شهادات ومذكرات

شهادات ومذكرات

كنا في الوطن المصادر المحبوس نستغيث، حين انكسرت رماح تغلب وترادفت خيولها مهزومة في الحروب، لم نعد نطيق ضجيج الشعارات ولغو الكلام، نتفيأ تحت جدار مثل السخام، قبل بلوغ النهار ذروته، ننتظر مقدم عبد الامير عباس* (ابو شلال)، متلفعاً بمعطفه الاسود الطويل، متباهياً بقامته الطويلة التي لم تنحن لرياح الفصول، في الجلسة نتبادل آخر اخبار جرائم (الحلفاء)، وأكاذيب بوش الأب،

السماء ملبدة بالسموم والرصاص، البرد يقصم ظهورنا، ينخر في العظام، الناس تقتات من جوع على الحشف وطحين نوى التمر المشوي على مدفأة (علاء الدين) النفطية، ياهولها تلك الايام، التي فتحت أبوابها للجحيم، ياهولها فاغرة أشداقها تلتهم الصغار، وغولها يفترس النساء لحظة الوحام، كأنما مدن العراق ليل من مجون، في المساء نختار أحد بيوتنا المتقاربة، لنلتقي نستعيد ما بدأنا به وقت الصباح، (التشكيلي محمود حمد، المهندس سامي الكفلاوي، المعلم المتقاعد أسد نعمة، واحياناً ينضم الينا الشاب الكوردي طه جمال)، نتطلع بلهفة لزيارة صديقنا عقيل الخزاعي (أبو ذر)، كان يدوس على الخطر، ننتظر منه أن يدس بين ايدينا كتاباً ممنوعاً، نتداول قراءته بسرعة.

يا بختك يا ابا شلال كأنك لا تعطش ولا تجوع، ولا تشعر ببرد، سيان عندك إن تناوبنا على ارتداء معطفك ساعات الليل، حين يقصم ظهورنا البرد، حتى بتنا نردد قولاً شهيراً (لقد خرجنا جميعاً من معطف أبو شلال)، عوضاً عن (غوغول)، تُدثّرَنا بيديك الصلبتين، حين نملّ من خصامك، أم نكابد من ضجر نبحث عن بلاد تضم رفاتنا، ونهرب من قاتل يتوعدنا، يقايضنا برغيف أسود، وأسوء أنواع السكر والشاي، كنت تسخر منا حين يرسم الخوف بصمته من حولنا، تهمس لنا بنبؤاتك وتعيد لنا قصة (المعطف)، التي سمعناها منك مراراً، لا بأس من إعادتها هذه المرة، يقول أبو شلال:

في العام 1959، كانت موسكو وبكين محجة لنا، محظوظ من يظفر بزيارة لأحدى (قلاع الاشتراكية) يوم ذاك، كنت عضواً في أحد الوفود المدعوة لزيارة الصين الشعبية، كان الوفد يضم عدداً من الشخصيات النقابية والقيادات الحزبية، للأحزاب والقوى السياسية وقتئذٍ، تضمن برنامج الزيارة لقاءً بالزعيم الصيني (ماوتسي تونغ)، الذي كان يتمتع بقامة طويلة خلاف أبناء الصين المعروفين بقصرها، وأثناء المصافحة خلع (ماو) معطفه، وضعه على كتفي لألبسه، كنت (أرهى) منه، لم يتخيل أنني الأطول فأهداني إياه - وصادف ان ولدت زوجتي ابنتها البكر فاسميتها (بكين)، انتهت رواية أبي شلال- .

تبادل ماو وأبو شلال الابتسامات، ظلت تلك الابتسامات مطبوعة على محيا عبد الأمير عباس طيلة عقود من الزمن، كلما تحدث عن تجربة الصين (الاشتراكية)، لم يخفت بريقها حتى بعد انهيار النظام السوفيتي وأنظمة بلدان شرق أوربا في مطلع تسعينات القرن الماضي. حين اُغتيلت الأحلام، وتمزقت الأماني، ورغم ضرواة الشوق لدى أبي شلال لماضيه.

حين اشتد المرض على (أبو شلال) في نهاية التسعينات، كان يشتد معه الحصار والجوع، والأمهات يغلين الحصى لصبية من غير لحم أو فتات، أوشك عبد الامير أن يتضاءل عوده، ويصفر وجهه، ترى من يرد اليه قوة جسده وبياض يديه، واخضرار روحه؟ أي ليل يضم رفاتك أيها العامل النبيل؟ مَن مِن أولادك جدير أن يرتدي معطفك من بعدك؟؟

ضاق الليل بنا حين حملناك الى مجاهل القفار والظلام، وضاقت دموع محبيك حسرة على معطفك حين عرضه ولدك الأكبر (علي) للبيع، في سوق الباب الشرقي بخمسة آلاف دينار استلمها نقدا من أحد المارة.

***

د. جمال العتّابي

..............

* عبد الامير عباس عبد المحمدي، كان عاملاً في دائرة السكك الحديد، وأحد قادة التنظيم النقابي فيها منذ أربعينات القرن الماضي، بسبب انخراطه في صفوف الحزب الشيوعي العراقي، تعرض للسجن والاعتقال عشرات المرات، في العهدين الملكي والجمهوري، كان من بين أسماء المجموعة التي ضمت سلام عادل، زكي خيري، ابو العيس، كريم احمد، عزيز الشيخ، عبد الرحيم شريف، عبد القادر اسماعيل، التي قدمت طلباً عام 1960،الى وزارة الداخلية في عهد عبد الكريم قاسم لإجازة (حزب اتحاد الشعب)، بعد أن رفضت الوزارة الطلب الأول، ومنحت الاجازة لجماعة داود الصائغ باسم الحزب الشيوعي العراقي. بتوجيه من الزعيم.

أحد أشقاء (ابو شلال) لاعب كرة القدم هادي عباس، الذي يلقب ب(خنتو) العراقي، كان يعد أشهر لاعب شغل مركز خارج اليسار في المنتخب العراقي في أعوام الخمسينات.

 

علي فضيل العربي: الشاعر علي محمود طه والمسجد الأقصى

المكان: باحة المسجد الأقصى، فلسطين الأبيّة.

التاريخ: التاسع عشر رمضان 1444 هـ الموافق للعاشر من أبريل / نيسان 2023 م.

صورة شباب من الفلسطينيين المرابطين؛ شيوخ، نساء، شباب، شابات، بعضهم يؤدي الصلاة، ويرفعون عقائرهم بالتكبير والحمدلة والدعاء، بينا كان جنود من جيش الاحتلال الصهيوني وشرطته، يحيطون بأولئك المصلين. وبالمقابل كانت هناك جماعات من اليهود والصهاينة (ذكور، إناث، اطفال، مراهقون، شيوخ) يقتحمون باحة المسجد الأقصى، وهم يمرّون على أولئك المصلّين، المرابطين، الذين يرتّلون كلام الله. ربّما كان الأولى بهم، ان يسمعوا كلام الله. لكن الظاهر أنّ على قلوبهم أقفالها، فهم يمرّون، كما تمرّ الأنعام والهوام، بل أضلّ.

كان المنظر، يوحي بأنّ مواجهات داميّة على وشك الاندلاع، بين المرابطين والمتطرّفين. لقد بلغ السيل الزبى، وتجاوز الصهاينة المدى، وحقّ الجهاد والفداء، كما قالها شاعرنا علي محمود طه منذ سبعة عقود من الذل والهوان والخنوع والاستسلام.

أجل، قبل أكثر من سبعين سنة صدح بلبل الشرق، الشاعر المهندس علي محمود طه،مغردا:

أخِي، جَاوَزَ الظَّالِمُونَ المَدَى

فَحَقَّ الجِهَادُ، وَحَقَّ الفِدَا

أَنَتْرُكُهُمْ يَغْصِبُونَ العُرُوبـ

ـةَ مَجْدَ الأُبُوَّةِ وَالسُّؤْدَدَا؟

فِلَسْطِينُ يَفْدِي حِمَاكِ الشَّبَاب

وَجَلَّ الفِدَائِيُّ وَالمُفْتَدَى

فِلَسْطِينُ تَحْمِيكِ مِنَّا الصُّدُورُ

فَإِمَّا الحَيَاةُ وَإِمَّا الرَّدَى

كانت تلك صيحة تحذير من شاعر حرّ، أدرك قبل فلول السياسيين الخطر المحدق بفلسطين والقدس والعرب والمسلمين أجمعين. لكنّ مرّت السنون والعقود، وازداد ظلم الظالمين عمقا واتّساعا، وتجاوز الآفاق، وبلغ مداه الجوزاء. كان ذلك عندما قسمت عصبة (عصابة) الأمم الظالمة خريطة فلسطين بين الطالم والمظلوم، بين صاحب الحق والمغتصب، بين ابن الأرض، أبا عن جدّ، وجدّ عن جدّ، وطائفة من شذّاذ الآفاق.

وكان هدف أوروبا النصرانيّة الكارهة لليهود والصهاينة، بشرقها وغربها وجنوبها وشمالها، التخلّص منهم – بعدما أعدمت وأحرقت منهم النازيّة الملايين في الحرب العالميّة الثانيّة - وذلك بإخراجهم من بلدانهم الأصليّة، وتسفيرهم إلى خارج الخريطة الأوربيّة، وبالضبط إلى فلسطين. ولم يكتشف زعماء بروتوكولات صهيون الخديعة، التي مازالت مستمرّة حتى الآن.

كيف انطلت حيلة التسفير على العقل اليهودي؟ كيف صدّق المواطن اليهودي بأنّ وطنه هو فلسطين، بينما ولد هو ووالده وأجداده في أروربا أو أمريكا أو إفريقيا أو آسيا؟ لماذا لم يدرك اليهود لعبة الغرب ضدّهم؟ كيف تحوّل العقاب والتهجير والتسفير والطرد المقنّن نحو فلسطين إلى سلوك إنساني وحضاري وعمل خيري وسياسة رحيمة في نظر اليهود المغفّلين؟ إنّ ما قامت به أوروبا وأمريكا في حقّ اليهود نوع آخر من التطهير العرقي، شبيه بالذي مارسته أمريكا ضد الهنود الحمر، ومارسته، أيضا، أوروبا الاستعماريّة في المستعمرات الإفريقيّة والأمريكيّة اللاتينيّة وفي البوسنة والهرسك وبورما.

لم يكن اليهود في حاجة ماسة إلى كيان دولة يجمعهم، بل كانت حاجة أوربا إلى طرد اليهود من القارة العجوز، وخداعهم، وذلك جمعهم – زورا وبهتانا – في فلسطين. لقد سعت أوروبا – بعد المحرقة الشهيرة – إلى تطهير المجتمعات الأوربيّة من اليهود، بحجة إقامة وطن لهم في (أرض الميعاد)، واتّخاذ القدس الشريف عاصمة لدولتهم اليهوديّة المزعومة. ومن حقّ اليهود – الذين خُدعوا بالتهجير والتسفير إلى فلسطين – أن يقاضوا أوروبا على إخراجهم من أوطانهم، التي ولدوا فيها ونشأوا، بوساطة إغرائهم بحلم الدولة اليهوديّة في (أرض الميعاد) المزعومة. وها هم حكام أوروبا اليوم، كما الأمس القريب والبعيد، يحرّضونهم على معاداة العرب والمسلمين – الذين أحسنوا إليهم في زمن العسرة - ويدفعونهم إلى الاعتداء عليهم ليل نهار، بالقتل والاعتقال والإبعاد والحصار، وغيرها من وسائل القمع والقهر والإرهاب المادي والمعنوي. وما اقتحام الفلول الصهيونيّة المتطرّفة باحة المسجد الأقصى المبارك إلاّ صورة من صور بثّ الكراهيّة بين أتباع الأديان السماويّة. وليعلم النصارى أن تدنيس المسجد الأقصى، واستيلاء الصهاينة عليه – لا قدّر الله – هو مقدمّة لهدم الكنائس والصوامع النصرانيّة، وفي مقدّمتها كنسية القيامة. فإن اليهود الصهاينة المتطرّفين لا عهد لهم، وكلّما عقدوا عهدا نقضوه. قال تعالى: (أَوَ كُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْدًا نَبَذَه ُ فَرِيقٌ منهم بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ) {البقرة / 100}.

أَخِي، قُمْ إِلِى قِبْلَةِ المَشْرِقَيْن

لِنَحْمِي الكَنِيسَةَ وَالمَسْجِدَا

*

يسوع الشهيد على أرضه

يعانق، في جيشه، أحمدا

متى يستيقظ اليهود من دوامة الخديعة الأوروبيّة والأمريكيّة، ويدركون بأنّ تجميعهم في أرض فلسطين، كان بغرض التخلّص منهم، وإبعادهم عن القارتين.، وإيهامهم بدولة يهوديّة، دينيّة على (أرض الميعاد)، بل على أرض ستبتلعهم جميعا، أو ستفضي بهم يوما ما إلى التيه والشرود في آدنى الأرض وأقصاها.

لقد عاش اليهود، في كنف الخلافة الإسلاميّة، في المشرق والمغرب والأندلس عيشة كريمة، فقد أحسن إليهم (و هم أهل ذمة) المسلمون، واندمجوا في أوساط المجتمع، ولم يقيموا لهم محارق، كما فعلت بهم النازيّة، ولم يطردوهم من بلدانهم كما فعلت أوروبا. فلمّا سقطت (غرناطة) آخر قلاع المسلمين في الأندلس، لم يجد اليهود ملاذا لهم ومنجاة من بطش النصارى القشتاليين، سوى بلاد المغرب الإسلامي الكبير، فاحتضنهم المسلون وأجاروهم وأكرموهم، وعاشوا في سلام وطمأنينة.

بينما، نالوا من النصارى على مرّ العصور، في المشرق والأندلس وأوروبا، قديما وحديثا، ألوانا من العذاب والقهر والتطهير العرقي والتسفير نحو فلسطين بغية التخلّص منهم. فلماذا يتصهين أغلب يهود اليوم ويقابلون الحسنة بالسيّئة، يعادون من أكرمهم وآواهم وحماهم بالأمس، ويميلون إلى من أحرقهم بالأمس القريب، وقهرهم بالأمس البعيد؟

إنّ الفكر الصهيوني المتطرّف الحالي، بيمينه ويساره ووسطه، إن جاز التعبير، يشكّل خطرا محدقا على الأديان السماويّة كلّها بما فيها اليهوديّة نفسها ؛ وقد جاوز الحدود الأخلاقيّة، بعد أن ضمن سلامة الحدود واطمأنّ، وأدرك أنّ الغضب العربي، القومي والوطني والإسلامي قد خمدت ناره واستسلم لقرارات مؤتمرات العار في مدريد وأوسلو وكامب ديفيد.

و منذ أن صدح الشاعر الحرّ علي محمود طه، تمادى ضياع فلسطين، وتجبّر الظالم، ولم يبق من روح العروبة مجدا ولا سؤددا ولا أبوّة. وأصبح تحرير فلسطين، كلّ فلسطين، قضيّة فيها نظر، بعدما اعترف العرب، سرّا وعلانيّة، بالكيان الصهيوني، تحت مسمّى (دولة إسرائيل) العبريّة.

فَفَتِّشْ عَلَى مُهْجَةٍ حُرَّةٍ

أَبَتْ أَنْ يَمُرَّ عَلَيْهَا العِدَا

*

وَخُذْ رَايَةَ الحَقِّ مِنْ قَبْضَةٍ

جَلاَهَا الوَغَى، وَنَمَاهَا النَّدَى.

و كان يوم الاثنين 10 نيسان / أفريل 2023 م، شاهدا على تطاول الباطل على الحقّ، وطغيان الظالم على المظلوم. فلول من الصهاينة يطأون بنعالهم اسفلت باحة الأقصى ويدوسون على نواصي مليار مسلم، تحت رعاية الغرب الصليبي المنافق، وحماية جنود الاحتلال. كانوا يمرّون على جماعة المصلين المرابطين أمام البوابة، وهم يرمقونهم بنظرات عنصريّة. وكان الخوف باد على ملامحهم من خلال وقع خطواتهم وحركات رؤوسهم.

و إلى أن يجعل الله، لأمة الإسلام مخرجا، سيبقى المرابطون في المسجد الأقصى شوكة داميّة في حلق الصهيونيّة، إلى أن يقضي الله أمرا كان مفعولا. وأختم قولي، بما صدح به الشاعر الحر، الأبيّ علي محمود طه، رحمة الله عليه:

فِلَسْطِينُ يَفْدِي حِمَاكِ الشَّبَابُ

وَجَلَّ الفِدَائِيُّ وَالمُفْتَدَى

*

فِلَسْطِينُ تَحْمِيكِ مِنَّا الصُّدُورُ

فَإِمَّا الحَيَاةُ وَإِمَّا الرَّدَى

***

بقلم الناقد والروائيّ: علي فضيل العربي – الجزائر

 

 

 

هي حكاية لوحدها، هذه المرأة الألمانية التي اقتحمت في وقتٍ مبكر عالم الشرق، لتنضم إلى صفوف المستشرقين الذين لفتوا أنظار البشرية إلى الكنوز الروحية الشرقية في نصوص وأشعار التصوف الإسلامي، وتعلمت من أجل ذلك اللغة العربية وهي في الخامسة عشر من عمرها، ثم اتقنت الفارسية والتركية لتترجم للرومي والحلاج، وجابت الهند والباكستان وأفغانستان بحثاً عن روح الإسلام والتصوف، وتعلمت اللغة الأوردية لتترجم أعمال محمد إقبال وقصائد شاعري الأوردية الدهلوي، وأسد الله غالب، ولتكتب عن الإسلام في شبه القارة الهندية. وقبل أن يهتم المستشرق الفرنسي لويس ماسينيون، بحكاية الحسين بن منصور الحَلَّاج ويسلط الأضواء على أقواله وأشعاره وشطحاته ومأساته، كان التصوف الإسلامي قد وجد اهتماماً أكاديمياً متصاعداً نتجت عنه مئات البحوث والكتب التي كتبها مستشرقون كبار أمثال رونالد نيكسلون وبول كراوس وكارل بروكلمان، وليس آخرهم المستشرق الإنكليزي الشهير آرثر جون آربري الذي حقق الكثير من كتب التراث الإسلامي، وهو الذي أشرف بداية الستينيات على أطروحة الدكتوراه لأستاذنا كامل مصطفى الشيبي في جامعة كمبردج، وكانت عن الفكر الشيعي والنزعات الصوفية، والتي طبعت لاحقاً بكتاب حمل عنوان «الصلة بين التصوف والتشيع».

انها المستشرقة الألمانية أنَّا - أو آنه كما تكتب أحياناً - ماري شيمل التي عاشت قصة حب صوفية، يوم سلكت طريق الشرق منذ شبابها اليافع، وكرست سنوات عمرها للبحث في الأدب والفن والخط الإسلامي والزخارف العربية، والشعر الصوفي، لكنها تميزت عن غيرها من المستشرقين بأنها انغمست إلى حد كبير بعالم التصوف، بل وكرست حياتها الشخصية لمشروعها الاستشراقي ولنزوعها الصوفي الإسلامي الذي غير حياتها أكثر من أي شيء آخر وهي التي شهدت ظهور هتلر وصعود النازية في بلدها، مثلما شهدت افولها مع انتهاء الحرب العالمية الثانية. في كتاب سيرتها الذاتية « الشرق والغرب: حياتي الغرب- شرقية» الذي ترجمه عبد السلام حيدر ضمن المشروع القومي للترجمة في مصر وبدعم مادي من معهد جوته تتحدث شيمل عن طفولتها وصباها، والسنوات الأولى لما بعد الحرب، وحياتها في مدينة ماربورغ، وصولاً إلى العام 1952 حين انتقلت إلى تركيا أستاذة في كلية الإلهيات بأنقرة وزياراتها لإسطنبول وقونية مدينة جلال الدين الرومي، ثم عبورها إلى الجانب الآخر للأطلنطي لتشغل كرسي الثقافة الهندو- إسلامية في جامعة هارفارد الأمريكية، ومع أنها أمضت ربع قرن هناك، إلّا أنها تكتب: « رغم كل الأشياء الجميلة، ورغم النجاحات الكبيرة التي لم اتوقعها قط، ورغم كل الصداقات الرائعة، فإن الولايات المتحدة لم تصبح وطناً لي قط «، ذلك أن روحها منجذبة إلى الشرق منذ قرأت يوماً وهي مازالت صبية حكاية الحكيم الهندي والغلام المسلم التي تنتهي بالعثور على نعش أكبر ملوك العالم، وقد كُتبت عليه جملة أصابتها بما يشبه الصاعقة « الناس نيام، فإذا ماتوا انتبهوا «. وفي عام 1941 أصابتها صاعقة ثانية باطلاعها على ديوان « المثنوي» لمولانا الرومي: « وحين أصبح الديوان بين يدي أصابني شيء مثل الصاعقة، وقد بقيت منذ ذلك مخلصة له، حججتُ كثيراً إلى ضريحه في قونية». وارتحلت «سيدة الاستشراق» كما تُلقَب، عبر الشرق فزارت بلداناً عربية كثيرة منها سوريا والأردن ومصر وتونس والمغرب والسعودية واليمن والكويت والبحرين، كما زارت بلدان وسط آسيا مثل باكستان وأفغانستان والهند واندونيسيا.

كانت أنَّا تحب أحياناً أن تستخدم اسم «جميلة» في بحوثها وكتاباتها، وهو اسم تدليل أعطاه لها أحد زملائها العجائز في برلين كما تقول، وفي زيارة لها لبيت أحد الأصدقاء الأتراك سألها سيد البيت : هل وردت الكلمة في القرآن؟. قلت: لا، فقط صيغة المذكر «جميل» في سورة يوسف «صبر جميل». وقد فُتنت جميلة بكل ما يمت للإسلام بصلة، وتأثرت عميقاً بالطقوس المولوية وما يرافقها من موسيقى تضعها في حالة من «نشوة الوصال»، مثلما ارتحلت كثيراً لتتقصى الموسيقى الفارسية الدينية، والموسيقى الهندية الكلاسيكية، والموسيقى الباكستانية الشعبية، وتصل إلى ينابيعها واصولها ومعانيها الروحية، فضلاً عن بحوثها وكتبها وتحقيقاتها التي يصعب حصرها، والتي أنجزتها منذ تأثرها الأول بالمستشرق المجري جولد تسيهر حين قرأت محاضراته عن الإسلام، ويوم وجدت نفسها في العام 1945 معتقلة في مدينة ماربورغ بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، قامت بإلقاء أول محاضراتها في الإسلاميات من أعلى حافة السرير في معتقل فيستفال هاوس!.

في ختام سيرتها الذاتية التي فرغت منها قبل وفاتها بعام واحد عن عمر ناهز الثمانين عاماً، كتبت : إذا متُ غداً، فقد عملتُ ما يكفي. وإذا ما أعطيت عشر سنين أخرى، فإن لديّ من العمل ما يكفي. ثم أتذكر شعار طفولتي « الناس نيام فإذا ماتوا انتبهوا «، وأنا أعتقد في البعث الذي لا نستطيع أن نصفه ولا أن نتصوره: وذلك حتى نُحلق ونختفي في الحب الأبدي.

لطالما تمنت «جميلة» أن تُقرأ سورة الفاتحة على نعشها، وقد تحقق لها ذلك في ختام القداس البروتستاني بمدينة بون يوم الرابع من شباط 2003 بعد أسبوع على وفاتها.

وعلى شاهدة قبرها نُقش بالخط العربي: « الناس نيام فإذا ماتوا انتبهوا «.

***

د. طه جزّاع

 

مسار نضالي وإبداعي حافل

انتقل مؤخرا إلى دار البقاء الأستاذ رشيد جبوج، وهو واحد من بين رواد مسرح الهواة بالمغرب خلال سبعينيات القرن الماضي،   بدأ نشاطه المسرحي مؤلفا وممثلا في عدد من الفرق بمدينة فاس ك"المسرح الضاحك" و"جمعية الأمل" ومن الأعمال التي شارك في تشخيصها نذكر مسرحية “حزيران شهادة ميلاد” بمدينة فاس.

كما أنه كان مناضلا نقابيا في الاتحاد المغربي للشغل، ومناضلا سياسيا   في منظمة العمل الديمقراطي الشعبي، وفي الحزب الاشتراكي الديمقراطي وأخيرا في حزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية. وقد دفع كغيره من أبناء جيله ضريبة النضال من صحته وحياته الخاصة.

انتقل الأستاذ رشيد جبوج من فاس إلى مدينة الرباط ليشتغل في جريدة أنوال لسان حزب منظمة العمل الدمقراطي كرئيس للقسم الثقافي ثم رئيسا للتحرير، واستطاع أن يمد جسور التواصل مع عدد كبير من الأدباء والمبدعين والمهتمين بالشأن الثقافي بالمغرب وأغلب الدول العربية، ويؤسس لمرحلة زاهية من العطاء الأدبي والفكري في مرحلة ملتهبة سياسيا واجتماعيا بالمغرب ميزتها عدة محطات نضالية دعت إليها التنظيمات النقابية والسياسية بالمغرب كإضراب سنة 1979م وإضراب 1981م.

في سنة 1992م التحق بوزارة الثقافة كأستاذ بالمعهد العالي للفن المسرحي والتنشيط الثقافي، وما برح أن تم تكليفه بإدارة المعرض الدولي للكتاب بالدارالبيضاء، وكان له دور فعال في إنجاح كل الدورات التي أشرف عليها، ورغم إحالته على التقاعد ظل حاضرا بقوة في المشهد الثقافي الوطني والعربي.

يقول الكاتب الجزائري واسيني لعرج في تدوينه له نشرها على صفحته بالفيس بوك ينعي فيها رشيد جبوج:

"وداعا عزيزي رشيد

فقدانك مؤلم. خسارة موجعة.

توفي صباح اليوم الأربعاء بالمستشفى العسكري بالرباط، الصحفي والمسرحي الصديق الجميل رشيد جبوج. 69 سنة، ليست إلا عمرا للمزيد من الإنتاج والتمايز. يعتبر رشيد جبوج من أهم الشخصيات الثقافية والإعلامية المغاربية. وهو واحد من الشخصيات المسرحية البارزة، بالخصوص مسرح الهواة بالمغرب.

صداقتي برشيد بدأت منذ الثمانينيات وكان قد التحق بجريدة «أنوال» ليصبح سكرتير التحرير فيها. كنت في مؤتمر ثقافي بمدينة أگادير صادف إنهاء القطيعة بين الجزائر والمغرب في نهاية الثمانينيات. وخلال عودتي إلى الجزائر مررت على الدار البيضاء والرباط وزرت الكاتب عبد القادر الشاوي في سجن القنيطرة برفقة الإعلامية والمثقفة ليلى الشافعي. في الرباط التقيت لأول مرة بالصديق رشيد جبوج الذي منحني كتابا كبيرا شمل أعدادا كثيرة من جريدة «أنوال». منذ تلك اللحظة لم تنقطع العلاقة مع رشيد في المغرب والجزائر والبلاد العربية. وكان دائما إنسانا جميلا ومحاورا هادئا.

تعازي الخالصة لوالديه وزوجته وعائلته كافة.

لروحه الرحمة والسلام".

أما رفيقه في النضال طالع السعود الأطلسي فقد حرص على إلقاء كلمة تأبينيه خلال مراسيم دفنه بالمحمدية قال فيها:

أخي ورفيقي وزميلي رشيد، تشاركنا الحياة لحوالي 55 سنة، أزيد من نصف قرن، هي حياة، روضنا خيالاتنا فيها على اختراق براري الفرح وعلى اجتياز فيافي الألم، ولم نتخيل قط أنفسنا في مثل هذا الوضع، أنت مسجى تطل على روابي النأي إلى ما وراء الأفق، وأنا أمامك وأنت تنفلت مني، بينما يشتد علي وجع لسعات الفراق..كنا طوال هذا العمر المشترك، والزاخر بالأحلام، الأمنيات، الانتصارات، المباهج، الانكسارات والآلام، كنا نرتشف الحياة بكل عذوبتها، ونحلي مرارتها بدفقات الأمل والتفاؤل، وهي التي كانت من صميم إرادتنا ومن جوهر ثقافتنا، لم يكن لنا متسع ولم نكن مستعدين كي نفسح للموت أي انحشار في خيالاتنا..

أخي ورفيقي رشيد، اليوم لا ندفنك، أنت عصي على الدفن، نعم، أتعبك الجسد وضقت به، وها قد تخلصت منه، وحررت روحك من الحجر الجسدي، لتحلق في تلك الفضاءات التي نسجتها، بين ذويك وأقربائك، من عائلتك، من أصدقائك ومن رفاقك، فضاءات المحبة بك، معك، ولك. نحن الآن، إنما، نغرسك في تربة وطنك، نغرسك نبتة " جبوجية "، والتي بها تثمر دوحات وهي فواحات بعطور الأمل، ومثمرات بكل ما يحفز على العمل.. القيم التي اهتديت بها في حياتك، وصنتها، هي حية ولا تدفن.. ذكريات حيويتك، حيث ما كنت لا تموت ولا تطمر، إسهاماتك في المتعدد من انخراطك في السعي الوطني العام للتقدم.. وقد كنت مناضلا نقابيا في الاتحاد المغربي للشغل، مناضلا سياسيا في 23 مارس، في منظمة العمل الديمقراطي الشعبي، في الحزب الاشتراكي الديمقراطي وأخيرا في حزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية.. مبدعا مسرحيا، مؤلفا وممثلا..صحفيا في جريدة "أنوال".. وفاعلا في إدارة المعرض الدولي للكتاب بالدار البيضاء.. كل تلك المجهودات، وتلك المنجزات، لا يمكن دفنها، وغير قابلة للمحو ولن يطالها غبار النسيان..

أراك الآن وأنت تنفلت من قبرك، كنت تكره الضيق وتنفر من العتمات، كنت تحب الحياة، وتتلذذ نشواتها، عبر أناقة تعاطيك معها. كان الفرح عقيدتك، به تمارس إنسانيتك وبه تعقمها، لك ولمن هم حواليك.. والأهم، بذلك الفرح تحيا وطنيتك.. الوطن عندك فرح ومحبة وانشراح وألق. الوطن يستأثر اليوم بجسدك ويخبئه في ثراه، ويزودك بطاقات الانصهار في المجرى الخالد والمتدفق للذاكرة الوطنية..

طوبى لك، أبناؤك الثلاثة، يونس، الطيب وهاجر، يحمدون لك اليوم ودائما أنك نحثتهم بإزميل النجاح، وشحنتهم بقدرة العطاء السخي لوطنهم.. رفيقة حياتك، أختنا الكاتبة بديعة الراضي، تلهج بالامتنان لك على إسنادها بحرارة معنوياتك. طوبى لك، أمك راضية عليك وقد قابلت حنانها بدافئ برك بها وكل ذويك ورفاقك ومعارفك يتدفؤون اليوم، ضد صقيع الفقد، بتلك المحبة التي تواصلت بها معهم، وبما استودعتهم من جرعات ومقاطع من لطفك ومن فرحك..

لك منا قبلات العرفان وصادق مشاعر الامتنان.. اذهب وأنت تنساب مطمئنا إلى شساعة الخلود في ذاكرة الوفاء".

طالع السعود الأطلسي"

هذا مجرد غيض من فيض استعرضناه باقتضاب للحديث عن قامة إعلامية وثقافية رحلت عن عالمنا وخلفت حزنا عميق لدى مثقفي المغرب والعالم العربي.

***

محمد محضار

 

 

كانت الحويزة كباقي مدن اقليم الأهواز خاضعة لحكم المغول وكان حاكمها حين ظهور المشعشعيين حفيد تيمور لنك المغولي فنازله محمد بن فلاح المشعشعي بمساعدة بعض القبائل العربية وجرت بينهم معارك كانت نتيجتها استيلاء المشعشعين على الحويزة وخروجها من حكم المغول عام ٨٤٥ للهجرة. توسعت رقعة هذه الحكومة فضمت مناطق عدة إليها وعند استقرارها شارك أمراؤها في المسيرة الثقافية في الأهواز حتى تحولت إلى مركز من مراكز العلم والثقافة وازدهر الأدب وانشئت فيها المدارس والمكتبات وبرز الأساتذة والمدرسون، حتى أصبحت هي الوجهة والمقصد للأدباء وطلاب العلم الذين ما انفكوا يتوافدون إلى عاصمتها الحويزة من شتى بقاع الأرض. ف:

* أنشئت عدة مكاتب ومدارس وصفوف في مختلف العلوم وباللغة العربية منها مدرسة آل أبي جامع العاملي في تستر والحويزة والخلفية والتي تخرّج منها الكثير من العلماء والخطباء و الأدباء. وأيضا مدرسة الشيخ سعد ومدرسة عبدالله الجامعي، مدرسة آلبوصوف، ومدرسة الأمير مبارك، ومدرسةالأمير خلف ومدرسة عبدالعلي عروض والعشرات غيرها . ويشير اللامي إلى أن كثرة الكتّاب والعلماء في هذه الحقبة يرجع إلى كثرة المدارس والمكاتب.

* وأنشئت مكتبات عامة تضم كتباً عدة في مختلف العلوم منها علوم الحديث، والأدب والفلك والكيمياء والطب أضخمها كانت مكتبة أمراء الحويزة وأغلب الكتب والمخطوطات الأهوازية القديمة التي وصلتنا هي في الأساس من رفوف هذه المكتبة الضخمة. كنماذج نشير إلى مكتبتي الشيخ سعد، ومكتبة السيد نعمة الله الجزائري التي كانت تضم قرابة اثني عشر ألفا من الكتب والمخطوطات.

* وأصبحت أرض الأهواز دار العلماء ومجمع الفضلاء والأتقياء ومعدن الأبرار والصلحاء ويؤكد نعمة الجزائري أن الغالب على أهلها الزهد، والذكاء ومطالعة العلوم وكتابة الكتب ونظم الأشعار وتدوينها والتصانيف العالية في أنواع العلوم منها علم النحو والصرف.

* وتوسع العلم و المعرفة إلى العامة حتى أصبحت بعض البيوت مكاتب لتعلم اللغة العربية وعلوم القرآن والأدب واشتهرت في هذا الباب بيوت كبيت الطريفي وبيت السيد عبداللطيف وبيت الشيخ نعمة و بيت آل البكاء و بيت آل النخعية المذحجية وبيت آل سبتي وبيت آل بديع و بيت آل مهدي وغيرها التي تركت بصمة في نشر المعرفة على مستوى الإقليم.

* وظهرت ثلة كبيرة من العلماء والأعلام الأهوازية وشعروا بالمسؤولية تجاه رفع راية الثقافة فلم تخمد نار العلم في هذه الأرض وبقيت الأهواز بمختلف مدنها مركزاً من مراكز العطاء والفكر على كافة الأصعدة وفي العلوم المختلفة. مؤلفون عدة منهم شرف الدين الدورقي، العالم الشهير السيد شبر بن ثنوان، السيد هادي باليل الموسوي صاحب كتاب الياقوت الأزرق الذي ذكر فيه أكثر من مئة علم من أعلام الأهواز صنعتهم مدارس الحقبة المشعشعية ويذكر اللطيفي في كتابه تاريخ الحويزة ورجالها قرابة الثلاث مئة علم من أعلام الأهواز مع سير حياتهم في كتابه المقسم إلى جزئين.

* في مجال الشعر ظهر عدد كبير من الشعراء في فترة حكم المشعشعيين، كشهاب الدين الموسوي، علي بن خلف الموسوي، إبن رحمة الحويزي، هاشم الكعبي، عبدالعظيم الربيعي وآخرون. وقد تناولوا جمیع أغراض الشعر المتعارفة من غزلٍ ومدحٍ وفخرٍ ورثاءٍ ووصفٍ وحکمة واخترعوا فن البند الذي مثّل أولى المبادرات في الشعر الحر. نسب هذا الإبداع السيد جمال الدين في كتابه "الإيقاع في الشعر العربي" إلى الأديب الشهير السيد شهاب الدين أبي معتوق الحويزي وقد أشارت نازك الملائكة في كتابها "قضايا الشعر المعاصر"إلى هذا الأمر بأن "أعظم إرهاص بالشعر الحر هو ما يعرف بالبند" الذي أبدعه شعراء الأهواز.

إذن تزامناً مع عصرٍ كان يعرفه العالم بعصر الانحطاط في الأدب العربي انتعشت الحياة العلمية والأدبية والثقافية في هذه البقعة (الأهواز) واستمر أبناؤها بالعطاء لكنّهم أمسوا تحت هالة من غبار الإهمال والإجحاف.

***

سعيد بوسامر/الأهواز

...............................

المصادر التي راجعها الباحث:

بلاوي، رسول. إنتعاش الحياة الثقافیة والأدبية في جنوب إيران والعراق.

www.research.pgu.ac.ir/~RBallawy/ViewResearch.aspx?ResearcherID=21535

بوسامر، سعيد، وفرحان، ميثم. سين وجيم لمحات من تأريخنا. نشر قهوة. الأهواز. ٢٠١٨.

اللطيفي، جليل. تاريخ الحويزة ورجالها. الأهواز. ١٤٢٢ ه.

المحمودي، قاسم. الأدب العربي في الأهواز.

www.alfalahia.blogfa.com/post/267

 

أعشاش النسور.. دراسة للقلاع الأثرية الإسماعيلية في سورية

بقلم: بيتر ويللي

ترجمة: محمد عبد الكريم يوسف

Citadels of the Syrian Mountains – I

***

في الفصل الثالث المتعلق بالجزء السوري من الدولة الإسماعيلية، نظرنا أولا بشيء من التفصيل في خلفية تاريخ سوريا، وظهور الصليبيين وصعود النفوذ الإسماعيلي انطلاقا من بلدة سلمية الصغيرة في منتصف القرن التاسع. ثم قمنا بعد ذلك بدراسة أوثق للعلاقة بين الإسماعيليين والصليبيين، بناء على واقع سياسة القوة بدلا من الاختلاف في المعتقدات الدينية. مما لا شك فيه أن الشخصية الأكثر روعة في القرنين الثاني عشر والثالث عشر هما القائد الإسماعيلي رشيد الدين سنان، وهو من سمي بـ "شيخ الجبل"، والجنرال صلاح الدين الذي سحق الجيوش الصليبية في حطين واستحوذ على ممتلكات الإسماعيلية في المناطق التي سيطر عليها.

لقد زرت دمشق في عدة مناسبات، أحيانا أثناء توقف في مطار دمشق أثناء رحلتي من طهران إلى لندن. في كل مرة كنت أشعر بالذهول على الفور من الاختلاف في الأجواء بين إيران وسورية. لم يكن هذا الاختلاف سياسيا أو جغرافيا فقط. في زياراتي المبكرة لدمشق، بدا أن هناك تمردا في طور الإعداد أو على وشك الحدوث، بينما كانت طهران ظاهريا نموذجا للهدوء. كان الجو العام و الشعور العام في البلد مختلفا تماما. على أي حال، تقع دمشق على بعد آلاف الأميال من طهران، وهناك حتما تغيير في الإيقاع الموسيقي للبلاد. لذا، يجب أن أطلب من القارئ أن يضع جانبا انطباعاته عن الحصون الإيرانية العظيمة مثل نيفسار شاه وجردكوه وسورو في الوقت الحالي، وننتقل الآن إلى القلاع الإسماعيلية في سورية.

على الرغم من الإشارة في كثير من الأحيان إلى التاريخ السياسي للإسماعيليين في سورية، إلا أنه لم يتم إيلاء اهتمام كبير حتى الآن لقلاعهم، باستثناء المقالات القصيرة مثل " قلاع الاغتيال في سوريا " التي نُشرت منذ سنوات عديدة في مجلة الخبير . لاحظ المؤلف، جون فيليبس، في بداية مقالته، أنه بصرف النظر عن مصياف، نادرا ما يزور المسافر الجديد العهد بالسفر هذه القلاع بسبب بُعدها وعدم إمكانية الوصول إليها. هذه العبارة صحيحة بالتأكيد ويعززها روس بيرنز في دليله التاريخي عن سورية في كتابه " آثار سورية". ولدى دخوله إلى قلعة الكهف، التي أعطى لها نجمتان (مما يشير إلى زيارة "جديرة بالاهتمام") كتب: "العثور على قلعة الكهف يمكن أن يكون تمرينا رياضيا كبيرا، وقد قام الإسماعيليون بعمل جيد في البحث عن موقع مخفي بعمق في ثنايا جبل الأنصارية (2) . يمكنني بالتأكيد أن أشهد على هذا كنتيجة لرحلتي الاستكشافية مع أدريان إلى قلعة الكهف في عام 1998، لكن هذا لا ينبغي أن يسبب أي مفاجأة لأن جميع القلاع الإسماعيلية تقريبا في سورية تم بناؤها في أجزاء يصعب الوصول إليها نسبيا من جبل الأنصارية، وهي منطقة جبلية كانت تسمى "جبل بحرة" في العصور الوسطى.

