كتب واصدارات

عبد الجبار الرفاعي في تحرره من الأيديولوجيا وظمأه للدين الانطولوجي

801-jabarيأتي كتاب المفكر الاسلامي عبدالجبار الرفاعي (الدين والظمأ الانطولوجي) من منشورات مركز دراسات فلسفة الدين ببغداد، ودار التنوير ببيروت 2016 في سياق سلسلة من مؤلفات لباحث خبير تدرب جيدا في مسالك البحث المعرفي، وجهد كثيرا في التمكن من ادواته البحثية، وتعمق كثيرا في تجاربه وتحولاته الدينية من الايديولوجي للانطولوجي، ومن الحزبي السياسي للمفكر الحر والباحث المتامل المتفتح عل رحاب الآفاق الانسانية، والمختلف في العقيدة والدين والفكر. هذا باختصار هو المفكر والباحث الرصين عبدالجبار الرفاعي في ماهيته المعرفية الراهنة المواكبة للعصر. ويمكن ان نفهم رسالة كتابه ومضمونه ضمن هذا السياق والتي تحددت في اطار الفصل بين دين ايديولوجي؛ تحكمه المقولات الجاهزة، والعبارات الحماسية، والتعبئة الشعبوية، والغاء الذات، وطمس اشواقها الجوانية... دين انتشرت بضاعته وسادت مهيمانته في سوق الجماعات الدينية، التي اتخذت من الدين مرجعية جزمية يقينية في اقصاء الآخر المختلف، واغتياله واختطاف انسانيته، لصالح الايديولوجيا، وغاياتها العمياء في السلطة، ومغانمها والطقوس وشكلانياتها، مقابل دين آخر يرسم الرفاعي هنا معالمه، ويخطط خرائطه، ويلوّنه بقلق تجربته، وهواجس اشتياقه في رحلة البحث والمكابدات، والتحرر من سجون الوراثة البيولوجية، والحزبية. ذلك هو الدين الانطولوجي (التعبير ماركة خاصة ينحتها عبدالجبار الرفاعي). دين الخلاص من ربقة أسوار الايديولوجيا الضيقة.. دين المحبة الايمانية، والنزعة الانسانية، التي لا تتسع لها أدبيات الجماعات الدينية، سواء كانت في: منابرها، او فتاواها الفقهية، او مقولاتها اللاهوتية، او قصور سلاطينها الجديدة،او دهاليزها السرية.. دين الفطرة الاول، والجوهر الانساني الاول، الدين المنقذ من دين الايديولوجيا من قبضة وحوش الارهاب التي تزور وتلوث اسم الله. اسم الله هو المحبة والرحمة والجمال والسلام والحياة، وهذه الوحوش تتخذ منه قناعا لاشاعة الكراهية والقسوة والقبح والعنف والموت. انها تتخذ من الدين ذريعة للوصول للسلطة ومغانمها،كما حصل في عدة بلدان في المنطقة.. يكتب الرفاعي: (تستبعد الجماعة من صفوفها عادة كل شخص يستفيق، فيعود لذاته ويتعرف عل يأسها وخوفها وحزنها وغرائزها ومشاعرها وعواطفها وحاجاتها واحلامها وتطلعاتها وهمومها وآلامها وغضبها وفرحها وترحها ومرضها وسقمها وصحتها وحياتها وموتها. من هنا تحرص ادبيات الجماعات الدينية على مناهضة ورفض الثروة الفلسفية ومدونة التصوف والعرفان في الدين، وتتهمها بالهرطقة والخروج عن الدين، وتحذر اتباعها من الاطلاع عليها والنظر فيها، وهو موقف تتضامن وتلتقي فيه تلك الجماعات باسرها) ص19من: الدين والظمأ الأنطولوجي.

 

اعترافات ومكاشفات الدين والظمأ الأنطولوجي:

