم: 3 ابريل 2023

 

الصفحة 4 من 7

في المثقف اليوم