كتب واصدارات

في الحاجة إلى سقراط جديد .. تأملات في مشروع تحديث التفكير الديني لعبد الجبار الرفاعي

emad alrifaiلا أرى نفسي أهلا لتقييم المشروع الفريد الذي تصدى العلامة عبدالجبار الرفاعي للإشتغال عليه، و لكني اتحدث كمتلقٍ ضمن طبقة المثقف الديني، وأنقل إنطباعاتي وتفاعلي وإحاسسيي االعفوية المباشرة عند مطالعاتي لما يكتبه الرفاعي أكثر من مرة.

مشروع الرفاعي أخذ على عاتقه تصحيح المسار لرسالة الدين في الحياة بعد أن ضاعت مقاصده، وتلاشت روحيته، أغرقته السياسة في ثرثراتها ودهاليزها المظلمة، وأفرغته من الروح والمعنى.

كان المتدين يعيش الرعب من صورة نمطية رسمتها الأفكار السائدة عن الإله، لتجعل صورته الوحيدة صورة لحاكم قاهر يبطش، يبحث عن الزلة لعباده كي يصيبهم بعقابه، لا منبعا للحب والرحمة والسلام، وصارت العلاقة معه في الفهم الديني الشائع علاقة توجس وقلق وخوف فقط، ولم نفهم أن هناك علاقات أخرى مع الله أهمها علاقة الحب والرحمة والشفقة. غابت علاقة الحب والرحمة والشفقة عن سلوكياتنا رغم أن النصوص تزخر بها.

ونتيجة لتوهم العيش في هذا الكون (البوليسي) المفترض، بدءا من الإله فما دون، سادت ثقافة القهر والطش، وشاعت أخلاقية القسوة، وصار المتدين في العادة لا يتعامل مع الواقع إلا بمنطق العقاب والوعيد، وحين رأى تمرد الآخرين، أما لعدم قناعة أو لضعف إرادة، على ما ألزم نفسه به، صار هاجسه ترقب ساعة التشفي بهؤلاء، كي يحصل على ما يراه مكافأة على جلده لذاته، ولفرضه أنواعا من الحرمان على نفسه. ظل المتدين يبحث عن الساعة التي يناله فيها التكريم والثواب، وتنال الآخرين العقوبة والعذاب، فماتت مشاعره تجاه معاناة الآخرين، وإندثرت نزعته الإنسانية.

لذا فقد كنا بحاجة إلى كتاب ينقذ النزعة الإنسانية في الدين... وكنا (ظامئين) فعلا لكتاب ينبهنا الى (ظمئنا) الأنطولوجي.

كنا نبحث عن الروح التي أسرها جمود الاستدلالات المعتادة، والقوالب الفكرية العتيقة، وعن المقاصدية التي ضيّعها الإنهماك في التفاصيل الهامشية وغير الجوهرية، ونعاني من تضخّم المطالب التي قد تملأ عقل الإنسان، لكنّها لا تملأ قلبه بالنور، على حد تعبير السيد الشهيد محمد باقر الصدر... كنا متحيّرين فيما يرفضه الوجدان بينما يبرّره زائف البرهان، في جو من السفسطة المعاصرة، ونشعر بوجود خلل ما في منظومتنا الفكرية، ولكن تشخيص ذلك الخلل كان عسيرا، بسبب حُجُب المصادرات العديدة، التي نادرا ما تخضع للتحليل أو يجرؤ أحد على المساس بها. كنا بحاجة ماسة الى "سقراط جديد"، يؤسس طريقة جديدة في التفكير، و يؤشر لنا بهدوء إلى مواضع الخلل. المهمة الأولى كما يعلمنا سقراط هي أن تعود الذات لذاتها لتكتشف ذاتها، ذلك أن مفتاح الفلسفة حسب رأيه هو: "إعرف نفسك". لا بداية عند سقراط إلاّ باكتشاف عوالم الذات.