اكتسبت هذه الاعتبارات أهمية أكبر في سورية من إيران بسبب ضعف معاقل الإسماعيلية. بغض النظر عن حسن اختيارهم لمواقعهم في تلال "جبل بحرة"، لم يكن الإسماعيليون السوريون بعيدين جدا عن أعدائهم، سواء كانوا مسيحيين أو مسلمين. عادة ما تكون القلاع الإسماعيلية في سورية ليست كبيرة مثل تلك الموجودة في إيران، كما أنها لا تتمتع بميزة كبيرة تتمثل في المساحة والبعد التي كانت موجودة في إيران. كانت هذه القلاع مطوقة بالبحر الأبيض المتوسط من الغرب والسهول الخصبة العظيمة لسورية من الجنوب. تلال "جبل بحرة"، التي يبلغ ارتفاعها 920 مترا، هي تلال صغيرة مقارنة بجبال البرز أو مرتفعات قوهستان التي ترتفع 2140 مترا. كان هناك مساحة صغيرة للمناورة. لا يمكن التغلب على هذه العقبات الطبيعية إلا باستخدام الجغرافيا والبراعة البشرية إلى أقصى حد - بمعنى آخر، من خلال الاستفادة القصوى من عدم إمكانية الوصول إلى قلاعهم وزيادة قوة دفاعاتهم.

على الرغم من أن القلاع الإسماعيلية في سورية أصغر من نظيراتها الإيرانية، إلا أنها عموما أكبر من حيث المساحة والمدى من قلعة الحصن الصليبية الشهيرة. كان على المهندسين المعماريين تكييف تقنياتهم مع الظروف المحلية في جبل بحرة، وهو ما فعلوه بشكل مثير للإعجاب. من أجل الحصول على مساحة تخزين أكبر للمياه والإمدادات الأخرى، نحتوا في الصخور حفر أعمق. تفتقر القلاع السورية إلى العظمة التي تميزت بها بعض القلاع الإسماعيلية الإيرانية، مثل سورو. إن تسوية مسارات الحجر ليست جيدة وقد تم تدميرها على نطاق واسع. و بصرف النظر عن الكهف ومصياف على الرغم من حالتهما المدمرة السابقة، يصعب أحيانا تخيلهما كما كانا في الأصل، لكن لا بد أنهما كانا يفرضان ما يكفي من الوقار. ومع ذلك، فإن قلعة القدموس التي تتربع على قمة تلتها وقلعة الخوابي الكبيرة، مع وجود العديد من الأبراج والامتدادات من الجدران التي لا تزال قائمة، تمكننا من تكوين فكرة عن شكلها مرة واحدة كما كانت في يوم من ا|لأيام.

كان الإسماعيليون، بالطبع، في منطقة مصياف / الكهف أقرب إلى المناطق التي يسيطر عليها الصليبيون. كان قرب مصياف من قلعة الحصن ذا أهمية كبيرة: فالمسافة بينهما ليست سوى مسيرة ثلاثة أيام. أعرف المنطقة جيدا، منذ أن زرتها لأول مرة في عام 1970 ومرة أخرى مع أدريان وودفاين في عام 1998 . يوجد أسفل الكراك واد ساحر يسمى "وادي النصارى"، وهو مركز مهم للمسيحية الأرثوذكسية اليونانية.

و منذ العصر المسيحي المبكر. لا يزال دير القديس جورج، الذي أسسه الإمبراطور جستنيان في القرن السادس، مزدهرا في الوادي. يوجد الآن مصليتان في الدير، تعود الأولى منهما إلى القرن الثالث عشر الميلادي. تضم المحكمة السفلى أيضا بقايا الدير البيزنطي. كان هذا الدير في الوادي مكانا مثاليا للقاء و لمحادثات بين ممثلي سنان، الزعيم الإسماعيلي و فرسان الإسبتارية لمناقشاتهم السرية حول التكريم والمسائل الأخرى ذات الاهتمام المشترك.

على الرغم من أن كل من المسيحيين والمسلمين استعاروا المفاهيم المعمارية من بعضهم البعض، فلا يوجد دليل على ذلك في الكراك ومصياف. أراد فرسان الإسبتارية أن يكون حصنهم في الكراك رمزا لعظمة وقوة نظامهم بالإضافة إلى كونه أقوى قلعة صليبية. لقد نجحوا بالتأكيد في مشروعهم. في الواقع، لدى روس بيرنز أيضا مبرر كبير في وصف كراك "بالمثال الأعلى لبناء القلعة"، (3) إذا كان يشير إلى القلاع التي بناها الأوروبيون أو العرب. الكراك هي بالفعل قلعة استثنائية. كما يشير هيو كينيدي في كتابه "القلاع الصليبية": "إنها تدين بأمجادها للثروة التي حصل عليها الفرسان من أراضيهم الغنية، ومن دفع الجزية من المسلمين المجاورين وكرم زيارة الصليبيين."

لكن أيام مجد الكراك لم تدم طويلاً. ربما أعيد بناء القلعة في شيء يقترب من شكلها النهائي بعد وقوع زلزال عام 1170 و في عام 1202 كان هناك زلزال آخر أدى إلى مزيد من إعادة الإعمار. ولكن بعد أن غادر الملك لويس التاسع ملك فرنسا بلاد الشام، حيث أمضى الكثير من الوقت والجهد في تقوية التحصينات الصليبية، واجهت الكراك سلسلة من المصائب التي بلغت ذروتها باستسلام القلعة للسلطان المملوكي بيبرس الأول ملك مصر في عام 1271 .

يروي هيو كينيدي أنه في عام 1252 قام حشد من التركمان، يقدر عددهم بـ 10000 مقاتل بتدميرالأراضي الخصبة حول القلعة .(5) كما نقل عن ديشان قوله إن بيبرس سمح لخيوله بالرعي في " مروج ومحاصيل الكراك، وكان هذا أحد أسباب الاستيلاء عليها، حيث أن خيراتها الوحيدة وثرواتها جاءت من محاصيلها فقط، وقد استهلكتها القوات الإسلامية في ذلك الوقت في خروجها، كما رأينا، ضد المغول لمدة 17 عاما.

شن بيبرس هجومه على الجبهة الجنوبية الغربية لمدينة الكراك، بعد أن عزل القلعة بالفعل، باستخدام آلات الحصار الثقيل، المنجنيق، لكسر الدفاع الصليبي، الذي، من المفارقات، أنه تم بناؤه خصيصا لمنع مثل هذه الخطوة. كما استخدم التعدين (التقطيع) لتحقيق نتائج جيدة. استغرقت العملية برمتها مدة 26 يوما فقط قبل أن يتم تدمير الجدران بما يكفي للسماح للقوات المسلمة بالتدفق إلى داخل القلعة. تراجعت الحامية إلى الدفاعات الداخلية وفتحت مفاوضات للاستسلام. ثم سُمح للفرسان بمغادرة القلعة والذهاب بأمان إلى طرابلس. كما كان عليهم أن يقدموا عهدا بأنهم لن يبقوا في الأراضي العربية. أعاد بيبرس فورا بناء الجدران التي كانت قد تحطمت وشيد برجا مربعا جديدا ضخما لحماية هذه البقعة الضعيفة المحتملة.

سيكون من العبث إنكار أن القلاع الإسماعيلية لا يمكنها التباهي بالتناغم المعماري المرئي والنعمة الواضحة في الكراك، وخاصة عندما تكون مضاءة بشكل رائع حيث يبدو الحجر الناعم بلون العسل. لا ينبغي أن نقلل من قوة ومتانة الهيكل الهائل ودقة البناء الذي يربط معا مسارات رصف الحجارة بطريقة أشلار التي تشكل المانع والجدران الداخلية والخارجية.

لكن ضعف الكراك كان واضحا أيضا. يمكن الاقتراب منه دون صعوبة من قبل قوة مهاجمة كبيرة. لم تكن تمتلك السعة التخزينية الكبيرة للغذاء والماء في القلاع الإسماعيلية. لم تكن قادرة على تحمل هجمات المنجنيق القوية وكانت عرضة لأخطار التعدين (المدافع وغيرها) . بمجرد حدوث اختراق في الجدران، لم يعد من الممكن الدفاع عن القلعة ولم يكن أمام الحامية خيار سوى الاستسلام. كما رأينا، كانت قلعة قعين في قوهيستان مكونة من ثلاثة أجزاء مستقلة، كل واحدة فوق الأخرى، لمنع هذا الاحتمال. لم يكن لدى الإسماعيليين الموارد اللامحدودة تقريبا من الأموال والقوى العاملة المتاحة لفرسان الكراك وكان عليهم التركيز على الضروريات الاستراتيجية. أخيرا، بالطبع، لم يشكل البناء الفعلي لقلعة الكراك وغيرها من القلاع الصليبية نفس الصعوبة التي واجهها الإسماعيليون. تم بناء معظم القلاع الصليبية والعربية على أرض مسطحة نسبيا وليس على ارتفاعات كبيرة، مما جعل عملية البناء سهلة نسبيا. كان بناء قلعة نيفيسار شاه في وادي ألموت، والتي درسناها في الفصل السابع، أكثر صعوبة إلى حد كبير وكانت أكبر من حيث المساحة. وينطبق هذا أيضا على جيردكوه ومؤمن أباد والقلاع الإسماعيلية الأخرى في قوهستان. لكن وجود هذه القلاع لم يكن معروفا في الغرب، ناهيك عن التقدير لها، حتى من بعثاتي البحثية، والآن يمكننا فقط إجراء مقارنة صحيحة بين القلاع الإسماعيلية والصليبية.

يختلف المؤرخون في قوائمهم الخاصة بالقلاع الإسماعيلية السورية الرئيسية، أي تلك التي بقيت في حيازة الإسماعيليين لفترة طويلة من الزمن. يجب ألا ننسى أيضا أن قلعة أو اثنتين تقعان في لبنان الحديث. يميل الإسماعيليون السوريون الحاليون أحيانا إلى الإيحاء بأن كل قلعة تقريبا في منطقة "جبل بحرة" قد احتلها أسلافهم في مرحلة ما أو أخرى. لكنني أقترح أن المجمع الرئيسي للقلاع الإسماعيلية كان متمركزا في مصياف والكهف، ويشمل ذلك الرصافة والقدموس والخوابي والخريبة والعليقة والمنيقة وبعض القلاع الأصغر البعيدة قليلا، ولكن تنتمي إلى هذا القلب المركزي القلاع في جبل السماق بالقرب من حلب، بما في ذلك معاقل أعزاز، وباب بوزعة، وسرمين، وكفرلثا، وعناب.

من الجدير بالذكر أنه عندما زرت أنا وأدريان قلعة مارغات أو المرقب الصليبية العظيمة، تأكدنا بشكل قاطع من أن الإسماعيليين قد احتلوا القلعة لفترة قصيرة في منتصف القرن الثاني عشر قبل أن يتم بيعها إلى فرسان الإسبتارية في عام 1186. ولكن لا توجد إشارة إلى هذا الحدث من قبل دفتري أو غيره من المؤرخين. يثني عليها تي إي لورانس باعتبارها " أفضل التحصينات اللاتينية في العصور الوسطى في الشرق ... على علم بروح المهندسين المعماريين في وسط وجنوب فرنسا. '' ولكن مثل الكراك، تم تقويض برج مارغات الجنوبي العظيم من قبل قالاون، خليفة بيبرس عام 1285. استسلمت القلعة بعد شهر بعد سلسلة من القصف. (9) أكتب ما سبق كتوضيح إضافي للاختلافات بين المهندسين المعماريين الفرنسيين والإيرانيين، ولتوضيح أن القلاع الإسماعيلية، خاصة في قوهستان، تم تشييدها خصيصا في الأماكن التي كان وصول منتجات التعدين( المدافع وغيرها) فيها مستحيلا.

قلعة مصياف من القرون الوسطى

أشهر قلعة إسماعيلية في سوريا هي بلا شك قلعة مصياف، على الرغم من أن دفتري يشير إلى أن أول معقل إسماعيلي في البلاد كان القدموس، والذي اشتراه الإسماعيليون من حاكم قلعة الكهف في عامي 11٣٢-٣٣ (10) و بعد فترة وجيزة - تمكنوا من شراء قلعة الكهف من المالك الذي لم يرغب في أن تصبح القلعة ملكا لابن عمه خلال نزاع على الخلافة. ثم أخذ الإسماعيليون الخريبة من الفرنجة وفي عامي 1140–1141 احتلوا مصياف. وفي نفس الوقت تقريبا استولوا على قلاع الخوابي والرصافة والمنيقة والقليعة.

تدين مصياف بأهميتها في المقام الأول لموقعها الجغرافي. تقع البلدة والقلعة على الطريق الرئيسي في منتصف الطريق تقريبا بين بانياس على البحر الأبيض المتوسط وحماة من الشرق. وهي أيضا نقطة عقدية على الطريق الممتد شمالا من حمص إلى اللاذقية وحلب. هذه الطرق هي على الأرجح طرق قوافل قديمة وكان من شبه المؤكد أن مصياف كانت مدينة ذات أهمية معينة خلال العصر السلوقي والروماني والبيزنطي. يوجد داخل القلعة دليل على احتلال سابق على شكل أعمدة وأعمال حجرية وحجرة قبر محتملة تم حفرها في الصخر. تقع البلدة عند سفح التلال الحرجية العظيمة لجبل بحرة، والتي يمر من خلالها طريقان مهمان عبر الجبال إلى الغرب. تهيمن القلعة على السهول الزراعية الخصبة الواسعة إلى الشرق.

يمكن الحصول على أفضل منظر للمدينة والقلعة من الجنوب الشرقي. هنا، ينضم طريق مصياف إلى الطريق السريع الحديث المؤدي إلى طرطوس. إن الموقع الملائم للقلعة، الذي يحجب المدينة الواقعة خلفها جزئيا، واضح في الحال (اللوحة 22). مصياف مكان واضح لبناء قلعة، وربما كان التحصينات الأولى عربية بنيت في القرنين العاشر والحادي عشر، متأثرة بشكل كبير بالنماذج البيزنطية. غزا ريموند من سان جيل الموقع خلال مسيرته إلى طرابلس في عام 1130 . استولى عليها سنان وضمها للإسماعيليين في عامي 1140-1141 . احتل المغول مصياف لفترة وجيزة عام 1260 لكن الإسماعيليين استعادوها في نفس العام بعد الهزيمة الساحقة للمغول على يد جيوش المماليك المصرية في عين جالوت في فلسطين. في عام 1271 أجبر الإسماعيليون على تسليم القلعة للسلطان بيبرس بعد أن اشتبه بهم في التآمر ضده. استعادوا مصياف في ظل العثمانيين، وأصبحت مقر إقامة الأمراء الإسماعيليين، مثل مصطفى الذي كان له نقش محفور لنفسه في القلعة يعود تاريخه إلى عامي 1793-1794. قام الإسماعيليون المحليون ببعض أعمال الترميم المحدودة في القرن التاسع عشر، لكنها تحطمت بشكل متزايد. القلعة الآن نصب تذكاري وطني تحت حماية دائرة الآثار في دمشق. وتستقبل عددا غير قليل من الزوار الذين كانوا في عام 1998 يتمتعون بحرية التجول في القلعة.

زرت قلعة مصياف لأول مرة في 1970 وواجهت صعوبات كبيرة مع الشرطة المحلية حيث تم إنشاء معسكر للجيش في مكان قريب. في النهاية سُمح لي بالتصوير تحت إشراف صارم بمساعدة مواطن سوري محلي كان يدرس اللغة الإنجليزية مرتبطًا بفريقي. في ذلك الوقت كان هناك عداء كبير للفرنسيين الذين، كما قيل لي، قد ألحقوا أضرارا جسيمة بالقلعة أثناء الانتداب (وهو ما كان يصعب تصديقه). كانت القلعة نفسها في حالة خراب. كان العديد من الجدران الخارجية معرضة لخطر الانهيار التام. فقدت جدران القلعة معظم حماياتها وبدت من الداخل خليطا ميئوسا منه من الأنقاض التي كان من الخطر التمحيص فيها.

في تناقض حاد مع زيارتنا السابقة، في عام 1998، تم استقبالنا أنا وأدريان بحرارة وظهرنا مع مرشد رئيسي، السيد نزار علاكة. لقد تأثرت كثيرا بأعمال الترميم التي تم إجراؤها خلال الثلاثين عاما منذ زيارتي الأخيرة، والتي، إذا لم تكن دائما جيدة للغاية من الناحية الأسلوبية، فقد حافظت على الأقل على القلعة من المزيد من التدهور. حاول المرممون أيضا فهم المناطق الداخلية المحطمة قدر الإمكان. في الآونة الأخيرة، بدأ صندوق الآغا خان للثقافة برنامجا منهجيا للترميم والذي من المأمول أن يجعل قلعة مصياف في متناول السكان المحليين والسياح على حدٍ سواء (انظر الفصل 4).

المنظر الأول للقلعة كما تراه من طريق الاقتراب مثير للإعجاب بكل المقاييس. إنه يقف بفخر على بروز صخري على ارتفاع 20 مترا فوق السهل ويصنع صورة رائعة مقابل التلال الخضراء لجبل بحرة. تبدو الجدران للوهلة الأولى مكتملة بشكل ملحوظ بسبب أعمال الترميم، والحجر ذو اللون العسلي في شمس المساء يمنحها شيئا من الهالة الرومانسية المرتبطة بقلعة الحصن تتشابه الجودة الضوئية للقلعة من أي زاوية تقترب منها. إنها تتمتع بجو قلعة من القرون الوسطى بامتياز.

يقوم روس بيرنز بإنصاف القلعة عندما يكتب في آثاره المتميزة في سوريا: " يجب أن تكون مدة ساعة ونصف كافية لتفتيش القلعة (ودورة سريعة للجزء المركزي من المدينة . (تحتفظ الفترتان العثمانية والفرنسية بسحر باهت)". هذه نظرة خاطفة وغير كافية بالفعل. القلعة عبارة عن هيكل معقد ويصعب قراءته بسبب العديد من فترات العمارة المختلفة التي تضمها والتي أصبحت الآن مختلطة معًا ؛ لكنه مع ذلك مبنى مهم ذو تمييز كبير.

يقدر عدد سكان بلدة مصياف بحوالي 15000 نسمة. في بعثتي الاستكشافية في عام 1970، كان معظم المدينة لا يزال محتجزا داخل الجدران القديمة، لكن في عام 1998 لاحظت أنه كان هناك توسع كبير في عدد السكان وأن مدينة جديدة ظهرت تقريبا خارج الأسوار. لا يزال من الممكن تتبع الجدران الأصلية دون صعوبة كبيرة، على الرغم من أن المنازل والحدائق غالبا ما يتم بناؤها مقابل جدران القلعة أو يتم دمج الجدران في المباني المحلية. يبلغ ارتفاع الجدران نفسها حوالي 6.5 متر ولا تزال بعض شقوق الأسهم مرئية. التاريخ المنسوب إليها عادة هو عامي 1248/1249 لأن هذا التاريخ يظهر على نقوش مختلفة. لا تزال هناك ثلاثة أبراج من القرن الثالث عشر إلى جانب مسجد في موقع مركزي يعود تاريخه إلى القرن الثاني عشر ويربطه السكان المحليون بصلاح الدين.

كان للمدينة في الأصل أربعة أبواب رئيسية، يمكن تأريخ ثلاثة منها بالنقوش عليها. البوابة الشرقية هي الأكثر اكتمالا. يبلغ عرضه حوالي ستة أمتار وارتفاعه خمسة أمتار، على الرغم من فقدان الجزء العلوي منه. يحتوي البرج على نقشين يشيران إلى أنه أقيم عام 646 هـ (1243 م)، وهو ما يتوافق مع تأريخ مماثل على الأبراج الأخرى.

تقف القلعة على نتوء صخري بيضاوي يبلغ طوله حوالي 150 متراً وعرضه الأقصى 70 متراً. يذكرك من بعيد بسفينة ذات قوس ضيق ومؤخرة. تشكل مباني القلعة كتلة مدمجة، غالبًا ما تنقسم إلى كتل مستطيلة الشكل. من المحتمل أن يكون الارتفاع مثيرًا للإعجاب يبلغ 50 مترا. هناك بالتأكيد ستة مستويات من المباني وفي بعض الأماكن اثنان أو ثلاثة مستويات إضافية. على الرغم من أن جون فيليبس وصف القلعة بأنها " واحدة من أفضل القلاع المحفوظة في سوريا ''، إلا أنه من الصعب فك الشفرات الداخلية بسبب الأضرار التي سببتها الانهيارات الأرضية والزلازل على مر القرون، فضلاً عن محاولات تدعيمها والحفاظ على الهيكل. تم إصلاح الجدران الخارجية بطريقة عشوائية للغاية بالحجر والمواد المأخوذة من أجزاء أخرى من المبنى. في بداية القرن العشرين، تم استخدام جزء من القلعة لإيواء الفقراء، ولا شك في أن القلعة قد تم استخدامها لجميع أنواع الأغراض المماثلة.

تقع القلعة على الجانب الشرقي من البلدة وتتجمع المنازل حول قاعدتها الغربية. على الجانب البسيط من القلعة، كان هناك جدار خارجي يحيط بالقلعة على بعد 150 مترا أو نحو ذلك من الصخرة. قاعدة الصخرة 30 مترا فوق السهل. يمتد المسار من الجانب الشرقي المفتوح عبر ممر محفوظ جيدًا إلى مسار أعيد بناؤه من السلالم المؤدية إلى المدخل الرئيسي في الزاوية الجنوبية الغربية للقلعة. تم الدفاع عن نفس النهج أيضا من قبل باربيكان، الذي أصبح الآن في حالة خراب. يعد هذا مكانا ممتازا لدراسة كيفية تثبيت جدران القلعة في البروز الحجري الذي تم بناؤه عليه ولتقدير الأبراج ذات الزوايا الحادة التي تدافع عن المدخل الرئيسي، مما يمنح قوسا أقصى من النيران الدفاعية من فتحات الأسهم في الجدران وواجهات الجدران في هذه المرحلة (في الغالب أوائل القرن الثالث عشر) قوية بشكل خاص ومحفوظة جيدا (اللوحة 23). الباب الرئيسي مصنوع من خشب الأرز المرصع بشرائط حديدية. أعلاه هو صف من الماكيكولات الرائعة. تفتح هذه البوابة على غرفة ضيقة، بعرض جانبي الباب فقط. وما وراء هذه غرفة أخرى، شبه منحرف الشكل. يرتكز قوس المدخل على عمودين ربما يرجع تاريخ تيجانهما إلى القرن السادس. من هذه الغرفة يؤدي ممر قصير مرصوف بالحصى إلى اثنين آخرين إلى اليمين واليسار. تم حظر الغرفة الأمامية بواسطة حاجز يمنع الدخول، بحيث يمكن إخضاع المهاجم لإطلاق النار من ثلاث جهات. الغرفة المربعة خلفها مظلمة مثل الأخرى، والتي يجب أن تكون أيضا عيبا للمهاجم، وهناك "ثقوب قتل" في السقف.

كان من المستحيل عمليا شن هجوم جماعي على القلعة بسبب الدرج الخارجي الحاد الذي يتم الدفاع عنه بقوة بواسطة فتحات الأسهم الموضوعة جيدا. المهاجمون الذين قد يخترقون هذه الدفاعات يتم إعاقتهم من خلال الممرات الضيقة المظلمة التي يواجهونها، حيث يتعرضون في كل زاوية لنيران المدافعين. كما يشير جون فيليبس، هذا مثال كلاسيكي ومبكر جدا على المدخل المنحني، والذي تم تصميمه لكسر زخم هجوم العدو وتقييد غرفته للمناورة بمجرد اختراقه داخل القلعة. إنه مفهوم لا يمكن استخدامه إلا في القلاع المدمجة بشكل معقول. لقد رأيت من حين لآخر أمثلة على ذلك في إيران، حيث تتبع العمارة العسكرية عادة مبادئ مختلفة. بمجرد أن ينجح المهاجمون في اختراق الدفاعات الأولية يكون لديهم خياران. سيؤدي الممر المرصوف بالحصى إلى اليسار في النهاية إلى إعادتهم إلى التحصينات الجنوبية من البوابة الرئيسية، لكنهم سيكونون بعد ذلك أهدافا سهلة للمدافعين. بدلا من ذلك، سوف يضيعون في متاهة من الممرات، تحظرهم بوابات حديدية. لقد أذهلنا نظام التهوية الممتاز في عام 1998. أينما ذهبنا، عبر الأجنحة أو على طول صالات العرض الجدارية شديدة الانحدار، وأحيانا بطول 75 مترا على الجانب الغربي من القلعة، كان هناك الكثير من الهواء، مهما كان الممر الضيق الذي كان علينا الزحف من خلاله مظلما.

هناك فرق كبير آخر بين القلاع الإيرانية والسورية للإسماعيليين يتضح في مصياف. هذا هو مبدأ القلعة متحدة المركز، والتي تشير إلى قلعة داخلية أو قلعة عالية محمية بجدار محاط. كما لاحظ جون فيليبس، فإن خطة مصياف متحدة المركز تماما وقد تأثرت كثيرا في هذا من خلال تكوين الموقع. . لا يمكن استخدام هذا مرة أخرى إلا في قلاع من نفس تنسيق مصياف.

تم تخصيص مستوى الطابق الأرضي من القلعة بالكامل للدفاع والتخزين وصهاريج المياه. نظرا لأن القلعة بنيت في صخور صلبة، كان خطر التعدين أو التقشير ضئيلًا. استند دفاع القلعة إلى الجدران الخارجية القوية للغاية والمستطيلة حول المدخل، والتي تم تزويدها بعدد كبير من فتحات الأسهم. تنتمي هذه الجدران على الأرجح إلى الجزء الأول من القلعة، على الرغم من تعزيزها بشكل كبير في القرن الثالث. ينتمي المدخل المنحني إلى هذه الفترة أيضا. في المستوى الثاني من القلعة، يتم تخصيص مساحة أكبر للسكن. الجدران أرق والغرف أكبر إلى حد ما. يمثل المستوى الثالث أعلى مستوى من الجدار المحيط والمنصة التي بنيت عليها المستويات الثلاثة (أو ربما أكثر) للقلعة العالية. من الواضح أن بعض المباني قد تأخرت كثيرا، ربما القرن الثامن، لكن المبنى الأكثر إثارة للاهتمام يقع بلا شك في الطابق الرابع، والذي يمكن الوصول إليه عن طريق درج حجري. هذه سلسلة من أربع غرف، يُزعم تقليديا أنها الأحياء الخاصة لـ "شيخ الجبل"، سنان رشيد الدين نفسه. لا يوجد دليل قاطع على أن هذا هو الحال، بالطبع، حيث تم تخصيص غرف خاصة في العديد من القلاع السورية كمساكن للأمراء المحليين.

بالإضافة إلى التهوية، ظهرت براعة كبيرة في نظام المياه. قيل لنا أربع آبار أو أكثر في المستويات الدنيا. صهاريج المياه العميقة داخل القلعة رائعة للغاية. يتم ملؤها من الأنابيب، والتي لا يزال العديد منها موجودا، والتي تنقل مياه الأمطار من المستويات العليا. في عام 1970 قدرنا أن خزان المياه السفلي الرئيسي يحتوي على ثلاثة خزانات فرعية، يبلغ عرضها 50 مترا وارتفاعها 10 أمتار. كانت كبيرة بما يكفي حتى يتمكن أولاد مصياف المحليون من السباحة فيها. قيل لنا أنه يوجد على الجانب الشرقي من القلعة حمامان.

يختلف البناء المستخدم في الجدران الخارجية اختلافا كبيرا. يبلغ طول الكتلة الأكبر حوالي 80 سم، بينما يبلغ طول الكتلة الأصغر 40-60 سم. تمتلئ الفجوات بالحجارة الصغيرة التي يبلغ طولها نحو 20 سنتيمترا. في بعض الأحيان يتم وضع الحجارة في وضع قائم أو بزاوية أو يتم تثبيتها عبر الجدران لإعطاء قوة أكبر. يجب أن يكون قد تم استخدام قدر كبير من الملاط وقد نجح الكثير من هذا ولم يتم تجديده بعد. عند الفحص الدقيق، لم يتم قطع أو وضع المسارات الخارجية للحجر بشكل جيد كما هو الحال في القلاع الإيرانية، على الرغم من أن الانطباع العام يعطي شكلا سليما من بعيد. خلال عمليات الإصلاح اللاحقة، تم استخدام جميع أنواع الحجارة المأخوذة من أجزاء مختلفة من القلعة، ومن بينها فوجئنا برؤية حجر محفور بصليب ماريان الصليبي. يبلغ السماكة الإجمالية للجدران 1.80 مترا وإن كانت سماكتها خمسة أمتار.3006 قلاع سوريا

الشكل رقم 10 مخطط لقلعة مصياف

إن انطباعنا العام عن مصياف هو نموذج رائع جدا لعمارة القلاع العربية في القرنين الثاني والثالث. يضيف ارتباطها التاريخي ذوقا كبيرا. من أي نقطة على الجانب الشرقي للقلعة، يمكنك أن ترى لوحا حجريا كبيرا في السهل أدناه، والذي من المفترض أن يشير إلى المكان الذي وقفت فيه خيمة كان فيها الزعيمان المسلمان العظيمان في سوريا في ذلك الوقت، وهما تفاوض صلاح الدين السني والإسماعيلي سنان على هدنة استثنائية بينهما. مثل قلعة الحصن، فإن مصياف هي حصن يمثل القوة والسيطرة، وفي هذا الصدد بدا لي أن القلعة رمز لشخصية سنان. القلعة لها طابع أوروبي للغاية حيالها، ووهناك ما يغريك لمقارنتها بقلعة الحصن. يمكن أن تقوم مثل هذه المقارنة على أسس جمالية ومعمارية، على الرغم من أن هذه المظاهر لم يتم التعرف عليها حتى الآن.3007 قلاع سوريا

الشكل 22- قلعة مصياف في سورية تطل على المدينة القديمة

في عامي 1983-1984، أجرى الدكتور مايكل براون وزوجته من هانوفر دراسة مفصلة للغاية عن مصياف كجزء من مشروع بحثي لمعهد الآثار الألماني في دمشق حول حصون العصور الوسطى في شمال غرب سورية. في وصف مصياف، يميز الدكتور براون ثلاث فترات بناء رئيسية (الشكل 10). بصرف النظر عن التحصينات السابقة التي يجب أن تكون موجودة، فهو يؤرخ فترة البناء الأولى في القرنين التاسع والعاشر. لكن هذه الإضافات ربما كانت بدائية إلى حد ما مع جدران بسيطة ضيقة وحافظة. كان هناك عدد قليل من الأبراج المستطيلة، إن وجدت، لتقوية الدفاعات. بعد ذلك بوقت قصير، كانت هناك فترة بناء ثانية تم فيها تقوية الجدار الساتر الرئيسي، خاصة في الجانب الغربي وأضيفت الأبراج. لا يقبل الدكتور براون فرضية أن التحصينات الرئيسية قد شيدها البيزنطيون. يجادل بأن القلاع البيزنطية كانت تحتوي دائما على حامية كبيرة، والتي كانت جاهزة في أي لحظة لشن هجوم على أي قوة معادية. لكن هذا التكتيك تطلب عددا كبيرا من فتحات السالي وفشل الدكتور براون في العثور على أي دليل على وجود مثل هذه الفتحات. علاوة على ذلك، فإن عدم وجود صلبان ماريان (بصرف النظر عن الصليب الوحيد الذي رصدته) أمر غير معتاد بالنسبة للقلعة البيزنطية. كما لا يوجد دليل على أي اسم بيزنطي أو نقش لقلعة بهذا الحجم والأهمية.3008 قلاع سوريا

الشكل 23 – المدخل الرئيسي لقلعة مصياف

بعد الفتح الإسلامي لسوريا عام 634، أعيد بناء العديد من القلاع وقام بتوسيعها الحكام المسلمون المحليون، ولكن لم يكن هذا هو الحال مع مصياف، حتى بعد أن استولى الصليبيون على القلعة في عام 1103 و صارت في أيدي الإسماعيليين في عام 1140. في رأي الدكتور براون، كانت فترة البناء الثالثة والأكبر في مصياف في الربع الأول من القرن الثالث عشر عندما كانت لا تزال تحت الاحتلال الإسماعيلي. يظهر التاريخ 620 هـ (1223) على عمارة عند مدخل القلعة. تم تعزيز المواقع الدفاعية بشكل كبير، خاصة لتحمل تأثير كتل ضخمة من الحجر، تزن أحيانا نصف طن، التي ألقاها المغول. تم بناء الأبراج أو تعزيزها ورفع الحصن بأكمله إلى أعلى مستوى من الدفاع. كما تم تعزيز أسوار المدينة بالمثل. مصياف هي بالتأكيد واحدة من القلاع البارزة في الوجود وتعكس عبقرية العمارة العسكرية الإسماعيلية.3009 قلاع سوريا

الشكل 24- البوابة الرئيسية لقلعة القدموس

ويختتم الدكتور براون بالقول إن فترة بناء رابعة ربما كانت متوقعة بعد أن استسلم الإسماعيليون لمصياف للسلطان بيبرس عام 1271، ولكن هناك القليل من الأدلة على ذلك، على الرغم من أن بيبرس أعاد بناء قلعة شيزر المجاورة عام 1261. يقدم الدكتور براون تفسيرين محتملين . ربما لم تكن مصياف بحاجة إلى المزيد من التحصينات أو الترميم بعد أن احتلها الإسماعيليون لمدة 30 عاما أو أن الوضع الاستراتيجي والسياسي قد تغير إلى درجة أن القلعة فقدت أهميتها العسكرية. في ملحق لعمله، يقدم الدكتور براون الترجمة الألمانية لثلاثة عشر نقشا وجدها، يرجع تاريخ معظمها إلى القرن الثالث.3010 قلاع سوريا

الشكل 25- منظر لقلعة الرصافة من قرية مجاورة

في عام 1970 أصر مرشدي السوري على وجوب زيارة ضريح سنان وقصره في مصياف. كان هذا المكان يقع على تل أعلى من القلعة بمقدار 890 مترا. قيل لنا أن القصر تم بناؤه في الأصل من قبل علي محمد قبل حوالي 200 عام من سنان كمدرسة، وقد أحب الموقع لدرجة أنه حوله إلى مسكن خاص به. إنه مبنى مثير للاهتمام خضع للعديد من التعديلات منذ ذلك الحين. تم اطلاعنا على غرفة قيل لنا أنها مسجد سنان. وبجوارها غرفة أخرى تحتوي على مقبرتين لشخصيات إسماعيلية مبكرة. تم اصطحابنا أيضا إلى مجموعة من الغرف المكونة من طابق واحد، وكان آخرها يحتوي على قبر سنان. قدم لنا مرشد إسماعيلي الشاي وأخذنا إلى حجرة القبر. احتوى هذا على تابوت حجري خشن تحت إطار خشبي مغطى بقطعة قماش خضراء. دخل زوار آخرون وقبّلوا التابوت وخرجوا وظهورهم للخلف. كان واضحا أنهم فخورون جدا بسنان الذي اعتبروه بطلا وقديسا عظيما. احتوت الغرفة المجاورة على قبور علي محمد وسليمان ونزار وعلي نهارواني. وكان الأخيران اثنان من كبار قادة سنان. يوجد قبر آخر يُزعم أنه لسنان يقع في قلعة الكهف، والتي زرتها عام 1970، وقد كرمها الإسماعيليون المحليون بنفس القدر باعتباره مثواه الأخير (انظر الفصل 14). لا يبدو أن هذا التناقض يزعج أحمد وغيره من الإسماعيليين الذين انضموا إلينا أثناء تجاذب أطراف الحديث، مستمتعين بالمنظر الرائع لمصياف ورائحة العود اللذيذة التي تنجرف إلينا من المنازل أسفل الجدران.3011 قلاع سوريا

الشكل 26- منظر لقلعة الكهف حيث الاخضرار في الطبيعة

الرصافة وغيرها من قلاع مجمع مصياف:

قبل أن نفكر في القدموس والكهف والقلاع الإسماعيلية الأخرى في سوريا، يجب أن ننظر إلى القلاع الفرعية أو الأصغر لمجمع مصياف، وخاصة بعرين والرصافة. زرت بعرين في بعثتي عام 1970. تقع على الطريق الرئيسي من حمص إلى مصياف على نتوء صخري فوق قرية لوك. لم يتبق من القلعة سوى القليل على الرغم من أنه كان يجب أن تكون مبنى ضخما. كما يوجد برج أو برجان آخران للمراقبة على طريق حماة - مصياف. في نفس العام قمنا أيضا بزيارة قلعة القاهر شمال غرب قصر سنان، وإحدى القلاع الرئيسية الداعمة أو التابعة لمصياف. قيل لنا أنها تسمى أيضًا "قلعة الفاتح" أو "القلعة القديمة"، وقد بناها الرومان في الأصل وكانت معقلا هاما للإسماعيلية. تم بناء القلعة حول قمة التل ولم يتبق منها الكثير باستثناء بعض الجدران وغرف التخزين فوق وتحت الأرض. الشجيرات كثيفة للغاية وقيل لنا أن الثعابين فيها كانت وفيرة.3012 قلاع سوريا

الشكل 27- ضريح القائد سنان قرب قلعة الكهف

وهناك موقع أكثر أهمية هو الرصافة، على بعد حوالي 10 كيلومتر من مصياف. زرتها عام 1970 وعدنا إليها عام 1998. القلعة مقامة على نتوء عالٍ بارتفاع 60 متراً فوق القرية التي تحمل نفس الاسم قبالة طريق الشيخ بدر (رقم 34) من مصياف إلى طرطوس (لوحة 25). القلعة بيضوية الشكل تقريبا طولها حوالي 75 مترا وعرضها 30 مترا. على الرغم من أنها ليست كبيرة، إلا أنها أكبر بكثير مما كانت عليه في البداية. إنها مبنية على ثلاثة مستويات من الحجر المحلي الجيد. و على الرغم من أن سنان يُنسب إليه الفضل في بنائها، إلا أنه ربما كانت هناك قلعة هنا قبل عصر الإسماعيليين. يمكن العثور على بقايا جدار مزدوج عند سفح القلعة. مدخل القلعة من الجهة الشمالية الغربية محمي بواسطة برج. وأنقاض الجدران الخارجية تتبع معالم البروز، والعديد من صالات العرض والغرف مبنية على الجدران التي تعمل بمثابة ساحات. تم بناء بعض المخازن في عمق الصخر وتمتد إلى عمق 20 مترا. ذكّرني بناؤها كثيرا بالمخازن في ألموت، والتي يمكن تفسيرها من خلال معرفة سنان الشخصية بالقلاع الإيرانية. تم بناء الصناديق فوق المخازن وأيضا تدعم الجدران داخليًا. الحجر ذو نوعية جيدة ويرتدي ملابس جيدة. يحتوي القسم المركزي من القلعة على العديد من الغرف المقببة. لا تزال الأبراج عالية جدًا وتشير إلى وجود ثلاثة مستويات على الأقل للكتلة المركزية. أكد لنا القرويون أن المياه كانت كافية وأنه في أوقات الحصار كان من الممكن جلبها من الممر المشيد إلى النهر، كما هو الحال في لاماسار في إيران. على الرغم من الشجيرات الكثيفة والأشجار التي تغطي الموقع، لا تزال هناك أطلال كبيرة تشير إلى قوة وحجم القلعة.3013 قلاع سوريا

الشكل 28- بقايا قلعة الخوابي

على الجانب الآخر من الطريق، على نفس ارتفاع الرصافة، توجد أنقاض قلعة أخرى. يجب أن يكون جزء كبير من الأعمال الحجرية لمنازل القرية قد أتى إما من هذه القلعة أو الرصافة. و سواء كانت هذه هي القلعة الأقدم المذكورة قبل أن يبني سنان الرصافة أم لا، لا نعلم الحقيقة . من المرجح أن تكون القلعتان موجودتان ومحصنتان في زمن سنان، حيث إنهما تسيطران تماما على الطريق عبر الجبال.

قلعة القدموس

يحتل القدموس موقعا مركزيا في شبكة القلاع الإسماعيلية في جبل بحرة. تقع غرب مصياف على الطريق المؤدي إلى بانياس على ارتفاع 1170 متر. يرتفع الطريق من مصياف عبر الريف الصخري الرائع مع آفاق واسعة من الوديان العظيمة والوديان الضيقة. المنطقة خصبة للغاية على الرغم من الصخور العديدة التي تتناثر هنا وهناك من المرتفعات. على وجه الخصوص، يبدو أن نباتات التبغ تزدهر، وكذلك الحبوب والقطن. في عام 1998، تم توسيع الطريق وتم توقيفنا من وقت لآخر بسبب تفجيرات الديناميت للصخور الموجودة أمام الطريق التي يتم شقها.

يمكن رؤية مدينة قدموس من مسافة بعيدة وتقع على قمة عالية في التلال. تنتشر في دائرة شبه كاملة قلاع الخوابي، والكهف، والعليقة، والمنيقة، والخريبة، وبالطبع قلعة مصياف ليست بعيدة جدا عن شيزر في الشمال الشرقي. للوصول إلى معظم هذه القلاع في الوقت الحاضر، عليك أن تسلك الطريق المؤدية إلى القدموس ثم تتفرع ناحية اليمين أو اليسار. قام الصليبيون بالفعل بمحاولة فاشلة للسيطرة على هذه المنطقة. في عامي 1132-1133 طرد الطليبيون من القدموس عندما باع الحاكم المسلم المحلي القلعة للإسماعيليين. كان هذا الشراء مفتاحا هاما حاسما للوجود الاسماعيلي في المنطقة. و قبل ذلك الوقت، كما لاحظنا في الفصل الثالث، فقد حاول الإسماعيليون عبثا الحصول على موطئ قدم دائم إلى الشمال في منطقة حلب وفي الجنوب حول دمشق. الآن وللمرة الأولى صار لديهم قلعتهم المستقلة الخاصة بهم، وانطلقوا من القدموس و تمكنوا من السيطرة خلال السنوات السبع أو الثماني القادمة على القلاع التي ذكرتها أعلاه. نحن لا نعرف إلا القليل عن كيفية السيطرة على بعض هذه القلاع، وحتى ظهور سنان على الساحة، أمضى الإسماعيليون السنوات الفاصلة في تعزيز سلطتهم.

