تجديد وتنوير

ماركس .. نيتشة .. فرويد

nadeer almajedبُحت أصوات كثيرة وهي تحذرنا من الوقوع في فخ الثقة الزائدة بالوعي. لا تراهنوا على الوعي كثيرا، لا يكفي وعي الواقع لتغييره، ليس لأن الواقع لا يكترث بنا ولا بوعينا ولكن لأن هذا الوعي نفسه ليس أهلا للثقة. المراهنة على الوعي خاسرة سلفا إذا لم تضعه موضع سؤال، إذا لم تبدأ بفحصه تحت مجهر الشك والريب، ينبغي استعادة الوعي بتفجيره أولا بنقد ماركسي أو بديناميت نيتشوي أو بتحليل فرويدي.

تفشل كل المراهنات على التنوير إذا لم تبدأ بهذا الثالوث. التنوير المنكوب بنرجسية الوعي لا يتوقف عن التبشير بالعقلانية والوعي وضرورة التثقيف. الوعي ولا شيء غير الوعي هو المتكأ التنويري للتنمية أو التغيير، لبناء المجتمع والصحة النفسية، كل شيء يبدأ وينتهي بالوعي. المزيد من الوعي فقط، عن طريق الحث التربوي البليد والممل والمضجر على القراءة، أو ربما الوعظ الكهنوتي، هو كل ما يمكن أن يقدمه لنا هذا الخطاب المغرور والنرجسي جدا.

أمام هذه المراهنة الغبية تتأكد أهمية الاستعادة التي أجراها عدد من الفلاسفة "كميشيل فوكو ودريدا وبول ريكور" لذلك الثالوث الارتيابي الذي شكل ويشكل "اهانة نرجسية" للوعي. يشكل ماركس ونيتشة وفرويد ثالوثا تنتظم فيه فلسفة الريب. يطرح هذا المزيج رغم كل التفاوتات أسئلة كافية لتدمير، ليس الأشياء الخارجية، وإنما الوعي ذاته، سابقا كان الشك بوعي الأشياء الخارجية، بمعرفة الواقعي وإدراكه، أما هنا فالشك يطال هذا الوعي ذاته، الوعي أو الذات هي المسائلة والمهانة نرجسيا.

يقول فرويد أن البشرية شهدت ثلاث إهانات نرجسية. الأولى كانت مع الهزة "الكوبرنيكية" التي أزاحت الأرض عن دور المركز لتصبح طرفا على هامش مركز آخر. والثانية كانت مع الداروينية التي أهانت النوع البيولوجي "بمعزل عن صحتها علميا"، أما الثالثة فكانت مع فرويد نفسه، إذ اتضح أن ثمة متوحش همجي يحكم الوعي الانساني هو "اللاوعي".

لاستعادة هذا الثالوث "ماركس، نيتشة، فرويد" أهمية قصوى لتفتيت الأقنعة. إن الوجه ليس سوى قناع، الوعي جهل مقنع. ثمة راهنية إذن يعمل على تأكيدها بول ريكور لهذا الثالوث بصفته أركيولوجيا للذات، تحريرا أقصى للذات عبر كشف الأقنعة ومحاربة تضليل الوعي لنفسه.

كلٌ على طريقته، يعمل كل واحد من هذا الثالوث على إظهار المحتجب، فبينما يعمل ماركس على كشف البنى الاقتصادية، يفضح نيتشة الدوافع اللاأخلاقية للأخلاق، أما فرويد فيضيء الدوافع اللاواعية للوعي. هكذا يلتقي هؤلاء الثلاثة في ضرورة الهدم، هناك أشياء ينبغي أن يطالها التدمير، ثمة عنف ينبغي استحضاره هنا، يتلون وفقا للتنوع والاختلاف داخل هذا الثالوث نفسه، هنالك عنف ضروري يأخذ شكل ثورة عند ماركس، وديناميت لتفجير المعنى والأخلاق عند نيتشة ورؤية سيكولوجية تفترض تعنيفا مسبقا للوعي، حيث تبدأ الصحة النفسية عند فرويد بتحقير الوعي نفسه والحفر في طبقاته وصولا لمسبباته وعوامله الأكثر عمقا.

ثمة معنى مخبوء، "لغة خارج اللغة"، لغة لا تقول بالضبط ما تقوله، هذا ما يعمل الثالوث على إبرازه. لهذا السبب يبدو الثالوث محط اهتمام فلسفي.. "ماركس، نيتشة، فرويد": عنوان يختاره كل من "ميشيل فوكو" لمداخلته حول القوة والخطاب وأركيولوجيا الذات، و"بول ريكور" بصفته تدشينا وفاتحة لصراع التأويلات.

أين يلتقي هذا الثالوث؟ من تفتيت المكان، لم يعد المكان متجانسا بدءا من القرن التاسع عشر كما يقول فوكو، قرن الشك والريب وتفتيت المعنى، فمع ماركس نشهد انغماسا في الضباب لكشف التسطيح والتفاهة والأقنعة البرجوازية، ومع نيتشة تقوم "الجينولوجيا" بقلب الأعماق كما يقول فوكو، وإفراغ الأخلاق من القيم، ومع فرويد نلمس توغلا لهذا المكان اللامتجانس إلى داخل النفس بعد أن كان خارجها (المجتمع والأخلاق).

إن الاستعادة تأخذ أهمية مضاعفة، خاصة إذا ما عرفنا التشوهات التي طالت الأيقونات الثلاث. إذا كان الوعي مضلل، فلهذا الثالوث نفسه مآل التشويه، كما لو كان ثمة قدر تضليلي يهدد كل شيء، بدءا بالواقع الموضوعي الخارجي ومرورا بالوعي وانتهاء بالنقد نفسه. النقد الذي تحول إلى مذهب، إلى مقولات ثابتة وقوالب نظرية جاهزة ونهائية تفرض إكراهاتها على الواقع حين تعجز عن مسايرته، على هذا النحو تصبح الماركسية "اقتصادوية" فجة، والنيتشوية رفضا عدميا للأخلاق ودعوة فاشية، أما الفرويدية فتتقلص إلى جنسانية مهووسة برد كل الأشياء إلى "أيروس". إن محطم الصنم يبدو مثل صنم جديد.

 

في المثقف اليوم