مع عبدالجبار الرفاعي نصغي لصوت سقراط جديد، فقد بدأ كتابه: "الدين والظمأ الأنطولوجي" بفصل يتحدث فيه عن ما اصطلح عليه: "نسيان الذات"، في ثقافتا وتربيتنا. شرح في هذا الفصل كيف أن التربية والتعليم والتثقيف في العائلة والجماعات والأحزاب والمنظمات لا تنشد إلاّ محو الذات، إذ تشدد على صهر الفرد في بوتقة الجماعة، وطمس هويته الشخصية.

استهل الرفاعي فصل نسيان الذات قائلاً: "يولد الإنسان بمفرده، ويحيا بمفرده، ويموت بمفرده، ويتألّم بمفرده، ويشعر بالخطيئة بمفرده، ويستفيق ضميره بمفرده، ويؤمن بمفرده، ويلحد بمفرده. ويجتاحه بمفرده أيضًا: القلق، اليأس، والاغتراب، والضجر، والسأم، والألم، والحزن، والغثيان، وفقدان المعنى، وذبول الروح، وانطفاء القلب، والسوداوية، والعدمية، والجنون... إلخ. لا تبدأ الحياة الإنسانية الحقيقية إلّا عندما تتحقّق وتوجد الذات الشخصية، وهذه الذات لا تتحقّق من دون الفعل، فالوجود الإنساني لا يصل إلى الامتلاء إلّا بالفعل وحده. الذات البشرية وجودها وصيرورتها الحرّيّة، وحيث لا حرّيّة تنطفئ الذات. الحرّيّة ليست أمرًا ناجزًا قبل أن نشرع باستعمالها، وجود الحرّيّة يعني ممارستها. الحرّيّة لا تتحقّق بعيدًا عن مسؤولية الفرد تجاه ذاته. لحظة تنتفي الحرّيّة تنتفي الذات، إذ لا تغتني الذات وتتّسع وتتكامل إلّا بالحرّيّة".

لقد أعمت أدلجةُ المعرفة عقولَنا عن إكتشاف الذات، والانفتاح على الآخر ومعرفة نقاط قوته، وعن مراجعة افكارنا ومسلّماتنا.كنا بحاجة إلى من ينقذنا من التفكير المؤدلج، الذي أفرزته الأدبيات الأصولية، التي تربّى عليها أغلب أبناء الأجيال المتدينة، منذ زمن ما يعرف بالصحوة الإسلامية إلى الآن، وأن نسعى إلى تفسير العالم قبل التفكير في تغييره على حد قول الدكتور الرفاعي.

في مثل هذا الجو المتوتر، كنا نرى الإختلاف المذهبي ضلالا، والتصوف إنحرافا، والعقلانية تجديفا، والإحتكام الى العلم هرطقة، والإنفتاح على بقية الأديان شبه إرتداد..كأننا لا نزال نعيش في زمن محاكم التفتيش وصكوك الغفران.

كل فئة تنكفئ على نفسها محاولة الحفاظ على كيانها من الأنشقاق والتشظي، مثقفة على أبلسة الآخر والقطيعة معه، وتغليب منطق المؤامرات والنوايا السيئة، فضاعت بذلك فرص الإنفتاح والتلاقح والتواصل. 

كنا نتمنى إستعادة وإستلهام جمال النصوص الأولى التي أهدرت كرامتها النصوص الثانوية، وقيّدها تعسّف التأويلات والشروح والحواشي، الصادرة في إطار تاريخي معين، وبقينا نجترّها ونكرّرها ، ونحن نحسبها نهاية العلم و خاتمة المعارف.

كنا ومازلنا نعيش صراعا مع العصر وثقافته، وغربة عن العالم المعاصر، بسبب التقديس المطلق لكل مفردات التراث و الإستغراق في الماضي.لبث سقف المسلّمات شديداً جدا، و كان عددها كبيرا جدا، لا يُسمح للتفكير أن يتجاوزها أو أن ينفذ لأعمق منها.

نعم ، كنا مع المصلحين أحيانا، لكن بشرط ان يكون إصلاحهم حركة تنتمي إلى الماضي الذي لا يقلق احدا، أو أن يكون ضمن حدود مرسومة تحددها المؤسسة التقليدية، أما الإلتحاق بمصلح لا يزال يعمل فقد أمسى محاصرا بكثير من هواجس الشك، ودعوات التضليل والإقصاء و التسخيف، والتهم الجاهزة، حتى يسارنا كان يمينا في واقعه، بعد أن تحول اليسار القديم الى يمين بمقاييس عصرنا، وتجمّد الإصلاح عند لحظة تاريخية محددة.