في القرن الثاني عشر الميلادي عندما احتل الإسماعيليون القلعة، نلاحظ أنه لا بد أن القدموس كانت مدينة مزدهرة وزاخرة مع وصول الرسل من حصون أخرى قريبة. يجب أن يكون التل الذي تقف عليه القلعة بمثابة منارة لجميع المسافرين في هذا الجزء من "جبل بحرة". وهي تبرز بوضوح في مواجهة ثنايا ووديان التلال المحيطة وهي مركز طبيعي للاتصال. وهكذا احتلت قلعة القدموس موقعا استراتيجيا في الدولة الإسماعيلية. ظلت القلعة في أيدي الإسماعيليين في ظل الاحتلال العثماني، على الرغم من تعرضها لأضرار جسيمة في عام 1838 من قبل الجنرال العثماني إبراهيم باشا، ومرة أخرى في عام 1919-1920 عندما هاجمها النصيريون، وهم طائفة شيعية منافسة لهم لها حضور قوي في المنطقة. القدموس اليوم مدينة ريفية وسوق هادئ وهي هادئة إلى حد ما، وتشتهر بالخضروات، وخاصة الفاصولياء النضرة.

كما هو الحال في مصياف، تم الآن إحاطة قلعة القدموس إلى حد كبير في البلدات الحديثة التي تقع حول التلة شديدة الانحدار التي بنيت عليها. من مسافة بعيدة (اقتربنا منها من الشمال) يكون تمييز الشكل البيضوي للقلعة أسهل بكثير مما هو عندما تكون قريبا، عندما تغطي المباني كل المنحدر باستثناء الجزء الأكثر انحدارا. يوجد بالفعل مساران فقط يؤديان إلى القمة والباقي هو الملكية الخاصة. لم يسمح لنا الملاك بالمرور في عام 1998. لقد جربنا طريقا آخر في الطرف الجنوبي وحققنا نجاحا. وبعد تسلق شديد الانحدار وصلنا إلى البوابة الأصلية المبنية على الصخرة. كان عبارة عن مبنى مربع ذو قوسين، وبشكل متعارض تم تركيب مصباح مقوس حديث وكبير على القوس الثاني. استمر المسار صعودا إلى القلعة الرئيسية على ارتفاع 70 مترا فوق القرية. كان من الصعب هنا إعادة بناء المخطط الأصلي حيث كانت المنطقة بأكملها في الجزء العلوي مغطاة بالمنازل، وقد تم بناء العديد منها منذ زيارتي الأولى في عام 1970 عندما كانت القمة واضحة بشكل معقول. كان من الممكن بعد ذلك أن نرى بوضوح القاعدة الأصلية للقلعة العالية التي أقيمت عليها بعض المباني. ومع ذلك، لا يزال بإمكاننا هنا وهناك رؤية آثار للجدران والأقواس والمداخل والأعمدة والتشكيلات، التي كانت بوضوح أجزاء من القلعة الأصلية (اللوحة 24). كان من الممكن أيضا رؤية مدخل بعض غرف التخزين تحت الأرض. إن التلال التي بنيت عليها القلعة عبارة عن مدرجات للأغراض الزراعية وخصبة بما يكفي لإطعام حامية متوسطة الحجم.

لقد كان لدينا في القدموس إحدى الحوادث المبهجة التي أحيت يوما كئيبا. بعد أن تم إعادتنا في البداية من القلعة من قبل أشخاص ليسوا ودودين للغاية، التقينا برجل مسن ساحر يعيش في منزل داخل جدار القلعة، مما جعلنا نشعر بترحيب كبير. لقد تم تنبيهه إلى وجودنا بسبب نباح كلبه، ولكن عندما أوضح مرشدنا أحمد من نحن، أصبح في الحال نموذجا مختلفا للكرم. لا يمكن أن يكون أكثر انتباها لأدريان مما كان عليه وقدم لها ببسالة مجموعة من الورود والزهور الأخرى التي تنمو في حديقته.

العليقة و المنيقة

العليقة تقع على مسافة قصيرة نسبيا شمال غرب قدموس. في عام 1970 حاولنا إيجاد طريق للوصول إلى القلعة، والتي يمكننا رؤيتها من خلال المناظير، ولكن يبدو أنه لا يوجد طريق مقبول. الآن يمر الطريق الرئيسي المؤدي إلى بانياس أسفل القلعة ولم نواجه صعوبة في العثور عليه. كانت المناظر الطبيعية من القدموس إلى العليقة نموذجية لهذه المنطقة: مناظر رائعة فوق تلال صخرية وعرة تقطعها وديان جافة. يُعتقد أن المنطقة كانت ذات يوم جزءا من قاع البحر وتم العثور على أحافير تدل على ذلك في الصخور. التربة خصبة ومزروعة في الغالب بمحاصيل التبغ. تكثر أشجار الزيتون وتجاوزنا قطعان الأغنام والأبقار المنعزلة، نتجول بسلام على طول الطرق، وكلها تبدو بصحة جيدة ولديها رعاية جيدة. الارتفاع هنا 830 مترا.

بنيت العليقة على جرف من الحجر الجيري يبلغ ارتفاعه 760 مترا. لا يزال البوابة الرئيسية و الممر الحجري القوي تقف بثبات في الجزء العلوي في مسار حجري شديد الانحدار حتى وقت قريب جدا. كانت البوابة الخشبية الكبيرة لا تزال مستخدمة ومغلقة ليلا، حيث كان الناس يعيشون داخل منطقة القلعة. لكنها سقطت فيما بعد وأزيلت من مكانها، مما تسبب في انتقال السكان إلى مكان آخر.

ينقسم موقع القلعة إلى منطقتين. توجد أربعة أقواس متشابكة كبيرة الحجم على بعد 100 متر داخل البوابة الرئيسية. لقد اندهشنا إلى حد ما لرؤية مجموعة من فتيان القرية يجلسون على كراسي بلاستيكية أرجوانية تحت الممر. لقد جهزوا مكبر صوت للموسيقى وكانوا يصنعون الشاي. افترضنا أن المبنى كان في الأصل مسجدا وسعدنا لاحقا أن نجد تخميننا مدعوما بالدكتورة زكية حنا، المؤرخة المحلية (15). سقف المسجد نصف أسطواني ومقبب. سقطت الجدران، لكن الأقواس بقيت على حالها. ويوجد بجانب المسجد بئرين. كما تذكر الدكتورة حنا أنه بالقرب من المسجد تم بناء حمام أو حمام في جدران القلعة على الجانب الغربي بطول 8.45 متر وعرض 6 أمتار، و من الصعب للغاية دخول المسجد الآن والدرجات المؤدية إليه مكسورة.

تقع بقايا مباني القلعة الرئيسية على بعد 40 مترا أخرى على قمة التل المخروطي، وعلى الرغم من أنها الآن مجرد أطلال ومتضخمة جدا، إلا أنها كانت ذات يوم كبيرة جدا. بوابة الجدار الداخلي المقوسة مثيرة للإعجاب بشكل خاص. يبلغ عرض الموقع المثلث الذي تحتله قلعة العليقة حوالي 20 مترا تقريبا ومن القلعة يتناقص طول الموقع 200 متر حتى نهاية الصخرة التي بني عليها الموقع. لا يزال من الممكن تتبع معظم الجدران المحيطة، ومن الواضح أنها قوية في بعض الأماكن. يوجد أربع غرف تخزين في الجانب الشرقي وبوابة محصنة بشكل جيد مكتملة بالآلات على الجانب الغربي. وعلى الطرف الشمالي للقلعة الرئيسية يوجد بقايا كبيرة من المباني والمخازن.

على الجانب الشمالي من طريق المدخل (على يمين مسار المدخل) يوجد حقل كبير مزروع بمساحة 20 × 30 مترا بدا فارغا تماما للوهلة الأولى. ومع ذلك، عند الفحص الدقيق، أدركنا أنها تشكل جزءا من القلعة وانتهت في هبوط كبير. يمكننا تمييز بقايا الجدار المحيط. وجدنا أيضا ما لا يقل عن اثنين من أعمدة التهوية، مما يشير إلى حقيقة وجود غرف تخزين تحتها. إذا كان هذا الحقل مدرجا في المساحة الإجمالية للقلعة، كما يجب أن يكون، فإن العليقة كانت قلعة بحجم كبير وبالتأكيد أكبر من القدموس.

ليس بعيدا عن العليقة تقع قلعة المنيقة أو المنياقة على حوالي 25 كم شمال غرب هي التي زرتها عام 1970. هذا الموقع ليس من السهل العثور عليه. يوضح تاريخ هذه القلعة عدد المرات التي تغيرت فيها الأيدي في هذه القلاع. ربما تم بناؤها لأول مرة من قبل العرب في أوائل القرن التاسع عشر ثم سقطت في أيدي البيزنطيين. انتقلت إلى الفرنجة في أوائل القرن الثاني عشر وبعد بضعة عقود، حولها في الفترة ما بين عامي 1140-1141، استولى عليها سنان وأعاد تحصينها لاحقا. ثم أصبحت ملكية فرسان الإسبتارية الذين ربما سمحوا للإسماعيليين بالبقاء كمستأجرين في القلعة، ودفع إيجار أو جزية. و كما رأينا، لم تكن مثل هذه التسهيلات غير عادية، خاصة بين الإسماعيليين وفرسان الإسبتارية. على أية حال، صارت المنيقة في أيدي الإسماعيليين مرة أخرى عندما قام السلطان المملوكي بيبرس بطرد الإسماعيليين من قلاعهم في جبل بحرة في الأعوام 1270-1273.

زرت المنيقة في عام 1970. وهي مستطيلة الشكل ومبنية بقوة على سلسلة من التلال ومحاطة بجدران بازلتية رائعة للغاية. يبلغ طول القلعة حوالي 300 متر وبعض الدفاعات والأبراج سليمة نسبيا. من المفيد أن نرى كيف استغل الإسماعيليون الموقع الدفاعي الطبيعي على أفضل وجه من خلال بناء جدران قوية من البازلت وقطع الخنادق في الصخور. تتمتع المنيقة مثل القدموس والعديد من المعاقل الإسماعيلية الأخرى في هذه المنطقة، بإطلالة رائعة على الجبال والوديان المحيطة.

***

Notes

1. John Phillips, ‘Assassin Castles in Syria,’ The Connoisseur, no. 770 (1976), pp. 287–289.

2. Burns, The Monuments of Syria, p. 176.

3. Ibid., p. 138.

4.Hugh Kennedy, Crusader Castles (Cambridge, 1994), p. 148.

5.Ibid.

6.P. Deschamps, Les Châteaux des criosés en Terre Sainte, I. Le crac des chevaliers (Paris,1994), pp. 129–132.

7.Kennedy, Crusader Castles, p. 150.

8.Cited by Ross Burns, The Monuments of Syria, p. 179.

9.Ibid.

10. Daftary, The Isma‘ilis, p. 377.

11. Burns, The Monuments of Syria, p. 153.

12. Phillips, ‘Assassin Castles in Syria,’ p. 287.

13. Ibid.

14. Michael Braune, Untersuchungen zur mittelalterlichen Befestigung in Nordwest-Syrien: Die Assassinenburg Masyaf (Damascus, 1985), pp. 318–321.

15. Zakieh Hanna, The Castles and Archaelogical Sites in Syria, trans. B. Khoutry and R. Botrus (Damascus, 1994), pp. 101–105.

تمر اليوم الذكرى الثامنة والثلاثون لوفاة المرجع الشيعي الإمامي الأكبر، آية الله العظمى محمَّد كاظم شريعتمداري، ففي الثالث مِن نيسان (أبريل) 1985 سلم شريعمداري الروح، بعد اعتباره خائناً، وظهوره في التلفزيون الإيرانيّ يعلن توبته وتوسله الخميني للصفح عنه، وهو الذي أنقذه من المحاكمة وحبل المشنقة (1963)، وذلك لتخويف بقية آيات الله المعترضين على الحكم باسم الولي الفقيه وتسمية إيران بالجمهورية الإسلاميَّة وإرعابهم، فشريعتمداريّ كان الأكبر بين المجتهدين. مات بما يشبه القتل، فقد منع عنه العلاج في طهران أولاً ثم في الخارج، هناك يروي القصة تلميذه السيد رضا الصَّدر، الشقيق الأكبر للسيد موسى الصَّدر (غُيب في ليبيا 1978).

كان آية الله رضا صدر الدَّين الصَّدر (تـ: 1994) أحد أبرز تلامذة المرجع الأكبر للشيعة في إيران آية الله العظمى محمد كاظم شريعتمداريّ (تـ: 1985)؛ والأقرب إليه، حتَّى أنه اصطفاه مِن بين المخلصين للصلاة على جنازته، والإشراف على دفنه، وهذه الوصية شهد بها أشخاص عدة، بينهم زوج ابنة شريعتمداري، ووصية المتوفى لا مندوحة مِن تنفيذها. لكن رضا الصَّدر مُنع واعتقلته القوى الأمنية، وحُقق معه وهو معصوب العينين، تحت صورة آية الله روح الله الخميني (تـ: 1989) في دائرة الأمن، ومِن قِبل مديرها شخصياً. أما جثمان شريعتمداريّ فدفن في تربة مجهولة، لا أحد يعرف لها طريقاً، وطوقت داره ودور خلصائه، ومُنع تلقي التَّعازي به.

استطاع آية الله رضا الصَّدر تدوين ذاكرته، ونشرها تحت عنوان "في سجن ولاية الفقيه"، عن السِّجن والتَّحقيق، وجوهر خصومته مع النِّظام الجديد في إيران أنه كان على رأي أستاذه شريعتمداريّ، ضد تسمية الجمهوريَّة الإيرانيَّة بالجمهورية الإسلاميَّة، والحِجة كي لا تُحسب تجاوزات الإدارة والسّياسة على الإسلام، وبالتَّالي كان رضا الصَّدر وأستاذه لا يعتقدان بنظرية "ولاية الفقيه"، وهي جوهر النِّظام الذي يريده رجال الديِّن، الفكرة التي ظهرت في كتاب الخميني "الحكومة الإسلاميَّة"، وأساسها مجموعة محاضراته بالنَّجف، وتُذاع مِن إذاعة بغداد- القسم الفارسيّ (طباطبائي، مذكراتي)، وملخصها "العلماء ورثة الأنبياء". هذا هو جوهر الحنق على الصَّدر، ومنعه مِن الاتصال بشيخه شريعتمداريّ.

ورد في مقدمة كتاب رضا الصَّدر، أنَّ الثَّورة التي كانوا يحلمون بها، انقلبت على النَّاس، وصار الإحباط فيها قريناً للإحباط في الدَّولة العباسيَّة، بعد رفع شعار إسقاط الدولة الأمويَّة، فقال حينها الشَّاعر المخضرم بين الأمويين والعباسيين، أبو العطاء السّنديّ (تـ: نحو 158هـ): "يا ليتَ جَور بني مروان عاد لنَّا/ وأن عدلَ بني العبَّاس في النَّار"، قصد الصَّدر مِن الاستشهاد بالبيت المذكور المقابلة بين العهد الشَّاهنشاهي وعهد الولي الفقيه، فلو قوبلت المظالم بين العهدين لرجحت كفة العهد الأخير فيها، وعلى الخصوص ضد الفقهاء غير المنسجمين في الاعتقاد بولاية الفقيه، ناهيك بغير الإسلاميين، مِن القوى الليبراليَّة.

اختلف المرجع محمد كاظم شريعتمداري مع توجهات روح الله الخميني، معترضاً على تسمية الدولة بالإسلامية، كما اعترض على الإعدامات، وما حدث بعدها من تصرفات رجال الدين الثوريين، فعندها اتُّهم بالتآمر، وأُخرج على الشَّاشة ليعلن توبته، والتماس الخميني العفو عنه. مع أنه أحد الذين لهم فضل كبير على الخميني في حمايته مِن حُكم قد يصل إلى الإعدام (1963)، عندما أسند إليه درجة الاجتهاد ليكون آية الله، وحينها لم يكن كذلك، ففي وقتها لم ينجز رسالة عملية في الفقه، مثل إنجاز رسالته في ما بعد "تحرير الوسيلة"، منح درجة مجتهد مِن قِبل شريعتمداري وآخرين، كي لا يُسجن أو يُعدم، (آية الله البرقعي، سوانح الأيام. نهاوندي، الخميني في فرنسا)، كذلك يُذكر أن مراجع النَّجف أصدروا بياناً اعترفوا فيه بمرجعية الخميني وذلك لحمايته، وبينهم كان الخوئي (العامليّ، نفسه). لذا أُكتفي بنفيه إلى تُركيا، وبعدها وافق الشاه على إقامته في النجف، وقد طلب ذلك، فالأتراك لم يسمحوا له ولا لغيره، مِن رجال الدين، بالخروج بالزي الديني، وله صورة هو وولده مصطفى يرتديان الملابس المدنية، وهي من الصور النادرة، نُشرت في كتاب زوجة ابنه أحمد الخميني فاطمة الطباطبائي "مذكراتي".

المجتهد لا يُحاكم

من المعروف أن القانون الإيراني -آنذاك- لا يسمح بسجن أو إعدام المجتهد أو المرجع، أي الحامل لقب "آية الله" أو "آية الله العظمى"، وذلك بحسب ما أصدرته وزارة محمد مصدق (1952-1953) في الخمسينات من القرن الماضي (انظر: العاملي، محمد باقر الصَّدر السّيرة والمسيرة، عن هفت هزار رز).

كان لدى العثمانيين مثل هذا القانون أيضاً، في معاملة الفقهاء الكبار أو المجتهدين، ومن مختلف الطَّوائف، فقد حصلت قضية ضد الشَّيخ المجتهد محمد حسين كاشف الغطاء (تـ: 1954)، سنة 1912 بسبب نشر كتاب "الدَّعوة الإسلامية إلى مذهب الإمامية"، وفيه ردَّ على نظرية النشوء والارتقاء، وقد أُشكل عليه القضاء العثماني حينها، فلم يُسجن، وإنما اكتفي بأخذ غرامة عليه، وصدر الكتاب تحت عنوان "الدين والإسلام أو الدعوة الإسلامية"، (كاشف الغطاء، عقود حياتي).

لكنَّ الخميني، عندما تولى الحكم، ألغى قانون الحصانة عن المجتهدين، وشُكلت لهم محكمة خاصة، لذا حُجز شريعتمداري في داره، وفرضت عليه حراسة مشددة، وصُودرت مدرسته وشُتت تلامذته، وكان يجري تشجيع أتباعه على الانتقال إلى تقليد الخميني بطريقة وأُخرى (أمالي السيد طالب الرِّفاعي)، ثم ظهر على شاشة التلفزيون، طالباً العفو مِن الخميني، ومعلناً توبته. مع أن الخميني كان يردد قبل استلامه للسلطة "إن أيَّ إهانة للمراجع العظام، أو لصورهم، أمر حرام شرعاً وخلاف لرضا الله تعالى، ومَن يقوم بمثل هذا العمل غير المقبول، فهو مِن عملاء الأجانب، أو مِن أزلام النِّظام" (طباطبائيّ، مذكراتي)!

موسى والخميني

تذكر فاطمة طباطبائي ابنة أخت رضا الصّدر، وشقيقه الأصغر موسى الصّدر، أنَّ خالها موسى رحل مِن إيران إلى لبنان ليؤسس المجلس الإسلامي الشِّيعي الأعلى (1969)، لإدارة شؤون الطّائفة الشيعية بلبنان، وسط اعتراضات مِن رجال دين مِن الطَّائفة الشِّيعية، وأنشأ مؤسسات للعمل الخيرية، وأهمها مؤسسة موسى الصَّدر، وكان الخميني يدعمها، قبل الثَّورة بطبيعة الحال. إلا أنَّ معترضين على الصَّدر وقريبين مِن الخميني نقلوا له عن تصرفات غير مرغوبة بين رجال الدِّين، مثل أنه كان "يحضر مجالس النِّساء وهنَّ بلا حجاب" (نفسه). لهذا كان الخميني ليس على وفاق مع الصَّدر، ولا نظن أن يكون هذا السَّبب الكافي، إذا لم يكن هناك ما هو أعمق مِن الخلاف.

توبة شريعتمداري

ظهر شريعتمداري في التلفزيون الإيراني الرسمي ليعلن توبته، ويُمجد الثورة ورجالها، وهذا نصُّ توبته: "أستغفر الله وأتوب إليه على هذا (كلمة غير واضحة) القصور، وأن أواجه مثل هذه الأعمال بشدة، وأطلب مِن سماحة آية الله العظمى الخميني دامت بركاته أن يعفو عني، بعد ملاحظة أعذاري..."

مِن المعلوم، أن إعلان التوبة من مرجع كبير يُسقطه في عيون أتباعه ومقلديه، فبالنسبة الى مثله تعد التوبة قتلاً معنوياً وروحياً؛ كذلك أنَّ إعلان التوبة تحت الإكراه، من مرجع كبير، بحجم شريعتمداري، هو إعدام مِن نوع آخر، صاحب ذلك تشويه شخصيته في وسائل الإعلام، كي تتضعضع مرجعيته، بإبراز صورة له جالساً مع الشاه، ومعلوم كم تؤثر مثل هذه الصور على المزاج العام، في وقت الهيجان الثوري (البرقعي، سوانح الأيام).

يروي رضا الصَّدر قصة سجن شريعتمداري، ومَنْع علاجه في طهران أو أوروبا، فبعد حجزه في داره، أُغلقت مدرسته، وشُّدد على حُسينيته، وعلى أقربائه وأصدقائه ومُقلديه، أصيب بمرض السرطان في "خاصرته"، وكان يُراجعه طبيب اسمه باهر، الذي نصح بنقله إلى طهران، والأفضل مِن ذلك نقله للعلاج في أوروبا، فليس هناك إمكانية لعلاجه في قمّ، لكن النظام الإسلامي وبأمر مِن الخميني نفسه منع نقله إلى طهران، وطبعاً منع مِن السَّفر إلى أوروبا.

محاولات الصدر لإنقاذ أُستاذه

أخذ رضا الصَّدر يُحرر الرَّسائل، ويرسلها إلى مكتب الخميني، من طريق كبار المراجع، في شأن وضع أستاذه، لعلها تجد أذناً صاغية للسماح بعلاجه خارج قُمّ، ولكنه لم يحصّل جواباً، ولا صدى لمناشداته ومناشدات آخرين، وقد استفحل المرض، وهذا في عُرف الفقه -بحسب مقدمة المترجم- قتلٌ مع الإصرار. بعد فوات الأوان، جاءت الموافقة على نقله إلى طهران، فأُدخل مستشفى "مهرداد"، وفي غرفة الإنعاش، صودر هاتفه الشخصي. يقول رضا الصَّدر إن شريعتمداري الذي أنقذ الكثيرين من السجناء واللاجئين في زمن الشَّاه، لم يستطع أحد إنقاذه.

كان شريعتمداري قد أوصى لرضا الصَّدر، الذي تربطه به علاقة الدرس ويُعده مِن أقرب الناس الى نفسه، أن يُصلي على جنازته، جاء في وصيته: "غسِّلوني في حُسينيتي في قمّ المقدسة، ويُصلي على جنازتي السَّيد الصَّدر، وادفنوني في الحرم، وإذا منعوكم فادفنوني في حُسينيتي". قام خمسة من رجال الدين بإبلاغ الصَّدر بالوصية، وهم: جلال الإمامي، والحاج مير جليل المنيبي، والحاج موسى شيخ زادكان، والحاج مهدي الدواتكران، والحاج أكبر المراغه جي. كان قد أبلغهم اياها شريعتمداري وهو طريح الفراش، وبينهم ابن عمّه المنيبي وأخو زوجته، وصهره الإمامي، والبقية مِن أصدقائه الخُلص.

توجيهات الولي الفقيه

أسلم شريعتمداري الرُّوح في الوقت الذي كانت الاحتفالات جارية بذكرى وفاة الإمام موسى الكاظم (ت183هـ)، فحصل الربط بين المحنتين، وكلاهما اسمه الكاظم، فوجود شريعتمداري سجيناً في بيته ثم وجوده في المستشفى تحت الحراسة، ذَكَّر محبيه بمحنة الإمام الكاظم، بحسب التقليد الشيعي الإمامي، فصار الذي يلبس السواد، حتى على الإمام الكاظم، في قمّ أو غيرها من المدن، يُتهم بالحزن على شريعتمداري. ومما اتخذته السلطة من إجراءات استعداداً لامتصاص صدمة الجمهور بوفاة مرجع من المراجع الكبار، وقد أُخرج على شاشة التلفزيون يطلب العفو من الخميني، كان التالي:

- أن لا يُسلَّم جثمانه لذويه.

- ولا تُشيَّع جنازته.

- ولا تُنفَّذ وصيته بصلاة رضا الصَّدر عليه.

- ولا يُدفن جثمانه بحسب وصيته، لا في حرم السيدة فاطمة المعصومة (أخت الإمام الرضا بن موسى الكاظم المدفونة في مدينة قُمّ)، ولا في حُسينيته في قمّ.

- منع مجالس التأبين له.

- يُعتقل كلُّ مَن يُخالف الأوامر المشددة ويُقيم عزاء له.

- يُلقى القبض على كلِّ مَن يلبس السَّواد في يوم وفاة الإمام الكاظم.

حدث بعد وفاته ما يلي:

- اعتقال رضا الصدر لأنه ذهب لتعزية ذوي شريعتمداري.

- اعتبار شكوى أهل شريعتمداري مِن قرار عدم السماح بإقامة مجلس عزاء عملاً ضد الثّورة، ومعلوم إنها تهمة خطيرة.

- نقلوا جنازته من المستشفى في سيارة خاصة، ومن الباب الخلفي، وذلك لتجنُّب المنتظرين في الخارج لغرض المشاركة في تشييعه.

- قام الحرس الثوري الإيراني بتغسيله ودفنه من دون علم أحد.

- ذهبوا به إلى حرم أو مقبرة السيدة المعصومة، وذلك للتمويه، بعد قطع الطريق، وأبلغوا أنهم سيحملون جنازته إلى بيته، لكنَّ ذلك لم يحدث، بل دفنوه في مقبرة أخرى، وهي مقبرة تسمى بمقبرة "أبي الحُسين"، وتقع بالقرب من مرافق صحية عامة، ولا أحد يعرف مكان القبر بالتحديد، كي لا يكون مزاراً يجتمع فيه محبوه ومقلدوه، أو خاصته.

- منعوا الصلاة عليه.

اعتقال الصَّدر

تحدث رضا الصَّدر عن ظروف اعتقاله شخصياً، وحجب الرؤية عنه بالقماش الأسود، وعندما طلبوا منه خلع عمامته رفض ذلك تاركاً لهم هذا التَّصرف، كي يحرجهم، وطلب خلع العِمامة كان خشية مِن النَّاس أن يشاهدوا معمماً مقبوضاً عليه مِن قبل حرس الثَّورة. ومِن المعلوم أن رضا الصَّدر، مثلما تقدم، هو شقيق موسى الصَّدر، وكانت العلاقات بين إيران وليبيا مقطوعة في زمن الشَّاه، ثم أعادها النظام الإسلامي. ذَكرت ابنة أخت رضا الصَّدر خالها وبقية خؤولتها وعمومتها، وذكرت أنه تتلمذ في الفلسفة على يدي الخميني، وهذا لم يُذكر في ترجمته الشَّخصية، كذلك لم تذكر شيئاً عن علاقته بالمرجع شريعتمداري، وعن سجن خالها الصَّدر، والسبب معروف، ففاطمة صاحبة المذكرات كانت زوجة أحمد الخميني، وصلتها بالإمام -بحسب تعبيرها- كانت مقدسة.

كان مزاج الشَّارع الإيراني متأثراً بالخطاب الثوري الإسلامي، ومقدمات الحرب مع العراق مهيمنة على الأجواء، فخلالها صُفِّيَ الكثيرون من المعارضين، وبينهم عدد مِن فقهاء الدِّين، وقد مرت محنة محمد كاظم شريعتمداري، من سجنه في داره، ثم ظهوره على الشّاشة معلناً توبته، خلال الحرب وتوحيد الصَّف الإيراني ضد عدو خارجي. كان العذر في هذه الادعاءات أن مراجع آخرين لم يتفقوا مع "ولاية الفقيه"، لكنهم لم يُعتقلوا، ولم يُستتابوا. والحقيقة، أن شريعتمداري كان الأكبر بين المراجع، ويعلم الخميني منزلته وعدد مُقلديه، وأهميته وتأثيره؛ فكان الهتاف لمن لا يقرُّ بولاية الفقيه، أو يعلن رأياً ضدها: "مرك بر ضد ولاية فقيه"، أي الموت لمعارضي ولاية الفقيه (هويدي، إيران من الداخل).

اعتبر الصَّدر أن أستاذه شريعتمداري استشهد، وكان عنوان فصل وفاته "استشهاد شريعتمداري". اللافت أن شريعتمداري قد أصدر بياناً عن إعدام محمد باقر الصَّدر (العاملي، السيرة والمسيرة)، لكنَّ لا أحد مِن المراجع ولا مِن الأحزاب الدِّينيَّة رثى شريعتمداري بكلمة، ما عدا القريبين منهم، وقد غضب عليهم النّظام الإيراني.

إخواني يبارك الإعدامات

مِن الإسلاميين العرب مَن اثنى على الإعدامات، وهي في أوجها، وشجع على الإيغال بها ضد رجالات النِّظام السابق، هذا ما جاء في مقال للإسلامي الكويتي عبد الله النفيسي تحت عنوان "اثخن فيهم يا الخميني بوركت يداك"، المنشور في صحيفة "الهدف الكويتية" بتاريخ (14 حزيران/ يونيو 1979)، والتبرير هو الفساد في ذلك النظام، لاحظنا أن المقال قد ضُمن آيات قرآنية وأحاديث نبوية لإسناد تلك الفكرة، وقد وظفت تلك النصوص توظيفاً ليس في محله ولا مناسبته (نص المقال وصورة صحيفة الهدف كنتُ نشرتها في مقال تحت عنوان: عبد الله النفيسي: اثخن فيهم يا الخميني بوركت يداك، بتاريخ 12/4/2020 (مركز المسبار للدراسات والبحوث - دبي، على الرابط:

https://www.almesbar.net).

***

د. رشيد الخيون

 

 

عرفتُ سماحة الشّيخ العلّامة حسن موسى الصّفار، السّعوديّ موطنا، الإماميّ مذهبا، منذ أكثر من عشرين عاما، وأنا أقرأ في بعض نتاجه العلميّ والمعرفيّ، ثمّ تعرّفت عليه أكثر في الشّبكة العالميّة (الأنترنت) من خلال موقعه على النّت، ثمّ من خلال مقابلاته في الفضائيات، حيث وجدت عالما لا ينظر إلى الآخر المختلف أنّه مختلف عنه، دينا كان أم جنسا أم مذهبا، بل ينظر إليه قبل كلّ شيء أنّه إنسان يشاركه في بناء هذا الوجود، مستلهما من وصيّة الإمام عليّ بن أبي طالب: "النّاس صنفان: إمّا أخ لك في الدّين، أو نظير لك في الخلق".

كما رأيت فيه إنسان الوحدة الإسلاميّة، حيث تجسّدت فيه ليس كعادة الرّسميات الّتي لا تتجاوز حدود المؤتمرات، بل كان مشروعا اشتغل عليه ولا يزال يشتغل – أمدّ الله في عمره – في تحقّقه، وأصدر لذلك العديد من الكتب منها على سبيل المثال: العقلانيّة والتّسامح: نقد جذور التّطرف الدّينيّ، فقد تطرّق فيه إلى موضوعات أكثر جرأة ممّن يتغنى بالتّسامح كحالة إعلاميّة، لا كمشروع وحدوي، ومن هذه الموضوعات مثلا موضوع الخطاب الدّينيّ حيث يركز على حالة الشّعبويّة ومدى خطورتها لأنّها "تثير المشاعر العامّة للنّاس؛ لكونها تتوجه إليهم بطريقة غير منتظمة، تتخطى العقلانيّة والوقائع، وتعمد إلى تضخيم بعض الأمور، للوصول إلى نتائج تناسب الرّغبات أو الأهداف المطروحة"، أي الّتي تلق قبولا جماهيريّا وشعبويّا، فيتم تسويق الخطاب الدّينيّ لهذا الغرض بطريقة بعيدة عن الواقعية والعقلانيّة.

كما تطرّق إلى موضوع التّكفير، وربطه بالهوّيّة الدّينيّة، فيرى أنّ الانتماء الدّينيّ في أصله العام مربوط بثلاث مسارات: المسار الأول حريّة البحث والتّساؤل عن الأسئلة الوجوديّة، ليصل إلى درجة "الاطمئنان النّفسيّ، والاستقرار الفكريّ"، وهنا أشار إلى الرّأي الآخر في قضيّة المرتد، وهو أنّه "يوجب القتل حين يكون التحاقا بمعسكر العدو، أمّا إذا كان مجرد تغيير فكريّ عقديّ فلا يستحق ذلك".

والمسار الثّانيّ "تأمين المستقبل والمصير الأخرويّ، حيث يعتقد الإنسان أنّ تدينه سبيل خلاصته ونجاته في الدّار الآخرة"، وعليه تكمن خطورة التّكفير هنا أنّه "يكون افتراء على الدّين حينما لا يكون في محلّه، وللنّتائج المترتبة عليه تجاه من يصدر ضدّه"، لهذا في الكتاب يتطرق إلى قضيّة جدليّة وهي: لمن نعيم الجنّة؟، فيرى أنّ العقاب الأخروي ليس مرتبطا بدين أو مذهب، وإنّما مرتبط بإقامة الحجّة وفق العدل الإلهيّ، وهذا يستند إلى الوجدان والبرهان، فأمّا الوجدان باعتبار "أنّ الإنسان بفطرته السّليمة يرفض معاقبة من لم تقم عليه الحجّة"، وأمّا البرهان "فلأنّ ممّا يستقل به العقل هو الحكم بقبح مؤاخذة الّذي لم تصله الحجّة"، وهذا ينطبق مع النّهج القرآنيّ، {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسراء/ 15]، ولهذا يرى أنّ أغلب البشر اليوم قاصرون عن معرفة الحجّة لا مقصرون، "فالعالَم اليهوديّ والنّصرانيّ كالعالَم المسلم، لا يرى حجّة الغير صحيحة، وصار بطلانها كالضّروريّ له"، فصار أغلب النّاس بسبب البيئة وقدراتهم قاصرين لا مقصّرين، والقاصر لا يستحق العقاب.

وهنا مثلا يضرب مثلا بالشّهيد مطهري [ت 1979م] حول المسيحيين [النّصارى]، حيث يقول: "رغم أننا نعتقد بطروء التّحريف عليها – أي المسيحيّة -، لو تنظرون إلى المدن والقرى والرّهبان ورجال الدّين فيها، فهل إنّ كلّ راهب فاسدٌ وإنسان سيئ؟، والله، إنّ بينهم نسبة السّبعين إلى الثّمانين في المائة هم أشخاص أتقياء، يملكون حسّا إيمانيّا وإخلاصا، وكم علّموا النّاس التّقوى، ونشروا الصّلاح والإخلاص والطّهارة باسم المسيح ومريم، ولا ذنب لهؤلاء النّاس، وسوف يدخلون الجنّة، وأساقفتهم كذلك أيضا".

والمسار الثّالث الحماية الاجتماعيّة، فاختلاف دينه ومذهبه لا يرفع عنه الاعتبار والحماية الاجتماعيّة، "فيتمتع بمكاسب وامتيازات العضويّة"، مرورا "بعصمة دمه وماله، وطهارته، وحمله على الصّحة في أقواله وأفعاله ....."، ولهذا يرى أنّ "نعم الله شاملة ومتاحة [لجميع البشر]، على اختلاف أعراقهم وأديانهم".

ومن خلال لقائي مع سماحته كما سيأتي ذكره يرى أنّ العديد من المصطلحات ظرفيّة ومنها مصطلح التّكفير، ونحن "لسنا مقيدين كثيرا بالمصطلحات، لو وجدنا أنّ هناك مصطلحا في القرآن وفي السّنة، لكن أصبحت الظّروف غير مناسبة لاستخدام هذا المصطلح؛ لا مشكلة في أن يكون هناك مصطلح آخر، مثلا: نحن الآن حينما نعبّر عن شخص تُوُفّي بأنّه "هلك"، هذا مصطلح سيء عندنا، فلا نقول "شيخ فلان هلك"، بينما القرآن الكريم يستخدم هذه الكلمة في نبي الله يوسف - عليه السّلام - {حَتَّى إِذَا هَلَكَ} [غافر/ 34]، فإذا قد يكون هناك مصطلح في وقت من الأوقات متداول، في وقت آخر تكون هناك ظلال سيئة لهذا المصطلح، نحن لسنا مجبرين على استخدام مصطلح له ظلال سيئة، يمكننا أن يكون عندنا مصطلح جديد"، وعليه ممّا سبق ندرك مدى تأثير التّكفير على الهوّيّة الدّينيّة خصوصا إذا ضاق وترتب عليه إقصاء دينيّ ومجتمعيّ ومدنيّ من جهة، واتّسع في إطلاقه بلا ضوابط من جهة أخرى كما عند بعض الجماعات المتطرفة.

ومن الموضوعات المهمّة الّتي تطرق إليها الكتاب موضوع سننيّة الاختلاف، وربطه سماحة الصّفار بالتّفكير الملازم لعمل العقل؛ لأنّ التّفكير في نظره ينتج اختلافا، لهذا يرى "أنّ البعض يزعجه اختلاف الآراء، ويتمنّى لو أنّ أبناء المجتمع يكونون نسخة واحدة في أفكارهم وآرائهم، لكن الاختلاف نتاج طبيعيّ لعمليّة التّفكير، وإذا أردنا النّاس ألّا يختلفوا في الرّأي؛ فعلينا أن نصرفهم أو نمنعهم عن التّفكير، بأن نحظر عليهم التّفكير، أو نقنعهم بالاعتماد على من يفكر عنهم، وإذا تنازل الإنسان عن التّفكير فقد تخلى عن أهم ميزة لإنسانيته، ويكون حينئذ أسوأ من سائر الحيوانات".

ويرى "إذا كان التّفكير يؤدي إلى اختلاف الرّأي؛ فإنّ ذلك ليس أمرا سلبيّا سيئا، بل هو أمر مفيد؛ لأنّه يثري المعرفة، ويوصل إلى الرّأي الأفضل، ويبين ثغرات الآراء، وهو ما يدعو إليه الدّين، ويؤكد عليه".

لهذا ينقد الصّفار بعض المتدينين عندما "يتصوّرون أنّ ما يؤمنون به من أفكار، وما يعرفونه من أحكام، وما يمارسونه من طقوس وشعائر؛ هي حقائق دينيّة صلبة، لا تقبل المسّ والتّغيير، ولا يصح مناقشة شيء منها، ويرون أنّ من يخالفهم الرّأي في شيء منها، فهو منحرف مبتدع ضالّ مضلّ، وقد يخرجونه من الدّين أو المذهب".

وعليه "إنّ رفض الاعتراف بمشروعيّة الرّأي الآخر، والسّعي لفرض رأي واحد على النّاس؛ هو الأرضيّة الخصبة للتّطرف، ونموّ توجهات القمع والعنف، وهو ما أوصل ساحتنا الإسلاميّة لتفريخ حركات العنف والإرهاب"، "وإنّ رفض أيّ فكرة أو رأي لا ينبغي أن يقود إلى نصب العداوة لصاحب ذلك الرّأي، فلو أطلق إنسان رأيا أو فكرة خطأ وفق تقويمك، فمن حقّك أن ترفض ذلك الرّأي، لكن ذلك لا يعني أن تعادي صاحب الرّأي، أو تتبنى موقفا عنيفا ضدّ مطلق الفكرة".

وبما أنّ التّفكير حالة ملازمة للعقل؛ لهذا يخصص الصّفار موضوعا مستقلا حول التّلازم بين الدّين والعقل، فيرى أنّ بعض المتديّنين "حينما تناقشهم حول آرائهم وأفكارهم وممارساتهم على ضوء العقل والمنطق؛ يغلقون باب النّقاش والحوار، على أساس أنّ قضايا الدّين تعبديّة، وأنّ دين الله لا يصاب بالعقول"، لهذا "تدور في أوساط بعض المتديّنين أفكار تخالف العقل والمنطق، هي أشبه بالأساطير والخرافات"، "فمن ينتسب إلى الدّين، ويحمل شعاره وعنوانه، ويمارس عباداته وطقوسه، لكنّه غير مستخدم لعقله، ولا مستثمر لفكره؛ فإنّ تدينه سيكون مبتورا ناقصا، بل مشوّها قاتما".

ويرى "من مظاهر تهميش العقل في أوساط المتديّنين الجمود على فهم الأسلاف للدّين، ولا شك أنّ الظّروف متغيرة، والحياة متطوّرة، والأسلاف فهموا الدّين حسب مستواهم، وضمن ظروف عصرهم وبيئتهم، ونجد أنّ منهجيّة الدّين قائمة على مراعاة التّطوّر، لذلك تجددت الشّرائع عبر الأنبياء، مع أنّ الدّين في جوهره واحد".

