شهادات ومذكرات

علي حسين: ذكريات مع سيرة عبد الرحمن بدوي الغريبة والعجيبة

في اليوم العالمي للكتاب

منذ ان قرأت اول لعبد الرحمن بدوي وكان عن نيتشه، وحتى كتابة هذه السطور، وانا اعيش علاقة حب دائمة مع كتب هذا الفيلسوف الغريب الأطوار، ما ان ادخل مكتبة او معرض للكتاب والمح كتبه حتى تأخذني قدماي باتجاهها، وغالبا ما كانت كتبه وترجماته تقذف بي إلى عالم جديد ومثير، وكتبه تحتل مكانا أثيرا في مكتبتي الشخصية، ترجمات وكتب مؤلفة ومنها سيرته تلذاتية التي صدرت عام 2000 والتي استقبلها الوسط الثقافي في مصر بالاستغراب وبالهجوم احيانا، لان صاحبنا عبد الرحمن بدوي لم يترك شخصا دون ان ينال منه، فكانت هذه السيرة اشبه بملحمة من الثأر من الجميع حتى من أستاذه طه حسين صاحب الفضل الكبير عليه . في معرض أربيل للكتاب لمحت مذكرات بدوي على احد رفوف جناح ادمؤسسة العربية للدراسات، وكانت طبعة جديدة تمت العناية بها، ومن دون تردد قررت اقتناء هذه النسخة ولم اسأل نفسي لماذا وانا احتفظ بمكتبتي باكثر من طبعة لهذه المذكرات العجيبة والغريبة؟ .

في مقدمة سيرته الذاتية يكتب عبد الرحمن بدوي:" كل شيء بالصدفة، وبالصدفة أتيت إلى هذا العالم "، هل تدل هذه العبارة على ان عبد الرحمن بدوي كان فيلسوفا وجوديا ؟، يقول بدوي: " لقد ظلت الوجودية بمنأى عن عبث الجهال من الكتّاب والصحفيين والوعاظ حتى سنة 1945 حين صارت الوجودية موضة من الموضات الأدبية والاجتماعية في فرنسا غداة انتهاء الحرب العالمية الثانية وقد دارت هذه الموضة حول شخص جان بول سارتر فأُنشئت في باريس نوادٍ ليلية في حي سان جيرمان، ويضيف بدوي " لا ادري ما هو الدور الحقيقي الذي لعبه جان بول سارتر، لم أكن اعرف لسارتر قبل 1945 إية علاقة في الوجودية، لقد قرأت له قبل ذلك كتابه في علم النفس التخيل 1936 ولا صلة للكتاب بالوجودية، بل هو تأثر فيه بعلم النفس عند هوسرل وأول وأخر كتاب لسارتر في الوجودية هو كتاب (الوجود والعدم) سنة 1943 ولم أقرأه إلا في باريس سنة 1946، ولما قرأته وجدته بعيد كل البعد عن وجودية هايدغر وخليطاً من التحليلات النفسية فدهشت من زعم سارتر إن هذا الكتاب إسهام في المذهب الوجودي، ولهذا قررت ان أترجمه للعربية لأثبت للقارىء العربي ان سارتر مجرد أديب وباحث نفساني يستند إلى منهج الظاهريات ولم اعتبره أبدا فيلسوفا وجوديا قد أسهم بأي إسهام يذكر في تكوين المذهب الوجودي " .