باختصار، لقد أفلسنا روحيا وأخلاقيا، وأُحرِجنا عقليا، وكنا بحاجة الى من يضرم فينا جذوة العشق، و يعيد للروح حيويتها و براءتها وعفويتها، ويُرجع للدين رسالته وألَقَه، ويعطي للعقل دوره المنشود في النقد والتساؤل والغربلة.

يضع الرفاعي في مشروعه خارطة طريق لحلّ الكثير من هذه الإشكاليات. ويقدم محاولة واعدة لتجديد التفكير الديني في الاسلام.كتابه الجديد "الدين والظمأ الأنطولوجي" نص رؤيوي مكثف، نثر مكتوب بكلمات الشعر. يحتاج إلى شروحات عديدة لا تسعها عدة مقالات ، لكنه مع ذلك مكتوب بلغة سهلة ممتنعة، الكلمة حساسة، والعبارة في الكثير من مقاطع الكتاب تحيل إلى شذرات كشذرات الحكماء والعرفاء. من هنا يتطلب هذا الكتاب أن نتذوقه، لا أن نتعقله فقط. نص الرفاعي مختصر بطرحه مفاهيم وقواعد جديدة للتفكير، والبناء الروحي والأخلاقي والعقلي، لكن ما ينبثق من تطبيقها على المصاديق سيكون كثيرا وثريا جدا.. أفكاره مبتكرة عميقة، وتعابيره أدبية رشيقة.. ولعلي لا أبالغ لو قلت ان كتاب "الدين والظمأ الأنطولوجي"، هو بمثابة مانفستو manifesto لتحديث التفكير الديني في الاسلام، إن كُتِب لهذا النص النجاح والإستمرار، ربما يصلح أن يصبح منعطفاً يؤشر لولادة نمط آخر في قراءة وتفسير النصوص الدينية، وكأنه يبشر بولادة مرحلة جديدة في التدين وفهم الدين.

 لقد أنهك أروحنا دين يحترق بماكنة السياسة، أنهك أروحنا دين يبدو فيه الله عدوا للحب والجمال والفرح، أنهك أروحنا دين يضعنا في معارك مزمنة مع خالقنا، أنهكت أروحنا صورة الاله المحارب الدموي. ببراعة يحررنا الرفاعي من هذه الصور المخيفة لله، ويرسم لنا صورة كلها حب وخير ورحمة وجمال وفرح وسلام.

هذا "البيان أو المانفستو" حسب قول عبدالجبار الرفاعي: "لا يعد بإجابات نهائية، انما يعنى بإثارة الأسئلة وإستفزاز العقل"، وكما يحدّثنا التأريخ، فقد إنتعشت الفلسفة قديما عندما بدأ سقراط يثير المشكلات، رغم أنه - كما يقول أرسطو - لم يضع لها الحلول، لذا فإن ثقافة التساؤل أعظم نفعا من ثقافة الحلول الجاهزة.

 ورغم أن الرفاعي قدّم في أكثر من موضع أجوبته لإشكاليات معينة، إلا أنه نجح أيضا في الترويج للتساؤل كقيمة مهمة ومحترمة بل وضرورية، وتخليصه من وصمة الإستخفاف التي يصمه بها الدوغمائيون. لذلك يشدد على رعاية حق الاختلاف، وفتح باب مراجعة المسلّمات وعدم التوقف عن طرح الأسئلة، وعلى التخلي عن المنطق الوثوقي الذي يستهدف قسر الآخر واكراهه على ايمان معين، ويوضح ان الايمان والتجربة الروحية هما ما يعيشهما الانسان فعلا لا ما يلقّنه تلقينا.