لنجد كتابه السّابق صدورا وهو "الطّائفيّة بين السّياسة والدّين"، يعالج موضوع الطّائفيّة بشكل أعمق وفق كتابات في مناسبات مختلفة، منطلقا من أنّ العلاج يبدأ من الدّاخل، وليس رهين نظرية المؤامرة، لأنّ "محاولات العدو إنّما تحصل وتنجح من خلال المنافذ الموجودة في واقعنا وأوضاعنا، وهي الأرضية الخصبة الحاضنة لبذور الفتنة، الّتي يسقيها وينميها العدو"، وتشتدّ الطّائفيّة عندما يلازمها انسداد سياسيّ يقصي الآخر، ويحجب المشاركة السّياسيّة، مع سياسات التّمييز، وارتفاع العدل بين الجميع، ليلازمه التّعبئة المذهبيّة المؤججة للخلاف والصّراع بين المختلفين في المجتمع الواحد، فتحدث بهذا القطيعة الاجتماعيّة بين أتباع المذاهب كالزّواج والتّزاور والدّفن مثلا.

ويتبع هذا الكتاب كتاب "التّسامح وثقافة الاختلاف: رؤى في بناء المجتمع وتنمية العلاقات"، وإذا كان الكتاب السّابق يركز على الطّائفيّة وهي حالة سلبيّة، فهذا الكتاب يركز على التّسامح، وهي حالة إيجابيّة، منطلقا من معالجة المرض المانع من تحقق التّسامح، متمثلا في العداوة والحسد، ليدخل في أدبيات ثقافة الاختلاف واحترام الآخر، وثقافة الاعتذار وبناء مجتمع متسامح ومتعايش.

بعد هذا التّعارف المعرفيّ، والتّتلمذ على يديه معرفيّا عن طريق كتبه ونتاجه وخطبه، شاء القدر أن يشرّفني سماحته متواضعا في منزلي في ولاية السّيب بمحافظة مسقط، بتأريخ 27 ربيع الثّاني 1439هـ، يوافقه 15 يناير 2018م، لأسجل مع سماحته حلقة حواريّة يوتيوبيّة في قناتي المتواضعة (أُنْس)، بحضور مجموعة من الأخوة الباحثين العمانيين، وكان الحوار حول "تأملات في بعض قضايا التّفكير الدّيني"، ونشر الحوار كاملا في مسارات في ثقافة التّنمية والإصلاح في جزئه العاشر، والّذي ينشره مكتب سماحته في القطيف، وذكر في مستهل اللّقاء علاقته بعمان، فقد جاء إلى عمان وعمره حوالي سبعة عشرة سنة، قائلا: "دعيت إلى الخطابة لإلقاء محاضرات دينيّة، وبقيت أتردد على مسقط من سنة ١٩٧٤م إلى ١٩٧٨م، وكنت أقيم الجماعة والجمعة في مسقط، وألقي المحاضرات في مطرح، والحمد لله بالتّعاون مع مجموعة من الشّباب الواعين من أهالي مطرح، تمّ تأسّيس مكتبة باسم مكتبة الرّسول الأعظم على سطح مسجد الرّسول الأعظم على كورنيش مطرح، وتمّ إصدار نشرة شهريّة بعنوان "الوعي", ننشر فيها مقالات الشّباب النّاشئين الّذين أسّسنا دورات لتعليمهم على الكتابة والاهتمام الثّقافيّ .... والحمدلله تربى منهم مجموعة من المثقفين الذين استمروا في أفق الثقافة والفكر وأعتبر أن تجربتي في العمل الاجتماعّي نشأت وتأسّست في هذه البلاد الطيبة "سلطنة عمان" وفي مسقط ومطرح بالذّات".

ومن الابتداء ذكر علاقته التّواصليّة مع الرّموز الدّينيّة والثّقافيّة في عمان، حيث يقول: "وأتذكر على هذا الصّعيد زيارتي للمفتي السّابق للسّلطنة الشّيخ إبراهيم بن سعيد العبريّ - رحمة الله عليه -، وفوجئت بتواضعه مع أنّي كنت صغيرا في السّن، وكان هو كبيرا وفي مقام المفتي، وله شخصيّته العلميّة، استقبلني بحفاوة وبتشجيع، وأعجبتني جدّا أخلاقه الطّيبة، كما رأيت إحاطته في المجال العلميّ والفقهيّ لآراء المذاهب المختلفة، وأيضا كانت لي علاقة من ذلك الوقت مع مفتي السّلطنة الحاليّ سماحة الشّيخ أحمد الخليليّ - حفظه الله -، واستمرت العلاقة معه من لقاءات في المؤتمرات الّتي كانت تنعقد في الخارج، وكان يشارك فيها، وأنا كنت أشارك فيها، ولا زلت أكن له الكثير من الاحترام لفضله ولعلمه وللفكر التّسامحيّ الّذي يطرحه، أيضا تعرفت آنذاك على فضيلة الشّيخ سالم بن حمود السّيابيّ، وكان قاضيّا في المحكمة في مطرح، وجلست معه في أكثر من لقاء، ودعاني إلى منطقته في عمان الدّاخل، وذهبنا إلى هناك، وكنّا في ضيافته مع مجموعة من الأخوة الشّباب، وأعجبني تواضعه وخلقه وعلمه وأدبه لأنّه كان أديبا، وتعرّفت على ولده الشّيخ هلال والّذي كان في السّلك الدّبلوماسيّ فيما بعد، حينما تعرّفت عليه كان في إدارة المطبوعات، وبعد ذلك أصبح في السّلك الدّبلوماسيّ، وزرته قبل سنوات حينما كان سفيرا في دمشق".

وفي الحوار تحدّثنا حول جدليات عديدة، وعلى رأسها آلية الجمع بين البراءة والدّائرة الإنسانيّة، فيرى سماحته أنّ "البراءة من أعداء الدّين الّذين يكونون في موقع العداوة، وهذا ما يؤكد عليه القرآن الكريم: {لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} [الممتحنة/ 8]، ولا يجتمع التبّري مع البِرّ والقسط، وقد استعمل مصطلح "البر" الّذي استعمله مع الوالدين، بر الوالدين، نعم، نحن نفارقهم فكريّا وعقديّا وسلوكيّا فيما يرتبط بالسّلوكيات المخالفة لديننا، أما القيم الإنسانيّة العامّة فهي مشتركة بين أبناء البشر ، وإن كانوا من ديانات أخرى".

وتطرقنا كذلك إلى رواية الفرقة النّاجية، حيث يرى أنّ حديث "الفرقة النّاجية" فيه "إشكالات كبيرة في سنده , وقد ورد بعدّة إسناد، ولكن لا يوجد سند واحد من الأسانيد الّتي ورد بها هذا الحديث يكون سندا صحيحا معتمدا, وإذا تجاوزنا مسألة السّند, فإنّ هناك إشكالا في المتن, الحديث إذا قرأناه كلّه, وأنّ الفرق كلّها هالكة, أو كلّها في النّار إلا فرقة واحدة, هذا خلاف ثقافة الدّين في إشاعة الثّقة بين أبناء الأمّة الاسلاميّة ببعضهم بعضا, وخلاف ما نقرؤه من سعة رحمة الله سبحانه وتعالى, إذا اعتقدنا بهذا الحديث أنّ كلّ غير المسلمين لا يدخلون الجنّة, وضمن المسلمين لا يدخل من المسلمين إلا فرقة واحدة؛ فما الحاجة إلى جنّة كعرض السّماوات والأرض, لا نحتاج إلى جنّة بهذه السّعة, ولا نحتاج إلى حديث عن رحمة الله بهذه السّعة" أيضا.

كذلك تطرق في الحوار إلى ضرورة "وجود مصالحة بين المسلم وبين العصر الّذي يعيش فيه, المسلم إذا عاش في عصر يتصادم معه في كثير من قضايا الحياة, إمّا أن ينكفئ على نفسه، ويعيش العزلة والانغلاق, وإمّا أن تضطرب وترتبك حياته, نحن نجد في المجال السّياسيّ كثيرا من الدّينيين والإسلاميين كتبوا ضدّ الدّيمقراطيّة، وتحدّثوا ضد الانتخابات, لكن عملا الآن كثير من البلدان الإسلاميّة, وحتّى من تتّجه باتّجاه الحكم الدّينيّ مثل الجمهوريّة الاسلاميّة في إيران, قبلوا الدّيمقراطيّة كممارسة".

ثمّ التقينا مرة أخرى في ديوانيّة تجمع الميثاق الوطنيّ لصاحبها الأستاذ أبي عمار نبيل المسقطيّ في دولة الكويت بمنطقة الدّسمة، يوم الثّلاثاء 24 شعبان 1439هـ، يوافقه 8 مايو 2018م، في ندوة مشتركة حول التّسامح، تجربة عمان أنموذجا، وضيوف النّدوة سماحة حسن الصّفار من السّعوديّة، والأستاذ خميس العدويّ وكاتب المقالة من عمان، وأدارها الأستاذ حسن الخواجة من الكويت، وبيّن سماحته في كلمته أنّ "التّسامح اكتسبت في الثّقافة الحديثة معنى أوسع من اللّغة العربيّة والتّراث الإسلاميّ، بحيث تقبل الرّأي الآخر وتعترف به، ولا تعتقد أنّك تحتكر الحقّ والحقيقة، فلك الحق أنّ تعتقد ما تراه حقيقة، ولكن من حق الآخر أيضا له الحقّ أن يعترف به، ويرى أنّ هذا المصطلح شاع في أروبا بسبب هيمنة الكنيسة المتحالفة مع السّلطات الحاكمة في أروبا حينها، فجاء المصطلح لنقل المجتمع الإنسانيّ من الهيمنة والتّعصب الفكريّ والثّقافي والدّينيّ، ثمّ قرر أنّ ديننا وقرآننا يدعو إلى التّسامح والاعتراف بالآخر، وترك الحساب لله؛ لأنّه فرق بين القاصر والمقصّر والمعاند، ومع هذا كفل للجميع حقّ الاعتقاد"، وقد كتبتُ حول النّدوة واللّقاء في الرّحلة الكويتيّة، والّتي أضفتها في كتابي إضاءة قلم، الحلقة الأولى حول التّعايش.

ثمّ التقيت به مرة أخرى في فندق سفير انترناشيونال في الصّفاة بدولة الكويت في ذات الرّحلة صباح الخميس 26 شعبان 1439هـ، يوافقه 10 مايو 2018م، وسجلت معه حلقة حواريّة يوتيوبيّة على قناتي أُنْس حول تأملات في وحدة وإنسانيّة الصّيام، ودوّنتها في الرّحلة الكويتيّة المشار إليها آنفا، وبيّن سماحته فيها "أنّ من رحمة الله تعالى أن جعل شعائر المسلمين موحدة من صلاة وصيام وحج، وهذا الشّعائر توحد المسلمين؛ لأنّهم يتّفقون في فرضيتها، ويتّفقون بنسبة كبيرة في تفاصيلها العمليّة، والخلافات في مسائل فرعيّة ومحدودة، فمن المساوئ أن نترك المشترك الكثير، ونركز على المختلف القليل، والعقل يدعو إلى التّركيز حول المشترك".

وبيّن أيضا أنّ "الإنسان تكوينا يمر بحالتي جدل: حالة جدل داخليّ؛ لأنّه لا يقرر رأيّا إلا بعد جدل مع نفسه، مع عقله وشهوته، وحالة جدل خارجي بينه وبين الآخرين، إلا أنّ الجدل يكون أحيانا هادفا، كهدف الاستفادة من الآخرين، أو بهدف إفادتهم لفكرة وصل إليها، وهناك جدل غير هادف كجدل الانتصار للذّات، أو استعراض العضلات".

وحول مصطلح الغزوة والسّبي والجزية المرتبط بواقعة بدر الكبرى في رمضان في السّنة الثّانية من الهجرة، يرى "أنّ المشكلة أنا نريد أن نقرأ أحداث الماضي بلغة وعقليّة وثقافة اليوم، فالمجتمعات البشريّة في مسيرة تطوّر تصاعديّة، فهذه المصطلحات والأحكام وفق بيئة وزمان معين، وللحروب أيضا ثقافات وأعراف يتوافقون عليها حينها بين جميع الأطراف والقبائل، واليوم نعيش عصرا متقدّما فيه منظمات دوليّة لها قوانينها ومواثيقها حول الحروب، فيجب أن نلتزم بها بصيغتها الإنسانيّة المعاصرة".

ثمّ التقيت بسماحته في منزله في الجزيرة بمحافظة القطيف بالمملكة العربيّة السّعوديّة يوم الأربعاء 4 شعبان 1440هـ، يوافقه 10 أبريل 2019م أثناء زيارتي المعرفيّة إلى البحرين، وحدث بيننا نقاش في قضايا معرفيّة ووحدويّة، وكتبت عن الزّيارة في الرّحلة البحرينيّة المضافة في كتابي إضاءة قلم، الحلقة الثّانية حول التّعارف.

وآخر لقاء مع سماحته وفق تأريخ كتابتي لهذه المقالة أنّه شرفنا في جلسة حواريّة معه على قناتي اليوتيوبيّة (قناة أُنْس) حول المثقف وإنتاج المعرفة الدّينيّة، بتأريخ 23 ربيع الأول 1442هـ/ يوافقه 9 نوفمبر 2020م، عن طريق برنامج ZOOM، وحضرها جمع جيّد من عمان وخارجها، وقضيّة ربط المثقف بالمعرفة الدّينيّة نجد القليل من تطرق إلى هذا المبحث، وهو مادّة خصبة للدّراسة وفق ما يمكن تسميته بالمثقف الدّينيّ.

وكما يرى سماحته أنّ المؤسّسة الدّينيّة تنطلق "من مناهج تعليميّة تتمحور حول النّص الدّينيّ، وغالبا ما تكون هذه المناهج تقليديّة متوارثة"، لهذا تبالغ "في الحرص على الأصالة والموروث الدّينيّ"، ومراعاة الأعراف، لذا يكون "انفتاحها محدودا على تطوّرات الحياة، ومعطيات العلوم الحديثة"، فهي تعيش "هموم المجتمعات القديمة، وبلغة العصور السّابقة"، لهذا ظهر في العصر الحديث "شريحة من الأكاديميين في مختلف التّخصصات العلميّة، ومن حملة المعارف، والمهتمين بقضايا الثّقافة والمجتمع"، فأصبح هناك مزاحم ومنافس للمؤسّسة الدّينيّة في الاهتمام بالمعرفة، وإنتاجها بشكل عام، ولهذا المثقف اليوم أمام طريقين: "إمّا الابتعاد عن الاهتمام بالشّأن الدّينيّ، وتركه لأهله"، "أو التّصدي لإنتاج ثقافة دينيّة مختلفة، وممارسة دور النّقد للمؤسّسة الدّينيّة ونتاجها المعرفيّ، ممّا يدخله في صدام مع جمهورها العريض".

لهذا يدعو سماحته للخروج من هذا يتمثل في "المنافسة الإيجابيّة مع المؤسّسة الدّينيّة"، مقترحا عدّة وسائل، منها الانفتاح على مصادر المعرفة الدّينيّة، والتّواصل مع المؤسّسة الدّينيّة، من خلاله يقدّم نقده وتقويمه ومقترحاته، والتّصدّي لإنتاج معرفة دينيّة؛ لأنّ نتاجه "سيكون إضافة نوعيّة مهمّة للسّاحة الفكريّة والاجتماعيّة".

خلاصة ما تقدّم ندرك أنّ سماحة الشّيخ حسن الصّفار وهو العالم الفقيه، والمفكر الحر، لمّا يتحدث يتحدّث عن تجربة حياة مليئة بالمراجعات والتّأمل ونقد الذّات، كما أنّه لا يتحدّث وهو في مكتبه منعزلا عن النّاس، فهو اجتماعيّ واسع الخلطة بالنّاس، حيث أنّه خطيب ورمزيّة دينيّة وثقافيّة اجتماعيّة، له مشاريعه الاجتماعيّة والثّقافيّة، ويعتبر الرّمزيّة الشّيعيّة الأكثر حضورا في السّاحة الخليجيّة عموما، "بجانب له مبادرات عمليّة في الذّهاب إلى الآخر وزيارته، كزيارته لسماحة الشّيخ عبد العزيز بن باز [ت 1999م]، مفتي المملكة العربيّة السّابق، وأكبر قامة علميّة سلفيّة في العقود الأخيرة، وسماحة المفتي الحالي للمملكة الشّيخ عبد العزيز آل الشّيخ، كما زار شخصيّات علميّة أخرى كالشّيخ عوض القرني [معاصر]، ومعالي الوزير السّابق محمّد عبده يماني [ت 2010م]، والمفكر إبراهيم البليهي [معاصر]، وغيرهم كثير"، وله زيارته إلى الرّموز الدّينيّة في عمان كما أسلفنا، فضلا عن العالم الإسلاميّ، ورموز ممّن يشتركون معه في المّذهب، ولم يقتصر حضوره مع الرّموز الدّينيّة التّقليديّة، بل له حضور واسع مع المثقف والباحث والعالم من كافّة الأطياف والتّوجهات الفكريّة والمعرفيّة.

كلّ هذا أعطى لسماحة أفقا واسعا في قراءة الآخر، والنّظرة إليه، ولمّا زرت مكتبته في القطيف رأيت فيها من الكتب المعاصرة والعلميّة والدّوريّات وكتب الأديان، فهي منفتحة على الجميع فكرا ودينا ومذهبا، لهذا أرى سماحته ابتداء مدرسة فكريّة مستقلة، قبل أن يكون منضويا تحت الخطّ الإسلاميّ في المدرسة الإماميّة، له آراؤه المستقلة، وتجديده الفكريّ، ونقده الموضوعيّ المنطلق من نقد الذّات قبل الغير.

بيد أنني أيضا أرى الحسّ الإنسانيّ والوحدويّ ملازما لسماحته، فهو إنسانيّ في تعامله مع النّص الدّينيّ من خلال مدرسة الأنسنة من حيث التّأويل، أي بمعنى حضور النّزعة الإنسانيّة في تعامله مع تأويل النّصّ الدّينيّ، وتجاوز أمر التّطبيقات الفقهيّة العمليّة إلى مراجعاته حتّى العقديّة، كالولاء والبراء، والحكم على المختلف بالجنّة والنّار.

بجانب الحسّ الوحدويّ الشّموليّ من حيث الجنس البشريّ، والهوّيّاتيّ من حيث المدارس والمذاهب الإسلاميّة، والقطريّ الإجرائيّ من خلال الدّولة الوطنيّة القطريّة الواحدة، فهو ينطلق دائما من مفردة الوحدة بين الجميع تحت مظلّة الذّات الإنسانيّة الواحدة، وما ينطبق على ذلك من مصاديق قيم العدل والمساواة والحريّة، ليؤسّس العديد من المفردات الإيجابيّة كالحوار والتّعايش والتّسامح، كما يعالج العديد من المفردات السّلبيّة كالطّائفيّة والتّطرف والتّعصب والإقصاء.

***

بدر بن سالم بن حمدان العبريّ

باحث وكاتب عمانيّ

..........................

ملحوظة: نشرت المقالة سابقا في كتاب: الشّيخ حسن الصّفار: عالما ... مفكرا .... مصلحا [بأقلام عدد من الفقهاء والمفكرين والأدباء]؛ إعداد عبد العظيم حسين الصّادق، ط الانتشار العربيّ، الإمارات – الشّارقة، الطّبعة الأولى، 2022م، ص: 91 – 104.

قالت الأم تشكو حالها لإحدى جاراتها: "ابني يقضي نهاره في دكاكين الوراقين، ولا يسعى في طلب الرزق". الولد الصغير كان عمرو بن بحر البصري، عُرف فيما بعد باسم " الجاحظ " لنتوء عينيه مما جعله دميما، وكان يكره ان يناديه الناس بالجاحظ، ويحاول ان يُفهم الناس ان اسمه " عمرو " مما جعله يؤلف كتابا عن الشعراء الذين اسمهم " عمرو ". وبسبب شكله وميله للتهكم نسجت حوله الكثير من الطرائف والحكايات اشهرها التي وردت على لسانه حين قال:" ما اخجلني إلا امرأة مرت بي الى صائغ فقالت له: اعمل مثل هذا، فبقيت مبهوتا ثم سالت الصائغ فقال: هذه امراة ارادت ان اعمل لها صورة شيطان، فقلت لا ادري كيف اصوره، فأتت بك لاصوره على صورتك " - نزهة المجالس السيوطي -. تققر الام ذات يوم ان تعاقب ابنها فقدمت له الاوراق ليأكلها بدلاً من الطعام، لانها كانت تعتقد ان الكتب لا نفع لها،، وحينما عبر الصبي عن دهشته، قالت الأم:" وهل تأتينا بغير الصحف والكراريس من الطعام ".

يقدم لنا ياقوت الحموي صورة للجاحظ يقول فيها:" لم أر قط ولا سمعت من احب الكتب والعلوم اكثر من الجاحظ، فانه لم يقع بيده كتاب قط إلا استوفى قراءته كائنا ما كان، حتى انه كان يكتري دكاكين الوراقين ويبيت فيها " – معجم الادباء تحقيق احسان عباس –

عاش الجاحظ معظم حياته كاتبا، يكتب في في كل شيء ويحصي كل المباهج، والآلام والفضائل، والرذائل، والحقائق، والاخطاء.آمن ذلك الرجل الذي عاش ما يقارب القرن بقدرته على المحاججة. حارب الجهل باعلاء شأن التفكير الذي وصفه بانه " مشحذة للأذهان ". التوق الى المعرفة، ومعرفة مواضع الشك كانا الافتراضين الوحيدين الثابتين، اللذين سافر من خلالهما نحو الالمام بحالة الانسان.

كان العالم بالنسبة له عبارة عن كلمات، فهي " تشحذ وتفتق وترهق وتشفي (وانها) عقل غيرك تُزيده في عقلك ". كاتب هذه العبارات عاش في القرن الثالث الهجري، تنقل ما بين البصرة وبغداد وسامراء، كتب في الدين، والخلق والتكوين، في السياسة وشؤون الحكم، في اللغة والادب، في عامة المجتمع الانساني طبقاته ودرجاته، في الفلسفة وعلم النفس. انغمس اكثر واكثر في لذة الجدل، اراد الكتابة في كل ما يهم الانسان:" فالعمر قصير والصناعة طويلة ". شعر انه مطالب اكثر واكثر في الدخول بمناقشات طاحنة بين جماعة تؤمن بالحجة والاقتناع وتحكم العقل في كل شيء، وجماعة ترى ان النقل عن الاولين هو الأبقى والأهم. اخبرنا في كتبه انه كرس حياته للكتابة والورق. وكان يرى ان مخاطبة الناس من خلال الكتب انجح من الاحاديث الشفاهية فقال:" ان قراءة الكتب ابلغ في ارشادهم (الناس) من تلاقيهم، وليست في الكتب من علة تمنع من درك البغية، واصابة الحجة " – رسائل الجاحظ تحقيق عبد السلام محمد هارون -. ايقن ان افضل وسيلة للمحافظة على الموروث الثقافي، تسجيله بالكتب التي تُعبر عن حقيقة ذلك التراث اكثر من غيرها يقول:" الكتب ابلغ في تقييد الآثر من البناء والشعر " – كتاب الحيوان -، وحجته في ذلك ان التراث الثقافي اكثر قدرة على البقاء والصمود من التراث الحضاري الذي يتعرض بسبب تقلابات الدول وثورات السياسة الى العبث والتدمير من المتسلطين الجدد الذين يسعون الى طمس تراث ما سبقهم.

ولد الجاحظ في البصرة ولم يتمكن كُتاب سيرته من تحديد يوم ولادته، ويبدو انه نفسه يجهل هذا التاريخ، ويروي ياقوت الحموي انه ولد عام 150 هجرية مستندا الى ما قاله الجاحظ نفسه:" أنا أسنُّ من أبي نواس بسنة، ولدت في أول سنة خمسين ومئة وولد في آخرها " –الحموي معجم الادباء تحقيق إحسان عباس –. نشأ في عائلة فقيرة، توفى والده وهو في الرابعة من عمره فتكفلت امه برعايته، اضطر الى العمل منذ صغره، فباع الخبز والسمك، إلا ان الفقر لم يعفيه من ان يذهب الى الكُتاب، ليتعلم القراءة والكتابة، وكانت القراءة والبحث عن الحكايات المثيرة محاولة للابتعاد عن عالمه القاسي، وقد ساعدته قوة الملاحظة ان يُنمي مواهبه العقلية. كان يعيش حياته بين القراءة والعمل، وسيخبرنا في كتابه البيان والتبيين – تحقيق عبد السلام محمد هارون – انه تتلمذ على يد ابي الوزير وابي عدنان:" وما كان عندنا في البصرة رجلان أدري بصنوف العلم ولا احسن بيانا من ابي وابي عدنان المعلمين " ورغم انه كان فقيرا شديد الفقر، وعليه ان يعمل لاعالة امه وشقيقته، إلا انه كان دائم الزيارة لدكاكين الوراقين، والتردد على سوق المربد الذي احتل مكانا في الحياة الادبية والعلمية في البصرة، هناك كان يستمع الى الى كلام الاعراب وقصائد الشعراء.ومن البيئات التي كان الجاحظ يتردد عليها مسجد البصرة حبث كان يحضر مجالس المتكلمين واصحاب الحديث، ونجده في كتابه " الحيوان " يتطرق الى حوار اجراه مع احد المعتزلة عن ارسطوطاليس.

ان معظم الكتب التي تناولت سيرة الجاحظ لا تزودنا بتفاصيل تدرجه بالدراسة، لكنها تشير إلى اتصاله باشهر علماء النحو والروايات واللغة، كالاصمعي وابي زيد الانصاري وابي الحسن الاخفش وابراهيم بن سيار النظام الذي مارس تاثيرا كبيرا على الجاحظ، وكان النظام ابرز زعماء المعتزلة، اهتم بالفلسفة اليونانية، واول من نبه الجاحظ الى ضرورة الفلسفة والاهتمام بها. كان الجاحظ يعتبر النظام استاذه وقد ذكره في العديد من كتاباته، يثق به ثقة كبيرة فيقول عنه:" واخبرني ابو اسحق ابراهيم بن سيار النظام وكنا لا نرتاب بحديثه ان حكى " – محمد ابو ريدة النظام وآراؤه الكلامية -. وقد افاد الجاحظ من النظام كثيرا في ابحاثه الطبيعية واسلوبه الجدلي، ويخصص الجاحظ صفحات كثيرة في كتابه الحيوان للحديث عن استاذه النظام الذي يقول انه كان فقيرا، وقاسى في طفولته من الجوع والفقر. كان النظام مثل الجاحظ يكره الخرافات، ولا يؤمن بوجود الجن، ويذهب النظام الى ان الانسان في الحقيقة هو النفس، اما البدن فليس سوى قالب للروح، وان الروح جسم لطيف يشبه النسيم، وهي مصدر القوة والحياة، والإرادة. ولم يكتف النظام بنقد الفلاسفة ورجال الدين، بل وجه نقده لاوهام العامة وايمانهم بالخرافات، وكان يعزو انتشار الخرافة والجهل الى فقدان الروح الانتقادية عند الانسان، ليتحول الوهم الى عقيدة يقول النظام:" نازعت الشكاكين والملحدين فوجدت الشكاك ابصر بجواهر الكلام من اصحاب الجحود ".

كان المعتزلة قد عاشو في البصرة، اما سبب التسمية فيقال ان واصل بن عطاء كان جالسا في حلقة الحسن البصري، عندما دخل عليه رجل وسأله:" يا امام الدين، قد ظهر في زماننا جماعة يكفرون اصحاب الكبائر، وهناك جماعة يرون ان الكبائر لا تضر مع الايمان، فكبف تحكم لنا في ذلك، فتفكر الحسن البصري في السؤال وقبل ان يجيب قال واصل بن عطاء: انا لا اقول ان صاحب الكبيرة مؤمن مطلق، ولا كافر مطلق، بل هو في منزلة بين منزلتين، لا كافر ولا مؤمن، ثم قام واصل واعتزل مجلس الحسن البصري، فقالوا اعتزل واصل، فسمي واصل واصحابه المعتزلة – الشهرستاني الملل والنحل تحقيق سعيد الغانمي-

عاش الجاحظ في البصرة في عصر انفتحت فيه قنوات الاتصال الثقافي مع الامم الاخرى، حيث اخذ العرب ينهلون من روافد الثقافات اليونانية والفارسية والهندية، كان التطلع الى معرفة كل شيء ابرز الخصائص العقلية عند الجاحظ، وكانت المعرفة بالنسبة له حصيلة التجارب التي يراكمها الانسان ثم يفحصها من خلال العقل، فالجاحظ يميز بين العقل والتجربة، إذ يقول إن العقل المولود متناهي الحدود بينما عقل التجارب لا يوقف على حد.

التقت في الجاحظ ثلاث مزايا: الموهبة الادبية، الفضول العلمي، الفكر النير، ولذا يمكن عده اديبا وفيلسوفا وعالما، ولم تجتمع هذه الخصال لأحد من فلاسفة العرب والمسلمين، فقد اصر ان يعرف كل شيء، وان يكتب في جميع الموضوعات، ولعل عناوين كتبه تدل على سعة اطلاعه، وامتلاكه ادوات البحث العلمي، وسنجد في كتابه الحيوان اشارت واضحة الى نظرية التطور، ونظرية أثر البيئة، واعتماده المنهج التجريبي في دراسة الطبيعة، وفي رسائله نعثر على نظريته الاخلاقية والتي استمدها من الفكر المعتزلي، اما في الادب فقد اعتبر واضع اسس علم البيان والبلاغة. كما انه كان ذا اتجاه عقلي بالنسبة للعلوم الدينية. ينطلق الجاحظ من مبدأ العقل الذي اخذت به المعتزلة، مضافا اليه حرية الاختيار، ولذلك فان الإنسان من بين جميع المخلوقات يتميز بالعقل وبحرية الاختيار، وهو مكلف بأن يعتبر وان يتوصل بقدرته العقلية الى حقائق الكون، ويذهب الى ان المعرفة العقلية اساس الايمان وان الانسان لايحاسب الا بعد المعرفة والتنبيه، ويؤمن الجاحظ بضرورة الاختلاف بين الناس، لان الناس اذا كانوا جميعا يبتغون غاية واحدة، ولم يتفاوتوا او يختلفوا في حاجاتهم واعمالهم واهوائهم..هلكو.. وليس بين الناس حقير وكبير، او بين الامم والشعوب، فكما ان لكل فرد قابليته ورغباته وحاجاته، كذلك لكل امة ميزاتها وقابلياتها وتاريخها وتراثها، كما يرى الجاحظ ان الفخر غير مجد ولا طائل منه، كذلك التغني بامجاد أمة دون غيرها عبث لاطائل من وراءه، آمن بأن المعرفة تراث انساني تشترك فيه جميع الامم، ويكتب في مقدمة كتاب " الحيوان ":" هذا كتاب تستوي فيه رغبة الامم، وتتشابه فيه العرب والعجم، ولأنه وان كان عربيا واعرابيا، فقد اخذ من طرف الفلسفة، وجمع معرفة السماع وعلم التجربة ". وكان الجاحظ وهو تلميذ لمدرسة ارسطو الفلسفية يرى في الانسان كائنا سياسيا لا ينفصل عن المجتمع.

من الطبيغي ان يحعل الجاحظ من العقل حكما في النظر الى الامور، سواء الدينية او السياسية او الاجتماعية، وقد ادرك التاقض البارز الذي تعيشه الناس من خلال تشبثها بالتقاليد والخرافات السائدة، مما اضطره ان يواجه الناس بان تعامل بسخرية مع كل ما يصدم العقل، لقد كان يؤمن ان نشر مفاهيم الدين الصحيحة يساعد على ترسيخ وعي المجتمع ويحرر العقل من الاوهام ويجعل الناس تسعى الى طلب الحق، العقل وحده يميز بين الخير والشر ويوفر النمو الكامل للكائن البشري " فالعقل في الانسان هو الجوهري والافضل " – التربيع والتدوير تحقيق شارل بلات".

وإذا كان الهدف من الفلسفة هو اعلاء شأن العقل، فان مهمتها ايضا ان تناقش المسلمات الدينية، فقد كان الجاحظ يرى ان الدين ليس كاف وحدة لان يدفع الانسان الى القيام بامر ما، ويصف الدين بانه مكتسب وليس باصلي او طبيعي، والجاجظ المعتزلي يرى ان الدين يجب ان لا يختلف مع العقل، ولهذا نراه يميز بين عقيدة العامة التي هي تسليم مطلق، وعقيدة الخاصة او الفلاسفة التي تقوم بفعل العقل، ولا ايمان يقوم بدون فعل العقل.

في بغداد التي وصلها الجاحظ اثناء خلافة المامون الذي كان يميل الى مذهب الاعتزال، توثقت صلته بالخلافة العباسية، وقد طلب منه المامون ان يتولى ديوان الرسائل، وفرت له الوظيفة راتبا شهريا منتظما، ولم يعد بحاجة الى البحث عن عمل آخر، كما ساعدته ان يتفرغ لكتابة مؤلفاته الموسوعية، كما ان بغداد اتاحت له ان يحقق مجده الادبي وان يقدم للفكر العربي عددا من اهم مؤلفاته " البيان والتبيين " و" كتاب البخلاء " وموسوعته الشهيرة " كتاب الحيوان " ورسالته في " خلق القرأن ".

اهتم الجاحظ بدراسة الطبيعة في مختلف ظواهرها من انسان ونبات وحيوان وجماد، ويبدو ذلك في مؤلفاته المتنوعة، وقد كان صاحب نزعة فكرية تقوم على تفسير الظواهر المختلفة بالاستناد الى الطبيعة. ويشبه الجاحظ الطبيعة بالعادة التي يكتسبها المرء بالتكرار حين تغدو "الطبيعة والعادة توأمين في نتائجهما واثرهما في حياة الانسان – الجاحظ كتاب الحيوان -.

يضع الجاحظ تعريفا للانسان حيثو يقول:" الانسان عالم صغير لانه يحتوي على جميع الاشكال التي في العالم الكبير "، ويرى ان الانسان لا يشكل وحدة قائمة بذاتها، بل هو جزء من كل اكبر انه " مختصر الكون " فعليه اذن ان يصلح نفسه اولا لأن الفساد الاجتماعي ليس إلا مجموعة الفساد الفردي، وعليه ان يحل السلام لا في نفسه فقط بل في مجتمعه ايضا لأنه متنضامن معه. تبنى الجاحظ تعريف ارسطو للانسان العاقل فهو " الحي الناطق " اذ يرى الجاحظ ان النطق او القدرة على الكلام اهم ما يميز الانسان عن الحيوانات، فهو بالكلام يعبر عن حاجاته، وهناك ميزة اهم يتفوق بها الانسان على الحيوان هي العقل وهكذا فالانسان حسب تعريق الجاحظ " حيوان عاقل وناطق " ونجد الجاحظ يلجأ لكشف بعض الصفات التي تجمع بين الانسان والحيوان فهو يرى ان الجهاز الهظمي عن الانسان والكلب متشابه، وان هناك شبها قويا بين الانسان والقرد في المظهر الخارجي وبعض الصفات النفسية. ويعترف الجاحظ مثل ارسطو بأن بعض الحيوانات تمتلك الذكاء وان لها قدرات حسية ومعرفية

صدر كتاب " الحيوان " في المرحلة الاخيرة من حياة الجاحظ عندما تمكن منه المرض:" وقد صادف هذا الكتاب مني حالات تمنع من بلوغ الإرادة فيه، اول ذلك العلة الشديدة، والثانية قلة الاعوان، والثالثة طول الكتاب "، حيث يعد موسوعة علمية وادبية واجتماعية تتداخل فيها العلوم جميعا يضاف لها المعتقدات والمذاهب والنوادر، كما ان الجاحظ يتناول في الكتاب، الكون بجميع مكوناته، بحثا وتدقيقا، وقد بلغ كتاب الحيوان من الاتساع ان وضعه في سبعة اجزاء، وكان ينوي ان يضيف له اجزاء اخرى، لكن المرض اشتد عليه وتقدمت به السن.

ويذكرنا الجاحظ في كتابه بكتاب الفيلسوف الاغريقي ارسطو الذي وضع ثلاثة مجلدات، تعد اليوم اول موسوعة فلسفية عن الحيوان، إلا ان الجاحظ استطاع ان يضيف الكثير من المعلومات ويناقش اراء ارسطو، مضيفا الكثير من المعلومات استجدت خلال السنوات التي مرت بين زمنه وزمن أرسطو.

كتاب الحيوان اشبه بموسوعة تحوي شتى المعتقدات والافكار، يحاول الجاحظ فيه ان يوفق بين العقيدة الدينية وبين التنفكير العلمي وما يقبله العقل الانساني، ونراه لا يتردد في رفض الكثير من المعتقدات الشائعة بين الناس، والكتاب يهدف كما يخبرنا الجاحظ الى غايتين ، اولهما البحث عن حقائق الكون بجميع اشكالها، والغاية الثانية ايصال هذه الحقائق الى طبقات الناس كافة دون تمييز. كما انه موسوعة علمية يقدم فيها معلومات موسعة عن 350 حيوانا، ويقدم فيه الجاحظ أفكارا سبقت نظرية داروين بمئات السنين، حيث يرى أن عوامل بيئية تساعد الكائنات على تطوير سمات جديدة لضمان البقاء، وبهذا تتحول إلى أنواع أخرى.، وان الحيوانات التي تبقى وتنقل صفاتها وسماتها الناجحة إلى ذريتها.ويتضح من الكتاب فهم الجاحظ لطبيعة الصراع بين الكائنات وتاثير العالم الطبيعي في الصراع من اجل البقاء.

ويطرح الجاحظ نظرية في اصل الحياة حيث كان يرى ان بعض الحيوانت تُخلق من غير ام واب وهي النظرية التي طورها فيما بعد الفيلسوف ابن طفيل في كتابه " حي بن يقظان " حيث زعم ان انسانه هذا تولد من تخمر بعض الاتربة في ظروف ملائمة – فكرة التطور عند فلاسفة الاسلام ترجمة مجدي عبد الحافظ –، وذهب الجاحظ الى ان القول بتولد الكائنات في الطبيعة من دون ذكر وانثى لا ينطوي على اي ضرر على الدين:" وقد انكر ناس من العوام واشباه العوام ان يكون شيء من الخلق كان من غير ذكر وانثى، وهذا جهل بشان العالم وباقسام الحيوان، وهم يظنون ان على الدين من الاقرار بهذا القول مضرة، وليس الامر كما قالوا " – الجاحظ كتاب الحيوان –

ويذهب الجاحظ بعيدا حين يناقش مسالة العلاقة بين القرد والانسان حيث يذكر اوجه الشبه بين الانسان والقرد، في المظهر والحركات وكيفية تناول الطعام وشكل الكف والاصابع. والفرق بين داروين والجاحظ ان صاحب كتاب " اصل الانواع " يؤمن بالتطور الصاعد نحو الاعلى او الارقى، فيما يذهب الجاحظ الى التطور النازل نحو الاسفل، فالانسان حسب راي الجاحظ هو الذي انقلب الى قرد، وليس القرد هو الذي ارتقى الى مصاف الانسان، اما العوامل التي ادت الى هذا التطور النازل فهي البيئة التي اثرت في الانسان وحولته الى قرد بسبب رداءتها وفساد هوائها ومائها. وهذا التطور لم يحدث دفعة واحدة انما استغرق زمنا طويلا، وبهذا يؤكد الجاحظ ايمانه بالتطور شريطة ان يكون هذا التطور طبيعيا اي خاضع لقوانين الطبيعة. والمسألة الاهم التي يثيرها الجاحظ هي تاثير البيئة على الانسان والحيوان وهو بذلك يكون قد سبق ابن خلدون ولامارك وداروين بقرون عدة.

ويؤكد الجاحظ ان هناك معرفة حسية ومعرفة عقلية. يبلغ الانسان المعرفة الاولى عن طريق الحواس التي تتشابه عند جميع الكائنات، ويبلغ الثانية عن طريق العقل. وهو يعتبر المعرفة العقلية ارقى من المعرفة الحسية وينصح الانسان ان يرتفع من معرفة الحواس الى معرفة العقول، ويرى الجاحظ ان الشك مهم للوصول الى اليقين:" فلم يكن يقين حتى كان قبله شك، ولم ينتقل احد من اعتقاد الى غيره حتى يكون بينهما حال شك " – كتاب الحيوان - ويرى ان الشك سبيلا الى اليقين، لانه محطة يتوقف فيها العقل لييتعرف على مختلف الاراء والاتجاهات قبل اختيار الاتجاه الصحيح. وبعد التوقف ياتي التثبت، وبعد التثبت ياتي اليقين، ويلخص الجاحظ هذه المراحلة بالقول:" وبعد هذا فاعرف مواضع الشك وحالاتها الموجبة له لتعرف بها مواضيع اليقين " – كتاب الحيوان –

قليل من المفكرين من قاموا بمهمتهم بجدية وحرص تامين كما فعل الجاحظ، فالرجل الذي تنقل بين البصرة وبغداد وسامراء ودمشق وانطاكية، يعود الى البصرة مريضا، لكنه لم يتوقف عن الكتابة والتاليف، يطرح اعقد المسائل على بساط البحث ويطالب بحل المشاكل حلا عقليلا. الى ان يشتد عليه المرض، فتخفت قدراته الجسدية شيئا فشيئا، ليتوفى عام 255 هجرية الذي صادف "20" كانون الثاني عام 868 ميلادية.