منذ ان اصدر كتابه الاول نيتشه عام 1939، ظل عبد الرحمن بدوي يصدر كتابين او ثلاثة كل عام، ونراه يكتب في الفلسفة اليونانية القديمة ويؤرخ لفلسفة العصور الوسطى ويترجم مختلف النصوص الخاصة بالفلسفة الالمانية المعاصرة والفلسفة الوجودية، ويؤلف في المنطق ومناهج العلوم الفلسفية فضلا عن مؤلفاته في الزمان والوجود، وفي كل مرة يثار السؤال هل عبد الرحمن بدوي فيلسوفا وجوديا ؟، وهل تحققت نبوءة طه حسين وهو يستمع الى دفاع تلميذه عن رسالته للماجستير عام 1941 المعنونة " فلسفة الموت " حين قال:" الآن نستطيع ان نقول ان لدينا فيلسوف مصري "؟، كان نيتشه الذي الّف عنه اول كتبه المصدر الملهم لمعظم افكاره، كما ان هايدغر قد شكل احد اعمدته الفكرية، وحين اصبح للوجودية في الخمسينيات والستينيات رواجا كبيرا في العالم العربي، كان عبد الرحمن بدوي فارس الوجودية ورائدها، وعندما أصدر كتابه الشهير " الزمان الوجودي"، اراد ان يؤكد من خلاله ان الوجود الحقيقي هو وجود الذات الفردية، اما الوجود الموضوعي خارج الذات فهو مجرد ادوات للذات، ان فعل الارادة لا الفكر هو جوهر الذات، وهذا الفعل مرادف للحرية، ولهذا فان الذات والارادة والحرية معانٍ متشابكة، الحرية تقتضي الاختيار، والاختيار يقع بين ممكنات، وبهذا الاختيار تتحول الذات من حال الحرية الى حال الضرورة. اي تصبح الإمكانية وجوداً في العالم، وهكذا يصبح للذات وجودان: وجود كذات حرة مفعمة بالامكانيات التي لم تتحقق، وذات حققت بعض امكانياتها، الوجود الاول يتميز بالحرية المطلقة، والوجود الثاني هو الوجود بين الاشياء في العالم، ويؤكد بدوي ان انتقال الذات من حالة الإمكانية الى حالة التحقق، انما يتم في الزمان، ولهذا فالزمان حالة جوهرية للوجود المتحقق، على ان الوجود بهذا المعنى ليس وجودا في الزمان، وإلا اتخذ الزمان شكل المكان، اي اصبح اطارا خارجيا للوجود، ويعتبر عبد الرحمن بدوي الرأي الذي توصل اليه ثورة في الفلسفة الوجودية، لانه كما يخبرنا في موسوعته الفلسفية، قد حدد نوعين للزمان، زمان فيزيائي وزمان ذاتي، وهو ما اطلق عليه اسم الزمان الوجودي، وان الزمان هو عامل جوهري في نسيج الوجود ذاته، ويعتبر الحرية صفة اولى لوجود الذات.

ولد عبدالرحمن بدوي عام 1917، وكان الخامس عشر بين إخوة وأخوات بلغوا الواحد والعشرين، كانت عائلته متجذرة في المجتمع الريفي، ولهذا

اصبح لديه فيما بعد احساس قوي بانتمائه لإصوله الفلاحية، وقد ترسخ هذا الاحساس بعد ان تعمق في دراسة حياة الفيلسوف الالماني هايدغر الذي كان يظهر لنفسه دائما كشخص ريفي قروي، غير سعيد بثقافة المدن الكبيرة.

في الخامسة عشرة من عمره وقع بصره على مقالة في مجلة " البلاغ الأسبوعي " عن نيتشه بقلم عباس محمود العقاد، كانت هذه المرة الاولى التي يسمع فيها باسم هذا الفيلسوف الالماني، لم تثـر المقالة في نفسه أية حماسة لطلب المزيد، لكنه بعد أسابيع توقف عند مقالات كان ينشرها طه حسين في مجلة الهلال جُمعت فيما بعد في كتاب بعنوان " قادة الفكر"، إلا ان البداية الحقيقية لعبدالرحمن بدوي مع الفلسفة، كانت عندما أهدى اليه أحد أقاربه كتاب " مبادىء الفلسفة " الذي ترجمه الى العربية أحمد أمين، كان آنذاك قد بلغ السادسة عشرة من عمره.