يعترض المؤلف على ما يسميه لاهوت الفرقة الناجية الذي ينتج نزعة الاستعلاء والتفوق على الآخر، ويرى ان لا خلاص الا بالتخلي عن هذه الفكرة، والتأسيس للاهوت جديد هو لاهوت التعددية، الذي سيكفل امكانية التعايش السلمي بين مختلف الأديان والمذاهب والفرق والاتجاهات الفكرية. لاهوت الفرقة الناجية يجعل الطريق الى الحق طريقا واحدا يرثه المرء من أبويه ومجتمعه، ولا يفكر أن يحيد عنه، فيحاول أن يراكم ما يؤيده، ويتجاهل ما يعارضه. هذا اللاهوت لن يسمح لمعتنقيه في الغالب بمراجعة الأفكار وغربلة المواقف والبحث المجرد عن الحقيقة ومعرفة أبعادها ووجوهها المتنوعة. هذا اللاهوت حجاب يحول دون اكتشاف المنجز المعرفي للآخر، او التفكير في أن لديه منجزا، بل سيقطع الطريق منذ البداية على كل محاولة من هذا النوع ملوّنا العالم بلونين لا ثالث لهما. ويقدم دائما اجوبة جاهزة وتصنيفا نهائيا، تحددهما رؤية واحدة للعالم، ووجهة نظر منفردة وضيقة في فهمه وتفسيره.

في الكتاب يقدم المؤلف قراءة نقدية لما يسمى بـ"البروتستانتية الاسلامية" التي عملت على تديين الدنيوي حسب تعبيره، ويركز على دور المرحوم الدكتور علي شريعتي في ذلك، وقد نقده بصورة قد تكون قاسية نوعا ما، حيث يرى أن له الأثر الكبير في "ترحيل وظيفة الدين من الأنطولوجيا إلى الأيديولوجيا". يناقش الرفاعي المرحوم شريعتي بوصفه مثالا هاما ومؤثرا لأدلجة الدين.

  قام أيضا بتحليل مايفعله الانتماء الايديولوجي من "تنميط" للكائن البشري، وما يؤدي اليه ذلك من ضياع لهويته الشخصية، وخلق ما اسماه بالشخصية المستعارة، مضافا الى تفشي التعصب لفكر الجماعة، وقتل القدرة على الابداع لدى الفرد، بسبب ما تمارسه الجماعات الأصولية من محاولة إنتاج نسخ مكررة بلا ملامح للمنتمين لها.

عندما تتحول الثقافة الى أيديولوجيا، تختزل وظيفة الدماغ في الدفاع عن الدوغماءات، و يتهمش الطلب الموضوعي للحقيقة، وتتكرس الاصطفافات على حساب حيادية البحث، وتسود الحلول الترقيعية للمشاكل الفكرية، والتي تستهدف الحفاظ على الكيان الأيديولوجي بالكامل على حساب الحلول الجذرية، بل تُخفى بعض الحقائق بسبب هواجس الخوف على الهوية، ويصير الانسان عند تقييمه لفكر معين امام واحد من طريقين فقط، فاما القبول المطلق، واما الرفض المطلق، بدون ان يرى منطقة وسطى بينهما، ويصير الاستدلال تابعا للايمان لا العكس.

ربّما كان للتفكير الأيديولوجي مبرراته في زمن صراع الحضارات، بسبب ما يؤديه من دور تعبوي تفرضه طبيعة هذا الصراع، لكننا نحسب اليوم أن عصر الأيديولوجيا قد ولّى، بعد أن أتيحت الفرصة لأغلب هذه الإتجاهات، يسارا أو يمينا، لأن تأخذ فرصتها في إدارة الحياة واصطدمت بالواقع عند التطبيق، وواجهت إشكالات ليست بسيطة أبدا.