***

علي حسين

رئيس تحرير صحيفة المدى البغدادية

 

بدأت تمارينُ الكتابة في المرحلة الثانوية، لم تنضج لغتي وتصطبغ ببصمتها المميزة إلا بعد سنوات من تلك التمارين المتواصلة. أخيرًا أضحت لغةُ كتابتي بمعجمُها تفرض عليّ نوعَ الكلمات وأسلوبَ التعبير، وتؤثر وتتأثر بطريقة التفكير، كأني وقعتُ في أسر هذه اللغة، ولم أعد قادرًا على انتزاع نفسي منها. عندما يكرّر بعضُ القراء الطلبَ بأن أكتب بلغةٍ بديلة أعجز عن تلبية رغبتهم، بعد أن وقعتُ في شباك هذه اللغة. لم أدعِ يومًا أن الأفكارَ الواردة في كتاباتي كلها مبتكرة، لم يكتبها أحدٌ من قبلي.كتاباتي خلاصةُ مطالعات بدأت في مرحلة مبكرة من حياتي ولم ولن تتوقف، وعصارةُ أسئلة ذهنية وتأملات فرضها عليّ عقلي الذي لا يكّف عن التفكير، وأوقدتها مشاعري وانفعالاتي، وما ترسّب من جراح بأعماقي في محطات الحياة المتنوعة، مما لا أراه ولا أدرك طريقةَ تأثيره في فهمي.

الكتابة داء ودواء، قبل الكتابة أقلق، حين أفرغ منها أهدأ، بعد النشر أسكن، وأخيرًا أنسى ما كتبتُ لحظة أنشغل بما هو جديد، وإن كنتُ أكرّر العودةَ إليها لو استجدت رؤيةٌ موازية أو مضادّة. لا أستطيع مغادرةَ النصّ الذي أكتبه مادام تحت يدي، أخضع على الدوام لضغطٍ نفسي يكرهني على العودة للنظر فيه بين حين وآخر، لا ينقذني منه أحيانًا إلا النشر. في الكتابة ‏اللغةُ ترهقني أكثر من الفكرة، أحيانا أكرّر تحريرَ النصّ الذي أكتبه عدة مرات. ‏حين أكتب أمارس وظيفةً تشبه وظيفةَ المهندس المعماري، الذي يهمّه الوجهُ الجمالي للبناء. ‏أغلب الأحيان لحظةَ أكتب أجد المعاني حاضرة، ‏ما يرهقني هو العثورُ على الكلمات المناسبة للسياق ‏في القاموس اللغوي المخزن في ذاكرتي، وأحيانًا تتعسر ولادةُ الكلمة في ذهني فالجأ إلى قواميس اللغة ومعاجمها. ليست هناك لغةٌ مكتفية بذاتها، ‏إذا اتسع أفقُ المعاني اختنقت الكلمات. أعرف أن كتابتي تلبث ناقصةً لا تخلو من وهنٍ في شيء من أفكارها وكلماتها وعباراتها، مهما حاولتُ إعادةَ تحريرها وتنقيتها، ذلك ما يحثّني على إعادةِ النظر فيها وتكرارِ تحريرها على الدوام. اللايقين يستولي عليّ حين أكتب، أعود إلى كتاباتي أتأمل ما تتضمنه من مفاهيم وآراء ومواقف، أحاول غربلتَها وتمحيصَها مجدّدًا، واستبعادَ ما ينكشف من هشاشتها واعوجاجها، أحيانا أعيد كتابةَ الفقرة مرات عديدة. أمعن النظرَ في لغتها، أحذف الكلمات الواهنة، أحرّرها من الفائض اللفظي الذي يستنزفُ طاقةَ المعنى وينهكها. أعرف أن الجملَ القصيرة أشدّ إيقاعًا من الطويلة، الكاتب المتمرّس يقتصد في الكلمات، ويكثّف النصَّ ما أمكنه ذلك. رأيتُ بعضَ الكتاب يربك إيقاعَ النصّ بالإفراط في حروف العطف وأدوات الوصل والربط والاستئناف، وربما تلبث لديه الكتابةُ سائبةً لا تصنع حدودَها. براعة الكاتب تعلن حضورَها في الإيجاز، في الكتب الخالدة كلُّ صفحة تختزل ألفَ صفحة، كلُّ عبارة تختزل ألفَ عبارة، كلُّ كلمة تختزل ألفَ كلمة. الكتابةُ فنُّ الحذف والاختزال.

كلُّ كتابة أنشرها مسودةٌ لكتابةٍ لاحقة، وهكذا تتوالى كتابةُ المسودات. الكتاب الذي أكتبه لا أراه نهائيا، أكتبه كتابةً أولية، وبعد تحريرٍ وتنقيح ومراجعات متعدّدة أبعثه لدار النشر، وعند نشره تتحوّل هذه الطبعةُ إلى مسودة لطبعة لاحقة، وهكذا تلبث كتاباتي مسوداتٍ مفتوحةً أعجز عن النظر إليها بوصفها نهائية، وكأني أحلم بكمال شيء يعاند الكمال. لا أصل للشعورِ باكتمال النصّ، ونقائه من الوهن والثغرات، وصفاء صوته، وقوة طاقة المعنى الذي يريد إبلاغَه للقارئ،كثيرًا ما أعود إليه لتقويمه وترميمه وإثرائه. الكتاب الذي أفرغ منه أتردّد في نشره، وأقلق لحظةَ صدوره، مثلما يقلقني إهمالُه ونسيانُه، ينتابي شعورٌ أحيانًا كأنِّي خنتُ ذلك النصَّ المؤجل، أو خنتُ القرّاءَ ممن يتطلعون أن يجدوا في كتابتي ما يبحثون عنه.

القارئ يبهجه الضوءُ بغضِّ النظر عن المصباح الذي يصدر منه. يهمني القارئُ المحترِف حين أكتب، أعرف أن القارئ المحترف ذوّاق، لا يطيق الكلمات المقعرة والعبارات المكرّرة والشعارات ‏المبتذلة لغةً ومضمونًا، ‏لا أريد أن أخون القارئَ الذي لولا دعمه واعترافه لنضبت لدي طاقةُ الكتابة. القارئ يتطلع أن تتكشّف له صورةُ الكاتب الحقيقية، وما يريد أن يقرأه في كتاباته، القارئ مولعٌ بكلِّ ما حجبناه عنه، فلو بادرنا للاعتراف بضعفنا البشري بشجاعة لا نحتاج إلى دعاية أو ترويج لما نكتب. أكثر الكتابات المنشورة تخفي أكثرَ مما تعلن، وتبرّر أكثر مما تعترف، وتتكتم أكثر مما تبوح، وتموّه أكثر مما تصرّح، وتخادع أكثر مما تصدق، أجد بعضَ الكتاب يبرع في صناعة الأقنعة، وهو يحاول حجبَ تضخم ذاته وراء تلك الأقنعة.

مضافًا إلى خوفي من ممارسة الكتابة كنتُ أخاف في البداية من عرض ما أكتب على أيّ إنسان، امتلكتُ شيئًا من الجرأة بعد مدة فقدّمتُ ما أكتب لبعض الخبراء. كنتُ أحذر بشدّة من أيِّ نقد، أدركتُ لاحقًا أن استمرارَ هذا النوع من الحذر يعيقني من الإقدام على النشر، وربما يعجزني من خوض مغامرة الكتابة. جربتُ أنه يمكنني التخفيفُ من ذلك وخفضِه بعد ترويض نفسي على الاعترافِ بأخطائي وضعفي، والإعلانِ عن استعدادي للتعلّم والإصغاء لحكمة وخبرة أيّ إنسان، والإصرارِ على المضيّ في تمارين الكتابة وإعادة الكتابة. الاعتراف بالخطأ في مجتمعاتنا ينظر إليه أكثرُ الناس بوصفه فضيحة، استطعتُ بمشقة أن أمتلك الاستعدادَ للاعتراف بالخطأ الذي كان مُحرِجًا جدًا أول الأمر، عبر المران صار أقل إحراجًا، كلما أعلنتُ عن أخطائي قبل أن يعلنها غيري تخفّفتُ أكثر، واستطعتُ أن أجعل منجزي أكمل. جربتُ أن ليس هناك ما ينقذ الإنسانَ من عبء الشعور بالعجز وخوف الفشل إلا سبقه للبوح بفشله وإعلانه بأنه فشل في محاولاته الأولى والثانية والثالثة وهكذا. أسعى أن تتضمن كتاباتي بوحًا بأخطائي ووهني وهشاشتي ما أمكنني ذلك في مجتمعٍ يسيء تفسيرَ ذلك.

الكتابة ليست عملاً فردياً بحتاً،كلُّ كتابة حقيقية تختزل سلسلةً طويلة من قراءة كتب متنوعة، وكلَّ ما تشبّع به وتمثّله وعيُ الكاتب، وترسّب في لاوعيه. لا يتكون الكاتبُ إلا بعد أن يقرأ كلَّ شيءٍ وينسى معظمَ ما قرأ، الكتابة منجز مشترك، تنصهر فيها عناصرُ مختلفة لنصوص طالعها الكاتبُ لتولِّد مركبًا مادتُه منها إلا أنه يتكلم لغتَه، وينصت فيه القارئُ لأنغام صوته. في كلّ نصّ ترقد عدة ُطبقات من النصوص، في كلّ نصٍّ تتجلى نصوصٌ متنوعة تحيل إلى معجمِ الكاتب اللغوي ومرجعياتِه ورؤيتِه للعالم، وتتكشّف فيها ثقافتُه وما أنتجته قراءاتُه وتفكيرُه وتأملاتُه. في كلّ نصّ ثري نستمع لصوتٍ تتناغم فيه ألحان عدّة أجناس من الكتابة، تتوحد ألحانُها وكأنها نغمٌ واحد. الكاتب الجادّ يلتقي الجميع، ويتعلّم من الجميع، يلتقي بما هو مشتَرك إنساني، ويتعلّم من المتفرّد فرادتَه.

كتاباتُ كلّ ِكاتب تغترف من نهرٍ واحد، بعضُها يغذّي بعضَها الآخر.كلُّ كاتبٍ يكتبُ كتابًا أساسيًا واحدًا، ما قبله تمارين ما بعده تنويعات. الكاتب الحقيقي تصنعه الكتابةُ بقدر ما يصنعها، وتعيد بناءَ ذاته من جنس ما يبنيها، البناء بمواد هشّة يبني كاتبًا وكتابةً هشة، البناء بمواد متينة يبني كاتبًا وكتابةً متينة. يتعلم الكاتبُ الصبور من الكتابة أكثر مما يتعلم من القراءة، بعد الفراغ من كلِّ كتابة جادّة يخرج بوعي أعمق لذاته ولغيره، وبرؤيةٍ أشدّ وضوحًا للعالَم من حوله، يجد ذاتَه في صيرورة وجودية تتغذّى بالكتابة وتغذّيها.‏‏

الكتابة لدي تمارينٌ على وعي الحياة، عبر اكتشاف أسرار الذات، وما يخفيه الإنسان، وكيف أستطيع أن أنجو بنفسي من هول هوس الناس وصخب الحياة من حولي، وأربح سلامي الباطني.‏‏ التحدي الذي يستفزني في الكتابة يؤلمني بقدر ما يعلمني، علمتني الكتابة أعمق وأدقّ وأثمن مما علمتني القراءة، مثلما علمني التعليم ما هو أثمن مما علمتني التلمذة. بعد الفراغ من كلِّ كتاب أخرج بوعي أعمق لذاتي ولغيري، وبرؤيةٍ أوضح للعالَم من حولي. لم أجد نفسي خارجَ الكتابة منذ أكثر من 45 عًاما تقريبًا، على الرغم من أني أحبّ القراءةَ أكثر من الكتابة، وإن كنتُ أكتشف المزيدَ من الطبقات العميقة لذاتي، وأشعر كأني أعيد تشكيلَها من جديد بالكتابة.

أكتب رحلتي الأبدية لاكتشافِ الذات واكتشافِ الناس من حولي، واكتشافِ أجمل تجليات الله في الوجود. أحاول تأملَ أسئلتي وإعادةَ النظر في إجاباتي، وتعميقَ البحث فيها والتعرّفَ على ثغراتها، والسعيَ للظفر بإجابات أعمق وأدقّ.

*** 

د. عبد الجبار الرفاعي

المكان: مقهى الروضة.

الزمان: ثمانينات الشام المنصرمة.

الواقعة: لها أصل وجذر وفسحة واسعة من الخيال.

إبتدأت الحكاية من سطح منزل أحد اﻷصدقاء. فمع حلول ساعة اﻷصيل إعتدنا أن نتجه في أكثر اﻷحيان صوبه، متخذين منه مزارا وملتقى، بسبب قربه من بيوتنا ولسعته كذلك وسخاء وكرم ساكنه. نخوض خلالها ما يحلو لنا من الكلام. يتراوح في جلّه بين تداعيات الماضي الذي تركناه هناك والذي نجزم بأنه كان جميلا وهو حقاً كذلك، وبين الضحكة والمزحة وما تطيب له الخواطر وتأنس، أو لنقل هكذا أردنا ﻷماسينا أن تكون. هادفين التقليل ما إستطعنا من وطأة غربتنا التي طال أمدها كثيرا في مقاييس تلك الحقبة من الزمن، حيث كان وقعها ثقيلا بل ثقيلا جدا علينا، لا سيما وان أعوادنا لم تزل بعد طرية، غضة، سهلة الكسر، إذ لم نكن بعد من الجَلَد والقوة لنستعين بهما على الصبر والتحمل، وأن نقوى على ما حلَّ وآل بنا اﻷمر.

في إحدى اﻷماسي وعلى نحو غير متوقع ومن بين ما عَلِقَ في ذاكرتي، ما كان قد أتى عليه أحدنا من موضوع مثير للغرابة حقا، وعلى صلة بعنوان أحد الكتب، ذُكِرَ إسمه عرضاً، أسوة بغيره من الكتب التي عادة ما كنا نستعرضها، تزجية للوقت. ظنناه سيطوى بفض الجلسة كما كانت تطوى مثيلاته. غير أنَّ اﻷمر هذه المرة وللأسف لم يكن كذلك، فالقصة ستتفاعل وتأخذ بعدا آخر، لا يخلو من حرج لنا ولمضيفنا من قبلنا، وسيمتد وينتقل الحديث عن ذات الموضوع الى اليوم التالي، حيث إحدى المقاهي التي إعتدنا إرتيادها. أمّا ما الذي جرى هناك، فأليكم الواقعة:

معذبو الأرض لفرانز فانون، هذا هو إسم الكتاب الذي كان موضع خلافنا وحديثنا وأثار كل تلك الضجة، يوم كنّا في سطح المنزل إياه. وإذا كانت أحاديث اﻷمس قد دارت حوله دون أن نراه فهذه المرة سيختلف كثيرا ليأخذ منحى آخر، فصاحبه لم يكتفِ بالتطرق اليه كما جرى في اليوم السابق فحسب، بل أشفع قوله بعرضه على الحاضرين، مضيفا بأنه لم يحصل عليه الاّ بشق اﻷنفس. وفي اللحظة التي أنهى بها كلامه وإذ باﻷيادي تتلقفه وتتناقله فيما بينها بسرعة مذهلة، ربما كان ذلك بدافع الفضول أو هو تصرف أراد الجلاس ممن كانوا متحلقين على طاولة واحدة، إظهار مدى إهتمامهم بشأن كهذا، لا سيما وان المقهى الذي عادة ما يلتقون عنده، إعتاد الناس على تسميته بمقهى المثقفين، إتساقا وطبيعة رواده، حيث كانت نخبة منهم وكعادتهم وفي أوقات الظهيرة وما بعدها، أن يتخذوا من أحد أركانه البعيدة نسبيا عن المارة والضوضاء وعن ازعاج روادها، مجلسا لهم.

أخيرا وبعد أن دار الكتاب دورته، وإذ به يستقر بين يدي إبن عيدان ومن هنا ستبدأ الواقعة الكبرى التي لم نكن نتوقعها، حيث سَيُقدمُ الرجل وبحركة مباغتة على سحق سيكارته بقدمه اليمنى وهي لم تزل بعد في ربعها اﻷول، وهذا لعمري ما لم يقم به من قبل، لما لها من قيمة ودلالة ونشوة طقس. ثم ألحقها بحركة أخرى أكثر تعبيرا، حيث وقف وعلى طول قامته الفارعة، قاسما باغلض الإيمان وأقدسها بأن هذا الكتاب يعود اليه.

وزيادة في التأكيد وبهدف إقناع الحاضرين، فقد زعم بأنه كان قد اصطحبه معه ويقصد الكتاب إياه، في مسراته وأكثرها في أوجاعه، متسللا وعابرا به كل نقاط التفتيش وعيونها، ليظل برفقته مذ غادر بغداد وحتى فقدانه له، أمّا كيف إختفى وتوارى فهذا ما لا يستطيع القطع فيه. ثم راح مكملا: المهم بالنسبة لي وفي لحظات كهذه والتي أقَلُّ ما يمكن وصفها بالسعيدة والمفاجئة كذلك، أن عاد لي صاحبي، معافى الاّ من بعض خطوط وإشارات وطويات، كانت قد طالت بعض صفحاته، وهذا أمر سهل تجاوزه ويمكن جبره.

ردات فعل صاحب الكتاب أو لنقل مَنْ جاء به، والمفترض أن يكون هو مالكه وهو مَنْ قام بعرضه على الحاضرين، لم يلتفت اليه إبن عيدان، كما تقتضي اﻷعراف وشروط اللياقة، بل حتى ذهب أبعد من ذلك، حين شرع بتقديم عرضا ملخصا لما يحتويه، مستعينا بفهرسه، مقلبا صفحاته بشوق ولهفة، مركزا على تلك الفصول التي من الممكن إذا ما جرى الإلتزام بها على حد قوله، أن تؤدي دورا مهما، سيُسهمُ وبما لا يدع مجالا للشك والإجتهاد، في شحذ همم وتحريض وتعبئة أبناء العالم الثالث، ممن لا زالوا قابعين تحت سطوة قوى الشر والإحتلالات وسطوة الإمبريالية العالمية، وصولا الى تحقيق النصر الناجز لثورتهم، والتي كان من نتائجها على سبيل المثال أن قطف الشعب الجزائري ثمار نضاله، يوم توَّجها بطرد المحتل الفرنسي وليقرر مصيره بنفسه وإعلان الجزائر دولة حرة مستقلة، عربية الهوى والهوية والإنتماء(راح إبن عيدان مركزا على العبارة اﻷخيرة، واقفا عندها، حتى بدا كمن تَعَمَّدِ الكشف عن ميوله وإنتماءه السياسي والإديولوجي).

وإذا كان لنا من تشبيه ووصف لحالته لحظتذاك، فهو يذكر بأجواء تلك الإحتفالات المركزية التي كانت تقيمها اﻷحزاب (الثورية) من على منصات، تنصب خصيصا لمناسباتها، سواء القابضة منها على السلطة أو تلك التي لا زالت في منفاها الإضطراري. وعلى هذا المنوال والحماس راح إبن عيدان، مواصلا كلامه، مكرره: أمّا كيف فقدته وضاع فتاالله وبالله لست ادري، المهم فها هو الآن يعود من جديد، وفياً كما عهدته.

علامات الدهشة والذهول بدت جلية على محيا الحاضرين، مستغربين كلام إبن عيدان وما رافقه من إستعراض ملفت للنظر وربما مبالغ فيه ومفتعل، لم يراعِ فيه بعض الإعتبارات. المثير للغرابة أيضا أن صاحبنا لم يكتف بهذا العرض والخطبة العصماء التي قدمها، بل راح مضيفا عليها بأنه لم يقرأ اي كتاب منذ عام ١٩٦٧، أي منذ عام الهزيمة وحتى الآن. الإضافة اﻷخيرة وبإعتراف صريح كهذا، لم يكن مقنعا للحاضرين، ولم يجدوا له من علاقة تُذكر بالكتاب الذي هو حديث ساعتنا، لذا وعلى ما خلصوا اليه لا يمكن تصديق ما يدعيه، فالرجل يعد وبمقاييس معينة قارئا جيدا ومتابعا وملما إلى حد بعيد بالشأنين الثقافي والسياسي، هذا إن إستثنينا إهتمامته اﻷخرى وبشكل خاص صلته بالشعر الحر، وقدرته على كتابته، بالفصحى والعامية، وعلى طريقة وخطى الحاج زاير التهكمية في بعض من أغراضه ومفاصله. خلاصة القول فقد أخذنا ادعاءه هذا نحو من الدعابة التي عودنا عليها، آملين تجاوز هذه اللحظة الحرجة على خير.

غير أن القصة لم تنتهِ بعد، فصاحب الكتاب من جهته لم يَعُر للأمر كثير إهتمام، ولم تنفع معه أو تليّن من موقفه الثابت والراسخ حتى اللحظة كل مزاعم إبن عيدان وحركاته، والتي أراد من خلالها على ما يبدو ممارسة أقصى درجات الضغط والتأثير، من أجل إستعادة ما أسماه كتابه.

هنا بادر أحد الحاضرين بفكرة، سعى من خلالها حل الإشكال الحاصل، غير انه لم يوفق ولم تفضِ محاولته الى تسوية مرضية للطرفين، ولتنتهي الواقعة بتشبث مَنْ أتى بالكتاب بكتابه، معتبرا إياه بأنه (ملكاصرفا) له، وسوف لم ولن يحيد أو يساوم على ذلك أبدا. ثم راح مضيفا قولا آخر، ربما كان سببا في إثارة حفيظة غريمه: ليذهب إبن عيدان الى الجحيم، ويكفينا شَرّ تصرفاته هذه، وكاد أن يضيف عليها كلاما أكثر إيلاما وأمضى، الاّ ان الكلمة الفصل كانت للحاضرين، ولينفرط من بعدها عقد الجلسة ويذهب الجميع الى حال سبيله، بعد أن خَيَّم جو من الضغينة والتوتر. ومما زاد من قلقهم، ما يمكن أن تُنذر به القادمات من اﻷيام، فقد تحمل معها من المفاجئات ما لا تسر أحدا.

وهذا ما تحقق فعلا، فقد إنتشرت بين أوساط رواد مقهى الروضة وعلى نحو واسع وبعد مضي عدة أيام على تلك الواقعة، إحدى القصائد التي لا يشك أحد بأن كاتبها ومروجها هو إبن عيدان، إذ هي تحمل ذات اﻷسلوب واﻷفكار بل وحتى المفردات التي كثيرا ما كان يرددها في جلساته. أما عن طبيعة القصيدة، فقد حملت نقدا لاذعا وإستخفافا وتهجما صريحا على مَنْ بات يسميه غريما له، إثر مشكلة الكتاب التي نشبت بينهما ولمن له الحق في عائديته. مستغلا في ذات الوقت بعض ما كان يُعاب عليه وما أشيعَ عنه من تقولات، لم يجر التأكد من مدى صحتها، كإقحام نفسه وزجها وسط مجموعة من الكتاب والمحسوبين على الثقافة، في الوقت الذي لا تربطه بهم أي رابطة أو صلة، حسب ما يدعيه إبن عيدان.

ولعل نجاح ولنسميه نَدَّه، في إيجاد موطئ قدم له في إحدى المجلات الشائعة والمنتشرة آنذاك وعلى مساحات واسعة، عُدَّتْ سببا ودافعا آخر لإبن عيدان للإساءة له والنيل منه. فعلى ما يرى اﻷخير ويكرر بإستمرار بأن مدعي مالك الكتاب، لا صلة له بالكتابة والصحافة بشكل خاص، لا من قريب ولا من بعيد. ولولا وساطة فلان وفلان لما وجد له مكانا أو حتى موطأ قدم بين هذه اﻷوساط. أمّا عن القصيدة التي رُوِّجَ لها، فهي تشبه كثيرا تلك التي كان ينازل فيها الحاج زاير ومَنْ هو على شاكلته خصومهم.

أما عن القصيدة، فقد إستعان إبن عيدان بنص قديم، كان متداولا آنذاك وعلى نحو واسع، قد يجد البعض فيه خروجا وتجاوزا على الذائقة العامة، لإحتوائه على ما نسميه خدوشا، كان صاحبنا قد إشتغل عليه، محوّرا ما يمكن تحويره، ليبدو صالحا للمناسبة وللمنازلة التي نحن بصددها. أمّا ما بقي منه في ذاكرتي بعد مرور كل تلك السنين، فهي لا تتجاوز البضعة أبيات من الشعر العامي، وللقارئ الكريم الرأي الفصل فيها:

إبن رميض، فدوه الطوله

من يكتـب عشره يصلحـوله

جيب الدفتر، ودي الدفتر

والحاصل ُطرگ الهـلـهوله

واﻷعـوج ما ظن يتـعدل

والسوله تظـل ذيـچ السوله

لم نقف على تداعيات ما جرى لاحقا بين الطرفين اللذين باتا يعرفان بالمتخاصمين، فقد غادرنا الشام مجبرين إلى مغترب اخر، حيث بلاد الثلج والعتمة الشديدة القسوة والوقع على نفوسنا، واﻷكثر بعدا كذلك عن بلادنا وأهلنا وعن نسيم نخيلها العليل.

***

حاتم جعفر - السويد ــ مالمو

يعد الباحث العراقي خزعل الماجدي، واحدًا من أبرز المفكرين العرب، وهو مشغول بكيفية تشكل العقل الشرقي، لذا يبحث دائمًا في أصوله، الأساطير والأديان والحضارات، فهو يتقصى جذوره الأسطورية وبنيته الدينية وتشكّلاته الحضارية التي عرفتها المنطقة، يبرزها ويحلل ما فيها من معلومات، ويخرج بنتائج صادمة في أغلبها.

وعندما يُذكَر اسم الباحث الكبير، الدكتور خزعل الماجدي في مجالس الفكر، تخطر في بال المتخصصين بحقول عدة؛ الكثير من التساؤلات للحصول على إجابات متعمقة وشافية في مجالات اشتغل عليها الماجدي خلال سنين طوال، لا سيما في تخصص علم وتاريخ الأديان والحضارات القديمة، فضلا عن كونه شاعر وكاتب مسرحي متفرد بنتاجاته. كل منتج فكري للماجدي هو بمثابة “موسوعة” بحالها.

بخطوات مدروسة، شق الدكتور الماجدي حياته نحو الإبداع منطلقا من الشعر ليغوص بعالم الحضارات والأديان والميثولوجيا، ولم يترك للفن والمسرح فرصة الهرب من تحقيق نجاحاته المبهرة، حتى بات اليوم ثروة فكرية كبيرة.

وخزعل الماجدي، باحث عراقي في علم وتاريخ الأديان والحضارات القديمة، وشاعر وكاتب مسرحي ولد في كركوك عام 1951. أكمل دراسته في بغداد، وحصل على شهادة الدكتوراه في التاريخ القديم من معهد التاريخ العربي للدراسات العليا في بغداد عام 1996. عمل مديراً للمركز العراقي لحوار الحضارات والأديان في العراق ما بين 2004 - 2006، وما بين عامي 2007- 2014 حاضر في جامعة "لايدن" بهولندا، وعمل في عدد من الجامعات المفتوحة في هولندا وأوروبا، وهو يدرِّس تاريخ الحضارات والأديان القديمة.

ألف مجموعة كبيرة من الكتب في الميثولوجيا والتاريخ القديم والأديان القديمة والشعر والمسرح وتاريخ الأديان وعلم وتاريخ الحضارات، ونذكر منها مثلاً: سفر سومر، حكايات سومرية، ومثلوجيا الأردن القديم، ، أديان ومعتقدات ما قبل التاريخ، جذور الديانة المندائية، الدين السومري، بخور الآلهة: دراسة في الطب والسحر والأسطورة والدين، متون سومر: التاريخ. المثولوجيا. اللاهوت. الطقوس، إنجيل سومر، إنجيل بابل، الآلهة الكنعانية، الدين المصري، المعتقدات الآرامية، المعتقدات الكنعانية، موسوعة الفلك في التاريخ القديم، مثلوجيا الخلود: دراسة في أساطير الخلود قبل وبعد الموت في الحضارات القديمة، المعتقدات الأمورية، أدب الكالا.. أدب النار/ دراسة في الادب والفن والجنس في العالم القديم، المعتقدات الإغريقية.. وهام جرا.

وفي تلك الكتابات تمكن خزعل الماجدي من أن يلقي الضوء على بعض من أفكاره النيرة في الميثولوجيا وتاريخ الأديان؛ فمثلا فيما يخص الحضارة وأصولها قال خزعل الماجدي: لقد صحّح العلم المعادلات الخاطئة في السحر والدين. وذلك بالاعتماد على أن هناك نوعان من المعرفة. الأولى معرفة حدسية لا تقوم على التجربة والاستدلال بل على الظن والاعتقاد، أنتجت “السحر والدين والفلسفة”، وحين ظهرت الفلسفة في الأديان التوحيدية، واجهها رجال الدين والفقهاء بقوة وحاولوا طردها من ساحتهم؛ لأنهم يعرفون أنها قد تؤثر على المتدينين وتحرفهم عن الدين. حصل هذا بقوة في كلا الدينين المسيحي والإسلامي.

وقد سئل خزعل الماجدي حول مصدر الأديان في المنطقة العربية، فقال بأن “المبدأ واحد في جميع الأديان، لكنه كان متعددا في الأديان القديمة، وواحدا في الأديان التوحيدية. ثم أن مصدر الأديان الأول قبل الأديان القديمة والوسيطة، كان في عصور ما قبل التاريخ، في العصرين الحجري الحديث “الماترياركية” والعصر الحجري النحاسي “الباترياركية”، ثم سارت الأديان على النهج “الباترياركي” حتى يومنا هذا.

وبشأن مستقبل الأديان، يبيّن الدكتور الماجدي، أن التوترات الأيديولوجية الحالية في الأديان ستخفّ في المستقبل، ولن يجد أصحاب التشدد السلفي لهم مكانا بعد قرن من الزمان مثلا، ولذلك سيضطر الجميع للتخلي عن هذا التشدد ويلجأ لإصلاح الدين روحيا، وهنا يقول: تتمتع الديانات القديمة بالتسامح على عكس الديانات الإبراهيمية التي احتكرت الله ونشأت الحروب في عصرها، والسبب لأن الديانات القديمة قومية الطابع، وكل شعب مسؤول عن دينه ولا علاقة سلبية له بالآخر، وهكذا تعايشت الأديان بقدر تعايش الشعوب ولم تنشأ حروب بين الشعوب لأسباب دينية".

ثم يردف الدكتور الماجدي ، أنه في ذلك الوقت سيكون غير المتدينين قد أنتجوا فسحة للنزعات الروحية الجديدة “كاليوغا والموسيقى والرياضة والشعر والفن”. حينها سيكون هناك تفاعل وارد بين الروحانية الدينية والروحانية اللا دينية، وسيجعل المستقبل أكثر قبولا بالروحانيات عموما، ومنها التصوف والغنوصية.

كما يشير إلى أن الأديان الإبراهيمية، وخصوصا المسيحية والإسلام، أديان شمولية تبشيرية تريد أن تُلغى الأديان التي قبلها وبعدها وأن تكون هي البديلة عنها، وهذا سبب كاف لنشوء التوتر والحروب والنزاعات والغزو باسم الدين.

ويعتبر الماجدي بأن المسيحية والإسلام تصادما ببعضهما بسبب هذا التنافس وتحاربا بأعنف الحروب -أشهرها الحروب الصليبية-. لا بل أن المذاهب التي نشأت في كلا هذين الدينين، كانت سببا لحروب ومعارك طاحنة، فهل هناك أدلة أكثر من هذه؟.

في كتاب "الدين المصري" يبيّن الماجدي، أن أى دين يتكون من مكونات أساسية هي "الأسطورة والمعتقد والطقس"، ويؤكد أن هناك أساطير كثيرة جدا في الإسلام، و"هذا يشمل جميع الأديان حتى الحديثة منها، والأساطير الإسلامية موجودة في كل الكتب الإسلامية وكتب التاريخ وقصص الأنبياء المعروفة، لكن الأساطير لم تعد عن الله لأن الله أصبح واحدا بعيدا ولا قصص أو حكايات عنه".

وفيما يخص صراع الأديان، يقول الماجدي إنه قائم منذ العصر الوسيط وإلى يومنا هذا، وهو ليس الأبرز في عصرنا، بل هناك اليوم صراع ثقافي واقتصادي وإعلامي وعسكري وسياسي… الخ، ويضيف بالقول "في مناطقنا الإسلامية يعمل صراع الأديان بشكل أقوى من غيره من الصراعات؛ لأن الأيديولوجيا الدينية هي المسيطرة على الدين الإسلامي بشكل خاص؛ ولأن الإسلام اليوم مصاب بداء الإسلام السياسي، ولذلك يجب أن ينشط الجانب الروحي فيه بشكل أقوى ليكون الصراع أقل"، بحسب الماجدي.

وفيما يخص الفرق بفكرة الخلود بين الحضارتين الرافدينية والمصرية، يوضح خزعل الماجدي، أن الخلود قبل الموت والبحث عنه، كان واضحا وجليا في تراث وادي الرافدين، أما الخلود بعد الموت والاستسلام له فى حياة الآخرة فواضح وجلي  في تراث وادى النيل، أي أن الخلود قبل الموت كان هاجسا ملحا عند العراقيين القدماء ولكنهم اعترفوا بعجزهم شبه الكامل عن الحصول عليه ولذلك اخترعوا بدائل جزئية عنه كالمعرفة والتكاثر والسم والشفاء.. إلخ.

وحول حقيقة الموت سئل الماجدي : كيف تعاملت الشعوب القديمة مع الموت وواجهت تداعياته عليها؟

فأجاب الماجدي قائلاً: كان الموت هو السؤال الأول في الدين، بل إن الهاجس الديني عند الإنسان ابتدأ بالموت؛ فمنذ العصر الحجري القديم والأوسط ظهرت مدافن الإنسان وقبوره وظهر معها السؤال الديني، واستمر في كلّ عصور ما قبل التاريخ. لكن الشعوب التاريخية القديمة طرحت الموت كموضوعٍ للتقصّي والبحث، فرأت أنّ الآلهة لا تموت، وأن الموت مرتبط بالإنسان والكائنات الحيّة فقط. وتفاوتت الديانات القديمة في معرفة طبيعة الموت، فالسومريون رأوا أن الروح تخرج من جسد الإنسان وتذهب إلى العالم الأسفل الذي هو تحت القبر، وتنحبس هناك بلا حساب ولا ثواب ولا جنة ولا نار. أما الجسد، فيتحول في القبر إلى تراب. أما المصريون القدامى، فقد رأوا عكس ذلك تماماً، فهم يعتقدون أن الجسد والروح يذهبان معاً إلى عالم آخر اسمه (دوات)، وهناك يجري وزن الروح بريشة العدل (ماعت)، فإذا كانت الروح خيرة فستذهب إلى حدائق أوزيريس. أما إذا كانت الروح مخطئة، فستذهب إلى عالم الجحيم المليء بالنار والأفاعي. وتؤمن الديانة الهندوسية بتناسخ الأرواح بعد الموت إلى حين تصفية أخطائها، ثم تعود إلى الهيئة البشرية. ويؤمن أتباع الديانة البوذية بدورة الموت والولادة بعدها باستمرار، حتى يعي الإنسان حقيقة الوجود بشكل كامل.

ويستطرد الماجدي فيقول : في الصين لم يبالوا كثيراً بعالم الموت، فقد كان كونفوشيوس يقول: "الإنسان لا يعرف ولا يفهم الحياة فكيف سيعرف أو يفهم الموت؟". ومثله، تقريباً، كان لاوتسي يقول: "الموت لا يفهم الحياة، والحياة لا تفهم الموت، المستقبل لا يفهم الماضي والماضي لا يفهم المستقبل، فلماذا سأفكر إذا كنت أنا أو السماء والأرض إلى زوال؟"... أما الديانات التوحيدية، فتؤمن بأن هناك حياة أخرى بعد الموت، وتعتمد على الإيمان والأعمال التي قام بها الإنسان خلال حياته؛ حيث ينال النار عقاباً، أو الجنّة ثواباً.

تحية طيبة للدكتور خزعل الماجدي الذي كان وما زال يمثل لنا نموذجا فذا للمفكر الموسوعي الذي يعرف كيف يتعامل مع العالم المحيط به ويسايره في تطوره، وهذا النموذج هو ما نفتقده بشدة في هذه الأيام التي يحاول الكثيرون فيها أن يثبتوا إخلاصهم لوطنهم بالانغلاق والتزمت وكراهية الحياة، وإغماض العين عن كل ما في العالم من تنوع وتعدد وثراء.

***

أ.د. محمود محمد علي

كلية الآداب – جامعة أسيوط

.....................................

المراجع

1-على الكرمني: خزعل الماجدي في حوار خاص لـ”الحل نت” حول تاريخ الأديان والحضارات القديمة والمسرح والشعر، تم النشر : 6:45 م, الأثنين, 12 سبتمبر 2022.

2- عبد اللطيف الوراري: حوار مع الكاتب والباحث العراقي خزعل الماجدي، مؤمنون بلا حدود ، 27 يناير 2023.

3-مؤلفات خزعل المادي عبر الإنترنت.

 

تعرفت على الشاعر شوقي بغدادي من باب القصة، ولا يوجد شيء محير بالموضوع. فقد بدأ حياته الأدبية بمجموعة "حينا يبصق دما" الصادرة عام 1954، وهي قصص واقعية أشرت لبداية جديدة في النثر السوري. ولكن لسوء الحظ لم أطلع عليها، وبدأت معه من مجموعة "بيتها في سفح الجبل" الصادرة عام 1977. وله مجموعة ثانية قرأتها لاحقا. ربما هي "مهنة اسمها الحلم". لا يمكن أن أجزم، ولكن بأغلب ظني يشير عنوانها لشيء ينمو من خلف الواقع. وقد لفت الأستاذ شوقي انتباهي منذ البداية بقدراته على إعادة تأليف حياة شخصياته، فهو لا يتعايش معهم، بطريقة عبد النبي حجازي مثلا، ولا يحاول تصوير ظروفهم بموضوعية، كما يرغب سعيد حورانية، الزميل الأقرب لقلبه، إنما يعيد اكتشاف مسيرتهم على دروب المشقة، ويحاول أن يساعدهم على اكتشاف خبايا نفوسهم. وهذا شيء لم نألفه من القصة السورية - لا الواقعية ولا الحديثة.

وفي الحقيقة لم ينبع اهتمامي بقصصه لهذا السبب، رغم أهميته، ولكن لأسباب شخصية. فقد كان محررا لصفحة أدب الشباب في ملحق الثورة الثقافي (المقصود الطبعة الأولى بإدارة محمد عمران). وأرسلت له قصة يتيمة هي "عنترة"، وتفضل بنشرها مع تعليق مختصر ورد فيه: إنها تستحق النشر ولكن ينقصها شيء ما. وأضاف: إن كاتبها يحتاج لمزيد من الخبرة والمتابعة.

وبعد ذلك بعدة سنوات التقيت به في جلسة لجمعية القصة والرواية بدمشق، وكانت تحتفل بالدكتور هاني الراهب، ولذلك لم أجد الفرصة لفتح ملفي معه، وإنما استمعنا للدكتور هاني، ولقصة قرأها علينا وكانت بعنوان "الصرصار"، وعلى ما أذكر أنها عن أزمة المجتمع مع البيروقراطية. ثم شربنا جميعا القهوة في مطعم الشرفة التابع لاتحاد الكتاب، وناقشنا ظاهرة القصة الواقعية في سوريا والنهضة التي تشهدها على حساب الحداثة. وحاولت أن أنوه بخصومة المرحوم محي الدين صبحي مع الواقعية، وهجوم الدكتور هاني على نقده في مجموعة قصص عنوانها "جرائم دون كيشوت"، فزجرني الأستاذ شوقي بأسلوبه اللطيف، ودعاني لتأجيل الموضوع.  وعدنا للمحور الأساسي، وهو مؤازرة الأدب السوري للمقاومة الفلسطينية وحركات التحرر في إفريقيا وآسيا.

وشجعني هذا الاجتماع على لملمة مقالاتي الموزعة في الصحف والمجلات، وكانت عن نشوء وتطور القصة السورية، وترددها بين عدة أساليب، ثم تقديم تصور طليعي يدمج الواقع مع الحداثة، وتقدمت بالمخطوط لاتحاد الكتاب. وسرعان ما أتى الجواب بالرفض. وورد في المبررات عدم اتباع خط واحد في التفسير والمعالجة، وعدم دقة النتائج. وأيد هذا الرأي الأستاذ شوقي، وتحفظ على العنوان، وكان على ما أذكر "القصة السورية في ثلاثة عقود".

لم أشعر بالحزن، وإنما بخيبة الأمل، وأعدت تنقيح المقالات ونشرتها في الآداب البيروتية والموقف الأدبي وثقافية جريدة الثورة. وأفردت فقرة لمناقشة دور شوقي بغدادي وزملائه، مثل نصر الدين البحرة وعادل أبو شنب وصميم الشريف، في تطوير القصة السورية.  ثم سافرت إلى لندن للتحضير للدكتوراة في "التكنولوجيا"، ودخلت بسبات اضطراري. وكنت بين حين وآخر أطلع على أعمال الأستاذ شوقي في الصحف، وعلى أخباره مع الموسيقا، ولا سيما إتقانه العزف على العود الشرقي. مع ذلك جرفتني النيرفانا العلمية الجديدة وظروف عملي، وبدأت أتعرف على شخصيته بالمشابهة والمماثلة. مثلا من خلال شاعر أمريكي هو سكوت ماينار، كان يكتب الشعر أيضا ويلحنه ويغنيه مع العزف على الغيتار. وحاولت عدة مرات أن أتكهن: هل حلت روح بغدادي في شخصية ماينار، أم أنه خيل لي، وأن ما يجري هو نتاج القهر العربي الذي يدفعنا بالإكراه لتتبع المستجدات على الساحة الدولية، وإسقاطها علينا.