801-jabarالكتاب يبدو وكأنه خلاصة أسفار الرفاعي نفسة، ومكابدات تحولاته لبلوغ شواطئ الدين الانطولوجي، واشباع ظمأه للمقدس، الذي شوهته ثقافة الايديولوجيات، وقراصنة السياسة، والطاعات العمياء في ثقافات هذه الجماعات من طلاب السلطة والطامعين بمغانمها، والتي قضمت عقود طويلة من حياته (قبل ربع قرن دخلت حياتي فضاءا جديدا، تحررت فيه من آخر بقايا ما ترسب في وجداني من السلبية والتعصب والعدوان حيال الآخر المختلف، لكن لم امتلك ذلك الا بعد مراجعات ومكابدات ومعاناة شاقة، عملت فيها أولا عل تحرير صورة الله في روحي من الكدر الذي شوهها، والظلام الذي حجب نورها، وثانيا تطهير حياتي من بقايا سموم الكراهية التي ظلت ترتد لقلبي لتفتك به)، ص79 من الكتاب. ولهذا بدأ الكتاب، وكأنه سيرة روحية قلبية عقلية، حفلت بأقصى درجات الصدق والصراحة مع الذات، وكأن الرفاعي في حضرة كاهن الاعتراف ليتحرر من ذنوب السجون، التي كبلت حرية التفكير لديه، وحبست اشواقه الانسانية في قمقمها، وحجرت تبتلاته الصوفية التي ظهرت في مؤلفاته الاخيرة، وكتاباته المحررة من قبضة الايديولوجيا، وترجمها خطاب معرفي منسل من قراءات ممزوجة بلغتين حيويتين اشتبكتا في وعيه، بكل اصنافها المعرفية وجمالياتها اللغوية، هما اللغة الساحرة للرفاعي، والفارسية التي أجاد بها وترجم منها وعنها.

 

مدونة روحية قلبية عقلية:

من بوابة الغلاف تشعر بأنك بصدد أسفار عبر مدونة تناغي القلب لا العقل، تناغي الروح لا الفكر، المبرمج بأفق ايديولوجي محدد، وكان الرفاعي قد سبقه في (انقاذ النزعة الانسانية في الدين)، فالتدين لدى الرفاعي هو غير التدين الذي يتجلى لنا اليوم في سلوكيات جماعات العنف الديني، او جماعات الدين السياسي، الذين امتطوا صهوة السلطة في ظروف ملتبسة، بما سمي (بالربيع العربي )، ولذا فهو يحاكم بصرامة وعدالة تاريخه الشخصي، الذي كان أسيرا فيه للايديولوجيا ومفاهيمها الجاهزة، وشعاراتها الحماسية، وتزييفها للرؤية وآفاق المعرفة بموقف أحادي لا يقبل الحوار والتعايش مع الآخرين، الايديولوجيا التي اخفت عن الرفاعي صورة الله الحقيقية كل سنواته الحزبية، لذا فظمأه الانطولوجي للدين، هو الخلاص من ذلك التاريخ، والتحرر من تلك الهيمنة والانطلاق لعالم أرحب في انسانيته وآفاقه، واحتواء المخلوقات الانسانية بالمحبة والمشاركة والتعايش بفضاء جميل يحتمل الجميع، والاهم من ذلك انها محاولة لانقاذ الدين من براثن وحوش الدين الايديولوجي؛ حكاما ومعارضين، وبعض رجال دين، وكأنه في ذلك يقتفي سيرة الحلاج والسهروردي ومولانا جلال الدين الرومي ومريده شمس الدين التبريزي، وجميع معلمي الحب وفقهاء التسامح وجواهر الحكمة التي بددتها قتامة الدين الايديولوجي.

 

ومضة في روح الرفاعي:

مهمة كتلك ليست هي مهمة معرفية محضة، بقدر ما هي رسالة وجدانية تتحملها مسؤولية الباحث الذي كابد مشاقات رحلة الوصول للدين الانطولوجي بكل خساراتها والتياعتها، واشراقاتها؛ لبلوغ شاطئ الدين الآخر المضاد للدين، الذي ظهر كوحش نهم في افتراس الانسانية، والغاء الآخرين واقصاءهم عن مسرح الحياة، او كما تنفذه بحذافيره النصية الجماعات الدينية.