يختصر المؤلف تشخيصه لواحد من اهم اسباب شيوع الفهم السلفي للدين، وانتاج خطاب العنف والتحجر، وغياب النزعة الانسانية في الخطاب الديني المعاصر، في مفهومين يعبر عنهما بـ"توثين الحروف، واهدار المقاصد"، على اختلاف درجاتهما شدة وضعفا بين المذاهب المختلفة، ويضيف لذلك سببا آخر: هو الجمود على ما خلفه السلف، والخضوع الكامل لادوات ومناهج الفهم المتوارثة، التي يرى انها بحكم انتاجها وصيرورتها في سياق اطار زمني غابر لم تعد مناسبة لعصرنا، ويؤكد على مسألة بالغة الأهمية، وهي ان تجديد المعرفة الدينية يتطلب اعادة النظر في البنى التحتية العميقة المولدة لهذه المعرفة، والموجهة لدلالات النصوص، والتي تكونت في ظروفها الخاصة التي تختلف عن ظروفنا بالتأكيد، فليس التجديد بنظره مجرد بضعة فتاوى تصدر هنا او هناك لتخالف مشهور الفقهاء، بل التجديد يقتضي اعادة النظر في مناهج التفكير والبحث والنظر والدراسة للنصوص الدينية، والاستعانة في سبيل ذلك بانجازات العلوم والمعارف الانسانية الحديثة المختلفة وفتوحاتها، ويشير إلى أن علماء المسلمين قد مارسوا ذلك في الماضي، فاستعانوا بالمنجزات الفكرية للأمم السابقة عليهم، حتى أدخلوها في بنية علوم الدين، ولم يخشوا من الاتهام والحكم عليهم بممالأة الكفار بسبب ذلك، رغم حدوث معارك فكرية بين الحين والآخر كهجمة الغزالي على الفلاسفة وردّهم عليه، وذلك على عكس الحال السائدة الآن في دراسة وتدريس الدين، حيث يسود التوجس من كل ماهو غربي تقريبا، إلى أن وصل الحال إلى نتائج العلوم التجريبية، التي شنّ عليها بعض رجال الدين حملات شعواء، مفتشين فقط عن نقاط الضعف ومحاولين ما إستطاعوا التقليل من أهميتها ومنجزها الهائل، حتى صار ذلك قاعدة للتعامل معها عند الكثير من قواعدهم الشعبية.

يخلص الرفاعي الى ضرورة تقديم قراءة جديدة للاسلام، عن طريق الأخذ بعين الاعتبار السياق الزماني والمكاني التاريخي للاحكام، وان تغيّر الزمان يفضي لتغيّر الحكم، ويضرب أمثلة على هذه الاحكام ،كالرق والاماء واهل الذمة والجزية والردة. وهذه المنهجية الجديدة لو طبقت فانها سوف تغير الكثير من فهمنا للدين، وتجعله اكثر تصالحا مع متطلبات العصر والضرورات التي يفرضها تطور العلوم والمعارف البشرية.

رغم ان الرفاعي مفكر ديني وُلِد من رحم المؤسسة الدينية الرسمية الحوزة، وخلافا للنظرة الشائعة السلبية لهذه المؤسسة عن الفن، لكنه يصرح بأن الفن يصنع معنى للحياة كما يفعل الدين، وإن كان لكل منهما مجاله ودوره المستقل. بل إن للفن دورا في أحياء البعد الروحي في الإنسان وإثراءه.

 يبادر المؤلف بالرد على شبهة قد ترد الى ذهن القارئ بانه يدعو لدين لا يناله الا خواص الناس كالمتصوفة والعرفاء، فيوضح ان تلك الطبقة العميقة للدين - الدين الانطولوجي لا الايديولوجي - تتذوقها حتى العجوز الفلاحة الامية، وقد سرد هو في الصفحات التي كتبها عن سيرته الذاتية كيف ان: "تدين أمه الفطري العفوي البرئ الشفيف غرس الايمان في روحه، واليه يعود الفضل في ترسخ ايمانه وتجذره"، ويستشهد لذلك بقصة جميلة من قصص المثنوي، حول أحد الرعاة الذي كان يناجي الله بعفوية وبراءة وصدق لدرجة أن النبي موسى (ع) رأى في كلمات مناجاته سوء أدب مع الخالق فوبخه لذلك، قبل أن يبين له الوحي أن تلك المناجاة مقبولة عنده تعالى، بل ويعاتبه على توبيخه ذلك الراعي المسكين بسبب كلماته العفوية تلك.