ربما.

أنا لا أنظر لذلك كدليل على عقدة نقص، ولكن على تطلعات مشروعة للعالمية، ولتجاوز المحن والنكبات. وأدبيات شوقي بغدادي هي شاهد لا يدانيه الشك على هزيمة العرب. وأذكر أنه كتب في إحدى مقالاته أنه تعلم من سنتياغو بطل "الشيخ والبحر" لهمنغواي أن الإنسان ينهزم ولا ينكسر، وأنه بعد كل سقوط ينهض ويعاود العراك بحثا عن الخلاص.

أما حكايتي مع شعره فلها سيناريو آخر يعود لأيام التجهيز الأولى بحلب (اسمها الحالي ثانوية المأمون). وهي بناء كولونيالي وسط خميلة خضراء على مدار العام، مع مكتبة تضم إصدارات الجريدة الرسمية.  وهناك نشأت علاقة ودية مع الأستاذ عبد القادر جنيدي، وهو من المؤسسين لرابطة الكتاب السوريين، وله محاولات شعرية من النمط الموزون أو العمودي. وقد رشح لي قراءة "بين الوسادة والعنق" لشوقي بغدادي، مع مجموعة مؤلفات لأبناء جيله، وعلى رأسهم سلامة موسى وكتاباته عن الداروينية ونظرية التطور.

وقد لفتت نظري شعرية القصائد، وعلى وجه الخصوص نمطها الرقيق بالتصور والإيحاء. فهي لا تباشر مع الفكرة، ولكن تدور من حولها، بطريقة النابغة الذبياني في قصيدة أنشدها أمام ملك الحيرة، وقال فيها: سقط النصيف ولم ترد إسقاطه...

وكان الأستاذ جنيدي مفتونا بهذه الشعرية، فهي عنده دليل على قصدية اللاوعي، وعلى خدمة الصدفة للإرادة البشرية، وأخيرا على غواية الحياء المؤنث. وهكذا كنت أنظر لشعرية شوقي بغدادي: فهي لا ترمم نقصان الواقع وعيوبه، ولكن تحجبه وراء جدار وجودي شفاف. بتعبير آخر كان يلفت نظرنا، بشعره، لما نريد من خلال ما لا يمكن، وهكذا صنع مسافة بين الصورة ومعناها، وهي مسافة قابلة للتأويل، لكنها ليست لغزا غامضا، بل صورة مفهومة.

مثل قوله:

بين مخدتي وبين عنقي

حبل من الحرير.

وأعتقد أنه طور هذا الأسلوب في قصائده المتأخرة المنشورة في مجموعة "رؤيا يوحنا الدمشقي"، وبعدها في "شيء يخص الروح". ولا يمكن أن أنسى اللعبة النفسية في قصيدة حملت عنوان المجموعة.  ومما ورد فيها قوله:

إيه يا زائرة الليل

التي تقرع بابي

ولا تدخل إلا في غيابي.

حتى يقول:

وأنا أعرف أني ساذج

أبدع نصا فارغا

يملأه القراء من بعدي بآلاف المعاني.

لقد استوقفني في هذه القصيدة التناص غير التام - أو الجائر مع شعرية المتنبي. فقد كان هو أيضا هدفا لزائرة غامضة تطرق بابه بعد منتصف الليل. لكن زائرة شوقي لا تدخل وهو موجود، بينما زائرة أبي الطيب تحل في البدن والعظام. وبرأيي أن هذا الحب كان قهريا، ويشير لعاطفة ممنوعة ولكنها تتفاقم. وإذا لم تكن العلاقة بالإكراه فهي دليل آخر على خيبات أملنا بمستقبل ننتظره مع أنه رادع أو موبوء، أو أنه في أفضل الأحوال لا يحمل إلينا غير وعد عاجل بتشويه أمنياتنا المشروعة والصغيرة. وهذه هي موضوعة أدونيس منذ قصائده العمودية وحتى قصائد هذه المرحلة التي يغلب عليها وضوح الذهان وغموض أسباب العزلة وسقوط الموضوع الواقعي في ذات مكبوتة.

وباعتقادي كان مشروع شوقي بغدادي يراهن على ثلاث نقاط.

أولا: التصالح مع الماضي باعتبار أنه ذاكرة متحولة. والتحول بهذا المعنى كان تركيبيا لأن كل وحدة زمنية مسؤولة عن وحدة سردية أو عن ظاهرة لها تصور خاص. ولكنه لم يهتم بالجانب النفسي والحضاري من التجربة وحرص على تفسير الوطني بالاجتماعي (وبهذا السياق يستعمل ثنائيات متقابلة ومترادفة كالعنق والأنشوطة، الفم والأنياب، فم يقبل ويلتهم أو يعض…).

ثانيا: وجد أن الغرائز هي مصدر النزاعات. غير أنه لم يهتم بالحروب البينية وإنما بالتناقضات التي يمكن أن تتطور لحرب دامية. والتناقض عنده هو نتيجة تآكل الذات، ولذلك كان يخاف لدرجة المرض من الدم الذي ينزف منه وليس من الدم الذي يسيل من غيره (انظر قصة: حينا يبصق دما - ولاحظ الرابط الوجودي لمعنى المجتمع، وبطريقة رمزية تعيد للذهن المرض الرومنسي المشهور وهو السل. ولا يغيب عن ذهني ارتباط هذا المرض بالفقر والحرمان وظروف الحياة المتدنية من جهة، وبما يختزنه من شر يهدد الإنسان بخطر الموت من جهة ثانية. وهو ما رشحه لتنظيف حياة الأشقياء من الحب أو ليلعب دور عذول بين العشاق). ولذلك أرى أن حروبه كانت نزاعا على جوهر الحرية - ثورات، ولا علاقة لها بالنزاع على الأرض - تحرير.

ثالثا: وأخيرا اهتمامه بما هو عادي. وهذا يشمل الأفراد والمجتمعات أو الظواهر المباشرة والحالات التاريخية. ووصل به الأمر لوضع أسس لاستاطيقا العاديات. ويمكن أن تفهم من ذلك نزوعه لتعميم الميسر والبسيط لدرجة أثر دائم (كما فعل في قصة: فتاة عادية).

فهل استطاع شوقي بغدادي أن يساوي بين أحلامه وأهداف مشروعه، بتعبير آخر هل تمكن من إضافة معنى تاريخي لذاته الدائمة وغير التاريخية؟.

أترك الإجابة لمن لديهم علاقة أقوى مني مع شعريته التي توهجت رغم ستار الشيخوخة والمرض، وحاليا تزهر رغم أنف الموت.

***

د. صالح الرزوق

{أصبغوا أنفسكم بالصباغة الحية التي جاءتكم من عوالم النور}كنزا ربا/اليمين

اليوم هو الأحد (2023-01-22) استيقظت مبكراً هذا الصباح، السماء ملبدة بالغيوم، أمطار غزيرة هطلت ليلة أمس، تصفحت أخبار (الطقس) تشير المعلومات المثبتة على (الانترنيت) إنه يوم ممطر في عموم مدينة (سيدني) وضواحيها.

سريعاً حلقتُ ذقني وأخذتُ (دوش) حمام من الماء الدافئ، وانتقيت بعض الملابس التي تتلائم مع أجواء سفرة هذا اليوم، مع مظلة -شمسية - تقيني من مطرِ وشمسِ صيف (سيدني) فأنا على موعدٍ لزيارة مكان عزيز على قلبي، وأود بشوق زيارته والتجوال فيه، فقد تهاتفت ليلة أمس مع صديقي العزيز الدكتور(كارم ورد عنبر) وعلمت منه إنه هو الذي سيقلني مشكوراً بسيارته الخاصة للمكان وأخبرني ببعض الأسماء التي سوف نلتقيها معاً في المنطقة فرحت لذلك.

  غادرت الشقة بحذر خوفاً من أيقاظ من يسكن معنا ... فزوجتي (ام مخلد) رفيقة سفرتي، اعتذرت أن ترافقني سفرة اليوم بسب اجهاد وتعب يلازمها من سفرة يوم أمس للبحر .

ذهبت سيراً على الأقدام قاطعاً جسر حديث جميل مشيد على نهر (براماتا Parramatta) يربط الجانب الذي أسكن فيه Wentworth point)) حتى محطة القطار في منطقة ( (Rhodesالجسر فقط لعبور المشاة طريق خاص ذهاب وإياب وكذلك يسمح بالمرور (لباصات) نقل الركاب، وهنالك (باص) نقل للركاب في الأيام العادية عدا أيام العطل ينقل أهالي المنطقة من وإلى محطة قطار ( (Rhodesمجاناً، الوقت لم يتجاوز مدة عشر دقائق سيراً على الأقدام وصلت الى محطة القطار، ببطاقة –كارت- إلكترونه أحملها معي أشرت ببوابات الدخول للمحطة وقت دخولي، أنها تذاكر المواصلات - للقطار والباصات - المستعملة الآن، أخذت القطار المتوجه لمحطة (ليفربول) في محطة (Strathfaild) نزلت من القطار للتبديل لقطارٍ أخرٍ أستقله والمتجه صوب محطة (ليفربول) انتظرت قليلاً بعض الدقائق مستريحاً على أحدى المصاطب التي في المحطة متأملاً حركة الناس وسحنات أشكالهم المتنوعة الأعراق والأجناس والتي تسكن (سيدني) توقف القطار أمامي، تأكدت من أتجاه سيره على ضوء شاشة إلكترونية معلقة في مسقف رصيف محطة الانتظار دلفتُ من بوابةِ القطار بجوفه، أخذتُ مكاني في أحدى مقاعد القطار (المبرد) في الطابق الثاني فالقطار ذو طابقين، فمن الطابق الثاني تتاح ليً فرصة أوسع وأفضل وأمتع للمشاهدة، ارقبُ دائماً الشاشة الإلكترونية،المثبتة أمامي في العربة  فهي تنبهك وتدلك إلى المحطات القادمة.

وصلت محطة قطار (ليفربول) أستغرق وقت كامل الرحلة ساعة كاملة، وصلت قبل الموعد المحدد الساعة التاسعة صباحاً بحوالي (20) دقيقة، من البوابة الإلكترونية أشرت مرة أخرى البطاقة الإلكترونية لإنهاء ركوب القطار.

أنظر من النوافذ الزجاجة للمحطة نحو السماء الملبدة بالغيوم، والمطر الخفيف المستمر، اتصلت هاتفياً بصديقي الدكتور(كارم) أخبرته بوصولي الى محطة (ليفربول) أخبرني أنه (في الطريق) سوف يكون في الموعد وبذات المكان، وأخبرني أنه تأخر قليلاً في البيت بسبب بحثه عن المظلة - الشمسية- والتي لم يعثر عليها، أخبرته أنني بالانتظار ومعي (شمسية) وأخبرته أني سوف اخذ له معي كوب قهوة مع بعض الفطائر فطور من أحد أكشاك المحطة، أجابني شاكراً  أنه تناول فطوره وقهوته قبل قليل.

اشتريت من احد حوانيت المحطة فطوراً ليّ (قطعة كيك بعجينة الموز وكوب قهوة وقنينة ماء للشرب) تناولت الفطور وأخذت معها وجبة (الأدوية الصباحية).

بالموعد المحدد الساعة التاسعة صباحاً وصل صديقي، انزلقتُ سريعاً بجوف سيارته، هطول المطر مستمر، بعد التحية أنطلق متجهاً صوب منطقة (ولِيشيا) كنا نسير وسط مطر كثيف، ماسحات زجاج السيارة الأمامية أوتوماتيكيا تعمل بأقصى سرعتها، دليل كثافة المطر.

كنت أرقب الطريق بعيون مفتوحة، الشوارع، البيوت، الحدائق، حركة السيارات، العمارات الشاهقة المتراصفة، التقاطعات المزودة بإشارات المرور الضوئية تعمل على مدار الساعة  لوحات المرور وهي تحدد الاتجاهات للاماكن والمدن وتحديد السرعة منتشرة على طول الطريق، صديقي الدكتور (كارم) لم يستعمل (جي بي أس الذي في السيارة أو الهاتف النقال) لمعرفة اتجاه الطريق، اخبرني أنه يعرف الطريق، فقد زار المنطقة سابقاً لعدة مرات.

المسافة من محطة (ليفربول) إلى مندي (ولِيشيا) تستغرق من الوقت بين (30 -35) دقيقة بالأيام والأجواء العادية أذن اليوم سيكون الوقت أطول اليوم بسبب المطر الكثيف ... في الطريق ساحة (فلكة) دائرية واسعة جداً قرب طريق (المطار) الجديد، يظهر على صديقي الدكتور (كارم) التردد من الاستمرار بالسير لمْ يكنْ متأكداً من الطريق الذي أختاره بعد ان سرنا به لمسافة قصيرة، أوقف سيارته على جانب الطريق، أخرج العنوان من (الموبايل) وأدار السيارة من المكان المخصص للاستدارة وفي نفس (الفلكة ) أخذ طريق أخر، بعد فترة من الزمن من السير، أخبرني صاحبي (د. كارم) أن كثير من المعالم تغيرت في الطريق، فقد مضت فترة عدة سنوات لَمْ يَزر المنطقة، فهناك تغيرات عمرانية كبيرة جرت بالمنطقة أذ بوشر بتشييد (مطار جديد) قريب من المنطقة فازدادت بشكل كبير حركة البناء والأعمار، والشوارع الجديدة الحديثة في المنطقة، حتى أسعار أراضي وَ بيوت المنطقة بدأت بالارتفاع.

كنتُ أراقب الشوارع الحديثة والقصور والقلاع والمزارع والبساتين والغابات المليئة بأنواع عديدة من أشجار (اليوكاليبتوس) الدائمة الخضرة، وترى على مد البصر الحقول الخضراء المنتشرة على جانبي الطريق.

وسط المطر الكثيف توقف صديقي في مكان مخصص للوقوف وهو يهاتف صديق يستعين به ويتأكد من أسم الطريق والعنوان الذي أرسله له يوم أمس ... جاء الجواب سريعاً انه نفس العنوان ويسير بالاتجاه الصحيح.

دخلنا منطقة زراعية كثيفة التشجير منخفضة انحدرت بنا السيارة  لأقصى نقطة في المنحدر حيث (الجسر) لم اتمكن من مشاهدة النهر جيداً ونحن نعبر الجسر، ثم بدأت سيارتنا تتجه متسلقة تقضم الطريق متجهة نحو الأعلى عندما استوى الشارع وبان كل شيء مكشوفاً، اخبرني (صاحبي) أننا في المكان المقصود الآن.

انعطف الى جهة اليسار في طريق فرعي زراعي وبعد مسافة ليست بالقصيرة على جانبي الطريق حقول خضراء على مد البصر مزارع وبيوت قديمة وحديثة وقصور ومنشآت والعديد قطعان الابقار ترعى بهدوء .

 اندلف صديق بسيارته الى جهة اليسار دخل بوابة لمزرعة مسورة بأسلاك شائكة.. قال ليّ صديقي (د. كارم) بعد أن سحب نفس عميق:

- أخيراً وصلنا بسلام!4920 مندي وليشيا

أذن نحن دخلنا إلى المساحة المخصصة (لمندي ولِيشيا) سارت بنا السيارة مسافة قصيرة هنالك توقفنا في ساحة مخصصة لوقوف السيارات بلطت (بالإسفلت) وعلمت بالمسافات المحددة لوقوف السيارات، خلفها بناية صغيرة طليت باللون  الأبيض.

ركن سيارته في احد الأماكن المخصصة لوقوف السيارات، ترجلنا من السيارة الجو غائم خفَ المطر لكن السماء لم تزل تنث رذاذاً متواصلاً بشكل خفيف.

سرنا على ممر مخصص للمشاة من (الكونكريت) يرتفع قليلاً عن سطح الأرض عرض الممر حوالي (متر ونصف) على جانبي الممر بنايتان صغيرتان انعطفنا داخل أحداهما والتي تحتوي  على عدة غرف نظيفة حديثة أنها مقسمة الى عدة أجزاء قسم مخصص للحمامات الرجالية وَالنسائية وَمغاسل، متوفر فيه الماء، وغرف لتبديل الملابس وغيرها من المستلزمات الضرورية في طقوس التعميد المندائي

عند مشاهدتي لحدود أرض (مندي وليشيا) كانت كبيرة  متموجة، غير مستوية، لكنها تبدو عبارة عن حقل أخضر فيه الأعشاب والأشجار والشجيرات، تابعنا سيرنا على ممر المشاة الكونكريتي، ونحن ننحدر قليلاً قليلاً نحو الأسفل باتجاه النهر، حتى وصلنا الى مكان ينبع وينبثق منه (الماء) لينحدر بانسياب رائق بمجرى قناة مائية أو كما تسمى (ساقية) رصفت بعناية بالمرمر والحجر، على جانبيّ االقناة او الساقية المنحدرة وعلى جانبيها ممر من (الكونكريت) مخصص للمشاة ينتهي بحوض ماء واسع دائري كبير تحيط به عَلَى شكل (هلال) أو نصف دائرة مدرجاتٌ كونكريتية، غلفتْ بالحجر والمرمر وكذلك يُحيط بالحوض والمدرجات سياج من الحجر يفصله ويحميه من تسرب التربة المنجرفة بفعل الامطار للحوض ومقترباته.

ها هو حوض (التعميد/الصباغة ) المندائي الواسع الجديد أمامي، سريعاً إلتقطت له صورة، أنه بالمواصفات المطلوبة التي اتفق عليها جميع رجال الدين المندائيين في استراليا، فالماء يجري فيه باستمرار، يسحب الماء من نهر( نيبين) بمضخة (ماطور غطاس) وينحدر بالمجري المخصص - القناة - خلال انسيابه يتفلتر من كثير من الشوائب، الماء المنساب يزود الحوض الكبير المخصص للتعميد- الصباغة-  وإجراء الطقوس والمراسيم الدينية المندائية التي تشترط عند أجرأها الماء الجاري، وهكذا باستمرار يخرج الماء الزائد بعد تنقيته ليصب في نهر (نيبين) مرة أخرى. 

في هذا المكان كان في استقبالنا بترحيب كبير اخوة أحبة لنا من السادة الأفاضل المشرفين على المكان وهم (خسرو ناصر/ مدير المشروع، وفيصل عنيسي ورياض الخميسي) بعد التحية والسلام، والسؤال عن الأحوال، بدأنا الحديث عن (مندي ولِيشيا) أو (حلم الأجيال) كما وصفته بيانات ونشرات التجمعات المندائية في أستراليا.

 يقع (مندي ولِيشيا) في وسط أرض زراعية، ومساحته الكلية (10) أوكر  - وحدة قياس للأراضي الزراعة في أستراليا - والتي تعادل بمجملها ( 40000) متر مربع، تعود ملكية الأرض (الطابو) باسم (جمعية الصابئة المندائيين في استراليا) وهي نفس الجمعية التي تمتلك (المجمع المندائي في ليفربول).ويقع (مندي وليشيا) مباشرة على ضفة نهر (نيبيان Nepean River) في المنطقة الساحلية من ولاية (نيو ساوث ويلز)...

مضت سنوات عديدة ونحن نسمع سنباشر العمل بمشروع (مندي وليشيا) فقد كنت في زيارة الى استراليا عام (2015)علمت وقتها انه قد تشكلت لجنة كبيرة للمباشرة بالتنفيذ ... لكن تأخر العمل بالتنفيذ طوياً ولا أريد هنا أن أخوض بالأسباب والمسببات ... لكني كنت اتابع اخبار (مندي وليشيا) فبتاريخ (07-05-2019) قرأت خبراً مفرحاً منشور في صفحة (جمعية الصابئة المندائيين في استراليا) على (الفيسبوك) مذيل الخبر أو البيان باسم:

(أخوكم في الكشطا الريش أمة صلاح جبوري

 رئيس طائفة الصابئة المندائيين في أستراليا

 والذي يبشر فيه المندائيين في كافة أنحاء المعمورة بهذا الخبر السار.

أستل من الخبر  هذه الفقرة :

({أحبتي أذ نعلن لحضراتكم عن هذه البشرى، سيباشر العمل بالقريب العاجل، ونبتهل إلى رب العظمة (ماري أد ربوثا) أن يمدنا بعونه ويزيدنا إيمانا لما فيه خيراً لأبناء أمتنا.

وقد أحيل بناء تنفيذ المشروع - مندي وليشيا - إلى عهدة إبن الطائفة البار (السيد خسرو ناصر) وتم تشكيل لجنة مشرفة لمتابعة العروض المقدمة من قبل الشركات وتدقيقها.

نتذرع جميعاً (للهي قدماي) لتسهيل إنجاز المشروع بأبهى صورة وخير المعين}}

فعلاً فرحت لذلك الخبر ورحت أتابع أخبار سير تنفيذ المشروع والتي تنشرها على صفحتها جمعية الصابئة المندائيين ... وأخرها قرأت وأنا في زيارتي لاستراليا خبراً نشر بعد ظهر يوم الأحد (15-01-2023) قرأته بفرح وسرور، خبرٌ طالما انتظرته بشغف وأنتظره مثلي الكثير يقول مانشيت الخبر:

(التشغيل التجريبي لمندي الأجيال في ولِيشيا)

الخبر منشور في العديد من المواقع الصحفية والشخصية على نافذة التواصل الاجتماعي على (الفيس بوك) مع مجموعة كبيرة من الصور لفرح المندائيين وهم يمارسون طقوس التعميد.

قررت أن أذهب إلى (مندي  وليشيا) اتصلت بصديقي العزيز الأستاذ (صلاح معيوف السهيلي/ابو سامر) وأخبرته برغبتي الذهاب للموقع، بأقرب فرصة، فهو خير من يرتب الأمور لمثل هذه الزيارة، عند اتصالي به هاتفياً رحب بالفكرة وأبدى كامل استعداده بتنفيذها، فاتصل بصديقي العزيز الدكتور (كارم ورد عنبر) واتفق معه على ذلك، من حسن الصدف ان يكون الموعد (يوم الأحد التالي المصادف (22-01-2023) وفيه وبذات المكان هنالك تقام مراسيم (عقد مهر) لبعض المعارف من الأصدقاء وهكذا أتفق مع الأستاذ (صلاح معيوف والدكتور كارم ورد) العديد من الأصدقاء للحضور للمكان في الأحد القادم.

صيف (سيدني) لا يؤتمن ففيه تقلبات المناح سريعة أفادتني كثيراً المظلة –الشمسية- احتميت فيها وأنا اتجول في المكان الفسيح المريح – مندي وليشيا- الذي يفتح النفس، الهدوء والسكون والهواء النقي العليل والمناظر الجميلة الخلابة التي تحيط بالمكان، حول الحوض الكبير نصبت عدة سرادق (خيام) للعوائل مندائية العديدة التي كانت قد وصلت قبل وصولنا والتي تروم التعميد أو (اجراء مراسيم عقد المهر أو الصباغة) على ضفة الحوض وجدت صديقي العزيز الكنزبرا (وليد عبد الرزاق خشان) ومعه صديقي الكاتب المجد(بشار عزيز ياسر) والتقيت بصديقيَّ العزيزين فضيلة الترميذا (سليم كاطع ) وصديقي الغالي (رغيد ضامن ورسن) سررت بتواجدهم ولقائهم، بعد التحيات والسلام التقطنا بعض الصور معاً لتوثيق الزيارة واللقاء.

عدت إلى صديقي دكتور( كارم) ومجموعة الأخوة الأحبة الذين التقيتهم ساعة دخولنا الأفاضل (خسرو وفيصل ورياض) وتحدثنا عن همومنا (المندائية) المشتركة حيث التشتت في العديد من بقاع المعمورة.

سألت الأستاذ (خسرو ناصر/ مدير المشروع) عن أهم المعوقات التي واجهتهم خلال الفترة الماضية بعد المباشرة بالتنفيذ بالمشروع؟

- بلطف أجابني:

كان العام الماضي عاماً شديد القسوة علينا وعلى ما أنجزناه فبعد اكتمال معظم الأبنية والطرق والحوض والتي تشاهدها أمامك ضرب المنطقة (فيضان مدمر كبير) أمطار غزيرة جداً مع فيضان نهر(نيبين) الذي تقع على ضفته مباشرة أرض (مندي وليشيا)، وتبعه بعد مدة قصيرة بذات العام فيضان مدمر اخر ؛ وأكمل قائلاً: وهذا لا يحدث إلا في أوقات متباعدة جداً قد تستغرق أكثر من (25) عاماً!

- فسألته عن الأضرار التي حدثت  من جراء ذلك الفيضان المتكرر وغزارة الامطار؟

أجابني: لم تتضرر الأبنية والطرقات والحوض والمدرجات كثيراً، وكان أكثر المتضررين هي المناطق التي تم تشجيرها، وباشرنا مرة أخرى أعادة التشجير.

بابتسامة صادقة وبفرح كبير هنأتهم من كل قلبي وتمنيت أن يتم أنجاز المرحلة الثانية من (مندي وليشيا) بأسرع وقت.

أشار اليّ صديقي الدكتور (كارم) الآن علينا أكمال المرحلة الثانية من الزيارة التوجه للذهاب لمزرعة الدكتور (ماهر مهاوش السبتي) لحضور إجراء طقوس (عقد مهر) لأبن صديقنا العزيز الأستاذ (أبو همام /عبد الكريم سالم العكيلي) ولده الشاب المهذب الوسيم (ليث عبد الكريم العكيلي) على الآنسة الجميلة (سمارة صفاء زامل دشر) وهنالك سنلتقي بكثير من الأحبة و الأصدقاء.

تقع مزرعة الدكتور (ماهر السبتي) قريبة جداً من (مندي وليشيا) وعلى نفس الاتجاه وعلى نفس النهر، خلال دقائق قليلة دخلنا من بوابة المزرعة، ركنت السيارة في المكان المخصص لوقوف السيارات جنب العديد من السيارات، وترجلنا من السيارة، أستقبلنا صوت زعاريد النسوة  وأغاني المناسبات المفرحة الذي يصدح في الفضاء.

توجهنا للسلام على أحبتنا وأصدقائنا الموزعين داخل سرادق (خيام) مؤقتة، نصبت كي تقي المحتفلين من الشمس والمطر، نصبت أمام قاعة بناية كبيرة تجاور النهر .

 الخيمة التي في الوسط أعدت (لمراسيم المهر) ففيها نصبت (الأندرونا) وهي بيت من القصب تجرى فيه قسم من مراسم المهر، فيما السرادق الأخرى مدت بداخلها موائد نضدت عليها انواع الأطعمة والفاكهة والقهوة والشاي، التي وفرها والد العريس الصديق العزيز (أبو همام) لجميع الحضور بلا استثناء للفطور والغداء!

كان في استقبالنا بكلمات الف هله ومرحبة بوجوه مشرقة باسمة فرحة والديّ العريسين (ليث وسارة) والعديد من أفراد اسرتيهما، سلمنا عليهم جميعاً وتمنينا لهم وللعريسين حياة زوجة سعيدة، ووجدت اصدقائي الأعزاء (صلاح معيوف السهيلي وَرياض ناصر المهنا /أبو أريج وَأمين حلبوص المهنا) وذهبت للسلام على فضيلة الريشما (صلاح الكنزبرا جبوري الكحيلي) رئيس الطائفة المندائية في أستراليا والذي يقوم بنفسه بإجراء طقوس (المهر) للعرسان ومعه مساعدين من رجال الدين ومنهم فضيلة الترميذا (بيام جيزاني) .

رغم زخات المطر التي تهب علينا من حين لآخر، لكن كانت اجواء البهجة والفرح والحبور تطغي على المكان، تهاني وَتبريكات وَزغاريد وَأغاني فلكلورية تشيد بجمال ومزايا العروسة وأخلاق وطيبة العريس.

تجولت في داخل البناية الكبيرة التي يقام فيها أيضاً جزء مهم من مراسيم (المهر) التعميد في الحوض،  وخدر العروسة، الذي تكتمل به مراسيم قطع المهر!

 أعجبني جداً تنظيم وعمل ما قام به الكريم المعطاء الدكتور (ماهر مهاوش خفي السبتي) فقد هيأ وخصص هذه البناية والمكان (البناية والمزرعة) والتي تقع على ضفة نهر (نيبين) مباشرة، والتي تحتوي بداخلها على (حوض للتعميد) بحجم جيد يفي بالغرض وغرف لتبديل الملابس ومطبخ وعدة حمامات للنساء والرجال، وغرف للاستعمالات الأخرى.. تجدر الإشارة والإشادة بأن (د.ماهر السبتي) شيد كل هذا البناء ومنذ اكثر من عشر سنوات على نفقته الخاصة، ويستقبل فيه جميع أبناء الطائفة المندائية في (سيدني) لإجراء الطقوس الدينية المندائية في المناسبات الدينية والتي تحتاج لمثل هذا المكان الواسع مع ماء النهر الجاري كأيام البنجة –البرونايا- والأعياد والآحاد وَ أيام طراسة رجال الدين المندائي والتي تستمر لمدة سبعة أيام متتالية؛ تشاركه كرم الضيافة والترحيب رفيقة دربه المهذبة زوجته السيدة الفاضلة (هدى الجيزاني).

فأنا ومنذ سنوات عديدة اتابع بإعجاب شديد العديد من الفعاليات الكبيرة التي تجرى داخل مزرعة الدكتور (ماهر السبتي) وينشر الحدث مرفق بصور له عبر العديد من منافذ التواصل الاجتماعي وهي تشيد بسخاء كرمه وبأخلاقه العالية.

بعد انتهاء مراسيم قطع المهر، ودعنا أهالي العروسين، متمنين لهم التوفيق والسعادة، عدنا بعدها مرة أخرى (لمندي ولِيشيا) لبعض الوقت ثم توجهنا في سيارة صديقي الدكتور (كارم) إلى مدينة (ليفربول) حيث محطة قطار (ليفربول) نقطة أنطلاقنا، عندها ودعت صديقي العزيز الاستاذ (كارم ورد) الورد بأجمل عبارات الأمتنان.

في طريق عودتي وأنا أجلس في مقعدي في القطار، سرحت أعيد شريط فيلم أحداث هذا اليوم، وأنا بغاية السعادة فقد قضيت يوماً سعيداً جميلاً.

***

يَحيَى غَازِي الأَميريّ

كتبت في سيدني يوم الخميس المصادف 16 شباط 2023

 

دع الآخرين يتباهون بالصفحات التي كتبوها

انا فخور بما قرأته

بورخيس

في جولتي اليوم بشارع المتنبي التقيت العديد من الاصدقاء ومجموعة من الشباب العاشقين للكتب، وكان من بين الذين التقيت بهم الصديق الكاتب والقارئ الشغوف فراس زوين، وكالعادة دار بيننا حوار حول الكتب . كان الصديق فراس يشكو من الملل الذي تسببه له قراءة " البحث عن الزمن المفقود " لمارسيل بروست، كنت استمع اليه وفي الوقت نفسه تعود بي الذاكرة الى الوراء الى ذلك الشاب المتلهف لقراءة كل شيء، والذي وجد ضالته في العمل بمجلة الثقافة للراحل صلاح خالص، هناك كان يشاهد فؤاد التكرلي وجليل كمال الدين وغالب هلسا وعبد الغني الملاح، والدتورة حياة شرارة، في ذلك الوقت كنت اعاني من نفس الملل الذي اصاب الصديق فرس زوين وانا احاول حل الغاز ملحمة مارسيل بروست ، في ذلك الوقت كنت قد صممت أن اقرأ الاجزاء الخمسة من الرواية والتي كانت صادرة آنذاك دفعة واحدة، مثلها مثل الحرب والسلم او الاخوة كارامازوف، وكانت تجربة فاشلة لانني وجدت نفسي تائها، بعد اكثر من عام عدت الى البحث عن الزمن المفقود وهذه المرة، حددت لنفسي هدفًا يتمثل في قراءة خمسين صفحة في اليوم ، ووجدت ان مثل هذه القراءة  اشبه بانجاز شجعني على قراءة المزيد،  بعد ذلك اكتشفت أن أفضل طريقة لقراءة البحث عن الزمن المفقود   هي قراءتها ببطء، ولكن بصورة مستمرة من دون ان اضع أي موعد للانتهاء من الرواية . عندما يدور الحديث عن " البحث عن الزمن المفقود " كنت اتساءل :كيف استطاع مريض الربو هذا ان يجد له مكانة كبيرة في عالم الادب من خلال رواية واحدة لا تزال تُعد اشبه بلغز بالنسبة للقراء، ويقال ان قلة قليلة من القراء من واصل السير في دروب هذه الرواية حتى النهاية . وصف فلاديمير نابوكوف، البحث عن الزمن المفقود  بانها أفضل رواية في كل العصور، من خلال موضوعاتها الرئيسية وأسلوبها في تحويل الإحاسيس إلى عواطف، وتجذير الذاكرة والموجات من الرغبة والغيرة والنشوة، يكتب ناباكوف: "هذه هي مادة هذا العمل الهائل والشفاف بشكل فريد " وبالرغم من صعوبة  كتاب بروست وتعقيده، إلا أن الرواية ترجمت  إلى أكثر من 40 لغة، ولا يزال كاتبها يحافظ على وجوده بيننا بفضل القراء في جميع أنحاء العالم الذين يعودون إلى روايته مرارًا وتكرارا .

على مر السنين، نشرت العديد من الكتابات عن بروست وملحمته الروائية ، وكان هناك الكثير من القراء الذين يقولون إن بروست غير حياتهم من خلال منحهم طريقة جديدة تمل ثراءً أكثر للنظر إلى العالم، وجعل الرؤية الى الحياة مرئية، مثلما كان بروست يصف  عمل الفنان الحقيقي، في حالة بروست، أعتقد أنه يساعدنا على رؤية العالم كما هو، ليس فقط جماله الاستثنائي وتنوعه، ولكن ملاحظات الروائي تجعلنا ندرك كيف نتصور وكيف نتفاعل مع الآخرين، مما يوضح لنا عدد المرات التي نخطئ فيها في افتراضاتنا الخاصة ومدى سهولة الحصول على وجهة نظر متحيزة تجاه شخص آخر. وأعتقد أن علم النفس يجد شخصيات بروست غنية ومعقدة  مثل شخصيات شكسبير. تماما كما يصف الامر هارولد بلوم، فإن العديد من شخصيات بروست هي مخلوقات ذات "تنوع غير محدود".  يكتب الناقد الشهير جورج ستاينر وهو يضع مارسيل بروست في الطبقة العليا من الكتاب: "كان بروست الرجل الذي علق القمر من أجلي. إنه مع شكسبير استطاع امتلاك موهبة متنوعة. عندما تقرأ بروست، لبقية حياتك، يصبح جزء منك، بالطريقة التي يعتبر بها شكسبير جزءًا منك. لا أريد المبالغة، لكنني أشعر حقًا أنه الكاتب العظيم في القرن العشرين ".

كانت الروائية  دوريس ليسينج تقول، أنها تقرأ بروست "من أجل الترفيه المطلق".، وعلى الرغم من أنني كقارئ اجد أن " البحث عن الزمن المفقود " ليس عملا سهل القراءة، لكنه كما قال ناباكوف  " فعل إيماني " ،  فكرت في مرات كثيرة التخلي عن مشروع قراءة " البحث عن الزمن المفقود"،  اعتقدت أنه بإمكاني قراءة الكثير من الكتب الأقصر والأكثر إمتاعا في الوقت الذي اقضيه مع هذه الرواية الطويلة ، وكنت أسأل نفسي باستمرار: ما الهدف من كل هذا؟  وكان هذا السؤال يرافق بروست اثناء كتابة الرواية  حيث كرس رسائل لا نهاية لها والعديد من المقابلات الصحفية لدحض منتقديه وشرح الحلقات التي ما زالت قادمة . لكنني أصررت وفي النهاية، كنت ومازلت ممتنا لارادتي التي  أتيحت لي الفرصة لقراءة الرواية كاملة . عندما وصلت إلى نهاية الجزء السابع " الزمن المستعاد " وانا اقرأ الجملة الاخيرة من الرواية " أن الازمنة التي عاشوها متباينة جدا، وتخللتها ايام وايام عبر الزمن "، سقطت جميع قطع اللغز، وقدم بروست نهاية تستحق كل هذا العناء .

فتحت قراءة بروست عيني : لن أنظر أبدًا إلى الاشياء  والناس بنفس الطريقة مرة أخرى . لن أفكر أبدا في الحب والوقت والذاكرة بنفس الطريقة مرة أخرى. وكان الكاتب الفرنسي يطل برأسه بين الحين والاخر  من خلال مؤلفين اختلفت ثقافاتهم وجنسياتهم ،مرة عند الروسي نابوكوف واخرى مع الياباني موراكامي وومرة مع التشيكي كافكا، والكولمبي غابريل غارسيا ماركيز والفرنسي باتريك موديانو، او مع النرويجي كارل أوف كناوسجارد،  لقد استطاع بروست ان يضع نصه بجدارة داخل المشهد الثقافي العالمي، وان يحطم ذكريات الطفولة ويتأمل في شأني الأدب والزمن، ليحاط بحشد من المعجبين لم يتوقفوا في دفاعهم عن الجملة البروستية الطويلة، فيما واصل بروست ملاحقة الذين يخافون الاقتراب من روايته،  مثل كابوس مؤرق.

كان ارسطو يردد بان القراءة توقظ داخل القارئ ما لايعرفه سابقاً في الحياة، ولهذا نجد ان قدر بعض الكتاب هو الاضطلاع بعبء الكشف عن دور الذاكرة في حياتنا . لعل من اكثر الاجزاء الملفتة للانتباه في رواية بروست هو ما يكتبه عن الذاكرة، حيث تذكر رواية مارسيل بروست نوعين من الذاكرة " الذاكرة الطوعية " وهي ما نتحكم نحن باختيار تذكرة مثل ما تناولناه على الغداء بالأمس " و" الذاكرة اللا إرادية " وهي اشياء تنعشنا فجاة من دون انذار وتكون صادمة وتأتي بقوة بحيث تجعلنا نتوقف للحظة قبل ان نكمل مسارنا .

لدى بروست مقطع شهير يتذكر فيه " كعكة مادلين " الفرنسية على الشاي، وبينما ينذوق الكعكة يتم نقله الى الحياة الماضية، ويختفي الواقع مثل نقلة مفاجئة في مشهد فيلم، كما يكتب " ذابت حالات الوعي الأخرى واختفت " وعاد فجاة إلى الوقت الذي كان فيه مع عمته يأكل الكعك نفسه ويشرب الشاي نفسه

يخبرنا بروست ان كعك مادلين هذا لم يُذكره بشيء قبلأ يتذوقه . بروستمثل اي شخص، ليس لديه اي سيطرة على اللحظة وعلى كيف ولماذا يحدث هذا، نعلم جميعنا الاندفاع الشديد للذاكرة اللا إرادية التي تخترق عقولنا . كلما كبرنا، ومضت الحياة يبدو الأمر لو أن وقتنا على الارض يتكون من سلسلة من الحلقات وليس فيلما موحدا احداثه مترابطة . يمكن أن تبدو ذكرياتنا عن حياة طفولتنا أو أيام شبابنا وكأنها اليوم مجرد ذكريات شخص غريب، وليست ذكرياتنا، عندما تظهر هذه الذكريات اللا إرادية فإنها تشبه شبح شخص آخر يأتي إلى ذكرياتنا.

يتالف عمل بروست من اشياء كثيرة، ولكن الشعور بالشفقة والحنين الى الماضي هو بالتاكيد العنصر الأكثر صدى بينها . تمضي الحياة، ونمضي قدما والاشخاص الذين نتركهم وراءنا مثل الغرباء الذين نقرا عنهم في الكتب .

دائما ما يتم الربط بين رواية مارسيل بروست وفلسفة هنري برغسون عن الذاكرة،  عندما بدأ بروست الكتابة كان برغسون المولود عام 1859 من ابرز الفلاسفة الفرنسيين، وكان الطلبة يستمعون باهتمام بالغ إلى دروسه  عن " التطور الخلّاق"، و" المادة والذاكرة " ، وكتبه تباع بشكل جيد وتقرأ في المقاهي والمنتديات الادبية، وكان بروست واحدا من الأدباء الذين ادهشتهم فلسفة برغسون، وكان يبدو قلقا من تاثير برغسون الكبير عليه، حتى انه يكتب في احدى رسائله : " لقد بذلت قصارى جهدي لأحول دون تحويل فلسفة برغسون إلى رواية!"، لكنه لم يكن قادرا على مقاومة اغراء كتاب " المادة والذاكرة "  . كان الفيلسوف الفرنسي الشهير يرى أن الذاكرة ليست ظاهرة فسيولوجية، بل ظاهرة نفسية تعبر عن صميم حياتنا الشعورية، فيميز بين نوعين من الذاكرة: الذاكرة الطوعية، والذاكرة اللا إرادية، فالذاكرة الاولى مكتسبة بالتكرار، ولها جهاز محرك في الجهاز العصبي، وتلك هي الذاكرة التي تَّنصب على الفعل، وهي تستعيد الماضي بطريقة آلية بحتة،.أما الذاكرة اللا إرادية  فهي تختزن الماضي كله، وتحيا في ديمومة مستمرة، إنها " الأنا العميق "، ذاكرة النفس، وهي تصور حادثة انطبعت في الذهن دفعة واحدة، واحتفظت بخصائصها وتاريخها.

