كتب واصدارات

كتاب يخترق الزمان

857-jabarتنبيه الأمة وتنزيه الملة للنائيني يتحول الى نموذج ارشادي ومنبع الهام للكتابات في الفقه السياسي الشيعي

صدرت عن مركز "دراسات فلسفة الدين" في بغداد و"دار التنوير" ببيروت، الترجمة الجديدة لكتاب "تنبيه الامة وتنزيه الملة" للفقيه الكبير والاصولي العظيم، الذي يعد أحد العمالقة الثلاثة مع الشيخ ضياء الدين العراقي، والشيخ محمد حسين الاصفهاني لمدرسة اصول الفقه في مدرسة النجف الاشرف .

  الشيخ محمد حسين النائيني ولد عام 1276هجرية في مدينة نائين من توابع اصفهان .. هاجر الى العراق عام 1303 هجرية الى النجف الاشرف .. ويعد الشيخ من أبرز التلامذة المتميزين للميرزا السيد محمد حسن الشيرازي، صاحب الفتوى الشهيرة، التي أدت الى ماعرف بثورة التنباك، وبعد رحيل الميرزا الشيرازي اتجه الى كربلاء بصحبة السيد حسن الصدر، وبعدها عاد الى النجف الاشرف، ليكون من أبرز تلامذة الآخوند الشيخ محمد كاظم الخراساني صاحب  الكتاب الشهير في أصول الفقه "كفاية الاصول" الذي ظل المرجع ومادة التدريس في الحوزة العلمية حتى اليوم.

857-jabar قام د. مشتاق الحلو بترجمة الكتاب إلى العربية ترجمة دقيقة، تجاوزت وصوبت كل الاشكالات والمشكلات التي وقعت فيها ترجمة الاستاذ صالح الجعفري وغيره .. وقدم لهذه الترجمة عبدالجبار الرفاعي بمقدمة رائعة وضافية، تناول فيها مفهوم الدولة، وتطورات هذا المفهوم في مدرسة النجف من الشيخ النائيني الى السيد السيستاني، ويعني المفكر الاسلامي عبدالجبار الرفاعي بمدرسة النجف، كما يكتب: "المضمون الثقافي والمعرفي والفقهي والاجتماعي للحاضرة العلمية العريقة التي نشات في النجف، بعد هجرة الشيخ محمد بن الحسن الطوسي من بغداد الى النجف سنة 448 هجرية، ثم تواصلت في الفترات التالية حتى اليوم".

ويقسم الدكتور الرفاعي التفكير في مفهوم الدولة ونظمها في مدرسة النجف الى ثلاث مراحل:

1- مرحلة وحقبة التفكير خارج المدونة الفقهية، وكانت بدايات هذا التفكير منذ مطلع القرن العشرين حتى تمام النصف الاول من هذا القرن، وياتي كتاب " تنبيه الامة وتنزيه الملة " ضمن هذه المرحلة.

2- المرحلة الثانية : وتبدا منذ مطلع الخمسينات، أي في العقد السادس من القرن العشرين، في هذه المرحلة، دخل التفكير اطار المدونة الفقهية، منذ ان كتب الشيخ محمد مهدي شمس الدين، كتابه "نظام الحكم والادارة في الاسلام" سنة 1954م ، وصدر في بيروت سنة 1955م ، في هذا الكتاب يرفض الشيخ شمس الدين الديمقراطية.

3- المرحلة الثالثة عودة التفكير الى خارج اطار المدونة الفقهية، وفي هذه المرحلة وبعد ثلاثة عقود تدخل مدرسة النجف المرحلة الثالثة عبر اجتراح مسار للتفكير يتجاوز المدونة الفقهية، فتصبح الديمقراطية عند الشيخ شمس الدين هي الحل الوحيد للمجتمعات الاسلامية، وكأن الشيخ يقترب مع النائيني، وان كان لا يتطابق معه، إذ كان الشيخ النائيني يفكر بمشروعية شعبية الهية دستورية، وان كان لم يتحدث عن نظم دولة وهل هي منبثقة بتمامها من الفقه أو لا.