 في القاهرة المدينة الضاجة بالحياة التي جاء اليها من إحدى قرى الصعيد، هارباً من والده الثري الذي أراد للأبن ان يدخل كلية الحقوق، لأنها تخرج وزراء، ولأن الكتب " لحست " عقله كما كان يردد الأب غاضباً، فقد قرر ان يعتمد على نفسه، فقدم اوراقه لكلية الآداب ومعها توصية من طه حسين لأعفائه من رسوم الجامعة، فقد اصر الوالد ان يحرمه من المال. في هذه المدينة اكتشف ان وظيفته الأهم ان يصبح فيلسوفاً، لم يكن سوى شخص بدين يصفه أنيس منصور وقد درس الفلسفة على يديه:" أسمر اللون، كبير الرأس، أصلع قليلا وكانت له عينان سوداوان لامعتان، وكانت له شفتان مزمومتان دائماً، وكان يرتدي بدلة زرقاء، وكانت ألوان دفاتره زرقاء ايضا، وعندما زرته في بيته، وجدته يضع تمثالاً نصفياً لصاحب كتاب تدهور الغرب أوزفالد شبلنجر، الذي كان يرى ان اللون الازرق هو أرقى الألوان جميعها" . عرف عن عبد الرحمن بدوي انه كان يمشي على عجل، لا ينظر الى أحد، ليس اجتماعيا، لا أحد يقترب منه، وكان يقول للجميع ان فيلسوفه المفضّل هايدغر اعتزل الناس وسكن الجبال، وتغطى بالسحاب، وقد اسماه فيلسوف القمم الباردة والعظمة المنعزلة. وفي سيرة حياته التي نشرها قبل وفاته بعامين عام 2000 يخبرنا بدوي عن جذوره الفلسفية فيقول: " العقاد حرث لي الارض، وطه حسين بذرها، والفلاسفة الالمان قد هذّبوها ". . كان هايدغر قصير القامة وسمينا، وكان يرتدي على الدوام سترة غريبة، وكان يمشي بين الناس متحفزا، ومتهيأ للدفاع عن نفسه، وكان يشعر دائما انه على وشك ان يتعرض لهجوم .. لم يكن رجل حوار، كان ينسحب الى نفسه، مستغرقا في حوارات تاملية .

يرفض هايدغر ومثلما سيرفض عبد الرحمن بدوي فكرة أن الفلسفة يجب ان تقوم فقط على ما يمكن ادراكه من خلال الحواس وحدها او المنطق وحده . ومثلما يرفض هايدغر فكرة شوبنهاور على ان العالم مجرد اسقاط لعقولنا . ومثل هايدغر كان عبد الرحمن بدوي، صعب العبارة، ومثله لم يكن يهمه أن يؤثر في جمهور كبير، فغاية الفلسفة ان تبحث في الوجود، ومهمة الانسان في الحياة ان يتساءل: من انا ؟ كان هايدغر يقول: انا الباحث عن الوجود، وعلى صلة بالوجود، ورغم انني لست انا الوجود، لكنني موجود واشارك في الوجود وعلى صلة بالوجود، ويقول عبد الرحمن بدوي ان الوجود ليس موضوعا مطروحا امامي وكأنه شيء غريب عني، او موضوع استطيع أن احلله او افحصه بين يدي كما يفعل عالم النبات بالشجرة التي يدرسها، وإنما الوجود شيء يحيط بي ويؤلف كياني . ىيكتب هايدغر في مؤلفه الشهير " الكينونة والزمان – ترجمه الى العربية – فتحي المسكيني – ان:" اول خاصية لوجود الانسان هي ان وجوده لا يشبه وجود الشيء، لانه لا يبدو ابدا كنسخة من هذا الصنف او ذاك، إن قانونه هو عدم التعين، اعني أنه غير ثابت، بل متغير من فرد الى آخر، ولكلٍ الحق في ان يقول: أنا " .

ويرى عبد الرحمن بدوي مثل استاذه هايدغر ان الانسان رُمي به في هذا العالم فسقط فيه، وهو يعيش محصورا في شباكه، فلا يملك إلا التسليم به .. ولكن هذا التسليم لا ينطوي على معنى عبثي، بل هو امر ايجابي، إذ " بغيره ما كان يمكن لوجودي ان ينكشف لنفسه " . ويذهب عبد الرحمن بدوي الى ما ذهب اليه هايدغر من من ان الخروج عن المالوف هو الذي يحقق للانسان وجوده .

كان هايدغر يقول اننا موجودون في هذا العالم بوضوح، ومن المستحيل بالنسبة لنا ان نكون موجودين من دون ان يكون هناك معنى لوجودنا في العلاقة مع العالم: انا احب، انا اتصرف، هذه هي طبيعة وجودي، ويصبح الاحساس بالوجود ظاهرا عبر حياتنا . في موسوعته الفلسفية يكتب عبد الرحمن بدوي:" انا الذي اقرر طريقة وجودي بنفسي، وذلك باختياري لأحد اوجه الوجود الممكن المتاحة امامي . وهكذا فانني اختار نفسي في وجودي، وانا مسؤول عن ذاتي " .