 في ضوء ذلك يمكننا كذلك التمييز بين نوعين من التشيع مثلا، التشيع الفطري المرتكز في الوجدان الشعبي، الذي توارثه الناس البسطاء جيلا بعد جيل، والتشيع الغنوصي الاطني المتأثر بظاهرة الغلو، والذي يستعير الكثير من مقولاتها ويروّج لطريقة باطنية في التفكير، تربط كل شئ بأسرار مزعومة لا يعلمها إلا الخواص،  والذي إنتشر مؤخرا عن طريق الكثير من رجال المؤسسة الدينية والمحسوبين عليها، والذي يثقف أيضا على الطائفية بحماس شديد، بدعوى الخوف على الهوية التي هي أكبر أولوياته الفكرية.

في الوقت ذاته يشدّد المؤلف على أن الحاجة للدين والإرتباط بالمطلق أصيلة وضرورية، ومن دونها يصاب الإنسان بالجدب والإفلاس الروحي، وتسحق إنسانيته، ويتحول مجتمعه إلى مجتمع ميكانيكي لا يعمل حسابا للإنسان بقدر ما يراعي متطلبات الآلة،  ويفلسف الرفاعي هذه الحاجة إلى الدين بقوله: "الدين يؤبد الحياة بعد أن ينتج يفسيرا للموت بوصفه طور وجودي آخر للحياة". والدين أيضا - كما نرى- يقدم تفسيرا لمشكلة الشرور ويجيب عن سؤال: (ان كان هناك اله، فلم يحدث هذا؟)، ربما على طريقة  (كانط) في الاستدلال على وجود الله، الذي رغم أنه لم يستدل على وجوده بالعقل النظري، إلا أنه جعله من أحكام العقل العملي، فالعقل يحكم بضرورة اثابة من يعمل الخير وعقوبة من يفعل الشر، وبما ان الطبيعة لا تقوم بذلك، فلابد من وجود كائن عادل فوق الطبيعة سيقوم بذلك.

بإختصار، فإن رسالة الكاتب تهدف إلى قبول التعددية، وتفعيل التفكير النقدي، وتخليص العقل من أدلجة المعرفة، وإحياء البعد الروحي في التدين.

مشروع الرفاعي أثار العديد من النقاشات، وطرح الكثير من الأسئلة والإنتقادات التي تنتظر البحث والدراسة والإجابة من مختلف الإتجاهات الفكرية الراهنة في عالم الاسلام، ووفّر لها فرصة نادرة للقاء والتعرف على بعضها البعض، والوقوف على أرض مشتركة رغم الإستقطاب الذي يسود حياتنا الفكرية منذ زمن طويل. 

مفكرون من طراز الرفاعي هم العملة الأندر في عالمنا الثقافي اليوم، ويحس المثقف المتدين اكثر من غيره بقيمتهم الحقيقية، ففيهم يجد هذا المثقف التجسير المنشود للهوة الكبيرة بين التراث والفكر المعاصر، والتفاعل بين هذين العالمين بطريقة التلاقح والإنفتاح والتكامل وتبادل الخبرات، لا طريقة الصراع والتضادّ والتناشز والبحث عن الزلّات، ذلك التجسير الذي حاوله سابقا مفكرون من خارج المؤسسة الدينية مثل الدكتور زكي نجيب محمود والدكتور فؤاد زكريا والدكتور علي الوردي في قراءتهم للتراث، لكنهم لم يحققوا أهدافهم كاملة في ذلك، أما بسبب إتهامهم بالتطفل الفكري، أو لعدم إطلاعهم المعمق على هذا التراث بصورة مقنعة للمنتمين إليه، ولكن الأمل واعد بهؤلاء الذين ولدوا من رحم المؤسسة الدينية التقليدية، وقد قرأوا التراث بعمق اكثر من غيرهم، بمقدورهم غربلته وإستلهام مساحاته المضيئة، وتخليصه مما علق به من قباحات يمجّها الوجدان.

شكرا لك أستاذنا الرفاعي على ما أسديته للتنوير من خدمة، ونحن بإنتظار المزيد منك، ومتشوقون لمعرفة تفاصيل وتطبيقات مشروعك في تحديث التفكير الديني في الاسلام، بعدما أطلعنا على كليّاته.

 

د. عماد الرفاعي

شاعر وكاتب عراقي، وطبيب مختص بجراحة الوجه والفكين.

 

في المثقف اليوم