كتاب " تنبيه الامة وتنزيه الملة " جاء افرازا لمرحلة جثم فيها الاستبداد السياسي بظله البغيض على الامة، وصادر حرياتها، وانتهك كرامتها، ولم يبق امام الامة من خيار سوى النهوض بوجه المستبدين لاسترداد كرامتها المهدورة .. جاء هذا الكتاب كنتيجة للجدل الفقهي الدائر فيما عرف بالمشروطة والمستبدة، المشروطة تعني الملكية المقيدة بدستور، والمراقبة بمجلس رقابي فيه مجموعة من الفقهاء، وهذا المجلس يخضع لمجلس آخر مكون من فقهاء يشرف عليه، حتى لايكون فيما يصدره المجلس الرقابي مايشي بمخالفة الاسلام، حسب تصور الشيخ النائيني رحمة الله عليه.

الثورة الدستورية التي هب الشيخ النائيني مدافعا عنها مدعوما بفتاوى استاذه الشيخ محمد كاظم الخراساني، لها فقهاؤها وانصارها وجمهورها، مقابل حركة المستبدة "الملكية المطلقة"، التي لها أيضا فقهاؤها وانصارها ومن يتعاطف معها، ومن الفقهاء الذين وقفوا مع الملكية المطلقة " المستبدة "، والتي يسميها انصارها " المشروعة"، الفقيه الشيخ فضل الله النوري ، المولود في الثاني من ذي الحجة ، عام 1259هجرية، والذي كان من قادة الحركة الدستورية، ولكنه حسب رأيه يذهب إلى ان المشروطة فيها انحرافات تخالف الاسلام، فعارضها بشدة، ودفع حياته ثمنا لمواقفه رحمة الله عليه.

الشيخ النوري هو من تلامذة المرجع الشهير الميرزا محمد حسن الشيرازي صاحب فتوى تحريم التبغ التي أجهضت الامتياز الاحتكاري الممنوح من الشاه القاجاري في ايران للشركة البريطانية. وبعد بلوغ الشيخ النوري درجة الاجتهاد عاد الى طهران. له مؤلفات عديدة منها: "رسالة في قاعدة ضمان اليد"، وهي رسالة فقهية، وهناك رسالة اصولية "رسالة في المشتق" ، ولديه حاشية على كتاب "شواهد الربوبية" لصدر المتالهين الشيرازي .. في هذاالجو الصاخب انتشرت رسالة "تذكرة الغافل وارشاد الجاهل" التي تشن حملة شديدة على الحركة الدستورية، وشاع أن مؤلفها هو الشيخ فضل الله النوري. في هذا الجو ايضا، وكرد فعل على الافكار المناوئة لحركة المشروطة، ألف الميرزا النائيني كتابه " تنبيه الامة وتنزيه الملة" ليدعم الحركة الدستورية في طروحاتها الى تدعو الى الدستور وتقييد صلاحيات الملك.

وهذا الكتاب تجاوز زمنه، ومازال ملهما لكثير من المفكرين والفقهاء في تأصيل الفقه السياسي، يقول الشيخ د. عبدالجبارالرفاعي: "تنبيه الامة وتنزيه الملة هو النص الوحيد من كل تلك الكتابات الذي اخترق الزمان، وتحول فيما بعد الى نموذج ارشادي، ومنبع الهام للكتابات والرؤى والآراء في الفقه السياسي الشيعي، يمكننا ملاحظة تاثيره في دستور "جمهورية ايران الاسلامية"، وبعض الآراء في الفقه السياسي للسيد محمود الطالقاني، والشيخ مرتضى المطهري، والسيد محمد باقر الصدر، والشيخ محمد مهدي شمس الدين ، والشيخ حسين علي منتظري، وأخيرا السيد علي السيستاني".

يعد كتاب " تنبيه الامة وتنزيه الملة " نقلة نوعية في الفقه السياسي الشيعي، انطلق فيها الشيخ النائيني من قيمتي: العدالة ، والحرية ، في الاسلام، بوصفهما قيمتان أساسيتان وحاكمتان، وهما غير قابلتين للنسخ والالغاء، ومن هذين القيمتين انطلقت رؤيته للحكم، وتشريحه للاستبداد الذي هو اساس تخلف الامم .. الكتاب يعتبر خطوة متقدمة ومنعطفا في التفكير باتجاه تأصيل فقه سياسي يهتم بالدولة ومشاغلها واشكالياتها، وايجاد مخرج لحالة انسداد الافق السياسي.

 

الشيخ زعيم الخيرالله

 

 

في المثقف اليوم