في " الكينونة والزمان " يدرس هايدغر، الوجود الإنساني باعتباره شكل الوجود الذي يعرفه الإنسان معرفة أفضل من معرفته بالأشكال الأخرى، ولكنه يصرُّ دائماً على أن اهتمامه لم يكن اجتماعياً أو نفسياً، وإنما حاول أن يتخذ من الوجود الإنساني نافذة يطلّ منها على الوجود. ويؤكد روجيه غارودي على ان هايدغر كان التعبير الأكثر وضوحاً على ارتباك العالم خلال فترة ما بين الحربين، حيث كانت حياة الإنسان مليئة

يكتب الدكتور مراد وهبة وقد كان طالبا في قسم الفلسفة عام 1945، ان عبد الرحمن بدوي الذي كان آنذاك يدرسهم الفلسفة المسيحية دخل عليهم ذات يوم وهو يرتدي ربطة سوداء، وعندما سأله الطلبة عن السبب، قال: حزين على وفاة هتلر.. ويعزو محمود امين العالم اعجاب بدوي بهتلر الى سببين الاول تعلقه بمارتن هايدغر وافكاره عن القومية الالمانية، والسبب الثاني انتمائه لحزب مصر الفتاة وهو حزب كان ينادي بالقومية المصرية، وهذا ما دفعه عام 1938 الى تاليف كتاب بعنوان " نيتشه " ضمن سلسلة خلاصة الفكر الاوربي حيث يكتب في مقدمته:" لنعلم هذا الجيل كيف يفكر هذا الفكر ويبدع،، وكيف يبدد ما قدس من اوهام بهدف احداث هزة قادرة وحدها على انتشال ابناء هذا الجيل من ظلمة الهوة الى نور الفكر الحر " .

في العام 1966 سئل هايدغر عن العلاقة بين الفلسفة والسياسة وماهي امكانات الفلسفة في التاثير على الواقع، بما في ذلك الواقع السياسي ؟ وكان جواب هايدغر:" ليس في امكان الفلسفة ان تحدث تغييرا مباشرا على الواقع الراهن للعالم " . مثلما سئل عبد الرحمن بدوي عن الفلسفة والسياسة عام 1975، فقال لا يلتقي الخير مع الشر، يقرر بدوي بعد ان تم حل حزب مصر الفتاة عام 1953 ان مشروعه الوجودي لا يلائم الاوضاع السياسية التي كانت تمر بها مصر آنذاك، لكنه لم يتخلى عن التمسك بالفلسفة الوجودية، ونجده يتفرغ للكتابة مؤكدا ان الكتابة هي كل حياته، وقال في حوار معه ان امامه عشرات الكتب ليكتبها، وخلافا للكثير من المشتغلين بالفلسفة، كان عبد الرحمن بدوي متنوع الانتاج بين الترجمة والتاليف والتحقيق ودراسة التراث العربي والاسلامي، مصرا ان يمضي سنوات عمره وحيدا، محاطاً بكتبه وأوراقه وغضبه من الجميع الذين لم يسلموا من مذكراته الثأرية " سيرة حياتي ". في كانون الثاني من عام 2002 سقط مغشياً عليه في أحد شوارع باريس وفي المستشفى طلب من الاطباء الاتصال بالسفارة المصرية لإبلاغها ان فيلسوف مصر في غرفة الطوارىء، عاد الى القاهرة محمولاً على نقالة، ليموت بعد اربعة اشهر عن 85 عاماً.. وقد ظل حتى اللحظة الاخيرة من حياته مصرا على ان ماهية الانسان تكمن في وجوده، معلنا ان الوجودي الحق هو " المتوحد الاكبر " الذي لا يحرص على شيء قدر حرصه على حريته، الحرية الخالصة: " التي ان اشترطت شيئا فهو الخلو من كل شرط " .

***

علي حسين – رئيس تحرير صحيفة المدى البغدادية

في المثقف اليوم