الومضة التي تشتعل في روح الرفاعي يجد انه من الامانة ان ينشرها، او يزرع فسائلها في مشغله المعرفي، وهواجس التحول من الظلمة للنور لابد ان تتموج للآخرين، والا ما قيمة الثقافة والفكر، ان لم يسارع المفكر الانساني بانقاذ حريق العالم واطفاء شروره، التي تأتي في ايامنا للاسف غالبا من جماعات وافكار ومقولات تنتمي للدين، بشكل من الاشكال وتتمظهر به. كان الرفاعي في يوم ما متحمسا لترويجها، والدفاع عنها، والتزام سلوكياتها الاقصائية، ورغم ان الرفاعي يعترف بانه مازال لايستطيع التخلص نهائيا من رواسب تلك الثقافة؛ بما يجعله مترددا في تعرية مفاصل سيرته الفكرية والحزبية والانسانية كلها، الا انه قدم لي عل الاقل سيرة من المكابدات والالتياعات الحقيقية ،لم اقرأ شبيها لها في تعرية الجماعات التي كان منتميا لها ذات يوم، وجعل من كتابه ورؤاه محكمة افتراضية لكل هؤلاء حزبيين وسلطويين (اكتشفت في وقت مبكر اشخاصا من زملائي الاسلاميين "مات الانسان في داخلهم"، ثم هتكت تجربة السلطة في العراق عورات بعضهم فـ"مات الله في قلوبهم". انهم ممن نسوا الله فأنساهم انفسهم، ووظفوا كل ما وهبهم الله من ذكاء ومهارات في الكيد والغدر واستهداف البشر والنيل منهم والتآمر عليهم. ادركت انه لامختبر للاخلاق في مجتمعاتنا كالسلطة.لم تتبدل شخصية الكائن البشري عل كرسي السلطة، كما يظن البعض، وانما يتفجر كل ما هو مترسب في اعماقها .. مجموعة ممن عاشرت من الاصدقاء قبل السلطة فضح ظفرهم بالكرسي كل ما هو رديء مختبئ في داخلهم من هشاشة الشخصية، هذر اللسان، تبلد الشعور، موت الضمير، نرجسية الذات، وانطفاء الروح ) ص 33 .

 

علي شريعتي الايديولوجي:

ربما وجدت خروجا للرفاعي عن هدوئه وموضوعيته (ان لم اكن خاطئا) في الفصل الخاص بالدكتور شريعتي، والذي اتخذه نموذجا متاحا وشعبويا للاسلام الايديولوجي مقابل الدين الانطولوجي، وانا اعتقد ان الرفاعي كان شجاعا في تفكيك خطاب شريعتي وحماسياته الثورية، لانه مازال حتى يومنا هذا يحتل مكانا مرموقا في وجدان شريحة ليس قليلة من القراء في عالمنا العربي. ويبدو ان الرفاعي كان مغاليا في وضع مثال شريعتي اسوة بامثلة اخرى، كسيد قطب، او ابو الاعلى المودودي، وغيرهما من منظري أدبيات العنف للجماعات الدينية في تاريخنا المعاصر. ربما كان على الرفاعي وضع خطاب شريعتي في سياقات المنطقة التاريخية التي افرزته المعيا ومشاكسا؛ بوصفه وليد او نتاج الثورة الطلابية اليسارية التي اجتاحت العالم، ابان ستينيات القرن السابق، التي برز فيها شريعتي، واكتمل خطابه وظهرت ملامحه التبشيرية لدى اوساط الشباب والطلبة خاصة.

 

ذروة الكتاب:

الفصل الرابع من الكتاب اعتقد انه الذروة او الرسالة التي اراد الرفاعي من قارئه اللبيب تمثلها والتبشير بها، وهو تأصيل وصياغة الدين الانطولوجي، وازالة الالتباسات في غموض المصطلح ومطابقته للواقع، وحشد الامثلة الواقعية لمضاده النوعي. واعتقد انه كان موفقا فيه كخلاصة او نهاية لكتابه الانطولوجي هذا. رغم ان الحوارات الملحقة بالكتاب مع اهميتة اجوبتها، والتي تقع في سياق مقارب لما يطرحه الرفاعي في مؤلفاته، لكني وجدتها فائضة الحاجة عن كتاب اقتصرت مهمته عل رسالة نبيلة، وتأصيل انساني لمشروع وملامح الدين الانطولوجي، الذي اختطفته جماعات الارهاب واسلاميو الحكم.

ختاما يشدد الرفاعي على أن (الظمأ الانطولوجي للمقدس يجتاح كل كائن بشري بوصف هذا الكائن يتعطش للامتلاء بالوجود،كي يتخلص من الهشاشة ويجعل حياته ممكنة في هذا العالم الغارق بالالام والاوجاع، وتكون له القدرة عل العيش باقل ما يمكن من المرارات والاحزان، ويخرج من حالة القلق للسكينة ومن اللامعنى للمعنى ومن السوداوية... مع تفشي ثقافة التكفير في حياتنا، وتشبع وعي الناشئة بها، وترسبها في طبقات اللاوعي العميقة في شخصية ابنائنا، لايمكننا بلوغ عتبة السلام والعيش الكريم في أوطاننا، من دون صياغة ميثاق للمواطنة يكون النصاب فيه هو الانتماء للوطن والمساواة في الحقوق والواجبات ) ص 191.

 

توفيق التميمي

 

في المثقف اليوم