كما اهتم برغسون بموضوعة الزمن وهو يقول : " ماذا عسانا أن نكون في الواقع، أو ماذا عسى أن يكون طبعنا، إن لم تكن تلك الحصيلة المركزة التي تجمعت من تاريخ حياتنا السابقة، منذ ولادتنا حتى الآن، إن لم نقل قبل ولادتنا، مادمنا نحمل معنا ميولا وراثية أو استعدادات سابقة على الولادة ؟ " ثم يستطرد قائلا: " صحيح أننا لا نفكر إلا بجزء ضئيل من ماضينا، و لكننا نرغب، و نريد، و نعمل، بماضينا كله، مع ما ينطوي عليه من اتجاه أصلي قد اتخذته نفوسنا منذ البداية. و إذن فإن من شأن ماضينا أن ينكشف لنا بأكمله من خلال قوته الدافعة على شكل ميل أو اتجاه، ولو أن جانبًا ضئيلًا منه فقط هوالذي يستحيل إلى تصور عقلي " – المادة والذاكرة ترجمة أسعد غربي - . ولكن برغسون لا يقتصر على القول بأن :" من شأن الماضي أن يظل حيا باقيا في الحاضر، بل هو يقرر أيضا أن من المحال الشعور أن يمر بنفس الحالة مرتين، وذلك لأنه مهما تكن الظروف متشابهة، أو مهما تكن الملابسات واحدة، فإنها لاتؤثر مطلقا على شخصية واحدة بعينها، مادامت تعرض لها في لحظة جديدة من لحظات تاريخها. و لما كانت شخصيتنا في تكون مستمر، لإنها تبني ذاتها في كل لحظة، مستعينة بما تجمّع لديها من تجارب، فإن شخصيتنا في تغيّر دائم دون أدنى توقف أو انقطاع. و هذا هو السبب في أنه لا يمكن أن تتكرَّر في أعماق شعورنا حالة نفسية واحدة، حتى لو بَدَا لنا ــ لأول وهلة ــ أننا بإزاء ظاهرة واحدة بعينها"  – زكريا ابراهيم دور الزمان في حياة الانسان  مجلة الفكر المعاصر -

لعبت كتابات هنري برغسون عن الزمن، دورا كبيرا في التاثير على تيار الوعي في الادب الحديث، وكان من ابرز من تاثر به مارسيل بروست حيث يؤكد نقاد الادب إن “ البحث عن الزمن المفقود”، رواية بروست الأساسية، ليست في نهاية الأمر سوى تطبيق أدبي لنظرية برغسون حول مفهوم الزمن.

بعد ان انتهيت من الحوار الممتع مع الصديق فراس زوين اقتنيت كتاب ممتعا بعنوان " " ما أجمل العيش من دون مكتبة " لم اصبرفقررت ان اقرأ الصفحات الاولى منه في مكتبة المدى، حيث جلست في زاوية لاستمتع بحديث عن الكتب والمكتبات التي كتب عنها بورخيس يوما بان الجنة ينبغي أن تكون مكتبة ضخمة .. مكتبات .. مكتبات هكذا يصرح مؤلف الكتاب الاسباني ثيسار انطونيو مولينا الذي يقول ان القراءة التي لن تتخلى عن الازدهار هي القراءة النقية الملخصة للحرية " .

***

علي حسين – كاتب

رئيس تحرير صحيفة المدى البغدادية

"ما بين الأسطورة الهولويدية وتاريخ البرازيل في القرن ال 16"

اسم زومبي له وقع مرعب في النفوس وتحول إلى رهابٍ يُصيب ذوي القلوب الضعيفة والهمم المتردية.

ويُعْرَفْ زومبي بالميت الحي الذي تتحرك جثته بفعل وسائل سحرية تمارسها الساحرات لتداهم الأحياء من البشر في الطرقات وبالتالي التسبب بقتلهم؛ ومن ثم تخرج جثامينهم من الأجداث على شكل زومبي جديد، وهذا نوع من شرور السحر الذي كثرت مصائبه على الناس وفق ما كان شائعاً في اسبانيا بعد سقوط الاندلس قبل 526 عاماً، وقد تعرضت الساحرات بفعل محاكم التفتيش للحرق، وغالبا ما يطبق هذا المصطلح غير الحقيقي لوصف شخص منوم مجرد من الوعي الذاتي.

وتلتقي هذه الصورة النمطية للزومبي مع معتقدات بعض المجتمعات المحلية في جنوب أفريقيا حيث يعطى للشخص خلطة عشبية تؤدي إلى فقدانه جميع أعماله الحيوية بحيث يعتبر شبه ميت لبعض الوقت أو اكثر؛ فيما يشتبه ذووه بأنه ميت فيسترعي ذلك دفنه في زنزانته ومن ثم يخرج من قبره شبه حي بعد حين؛ لكنه يفتقد للكثير من الادراكات الذهنية، ويتهم السحرة بإطلاق تعويذات أدت إلى ذلك.

وقد ظهر الزومبي لأول مرة في فيلم "ليلة الحي الميت" الذي أُنتج عام 1968. وتلته المئات من أفلام الرعب والخيال العلمي، التي تتخذ من الزومبي ثيمةً لها. بالإضافة لظهورها في عدد من الألعاب كان آخرها في لعبة الببجي التي يمارسها الشباب بشغف وتبرمجهم على تبني أفكار سوداوية خارج المالوف فتزعزع ثقتهم بانفسهم.

كما أن مصطلح الزومبي موجود في الثقافة الهاييتية وديانة الفودو. حيث تشير إلى موتى أُعيد إحياءهم، من خلال عملية استحضار الأرواح.

هكذا وظفته هوليود في استثمار الخوف وذلك لهدفين:

الأول:- جناية الأرباح المادية الهائلة وقد نجحوا في ذلك.

الثاني:- تشويه صورة أحد الأبطال التاريخيين في البرازيل الذي قاد ثورة للعبيد وأقام لهم دولة متمددة.

ثالثاً:- وربما عن غير قصد جاء مفهوم الزومبي ليعبر عن تحرر العبيد من مقبرة الاستعباد لينتقموا من ساداتهم .. لكن هذه الصورة ظلت مهمشة فالتهمت الأسطورة الواقع التاريخي.

فمن هو هذا الزومبي الذي سنتحدث عنه بإسهاب من باب الإنصاف؟.

وحتى نقف على دوافع زومبي التحررية ومكوناته النفسية وديانته، فلا بد من التنقيب في تلك الحقبة من تاريخ البرازيل المظلم الذي شهد ازدهاراً لتجارة العبيد الرائجة آنذاك وذلك في (القرن ال16) للوقوف على مكونات زمبي الشخصية والتعرف على هويته.

ولنبدأ بمظهره الخارجي وفق ما بدا منه في تماثيله، من حيث نظراته الثاقبة التي تجمع بين الصرامة وطيبة القلب، ووجهه المستدير وبنيته المتينة، فهو فارع الطول ومفتول العضلات إذْ يتمتع بمهابة تمكن النحات من إبرازها كأنها ناطقة، فبدا شامخاً كالصقر صلباً كالبرونز.

بدأت الحكاية من الأندلس التي سقطت على يد القشتاليين عام 1492.. وظهور محاكم التفتيش التي خيرت المسلمين ما بين الرحيل او القتل أو التنصير (ديانة القشتاليين).. وبما ان الأندلس كانت منبعاً للعلم والخبرات التقنية، ولشدة الظلم الذي أصاب الموريسكيين ( وهم المسلمون الذين رضخوا لشروط القشتاليين) فقد هاجر عدد كبير منهم إلى القارة الأمريكية الجنوبية كعاملين في السفن الاستكشافية الإسبانية والبرتغالية؛ لكن لعنة محاكم التفتيش طاردتهم إلى هناك، ومارست عليهم جبروتها، فاستعبدتهم إلى جانب أولئك الذين تم اصطيادهم في أدغال إأفريقيا من قبل تجار العبيد البيض ونقلهم للعمل كعبيد في البرازيل، واستفادت المستعمرات من خبراتهم النوعية.. وحينما تمظهروا جوهرياً بدينهم الإسلامي، واجههم الإسبانيون والبرتغاليون بمحاكم التفتيش الجائرة، وهذه المرة خيروهم ما بين الإبادة أو الانصياع لأوامر "السادة" بتنصيرهم وفق ديانة القشتاليين.

والجدير بالذكر أن الوثائق التاريخية المحفوظة في المتاحف البرازيلية، تؤكد أن أكثرية المنحدرين من الأفارقة الذين جيء بهم كعبيد إلى "البرازيل"، هم من جذور إسلامية، وأنهم كانوا يتلون القرآن باللغة العربية.

وقد وصلت أفواج الرقيق إلى "البرازيل" عام 1538، ولم تمضِ 40 سنة حتى نقل إليها 14 ألف مسلم مستضعف، والسكان لا يزيدون حينذاك على 57 ألفًا، وفي السنوات التالية أخذ البرتغاليون يزيدون من أعدادهم؛ إذ جلبوا من "أنجولا" وحدها 642 ألف مسلم زنجي، وجلّ هؤلاء السود جيء بهم من غرب أفريقيا، على أن أبرز مجموعاتهم هي التي اختطفت من المناطق السودانية: مناطق "داهوتي"، و"أشانتي"، و"الهاوسا"، و"الفولان"، و"البورنو"، و"اليوربا" .. وحُمِل هؤلاء المسلمون في قعر السفن بعد أن رُبطوا بالسلاسل الحديدية، ومات منهم من مات وألقي في البحر من أصيب بوباء أو حاول المقاومة.

وقد وصفت هذه التجارة التي كانت رائجة في الأمريكيتين بداخل المستعمرات الأوروبية في رواية الجذور من خلال شخصية كونتا كينتي للمؤلف الأمريكي أليكس هيلي، والتي تم تحويلها أيضا كمسلسل تلفزيوني،

وهو أفريقي مسلم تم اصطياده في دولة غامبيا الأفريقية وكانت لغته الأصلية «ماندينغا».

ويصف هيلي عملية اصطياد كينتي وكيف نقل مع العبيد مقيداً بالسلاسل في قاع السفينة الخشبية حيث مات منهم ستون ورُمي بهم في البحر ليصبحوا طعاماً للأسماك.

فأصبحت تجارة العبيد أحد أهم عناصر الاقتصاد في أوروبا والأمريكيتين، ذلك الاقتصاد الذي اعتمد على (سواعد السود وعقول البيض).

ويؤكد المؤرخ البرازيلي الشهير "جواكين هيبيرو" في محاضرة ألقاها عام 1958م ونشرتها صحف "البرازيل"، أن العرب المسلمين زاروا "البرازيل"، واكتشفوها قبل اكتشاف البرتغاليين لها عام 1500م، وأن قدوم البرتغاليين إلى "البرازيل" كان بمساعدة البحارة المسلمين الذين كانوا أخصائيين ومتفوقين في الملاحة وصناعة السفن.

عاش العبيد بالمستعمرات الإسبانية والبرتغالية بالبرازيل في ظروف معيشية لا إنسانية وقاسية جداً، حيث منعوا من التعليم لحرمانهم من التحرر الفكري والابتكار، كما حرموا من العلاج الطبي فداهمتهم الأوبئة التي حصدت عدداً كبيراً منهم.. ولم تسعفهم في ذلك أساليب العلاج الأفريقي التقليدية التي يُعْتَبَرُ السحرُ جزءاً منها.

ولم يقف الظلم عند هذا الحد؛ بل جُرِّدَ العبيدُ من إنسانيتهم وطُمِسَتْ معالمُ هويتِهم الثقافية حتى صوتَ العقل والكرامة صودرا من رؤوسهم المُطأطئة، وأصيبوا برهاب السيد الذي مارس عليهم طغيانه، وحرمهم من أبسط حقوقهم وخاصة ممارسة شعائرهم الدينية، حيث أجبر بعضهم على التنصر أو القتل حرقاً ، فيما ظلوا يمارسون الدين الإسلامي سراً كما كان عليه حال المورسكيين في الأندلس. هذا ما تؤكده اغلب الوثائق التاريخية المحفوظة في متاحف البرازيل.

وبما أن طالظلم يولد الانفجار".. و"الحر تأنفه القيود" فقد تجلت هاتان المقولتان في ثورة العبيد بالبرازيل التي قادها باقتدار القائد الملهم، زومبي دوس بالماريس (1655 - 1695) وكان أيضا آخر ملوك كويلومبو دوس بالماريس، وهي مستوطنة من (الأفرو-برازيليين) الذين حرروا أنفسهم من العبودية في نفس المستوطنة، في ولاية ألاغواس الحالية بالبرازيل. حيث يحظى زومبي اليوم بالتبجيل في الثقافة الأفروبرازيلية كرمز قوي للمقاومة ضد استعباد الأفارقة في مستعمرة البرازيل.. إذْ اعتبروه بطلاً قومياً لبلادهم، وغدا استبساله في مقاومة البرتغاليين، مصدراً ملهما للأجيال المتلاحقة من باب القدوة الحسنة.

كما تم إطلاق إسمه على مطار مدينة (ماكاي) التابعة ل (ريو دي جانيرو) الواقعة جنوب شرق البرازيل على ساحل المحيط الأطلسي وهذا تقدير لهذه الشخصية الملهمة التي سعت هوليويد إلى تشويهه وقد خابت مساعيهم في ذلك .

ولد "زومبي دوس بالماريس" عام 1655م في ولاية باهيا الواقعة في الشمال الشرقي من البرازيل التي كانت تَتَّبِعْ آنذاك مجموعة من التنظيم الاجتماعي للمدن يدعى «بالميريس» حيث كان يستمد قوانينه نسبياً من الدين الإسلامي والشريعة الإسلامية ناهيك عن تبني بعض العادات والتقاليد الموروثة لأن طمس هويتهم لم يؤتِ ثماره آنذاك. مثلها كان عليه حال الممالك الإسلامية النائية في غرب أفريقيا التي تم اصطيادهم في أدغالها.

فقد قام زومبي ومن معه من شيوخ الإسلام بالتوجه إلى أفراد الشعب المضطهد والمستعبد، يعظونهم ويرشدونهم ويفقهونهم في الدين ، وينزلون معهم الاكواخ الخشبية وبيوت القش ويعلمونهم القرآن ومبادىء الشريعة الإسلامية السمحاء، مع مراعاة استيعاب الاختلاف في بوتقة الوطن الجديد الذي حاول زومبي تحقيق العدالة فيه لتعويض ما نال شعبه من اضطهاد على يد البرتغاليين والإسبانيين.

وبعد أن ازداد عددهم ، وقويت عزيمتهم ، أعلن الزعيم زومبي قيام دولة بالماريس "البرازيل الإسلامية " عام 1643 وأعلن في دستورها "أن الحرية هي أساس الحكم"، فما كان من البرتغال إزاء ذلك إلا أن أعلنت الحرب على تلك الدولة الإسلامية الناشئة التي تبنت خليطاً بين العلمانية والإسلام ، فانتصرت قوات القائد زومبي عليهم المرة تلو الأخرى، فتوسعت الدولة بشكل كٍبير، إذ احتل البطل زومبي ما يزيد عن عشرين موقعاً في ولاية "باهايا" البرازيلية .

واستمرت (بالمريس) لأكثر من خمسين عاما قدم فيها المسلمون الذين تحرروا من نير الاستعباد أروع صور الإباء والصمود، فقد أظهر السود المسلمون فنوناً من التضحيات الجليلة جعلتهم يصمدون أمام البرتغاليين.

عرض بيدرو ألميدا الحاكم البرتغالي معاهدة صلح مع دولة بالماريس الإسلامية قضت بمنح الحرية لكافة العبيد المسلمين شريطة دخول بالماريس تحت سلطة الحكم البرتغالي.

لم يوافق زومبي على المعاهدة رغم تأييد الكثيرين لها من باب الجنوح للسلم، ويرجع السبب في رفض زومبي للعرض البرتغالي إلى عدم الأمان وأزمة الثقة التي كانت لدى دولة بالماريس تجاه البرتغاليين، فقاد زومبي المعارك المتوالية ضدهم ، منذ عام 1678م ، ولم تستطع السلطات البرتغالية إيقاف مد المسلمين إلا بعد مقاومة طويلة والاستعانة برجال الحدود من مقاطعة “ساوباولو” والتي كان اسمها باوليستا.

إلى جانب ذلك قرر إمبراطور البرتغال أن يتدخل شخصياً لينهي هِذا الحلم الإسلامي الوليد قبل أن ينتشر أكثر من ذلك، فأرسلت البحرية الإمبراطورية آخر ما توصلت إليه آلة القتل البرتغالية ليحاصروا المسلمين عام 1916 م ، وأجهزوا على من طالته الأيادي من الأفرو-برازيليين.

وسقطت بالماريس تمامًا في أيدي البرتغاليين عام 1694م، وأصيب زومبي إصابةً بالغة في إحدى قدميه أثناء المعارك الأخيرة.

لم تمنع الإصابة زومبي من إكمال ثورته على المستعمر البرتغالي فبدا كالقابض على الجمر، بعد سقوط بالماريس، إلا أن البرتغاليين استطاعوا أن يعثروا على مخبأه بسبب خيانة أحد أتباعه؛ من خلال المساومة على حياتِهِ مُقابل أن يدلَّهم على مكان مخبأ زومبي، وبعد القبض عليه تمّ إعدامه على الفور في 20 نوفمبر 1695م بقطع رأسه الذي علق على رمح ليكون عبرة للآخرين.

ويمكن تفسير هذه النهاية المفجعة على نحو أن وحدة الصفوف تؤدي إلى النصر؛ ولكن إذا تفرقت المواقف وأثيرت الفتن واحتدم الصراع بين الإخوة، سيخرج من بينهم الخونة والمضللون لتسليم قادتهم للعدو كما حصل مع زومبي الذي يتعرض منذ عقود للشيطنة الإعلامية من قبل صنّاع السينما القذرة في هوليويد.

***

بقلم: بكر السباتين

23 فبراير 2023

......................

المراجع

1-

Kim Paffenroth. Gospel of the Living Dead: George Romero's Visions of Hell on Earth. Waco: Baylor University Press, 2006.

2- Marinovich، Greg (2000). The Bang-Bang Club Snapshots from a Hidden War. William Heinemann. ص. 84. ISBN 0434007331. {{استشهاد بكتاب}}: الوسيط author-name-list parameters تكرر أكثر من مرة (مساعدة)

3- موقع العاب ببجي (زومبي)

4- نسرين نعيم- زومبي.. القائد البرازيلي المسلم الذي شوهته هوليوود- موقع الجزيرة نت

5- زومبي- الموسوعة الحرة

6- كتاب "مائة من عظماء أمة الإسلام غيروا مجرى التاريخ" ــ صفحة 291 ــ جهاد الترباني ــ دار التقوى نسخة محفوظة 18 مارس 2018 على موقع واي باك مشين.

7- زومبي وإنجازاته نسخة محفوظة 03 ديسمبر 2017 على موقع واي باك مشين.

8- أليكس هالي- رواية الجذور "pdf" يمكن تنزيلها من موقع foul a book u على جوجل

 

اثناء عملي في المكتبة كنت حريصا على اقتناء سلسة بعنوان "كتاب الجماهير" كانت تصدر في بداية السبعينيات عن مديرية الثقافة العامة التي كانت احدى مؤسسات وزارة الثقافة العراقية، وقد صدر عن هذه السلسلة كتاب بعنوان " ماياكوفسكي شاعر الثورة الاشتراكية " لجلال فاروق الشريف، وكتاب فوزي كريم " من الغربة حتى وعي الغربة " وكتاب " جاك لندن " لعبد الحميد العلوجي و" الكندي فيلسوف العقل " للمفكر محمد مبارك، وكتاب " السياب " للناقد عبد الجبار عباس، وكتاب حسين مردان " الازهار تورق داخل العاصفة " وقد صدر الكتاب قبل رحيل مردان باسابيع قليلة، توفي مردان في تشرين الاول عام 1972 وصدر الكتاب في ايلول من نفس العام .. كان سعر الكتاب " 50" فلسا، واستمرت هذه السلسلة بالصدور لسنوات . وفجاة توقف كتاب الجماهير دون معرفة الاسباب، وكان رواد المكتبة يسألونني عن الكتاب ويكون الجواب: لم يصدر . بعد ذلك بفترة وجدت في البريد الذي كنا نستلمه من موزع المطبوعات في العراق " عواد الشيخ علي " كتاب بحجم كتاب الجماهير صادر في الكويت ضمن سلسلة بعنوان " عالم المعرفة " وكان العدد الاول الذي صدر في كانون الثاني عام 1978 بعنوان " الحضارة " تاليف حسين مؤنس الذي كنت قد قرأت له في مجلة الهلال حوارا مترجما مع سيمون دي بوفوار، بعد ذلك عرفت ان حسين مؤنس عالم كبير ومحقق لكتب التراث ومتخصص بتاريخ وادب بلاد الاندلس وعضو مجمع اللغة العربية، بعد سنوات ساحصل على واحد من اجمل كتب حسين مؤنس بعنوان " كتب وكتاب " بمجلدين وفيه يقدم للقارئ مجموعة مختارة من الكتب التي قرأها ، واكثرها كتب تتعلق بالادب العالمي والفلسفة الغربية .. اخذت نسخة من كتاب " الحضارة" وما ان تصغحت الكتاب حتى لمحت اسم المشرف على السلسلة وكان الدكتور فؤاد زكريا الذي كانت معرفتي الاولى بكتاباته عن طريق مجلة " الفكر المعاصر " التي كان يراس تحريرها زكي نجيب محمود ثم تولى فؤاد زكريا المسؤولية ..الكتاب الثاني من سلسلة عالم المعرفة كان بعنوان " اتجاهات الشعر العربي المعاصر " للناقد احسان عباس صاحب الكتاب الشهير " بدر شاكر السياب ..دراسة في حياته وشعره " . وساتوقف عند الكتاب الثالث من السلسلة وهو كتاب " التفكير العلمي " للدكتور فؤاد زكريا، والذي لايزال يعد من ابرز اصدارات السلسلة حتى ان القائمين على كتاب المعرفة عندما قرروا الاحتفال بصدور العدد " 500 " في شهر تشرين الثاني عام 2022، كان الاختيار ان يكون العدد 501 اصدار طبعة جديدة من " التفكير العلمي " – وكانت السلسلة قد اصدرت من قبل ثلاث طبعات من الكتاب كان اخرها عام 1988، كما صدرت طبعات اخرى للكتاب من دور نشر متعددة حتى يمكن ان يعد الكتاب الاكثر النتشارا -وقد افتتح العدد الجديد بمقدمة كتبها المشرف على السلسلة محمد غانم الرميحي بعنوان " فؤاد زكريا .. رجل الاستنارة " يذكر القراء من خلالها باصرار فؤاد زكريا ان تكون سلسلة عالم المعرفة " نافذة الفكر العقلاني والمستنير الذي يجب ان تتمسك به الاجيال المتعلمة العربية الصاعدة " .اتصفح الطبعة الجديدة من كتاب " التفكير العلمي " واسرح مع ذلك الشاب الذي وجد ضالته في كتابات هذا المفكر المصري، ومنهجه باعلاء شأن العقل، واتذكر معها رحلة ما يقارب الـ" 40 " عاما مع كتابات فيلسوف التفكير العبمي الذي كان يؤكد ان التفكير العلمي ليس بالضرورة هو تفكير العلماء فالعالم يُفكر في مشكلة متخصصة مستخدما في تفكيره وفي التعبير عنه لغة متخصِّصة يستطيع أن يتداولها مع غيره من العلماء، هي لغة اصطلاحات ورموز متعارَف عليها بَينهم، أما التفكير العملي فلا يتعلق بمشكلة مشكلة متخصصة بعينها،، ولا يَفترض معرفة بلغة عِلمية أو رموز رياضية خاصة، بل هو ذلك النوع من التفكير المنظَّم، الذي يمكن أن نستخدمه في شؤون حياتنا اليومية.، وهذا ما سنجده ايضا في اختياره لموضوع التفكير العلمي،، فقد كان فؤاد زكريا يرى ان غياب التفكير العلمي هو السبب الابرز فيما نعاني منه من مشكلات حضارية، حيث غياب هذا النوع من التفكير شجع على شيوع انماط من التفكير اللاعقلاني الذي غيب الوعي واشاع الخرافة يكتب في مفدمة " التفكير العلمي": " في اعتقادي أن موضوع التفكير العلمي هو موضوع الساعة في العالم العربي، ففي الوقت الذي أفلح فيه العالم المتقدم - بغض النظر عن أنظمته الاجتماعية - في تكوين تراث علمي راسخ امتد في العصر الحديث طوال أربعة قرون، وأصبح يمثل في حياة هذه المجتمعات اتجاهاً ثابتاً، يستحيل العدول عنه أو الرجوع فيه، في هذا الوقت يخوض المفكرون في عالمنا العربي معركة ضارية في إقرار سبيل أبسط مبادئ التفكير العلمي، ويبدو حتى اليوم، ونحن نمضي قدماً إلى السنوات الأخيرة من القرن العشرين، أن نتيجة هذه المعركة مازالت على كفة الميزان. بل قد يخيل إلى المرء في ساعات تشاؤم معينة أن احتمال الانتظار فيها أضعف من احتمال الهزيمة "4853 فؤاد زكريا

ظل يُطلق على فؤاد زكريا لقب " آخر الرجال المحترمين "، بسبب صلابة مواقفه الفكرية والسياسية، وسنجده يخوض معارك عنيفة مع الازهر ورجال الدين ابرزها معركته الشهيرة مع الشيخ محمد متولي الشعراوي، وسيختلف مع سياسات السادات ويترك مجلة الفكر المعاصر في بداية السبعينيات حيث يسافر مثل استاذه زكي نجيب محمود للعمل في الكويت .

كانت المرة الاولى التي اتعرف فيها على كتابات فؤاد زكريا حين وقع في يدي منتصف السبعينيات كتابه " آراء نقدية في مشكلات الفكر والثقافة"، ومن خلال هذا الكتاب ساتعرف على النظريات اليونانية في فلسفة الفن، وعن الفلسفة والتكنولوجيا في العالم القديم، وعن اليمين واليسار في الفلسفة، وساتجول برحلة ممتعه مع افكار ماركس وهيغل وبرديائيف وكامو وكارل ياسبرز .. اما الكتاب الثاني فكان بعنوان " مع الموسيقى " ساكتشف من خلاله ولع فؤاد زكريا في الموسيقى، وكيف انها بنظره لا تقل أهمية عن الفلسفة، وبسبب شغفه بالموسيقى يصدر فؤاد زكريا اكثر من كتاب ابرزها " التعبير الموسيقي " وترجمة كتاب جوليوس بورتنوي " الفيلسوف وفن الموسيقى "، ثم يصدر كتابا خاصا عن الموسيقار الالماني الشهير " فاجنر " الذي كان له تاثير كبير على فلسفة فريدريك نيتشه، ولعل الموسيقى في حياة فؤاد زكريا هي اداة من ادوات رحلته مع الفلسفة، وكما يقول محمود امين العالم ان فؤاد زكريا يلتقي مع شوبنهاور في رحلة البحث عن الحقيقية الفلسفية في الموسيقى، رغم اختلاف المواقف الفكرية بين شوبنهاور وفؤاد زكريا الذي يكتب: " لن نجد فيلسوفًا تأثر بالطابَع الفريد للموسيقى أكثر مما تأثر بها شوبنهاور. وحسبُنا أن نشير إلى أن هذا الفيلسوف، الذي رأى الكون كله مظاهر للإرادة، ولم يستطع أن يهتديَ إلى هذه الإرادة ذاتها مباشرة، قد اهتدى إليها في الموسيقى، التي لا تقلِّد موضوعاتٍ خارجيةً، ولا تنقل أحاسيس النفس بطرق غير مباشرة، بل تعبر عن كل أوجه الإرادة تعبيرًا مباشرا لا وسائط فيه، ومن هنا كانت في رأيه تَصلُح لفَهْم الطبيعة الكامِنة للعالَم ذاته "- فؤاد زكريا التعبير الموسيقي – .

الصبي الذي كان مبهورا بمنظر الجنازات العسكرية التي تمر من امام بيتهم، سحرته الموسيقى التي تخرج من الآلات النحاسية، قرر ذات يوم أن يصبح موسيقيا، تعلم العزف على آلة " الماندولين "، واخذ دروس في قراءة النوتة الموسيقية، في الليل يستفرد براديو العائلة يبحث فيه عن محطات إذاعية أجنبية تذيع برامج موسيقية كلاسيكية. كان قد عثر على كتيب صغير باللغة الانكليزية عن الموسيقار الالماني الشهير فاغنر، اعتبره احد الاكتشافات الباهرة في حياته، سيدله فاغنر على الفلسفة، يقرأ كتابات نيتشه وشوبنهاور، يجد عند صاحب " هكذا تكلم زرادشت " كيف تمتزج الفلسفة في الحياة وأنه: " يتفلسف بكيانه كله، وبوجوده الكامل، ولا يتفلسف نظريًّا، أو يفكر في مشاكل تجريدية جامدة فقدت صلتها بالحياة. " – فؤاد زكريا نيتشه -

يتذكر انه كتب مخطوطة حول الموسيقى وتاثيرها على الفلاسفة . كان في السابعة عشر من عمره . في الجامعة التي دخلها عام 1945 طالبا في قسم الفلسفة، اخذت الفلسفة تاخذ مكان الموسيقى في حياته، آنذاك كانت الجامعة حلما ورديا بالنسبة الية، وكانت صورة الجامعة عنده تلك التي قرأ عنها في سيرة كانط وهيغل، الاهتمام بتنمية المعارف، ومنذ تلك اللحظة اصبحت الفلسفة الأداة الحقيقية في حياته، وسيجد في زكي نجيب محمود معلما من طراز خاص، يكتب عنه فيما بعد: " لقد جاء هذا الأستاذ ونحن طلبة بالسنة الثالثة، أي بعد ثلاث سنوات من الدراسة الفلسفية، يحمل إلينا أفكاراً غير تقليدية، تخالف ما درجت عليه دراستنا قبل وجوده، جاء هذا الأستاذ ليعطينا صدمة فكرية كانت ضرورية لنا في هذا الحين لكي نعرف أن الفلسفة ليست اتجاهاً واحداً وليست إتباعاً لأي نوع من التقاليد والتراث. لقد جاء إلينا زكي نجيب محمود وهو مشبع بالأفكار الجديدة الثورية التي أثرت علينا تأثيراً كبيرا" . في مقابل زكي نجيب محمود كان هناك عبد الرحمن بدوي الاستاذ الصارم المتشبع بالفلسفة الوجودية، وسيندهش الطالب بسعة ثقافة استاذه بدوي واتساع معلوماته وغرامه بنيتشه . كان فؤاد زكريا قد قرأ كتاب بدوي عن نيتشه، الذي كان يريد تحويل نيتشه الى رمز للشباب وبطل اسطوري يقدم نموذج " الانسان الاعلى " وسُيفاجئ استاذه بدوي بان يقدم له بحثا عن " النزعة الطبيعية عند نيتشه"، يتحول هذا البحث فيما بعد الى رسالة ماجستير، ومن ثم الى كتاب صدر عام 1956.. بعد ذلك سأُلاحق فؤاد زكريا وابحث عن كتبه، فها هو يترجم لنا جمهورية افلاطون مع مقدمة اشبه بالكتاب تعدت صفحاتها الـ " 175 " صفحة، وهي اليوم من افضل الدراسات التي كتبت بالعربية عن هذا الفيلسوف وجمهوريته الفاضلة، يطرح من خلالها تاثير افلاطون على الفكر الانساني، وكيف ان نفوذه في دولة الفلسفة اقوى من اي نفوذ، فهو وجد ليبقى، لكن فؤاد زكريا يأخذ على دارسي افلاطون انهم تعاملوا معه على انه قديس وليس مفكر، فهو في نظره مفكر وقع في اخطاء نظرية كثيرة، وكان مسؤولا عن الكثير من الاتهامات التي وجهت الى الفلسفة، والتي تسيء الى سمعتها في اذهان غير المشتغلين بها، ولهذا يحاول فؤاد زكريا حسب قوله ان: " يعرض افلاطون من خلال محاورته الرئيسية – الجمهورية – في هذه الصورة المزدوجة: صورة الفيلسوف الكبير الرائد من جهة، وصورة المفكر الانسان الذي وقع في اخطاء منها ما يمكن ان يغتفر، ومنها ما زالت الفلسفة، وربما الحضارة البشرية بأسرها تعاني منه " – الجمهورية ترجمة وتقديم فؤاد زكريا - .، بعدها ساذهب في رحلة معه الى هربرت ماركيوز عندما يترجم كتابه " العقل والثورة " ويرفقه بمقدمة موسعه عن افكار هذا الفيلسوف الالماني، تتحول فيما بعد الى كتاب بعنوان " هربرت ماركيوز " وكان من اوائل الدراسات التي سلطت الضوء على افكار هذا الفيلسوف الذي اشعل ثورة الطلبة في باريس عام 1968، يرى فؤاد زكريا أن ماركيوز ظل فيلسوفا حالما، لا ثوريا واقعيا، فقد حاول أن يشعل نار ثورة من نوع جديد، ولكنه أخفق لأنه: " ساعد على دعم النظام الرأسمالي وعلى هدمه في آن واحد" .. إلا ان الكتاب الذي سيظل له وقع كبير في نفسي هو كتاب " سبينوزا " نشره فؤاد زكريا عام 1962، ويعد ايضا من اوائل الدراسات الموسعة عن هذا الفيلسوف المثير للجدل، وقد نال عن هذا الكتاب جائزة الدولة للفلسفة عام 1963 .. في هذا الكتاب يقدم لنا فؤاد زكريا فيلسوفه المفضل في صورةٍ مختلفة كل الاختلاف عن تلك الصورة أو الصور التي تتبادر إلى الأذهان كلما عرض لنا اسم هذا الفيلسوف. فالصورة التقليدية لشخصية سبينوزا هي صورة الفيلسوف المعتكف عن الناس، المنعزل عن العالم، الغارق في التأمل بين جدران بيته، بعيدا عن صخب العالم الخارجي وضجيجه. هذه الصورة التي وُرثت عن مؤرخي حياته، ظلت هي التي يرسمها له الذين عكفوا على كتابة تاريخ الفلسفة ، وقد رسم البعض صورة لسبينوزا باعتباره فيلسوفا اقرب للتصوف ، إلا ان فؤاد زكريا يقرر في كتابه ان هناك سبينوزا آخر ابعد عن أن يكون صوفيا غارقا في التأملات، أو مفكرًا منعزلا منطويا على نفسه، وإنما كان: " بعيدا كل البعد عن أن يكون ناسكا غارقا في التفكير في الأزلية إلى حد نسيان الحاضر. فقد كان، على عكس ذلك، رجل عمل، حريصا على أن يضمن الظَّفر لأفكاره التي عدها خليقةً بتغيير وجه العالم "، وسانتقل مع فؤاد زكريا من الفلاسفة واتجاهاتها الى الفن وفلسفته وعلاقته بالمجتمع، حيث يقدم لنا موسوعة ضخمة وهي ترجمة كتاب " الفن والمجتمع عبر التاريخ " لأرنولدهاوزر، وهي موسوعة لا يستغنى عنها اي باحث او قارئ في مجال الفنون وعلم الجمال، وسيكمل فؤاد زكريا رحلته مع الفن بترجمة كتاب موسوعي آخر بعنوان " النقد الفني - دراسة جمالية"

انتمى فؤاد زكريا المولود في الاول من كانون الاول عام 1927 في مدينة " يورت سعيد " الى اسرة من الطبقة المتوسطة ، اكمل دراسته في مدينته، وانتقل الى القاهرة عام 1945 طالبا في جامعة القاهرة، كلية الاداب قسم الفلسفة، تخرج عام 1945 وكان الاول على دفعته، ثم نال الماجستير ثم حصل الدكتوراه من جامعة عين شمس عام 1956، عين مترجما في الجامعة ثم استاذا و رئيساً لقسم الفلسفة بجامعة عين شمس حتى 1974 وترأس تحرير مجلتي " الفكر المعاصر " و" تراث الانسانية "، انتقل الى الكويت حيث مارس التدريس وتولى منصب مستشار تحرير سلسلة عالم المعرفة الكويتية.

الفلسفة لدى فؤاد زكريا ارتبطت بدوره كمثقف في المجتمع، فهو لم يكتف بالترجمة وكتابة المؤلفات والمقالات الفلسفية، بل اهتم بالشأن الثقافي والسياسي واصدر العديد من الكتب ابرزها: الحقيقة والوهم في الحركة الإسلامية المعاصرة، خطاب إلى العقل العربي، وكتاب مغامرة التاريخ الكبرى تناول فيها تجربة غورباتشوف وانهيار الاتحاد السوفيتي ، وكتاب الصحوة الإسلامية في ميزان العقل. و" كم عمر الغضب (رد على كتاب خريف الغضب للكاتب الصحفي محمد حسنين هيكل). وكتاب عبد الناصر واليسار المصري، وكتاب العرب والنموذج الامريكي، وجميع هذه الكتب تدلنا على شخصية فؤاد زكريا الاستاذ والباحث والمشارك في الاحداث السياسية والاجتماعية والفكرية من خلال تبني افكار تدعوا الى الاصلاح الاجتماعي والسياسي والثقافي وتؤمن بأهمية التفكير النقدي العقلاني الذي يعتبره قاسما مشتركا بين كل ما قدمه من كتابات، وما قام به من مشاريع ثقافية، وكان دائما ما يرى أن الانسان العربي تعرض لهجمات كثيرة جدا ومن جوانب متعددة على انسانيته ووعيه، وهو يرى ان مهمة الكاتب والمثقف هي في المساعدة على صد هذه الهجمات، وهذا العدوان الذي يريد ان يفرض نفسه على الانسان في ميادين متعددة . ومن هذا المنطلق نجد فؤاد زكريا يختار الموضوعات التي تهم العصر الحاضر ، واذا طالعنا الترجمة المتميزة التي قام بها لكتاب هانزر يشنباخ " نشأة الفلسفة العلمية " سنقرأ في المقدمة هذه الملاحظة المهمة التي تشير بوضوح الى منهج فؤاد زكريا في اختيار موضوعاته فهو يقول: ": أستطيع أن أعد ترجمتي لهذا الكتاب عملاً صحيح التوقيت. فالكتاب يعرض وجهة نظر فيلسوف من أكبر ممثلي المذهب الوضعي المنطقي، وذلك في وقت شغلت فيه المعركة الدائرة بين أنصار هذا المذهب وخصومه صفحات غير قليلة من مجلاتنا الثقافية، بل من جرائدنا اليومية أحياناً " ومثلما آمن فؤاد زكريا بقيمة العلم وسعى الى اشاعة التفكير العلمي، فانه وجد في الفلسفة غاية سامية وهي اعلاء شأن العقل ، فالفلسفة في نظر زكريا خلقت لتجيب عن اسئلتنا وفي نفس الوقت تدفعنا للسؤال عن الانسان ومصيره . ولعل في معظم كتبه حاول فؤاد زكريا ان يشتبك مع مشكلات العصر، فالفيلسوف المنهمك في تقديم دراسات عن آفاق الفلسفة ويقوم بشرح الأورغانون الجديد لفرنسيس بيكون، ويكتب عن شجرة الفلسفة عند ديكارت، وعن مذاهب الذرات الروحية لليبتنر، وعن العالم إرادة وتمثلاً لدى شوبنهاور .

في الحادي عشر من آذار عام 2010 يعلن عن وفاة فؤاد زكريا، وكان قد تعرض الى ازمة مرضية ادت الى ابتعاده في الاشهر الاخيرة من حياته عن المشاركة في الحياة الثقافية، ليسدل الستار على صفحة مضيئة من صفحات تاريخنا الثقافي كان فيها فؤاد زكريا يعمل في الفلسفة وعينه على مشكلات المجتمع، مؤمنا أن هدف المفكر والمشتغل في الفلسفة هو تنوير عقول الناس والمساعدة على تطهيرها من كثير من الشوائب الضارة، وتنبيه الناس على مشاكل لكي يكونوا منتبهين اليها، وكان يرى ان قدر المثقف والفيلسوف ان يكون رائدا لمجتمعه لا تعزله غرف الدرس الاكاديمي عن دروب الحياة الصاخبة، ولا تفصله البحوث والكتابات عن معارك الحياة والمجتمع .

***

علي حسين – كاتب

رئيس تحرير صحيفة المدى البغدادية

في مصر المحروسة وحدها تحظى السيدة زينب بنت علي بن أبي طالب بمكانة لا تشارفها امرأة سواها، على أرض مصر الطاهرة باستثناء تاريخها الضارب في القدم والأصالة نسمع زينب الكبرى مقترنة باسم السيدة الطاهرة زينب حفيدة سيد الخلق النبي الأكرم سيدنا محمد (صلى الله عليه وسلم)، زينب التي طالما اقترن الشرف والعزة والنسب الكريم بها؛ أم وأي أم هي السيدة فاطمة بنت محمد صاحبة السيرة الكريمة في التراث الإسلامي قاطبة، زوج بليغ الأمة الإمام علي بن أبي طالب (رضي الله عنه)، أما الأخ فحدث ولا حرج، أما سمعت عن سيد شباب الجنة الإمام الحسين ؟ ألم تسمع وتقرأ وتعي من هو الإمام الحسن بن علي (رضي الله عنهما) هذه هي السيدة زينب التي يحتفي بها المصريون ليس فقط في يوم مولدها بل هي مدد، والمدد في كنه أهل الوجد مطلق العطاء .

وولدت السيدة زينب، حفيدة رسولنا الكريم (صلى الله عليه وسلم) في السنة السادسة للهجرة. حينما أذيعت البشرى بأن الزهراء قد وضعت أنثى باركها جدها المصطفى (صلى الله عليه وسلم) إحياء لذكرى ابنته الراحلة زينب التي كانت قد توفيت قبل مجيئها بقليل  وهي ابنة سيدنا الأكرم علي بن أبي طالب (رضي الله عنه)، وقد تزوجت من عبد الله بن جعفر بن أبي طالب، وأنجبت ستة أولاد وبنتا واحدة.

وتحل ذكرى مولد السيدة زينب كريمة مصر التي يحتفل به المصريون دونما انقطاع أو ملل أو كلل وكأنه بالفعل يوم عيد، وزينب الكبرى التي يلقبها المصريون منذ مئات السنين بأم العواجز هي صاحبة العصمة الصغرى كما يأتي ذكر هذا اللقب في كتب التراث بصفة عامة، وهذا الاحتفاء الشريف بذكرى كريمة مصر السيدة زينب يبدأ منذ النسب الشريف الكريم لسيد الخلق محمد بن عبد الله (صلى الله عليه وسلم) وينتهي مؤقتا بمواقف بطولية خالدة حفرت يوم كربلاء حينما استشهد الإمام الحسين (رضي الله عنه) هذا المشهد الذي لا يمكن محوه ودثره من ذاكرة الأمة الإسلامية، فهو الحادث الفارق في تاريخ العرب، والنقطة الفاصلة بين زمنين لا يمكن الالتقاء بينهما مرة أخرى.

هذه الحادثة التي تقول عنها الدكتورة عائشة عبد الرحمن (بنت الشاطئ) في كتابها الموسوعي " تراجم سيدات بيت النبوة رضي الله عنهن" إحدى المعارك الفاصلة في تاريخ الشيعة بخاصة، والتاريخ الإسلامي بعامة، ودور السيدة زينب كما يأتي في كتاب " مقاتل الطالبيين" لأبي الفرج الأصفهاني  دور حاسم بطولي وسميت يوم كربلاء " بطلة كربلاء " لأنها كانت السيدة الأولى التي ظهرت في اللحظة الحرجة .

ونالت السيدة زينب قسطا وفيرا ووافرا أيضا من الحديث بكتب التأريخ والسير والتراجم لاسيما وأنها شاهدة على أخصب فترات العهد الإسلامي منذ مهده وحتى انزواء الخلافة الراشدة وتحولها إلى ملك عضوض بغير رجعة . لذا فقد تعددت ألقابها وأسماؤها في كتب التاريخ؛ فيذكر محمد ري شهري في كتابه " الصحيح في مقتل سيد الشهداء وأصحابه عليهم السلام " أنها لقبت بزينب الكبرى، للفرق بينها وبين من سميت باسمها من أخواتها وكنيت بكنيتها، كذلك لقبت بالحوراء، وأيضا  بأم المصائب .

ويشير سيد محسن الأمين في كتابه " عيان الشيعة " أنها سُمّيت اُمّ المصائب لجملة من الأسباب جدير بنا في مشهد ذكراها أن نعددها ونسردها دونما خلل أو عطب؛ أولا لأنّها شاهدت وعاينت مصيبة وفاة جدّها النبي محمد رسول الإسلام وهادي الأمة (صلى الله عليه وسلم)، ومصيبة وفاة اُمّها فاطمة الزهراء، ومصيبة قتل أبيها علي بن أبي طالب، ومصيبة شهادة أخيها الحسن بن علي بالسمّ، والمصيبة العظمى‌ بقتل أخيها الحسين بن علي من مبتداها إلى منتهاها، وقتل ولداها عون ومحمد مع خالهما أمام عينيها وحملت أسيرة من كربلاء إلى الكوفة وأدخلت على ابن زياد إلى مجلس الرجال.

وتشير موسوعة ويكيبيديا نقلا عن ثمة مصادر تاريخية مثل كتاب حسن الصفار الموسوم ب "  المرأة العظيمة قراءة في حياة السيدة زينب بنت علي عليهما السلام " وكتاب جعفر النقدي " زينب الكبرى " وكتاب محمد كاظم القزويني " زينب الكبرى من المهد إلى اللحد"   إلى أن ابن زياد قابلها بما اقتضاه " لؤم عنصره وخسة أصله من الكلام الخشن الموجع واظهار الشماتة وحملت أسيرة من الكوفة إلى الشام ورأس أخيها ورؤوس ولديها وأهل بيتها أمامها على رؤوس الرماح طول الطريق حتى دخلوا دمشق على هذا الحال وادخلوا على يزيد في مجلس الرجال وهم مقرنون بالحبال" .

ويشهد التاريخ الإسلامي الصحيح غير المزيف أو المحرف موقفها الاستثنائي البطولي في حضرة يزيد بن معاوية، فحينما جُلبت أسيرة من الكوفة إلى الشام بأمر من يزيد بن معاوية، ورأس أخيها الحسين ورؤوس شهداء أمامها على رؤوس الرماح طول الطريق، حتّى دخلوا دمشق وأُدخلوا على يزيد وهم مُقرّنون بالحبال والقيود، وعندما هموا جميعا بالدخول  على يزيد أمر برأس الإمام الحسين (رضي الله عنه)  فوضع بين يديه، وأخذ ينكث ثنايا الحسين بقضيب خيزران بيده.

ولعل هذا المشهد الكئيب الحزين  أثار غضب عقيلة بني هاشم السيدة الطاهرة زينب بنت علي  ومشاعرها فقامت وخطبت أبلغ وأعمق وأرقى خطبة يمكن أن تلقى في محفل بلاغي يعلم لقرون فائتة ولاحقة أيضا، وكانت هذه الخطبة القصيرة العميقة في مجلس يزيد معلنة انتصار الحق، ونهاية ملكه التاريخي حيث ردت عليه بكل شجاعة وإباء مستصغرة قدره وسلطانه وهي من هي بنت الزهراء وحفيدة المعصوم محمد (صلى الله عليه وسلم)، ومستنكرة فعلته النكراء، ونحظى بأن ننقل سطورا قليلة من كلامها البليغ حين قالت بغير خوف أو تردد أو رهبة :«أظننت يا يزيد حيث أخذت علينا أقطار الأرض وآفاق السماء، فأصبحنا  نساق كما تساق الإماء! أنسيت قول الله تعالى: (وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِّأَنفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُواْ إِثْمًا وَلَهُمُ عَذَابٌ مُّهِينٌ) . أمن العدل يا ابن الطلقاء تخديرك حرائرك وإمائك وسوقك بنات رسول الله سبايا، قد هتكت ستورهنّ وأبديت وجوههنّ، تحدو بهنّ الأعداء من بلد إلي بلد» .

وما أقسى أيام السيدة زينب بعد هذا المشهد المهيب، فهي التي عاصرت وفاة جدها وأمها وأبيها وأخويها فبات القلب مكلوما حزينا لا يعرف للفرح طريقا ولا يدرك للسعادة سبيلا، فحينما قررت أن تقضي ما أبقت الأيام لها من عمر ووقت بجوار جدها النبي الخاتم سيدنا محمد (صلى الله عليه وسلم) حدث ما كان متوقعا؛ كره بنو أمية هذا المقام،فعادت وبعدت بينها وبين جدها المسافات دونما المشاعر والعواطف والأواصر التي لا يمكن أن تقطعها مساحات المكان .

خرجت السيدة زينب إذن من المدينة لأن يزيد بن معاوية رأى في وجودها خطرا عظيما رغم جبروته وقسوته، خرجت راحلة إلى مصر المحروسة، وفي مصر كما نُقل عن مركز الأزهر العالمي للفتوى الإلكترونية " أنارت السيدة زينب رحاب المحروسة فدخلت من مدينة «بلبيس» وكان معها فاطمة بنت الحسين، وعلي زين العابدين (رضي الله عنهم)؛ فاستقبلها والي مصر وأهل مصر استقبالًا عظيمًا، لم يسبق له مثيل، حيث فرحوا كثيرا بقدومها، وذلك حبًا في سيدنا (رسول الله صلى الله عليه وسلم)، وتبركًا بنسبها الشريف.

جاء هلال شعبان من العام الهجري 61 لتطأ السيدة زينب مصر، مصر التي منحت لها لقب السيدة، وكلما سمع أي مصري كلمة سيدة تبادر إلى ذهنه على الفور عقيلة بني هاشم حتى صار الاسم حكرا عليها شرفا وفخرا .

وأعتقد أن كل قلب وجل، وكل عقل أناره الإسلام بصيرة وهدى يحفظ عن ظهر قلب الدعاء الرقيق الجامع المانع الشامل الوافي المنقول عن عقيلة بني هاشم السيدة زينب بنت الزهراء لأهل مصر المحروسة، دعت لي ولأهلي ولشعب مصر العظيم قائلة : " «أهل مصر، نصرتمونا نصركم الله، وآويتمونا آواكم الله، وأعنتمونا أعانكم الله، وجعل لكم من كل مصيبة مخرجًا ومن كل ضيق فرجًا».

وحين استقرت عقيلة بني هاشم السيدة زينب في أرض مصر وعلى أرضها ازدادت المحروسة شرفا وفخرا وعظمة ببقائها  وهبها والي مصر آنذاك مسلمة بن مخلد الأنصاري الخزرجي قصره كله للإقامة فيه، لكنها بنت الزهراء حفيدة المصطفى (صلى الله عليه وسلم) اكتفت بغرفة واحدة فقط بهذا القصر الكبير، أقامت السيدة زينب في هذه الغرفة وجعلتها مكانا شريفا وروضة طاهرة لتعبدها وزهدها، وتحولت هذه الغرفة بعد وفاتها إلى مقامها الآن، وسميت هذه الغرفة المباركة بمقام السيدة زينب، وعملا بوصيتها  استحال القصر إلى مسجد عظيم.

ونقلا عن موقع إسلام ويب العالمي، نجد ذكرها الطيب فكانت امرأةً عاقلةً لبيبةً، وذات رأيٍ حكيم، خطيبةً بارعة، رفيعةَ القدر والمنزلة، وفصيحة، ثابثةَ المبدأ، أما خير الدين بن محمود بن محمد بن علي بن فارس في كتابه الشيق " الأعلام " فيقول عنها " إنَّها كانت من أصحاب العِلم، فقد رُوي عنها أنَّها حدّثت عن أُمِّها فاطمة الزهراء (رضي الله عنها)  وعن أمِّ زوجها أسماء بنت عميس (رضي الله عنها)، وعن بعض موالي النبيّ (صلى الله عليه وسلم) .

هي زينب الكبرى عقيلة بني هاشم حفيدة المصطفى بنت الزهراء والإمام التي جعلت من مصرع أخيها الشهيد مأساة خالدة كما تروي بنت الشاطئ في كتابها، وصيرت من يوم مقتله مأتما سنويا للأحزان والآلام.

***

الدكتور بليغ حمدي إسماعيل

أستاذ المناهج وطائق تدريس اللغة العربية

كلية التربية ـ جامعة المنيا ـ مصر . 

 

 

من معين شط الهندية أحد فروع نهر الفرات العذب نغرف وجهاً عراقياً – كريلائياً مضيئاً في سماء عالمنا العربي المعاصر، الذي خبت نجومه، وقلت شموسه، وتقلصت رموزه، ولكن الخير كل الخير في البقية الباقية من الرواد العظام الذين لا ينساهم التاريخ أبداً في فلسفة هيجل والفكر العربي الحديث والمعاصر.

ومن هؤلاء الرواد نحاول في هذا المقال أن نتطلع إلي نموذج من العباقرة نهتدي عبر طريقه، وشخصية استطاعت أن تستجمع جوانب الفلسفة بكل مباحثها، فاتخذها منهاجاً، ثم باحثاً بدرجة فارس لا يشق له غبار، وسياسي بدرجة جنرال، وقامة من قامات الثقافة والمعرفة والتنوير، إنه الأستاذ الدكتور الكاتب والأكاديمي العراقي حسين الهنداوي .

هذا المفكر الكبير استطاع أن يكون له في كل مجتمع عربي وغربي سافر إليه صوت، وفي كل ناد رأي، وفي كل صحيفة بحث، حتي اشتهر أمره، وذاع ذكره في  مصر والعراق وسائر الأقطار الأوربية والعربية والأنجلو ساكسونية، وهو نعم الكربلائي الوفي، الذي يضحي في سبيل صداقته، ونعم الباذل للجهد والعلم والفكر في سبيل سعادة العراق وسعادة بنيه. وهو من الرجال الذين تجدهم من ثبات علي المبدأ، واستقلال في الرأي، وإدراك لمعني الحياة الحرة.

والدكتور حسين الهنداوي (مع حفظ الألقاب) قامة عراقية مشرفة في أرض الكنانة، من المفكرين العراقيين الذين تراهم كشعلة نشاط، إنه لا يكل ولا يمل، وهو يمثل علامة وضاءة ومشرقة، ولا يمكن لأي دارس أن يتغافل كتابه (مئة عام من الفلسفة في العراق) الذي صدر عن دار الشؤون الثقافية مؤخرا، نشوء وتطور النشاط الفلسفي العراقي المعاصر بولادة الدولة العراقية الحديثة معتبرا أن الفلسفة هي "بوصلة وحارس العقل العام"، حيث يشرح الكتاب الكثير من المفاهيم الفلسفية وانعكاساتها في مسيرة تطور الفكر الفلسفي في العراق الحديث، متوقفاً عند أهم رواده والمشتغلين به وعلاقتهم مع تيارات الفلسفة العالمية المعاصرة.

والدكتور حسين الهنداوي من مواليد مدينة الهندية في العراق في العام 1947 م، حاصل على بكالوريوس في الفلسفة من كلية الآداب جامعة بغداد، العراق، دكتوراه في الفلسفة بدرجة شرف (بأشراف البروفيسور جاك دونت) من جامعة بواتيه (1987)– فرنسا، متخصص في الفلسفة الهيغيلية.

لكن من الأهمية بمكان أن نذكر بعض المؤلفات التي تجسد فكره الفلسفي وإسهاماته العلمية، ولعل من بين هذه المؤلفات الكتب التالية: "هيجل والإسلام" (بالفرنسية)، "التاريخ والدولة ما بين ابن خلدون وهيجل"،"على ضفاف الفلسفة"- الجزء الأول، "هيجل والهيجلية" (تأليف جاك دونت) ترجمة عن الفرنسية، "ولادة الكون لدى فرقة العليّلاّهيّة" (تأليف محمد مكري) ترجمة عن الفرنسية، "أخاديد" – مجموعة شعرية،استبداد شرقي أم استبداد في الشرق؟...وهلم جرا

له عشرات المقالات والمحاضرات والمقابلات الفلسفية والادبية والصحفية منشور معظمها في دوريات ومجلات رئيسية اهمها "الاغتراب الادبي" و"نزوى" وصحيفة "الحياة"، و"دراسات شرقية"، و"الصباح"، و"الصباح الجديد"، والحكمة"، و "إضافة إلى مجلة "أصوات" التي أسسها مع أدباء وفنانين عراقيين آخرين في فرنسا عام 1976. كما ترجمت له عشرات المقالات إلى لغات اجنبية أبرزها الإنجليزية ونشرها عدد من أبرز الصحف الأمريكية من بينها (الناشيونال انترست) و (الناشيونال رفيو) والواشنطن تايمز والعيده غيرها

وقد شغل الهنداوي وظيفة مستشار رئيس الوزراء العراقي مصطفى الكاظمي لشؤون الانتخابات منذ أيار مايو عام 2020 وعمل مستشار الرئيس جمهورية العراق لأربع سنوات بين عامي 2015 و2018 .

وكان الهنداوي قد تولى رئاسة المفوضية العراقية العليا للانتخابات بين عامي 2004 الى 2007 وعمل مستشارا دوليا للشؤون السياسية والقانونية والانتخابات لبعثة الامم المتحدة لمساعدة العراق "يونامي" بين عامي 2008 و2014 وعضواً في بعثة الامم المتحدة إلى هايتي بين عامي 1993 و1995 ومستشارا لدى منظمة العفو الدولية ومبعوثها الخاص إلى كل من لبنان عام 1991 واليمن عام 1992 وعضواً في وفد المنظمة الدولية نفسها الى اليمن عام 1994 .

كما شغل حسين الهنداوي عضوية مجلس امناء هيئة الإعلام والاتصالات العراقية بين عامي 2004 و2008 وعمل رئيسا للقسم العربي في وكالة الاميركية يونايتدبريس انترناشنال بين عامي 1995 و2003 ومحرراً خارجياً في صحيفة الحياة اللندنية وباحثاً في القضايا الاستراتيجية في المركز العالمي للدراسات العربية والبحوث التاريخية والفلسفية في باريس بين عامي 1985 و1990 وأستاذاً للحضارة الإسلامية واللغة العربية في القسم العربي الذي قام بتأسيسه في جامعة بواتييه في فرنسا بين عامي 1982 و1985.

ويشغل الآن الدكتور الهنداوي منصب الأمين العام المساعد للجامعة العربية، وهو يتحدث إضافة إلى العربية اللغتين الفرنسية والانكليزية، وقد خلف الهنداوي في منصبه الجديد الراحل الدكتور قيس العزاوي الامين العام المساعد للجامعة سابقاً، والذي توفي منتصف كانون الثاني يناير الماضي أثر اصابته بمرض السرطان بعد أن تولى منصب نائب الامين العام للجامعة العربية لشؤون الإعلام والاتصال منذ آذار مارس عام 2019 بعد أن تولى مهمة مندوب العراق في الجامعة لمدة 5 أعوام حتى عام 2014.

تحيةً مني للأستاذ الدكتور حسين هنداوي الذي لم تغيره السلطة، ولم يجذبه النفوذ ولكنه آثر أن تكون صدى أميناً لضمير وطني يقظ وشعور إنساني رفيع وسوف يبقى نموذجاً لمن يريد أن يدخل التاريخ من بوابة واسعة متفرداً . بارك الله لنا فيه قيمة جميلة وسامية في زمن سيطر عليه السفهاء، وأمد الله لنا في عمره قلماً يكتب عن أوجاعنا، وأوجاع وطنناً، بهدف الكشف عن مسالب الواقع، والبحث عن غداً أفضل، وأبقاه الله لنا إنساناً نلقي عليه ما لا تحمله قلوبنا وصدورنا، ونستفهم منه عن ما عجزت عقولنا عن فهمه.

تحية وفاء وعرفان واحترام لهذا الأستاذ الجليل الدكتور حسين الهنداوي الذى ظل معدنه أصيلًا لامعًا لا يصدأ أبدًا، فهو ذلك الذي كان متربعًا على قمة أساتذة الفلسفة الهيجلية في مصر والوطن العربي، كما كان صاحب قلب كبير، وعاطفة جياشة، وكبرياء لا ينحنى، ونفس تعلو فوق كل الصغائر. بارك الله في حسين هنداوي بما قدم لنا ولغيرنا من إسهامات مجيدة فى فلسفة هيجل.

***

د. محمود محمد علي

رئيس قسم الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقبل - جامعة أسيوط

في زمن مواقع التواصل الاجتماعي يجد القارئ نفسه يشعر بالتذمر عندما تلمح عيناه مقالا لكاتب يأخذ مساحة صفحة كاملة . فمن يملك الوقت والرغبة في متابعة سطور تتجاوز كلماتها ال" 3000" كلمة واكثر احيانا، وقد علمتني هذه المهنة وخصوصا في السنوات الاخيرة ان اعتمد على  القارئ الذي يرافقني كظلي والذي يحذرني من المطولات التي يسعى اصحابها الى تحسينها بكلام مكرور  وممل، لكن هذا القارئ يفقد كل اسلحة التحذير ويجد نفسه عاجزا عندما تطالع عيناه مقالا ياخذ مساحة صفحة كاملة مذيلا باسم " سناء البيسي " تتحفنا به صحيفة الاهرام صباح كل يوم سبت، ومن لا يعرف من هي سناء البيسي،  اقول له انها اميرة صاحبة الجلالة، جلست على عرش الامارة  منذ اللحظة الاولى التي قرأ فيها مصطفى امين الخبر الذي كتبته عن زيارته لقسم الصحافة وكانت آنذاك طالبة في المرحلة الاولى تدرس في قسم الصحافة، عندما طلب مصطفى امين ان يكتب الطلبة انطباعات عن زيارته كتبت سناء البيسي" الأستاذ مصطفى أمين ليلقي علينا محاضرة لم أفهم معظمها لأنه كان ينفث كلماته بين أنفاس سيجارته التي غرسها بين شفتيه قضاعت كلماته مع الدخان" ليكتشف مصطفى امين في هذه الكلمات موهبة متميزة ستواصل مسيرتها مع صاحبة الجلالة ولتصبح علامة بارزة من علامات الصحافة العربية . في كتابه الممتع " صنايعية مصر " يذكر عمر طاهر ان الرئيس السادات اراد ان يجعل منها رئيسة لتحرير مجلة حواء فرفضت، وحاول ان ينقل خدماتها الى جريدة " مايو " جريدة الحزب الذي يرأسه لكنها تملصت ايضا واصرت على الاستمرار في عملها في الاهرام لتؤسس بعد سنوات ضمن مطبوعات الاهرام مجلة " نصف الدنيا" التي صدرت عام 1990 ولتجعل منها واحدة من اهم المجلات الاسبوعية العربية، لم تكن مجلة متخصصة بالمرأة فقط وانما مجلة تتطلع الى جميع القراء، تقرأ فيها مقالات احمد بهاء الدين ومفيد فوزي ويوسف ادريس، واقنعت نجيب محفوظ ان يعود الى الكتابة بعد تعرضه لمحاولة الاغتيال فنشرت سلسلة " احلام فترة النقاهة " وكان نجيب محفوظ يقول لها  "هيهات أن أبلغ ذروة البلاغة التي تتمتعين بها"، وطلب منها ان تتولى اعداد هذه الاحلام وتكتب لها مقدمة تعد اليوم واحدة من اجمل المقدمات التي كتبت عن صاحب الثلاثية. إلى جانب إسهامتها في، قدمت سناءالبيسي مجموعة من الكتب والأعمال الأدبية المميزة، كان واحدا منها كتاب "دندنة" الذي وجدته امس في مكتبة تنمية وكنت دائم البحث عنه وفيه توثق البيسي لعالم الدندنة والموسيقى العربية التي أثرت في وجداننا، وكانت قد اصدرت قبل ذلك مجموعة كتب منها  "امرأة لكل العصور" الذي حوله صلاح جاهين إلى مسلسل "هي وهو"، كما ألفت المجموعة القصصية "في الهواء الطلق"، و"الكلام الساكت" و"مصر يا ولاد"، و"أموت وأفهم"، و"عالم اليقين"، "الكلام المباح"، و"سيرة الحبايب- 55 شخصية من قلب مصر". واخر كتبها الذي صدر هذا العام بعنوان " الحرف الشريف " وفيه تتحدث باسلوبها المتفرد عن كواكب الصحافة والثقافة من طه حسين والعقاد وفكرى أباظة وتوفيق الحكيم وهيكل ومصطفى وعلى أمين والتابعى وجمال حمدان وعبدالرحمن بدوى والشرقاوى وصلاح عب الصبور   وسهير القلماوى ونعمات أحمد فؤاد ونجيب محفوظ وزكى نجيب محمود ورجاء النقاش وخيرى شلبى وأحمد بهاء الدين والطيب صالح  وفتحى غانم.

في دندنة توثق سناء البيسي عصرا  من الفن والطرب والعزف وأبيات الشعر..ففي الكتاب نمكث مع صناع النغم، وصناع الكلام، وسلاطين الطرب، واساطين الالحان بكلمات اشبه بالسحر تبدأها بجملة عجيبة " سمعني، اطربني .. تشجيني .. ارأف بحالي .. وغني لي غنوة الحانها حلوة تاخذني بعيدا " .

من كامل الخلعي ومرورا بزكريا احمد وسيد دوريس والسنباطي ومحمد فوزي والطويل والموجي وسيد مكاوي وبليغ وليس انتهاء بمنيرة المهدية وام كلثوم وعبد الوهاب وفريد الاطرش واسمهان وعبد المطلب وليلى مراد والعندليب وفيروز ونجاة وصباح وترفق معهم اصحاب الكلمات من احمد شوقي ومرورا برامي وبديع خيري ونزار قباني وكامل الشناويدوحسين السيد ومرسي جميل عزيز وتنتهي باحمد فؤاد نجم والشيخ امام حيث تصف اغنياتهم بانها كانت " اغان من طراز فريد .. تكاد تكون اول اغاني فلسفية . تغوص بك في تاملات عميقة ثم تحلق بك معها في سماوات الحيرة والتساؤل، اللحن يعبر عن المعنى، والمعنى يرقى باللحن ويتالق "

سناء البيسي الاستاذة والماركة المتميزة في الصحافة تعطي للكتابة الصحفية افقها وشخصيتها وتصور الاخرين بريشة رسام خبير يسعى لتقريب الملامح ويسجل نبض الحياة ويبرز الوان اصحاب الدندنة لنتجول ونحن نقرأ "دندنة" في متحف فني وادبي ينبض بالحياة وعبق التاريخ وذكريات الزمن الجميل.

***

علي حسين – كاتب

رئيس تحرير صحيفة المدى البغدادية

من بين الكتب التي اقتنيتها من معرض القاهرة كتاب "الفهامة" وهو كناب عجيب وغريب حيث يخوض فيه المؤلف شهاب الخشب في اعقد الموضوعات الفلسفية بلغة بسيطة ويصر على الكتابة باللهجة المصرية .

في سيرة شهاب الخشب نقرأ " كاتب وباحث في الأنثروبولوجيا. من مواليد القاهرة 1991، عاش في مدينة مونتريال الكندية، رسلته في الدكتوراه عن صناعة السينما المصرية نالها من جامعة أكسفورد. يعمل استاذ في جامعة اكسفورد في الانثربولوجيا البصرية . كنت اتابع مقالاته في بعض المواقع الالكترونية

في " الفهامة " والتي استمد عنوانها من سلسلة كاريكاتيرية كان ينشرها عبقري مصر صلاح جاهين في الستينيات، يحاول الخشاب ان يقدم للقراء اصعب المفاهيم الفلسفية، بطريقة سلسة من خلال ربطها بالحياة اليومية فمثلا عندما يكتب عن مفهوم الهيمنة نجده يقول : جرامشي بيفرّق ما بين جزئين أساسيين في المجتمع: المجتمع المدني، اللي فيه الناس المطحونة العادية مع شوية مثقفين، والمجتمع السياسي أو “الدولة”، اللي فيها كل فروع القمع المباشر من الجيش والبروقراطية والحكومة. حسب جرامشي الدولة عندها طريقتين للسيطرة على المجتمع المدني: يا بالقوة البحتة، يا بالهيمنة. طبعا مافيش دولة في الدنيا هتعرف تقمع الشعب بشكل مباشر إلى الأبد، لأن الخسائر المادية عالية والاستقرار للمصالح الكبيرة مستحيل، إذن لازم الدولة تفرض هيمنتها، يعني تنشر ثقافة عامة للناس عشان تصدق إن الحكم القائم كويس، وإن الطبقة الحاكمة كلها ناس كويسين"

في شبابي تذوقت الفلسفة من خلال كتابات اساتذة كبار كان على راسهم الراحل الكبير عبد الغفار مكاوي وكتابه الذي لا ينسى " مدرسة الحكمة " حيث كنت اقرأ فصول الكتاب واتخيل نيتشه وهايدغر وكانط وكانهم يتحاورن معي . ثم اكتشفت العملاق زكي نجيب محمود والسلسلة التي كان يكتبها عن الفلاسفة في مجلة العربي الكويتية .. يالها من متعة ان تجلس الى حوار برتراند رسل وجورج مور ووايتهد وهيوم وجون ديوب وكاسبر، وتكتشف ان الفلسفة عالم جميل عكس ما كنت تسمعه من انها " بعبع " مخيف حاذر ان تقترب منه . ومثلما يكتب شهاب الخشاب في مقدمة كتابه " الفهامة " وتُبطل فكرة أن الفلسفة تضييع للوقت (ما تِتفلسِفش يا أخي..) أو مجرد عقيدة شخصية (فلسفتي في الحياة هي…)، وأنها عبارة عن نظريات مفارِقة تضُر بأكل العيش والأخلاق" . حاولت ايضا ان اخوض تجربة تقديم الفلسفة بشكل مبسط في كتابي " دعونا نتفلسف " لكنني لم اتجرأ ان اكتب عن كانط وهيغل وسبينوزا بالعامية العراقية، وكنت في منتصف السبعينيات قرأت مقالا لمحمود امين العالم بعنوان " بلاش فلسفة " كان يدعو فيه الى تقريب الفلسفة للقارئ العادي وخاض آنذاك معركة مع بعض الذين يعتقدون ان الفلسفة مكانها داخل اسوار الجامعه والمنتديات الفكرية . بلاش فلسفة ظلت ترافقني حتى لحظة كتابة اول مقال من كتابي دعونا نتفلسف ولا زلت اعتبرها دليلا لي وانا اقدم فديوهات او مقالات عن الفلسفة والفلاسفة في صفحتي على الفيسبوك

واعود الى " الفهامة " لأقول لكم ان المؤلف يصر على اننا يمكن ان نكون جميعا فلاسفة واننا يمكن ان نقابل كيركغارد وشوبنهاور وجون لوك ونتحدث اليهم مباشرة . انها دعوة لان تنزل الفلسفة من برجها العاجي وان لا تكون صديقة للنخب فقط، وانما يجري تداولها في المقاهي وباصات النقل بهدف جعل الناس يفكرون وكل " فهامة ".

***

علي حسين – كاتب

رئيس تحرير صحيفة المدى البغدادية

 

بشهادة محسن مهدي

عندما زار الأستاذ الدكتور "محسن مهدي"، (الفيلسوف العراقي المعروف) صديقه الحميم الأستاذ الدكتور " إبراهيم بيومي مدكور" (الفيلسوف المصري) في ثمانينات القرن المنصرم، وكان الدكتور مدكور آنذاك رئيساً لمجمع اللغة العربية، طلب الدكتور " مدكور " من صديقة الدكتور " محسن مهدي"، أن يكون عضواً شريفياً لمجمع اللغة العربية، وفي أثناء جلسة عشاء بينهما في "فيلا" الدكتور مدكور، سأل مدكور مهدي عن أهم الشخصيات العراقية أثرت في فكره؟، فأجاب مهدي" نبيهة عبود" .

ولهذا نكتب ورقتنا هذا للتعرف على تلك الفيلسوفة العراقية للكشف عن جهودها وإسهاماتها الفلسفية، لا سيما وبشهادة كثير من الباحثين أن نبيهة عبود Nabia Abbott (1897-1981)، تعد أول سيدة عراقية تشغل مقعداً في معهد شيكاغو للدراسات الشرقية، واستطاعت من خلال مكثها في هذا المعهد إصدار أعدداً مهمة من الدراسات المتنوعة في ميدان التراث العربي الإسلامي، وكانت أبرز الجوانب التي ركزت عليها في عملها هو دراسة وضع المرأة الشرقية، والأثر المهم الذي تركته بعض النسوة اللاتي برزن في التاريخ الإسلامي من خلال أثرهن على سلطة الحاكم، وقد قدمت نماذج لتلك النسوة أبرزهن " الخيزران"، وزبيدة".

وأول من كتب دراسة كاملة عن فكر " نبيهة عبود" كان تلميذها النجيب الدكتور محسن مهدي، وذلك من خلال التأبين الكبير الذي أقامه معهد شيكاغو للدراسات الشرقية بعد وفاتها سنة 1981، كتب محسن مهدي مؤرخا لحياتها فقال : نبيهة عبود صاحبت الفصل الكبير حيث أشرفت على رسالتي في الدكتوراه في موضوع بعنوان "فلسفة التاريخ عند ابن خلدون" سنة 1954، وهي من أهم من ساهم في تكوين توجهي الفكري والفلسفي فيما بعد نحو الاهتمام بالعلم المدني، وقد سألتها ذات يوم على حياتها الأولي، فأخبرتني بأنه ولدت في مدينة مارديف (جنوب غرب تركيا) في الحادي والثلاثين من يناير (كانون الأول)عام 1897، وكانت لا تزال طفلة حين سافرت مع عائلتها في عربة بصحبة قافلة من الخيالة البدو نزولاُ إلى الموصل . وأبحرت العائلة نزولاً خلال نهر دجلة إلى بغداد، ولاحقاً إلى الخليج العربي، لتبدأ رحلة أخرى إلى مومباي عام 1907، وهناك دخلت مدارس إنجليزية، إذ استغرقت فيها كل دراساتها للمرحلة الثانوية، لتصبح مؤهلة الالتحاق بجامعة كامبردج حتى عام 1915، لكنها بقيت في الهند خلال الحرب العالمية الأولي، وارتحلت لشمال لكينو Luck now، إذ التحقت بكلية إيزابيلا ثوبرن للبنات Isabella Thoburn، وحصلت منها على البكالوريوس في الآداب والفنون وبمرتبة الشرف عام 1919، وفيما بعد التحقت لبدء برنامج تعليم المرأة في العراق خلال نشوء الملكية، إذ تمتعت بدعم كبير من السيدة " جيرترود مارغريت لوثيان بل (كاتبة إنجليزية)، ويبدو أنها استمرت بالعمل في هذا البرنامج إلى عام 1925، إذ تبعت أسرتها لمدينة بوسطن الأمريكية، وحصلت على الماجستير في الآداب في جامعة بوسطن، ومن ثم انضمت للكادر التدريسي في كلية ازبري في مدينة ويلمور Wilmore في مقاطعة كنتاكي، حيث درست في قسم التعليم، ومن ثم أصبحت رئيسة قسم التاريخ فيها ما بين عامي 1925 إلى 1933، وانتقلت عائلتها للإقامة في ولاية شيكاغو حينها انضمت "نبيهة عبود" للتدريس في الفصول التي يقدمها "مارتن سبرنكلنك Martin Sprengling، أصبحت " نبيهة عبود" بعد ذلك أستاذاً للغة العربية في المعهد الشرقي، وهي أول عضو نسوي مارس التدريس في المعهد الشرقي .

ويستطرد الدكتور محسن مهدي فيقول : ولقد كانت المدة التي قضتها " نبيهة عبود" في المعهد الشرقي هي التي حددت اهتماماتها المستقبلية، حيث أن نتاج المعهد تمحور في المدة التي سبقت، والتي تلت الحرب العالمية الأولي والثانية حول العلاقة بين الدراسات العربية الإسلامية والشرق الأدنى القديم . فالمعهد ضم العديد من الوثائق الثمينة للفترة الإسلامية المبكرة .

ويشير محسن مهدي إلى أنه لطالما اعتبرت " نبيهة عبود" المعهد الشرقي منزلاً لها، لذلك لك تتركه أبداً ما عدا سنة واحدة فقط عندما ذهبت للشق الأوسط على سبيل التفرغ بين عامي 1946 حتي 1947، إذ درست ونشرت العديد من الوثائق السياسية للفترة الإسلامية المبكرة بحيث مكنتها دراستها تلك من الحصول على وثائق مهمة أخرى وسعت بها مقتنيات مكتبة المعهد في هذا المجال، وبعد إحالتها على التقاعد عام 1963، حازت على لقب أستاذة فخرية في الجامعة.

ويستطرد محسن مهدي أيضا فيقول كذلك عملت " نبيهة عبود" على الاستفادة الكاملة من الفرص التي منحت لها تحقيقا وتدريساً للمواضيع التي تطلب منها العمل عليها وتقديمها بأشد درجات الدقة والرصانة . إن عمل " نبيهة عبود" الدؤوب في المعهد الشرقي منج عنه العديد من الأعمال المهمة، إضافة إلى أنها نوعت ميدان دراستها فلم تقف عند دراسة الوثائق المصرية القديمة والبرديات، بل شمل عملها أيضاً دراسات تتناول تاريخ الإسلام المبكر، حيث كانت أهم حقولها ما قدمته " نبيهة عبود" في دراستها لوضع المرأة المسلمة ودورها السياسي الذي لعبته في الفترة المبكرة من تاريخ الحضارة العربية الإسلامية، وقد استمرت " نبيهة عبود" في المعهد الشرقي حتى عام 1963، إذ عملت " نبيهة عبود" بعدها كأستاذ متفرغ، وتوفيت في الخامس عشر من تشرين الأول لعام 1981.

وقد ألفت "نبيهة عبود"  العديد من المقالات والبحوث كما يقول محسن مهدي حيث صدر لها عام 1946 كتاب بعنوان ملكتا بغداد الخيزران وزبيدة (Two Queens of Baghdad) طبع ونشر في شيكاغو.. هذا بالإضافة إلى مؤلفاتها والتب لاحصر لها حيث نذكر منها على سبيل المثال لا الحصر" عائشة أم المؤمنين، قرة بن شريك حاكم مصر، الإسلام والحضارة الحديثة في مصر.. كما صدر لها مجموعة مقالات ودراسات نشرت في العديد من الصحف والمجلات منها: أوراق بردي عربية من عام 250 هـ (الصحيفة الأمريكية الشرقية 1937)، ورق بردي عن حكم جعفر المتوكل على الله (المجلة الشرقية الألمانية، 92، 1938) ونسخة مغربية من القرآن في مجموعة الدكتور بول هدسون (الصحيفة الأمريكية للغات والآداب السامية، 55، 1938)، الأرقام العربية (مجلة الجمعية الملكية الآسيوية 1938)، تزيين نسخ القرآن في مكتبة الشاه حسين صفوي (الفن الإسلامي , 1938 – 39)، كتابة ابن مقلة (الصحيفة الأمريكية للغات والآداب السامية 1939)، وثائق فارسية عن مغول الهند (صحيفة الجمعية الأمريكية الشرقية 1939)، عقود الزواج العربية على ورق البردي (المجلة الشرقية الألمانية , 95 , 1941)، استقراء الكتابات العربية القديمة (الفن الإسلامي، 1941)، المرأة والدولة في فجر الإسلام (صحيفة دراسات الشرق الأدنى , 1 , 1943 , وقد نقلها إلى العربية الأستاذ محمد عبد الغني حسن , المقتطف 1943)، أوراق البردي في المعهد الشرقي : تواريخ الأنبياء (الصحيفة الأمريكية 1946(،كتابات قصر الخزانة (الفن الإسلامي، 1946، ألف ليلة ولية (صحيفة دراسات الشرق الأدنى، 1949،وثائق عن مصر وإدارتها في أوائل القرن الثامن عشر (مطبوعات جامعة شيكاغو 1939).

وفي تلك الكتابات يقول الدكتور محسن مهدي : لقد أثبتت لنا " نبيهة عيود" إلى أن هناك افتراض خاطئ في مضمونه بأنه ليس هناك إسهام نسائي في مجال الفكر الفلسفي،أى أن كل الفلاسفة رجال، وليس هناك نساء فيلسوفات. وهناك من يتخذ من هذا الافتراض الخاطئ، كدليل على أنه ليس للمرآه مقدره على التفكير العقلاني- الذي يعتبر التفكير الفلسفي شكل من أشكاله.

وثمة نقطة مهمة أكد عليها الدكتور محسن مهدي وهي أن " نبيهة عيود" أعطت حياتها كلها للمعهد الشرقي : تعليماً وبحثاً، وظلت اهتماماتها الرئيسة هي اهتمامات أستاذ جامعي أكاديمي يسعي إلي أن يرتفع بعمله إلي أعلي مستوي ممكن، وكثيرا ما يؤكد الدكتور محسن مهدي على أن " نبيهة عيود " (من خلال الفترة التي قضاها معها)، أنها كانت تعتقد أن قدراتها الخاصة في الفكر النسوي لا تقل بحال من الأحوال عن قدرات أي فيلسوفة نسوية مماثلة لها في الجامعات الأمريكية . لذلك فإن حوارها مع كبار الفيلسوفات النسويات في أمريكا، كان يتسم بالندية . وكانت تصحح الكثير من آرائهم ومعتقداتهم عن دور المرأة في الإسلام، كما استطاعت " نبيهة عيود" قراءة المصادر العربية بطريقة عميقة رسمت بها صورة واضحة للوشع الحقيقي الذي بلغته النساء في القصور الأموية والعباسية.

ويعطينا محسن مهدي نموذجاً لهذا النقاش الحاد الذي دار بين " نبيهة عيود"  وبين بعض الكاتبات النسويات وهي تناقشها في كتابها " ملكتان من بغداد"، حيث حاولت الكاتبة أن تسفه في مكانة " زبيدة " والخيزران"، ولكن " نبيهة عيود"  ردت عليها قائلة " فاقد الشئ لا يعطيه "، وكان أجدر بكِ أن تقرأين التراث العربي الإسلامي فيما مكانة المرأة في الإسلام، ثم سألت الكاتبة الأمريكية " نبيهة عيود"  أن تفسر لنا المقارنة التي أجرتها بين " زبيدة " و" الخيزران" في كتابها " ملكتا بغداد " .

وهنا يقول الدكتور محسن مهدي : وعلى الفور قامت " نبيهة عيود"  تشرح للكاتبة الأمريكية مغزي الكتاب فتقول (نقلاً عن محسن مهدي) :" إن اسم "زبيدة" و" الخيزران" بشهرة الخليفة العباسي " هارون الرشيد"، لكن " نبيهة عيود"  تحدد اختلاف تلك الشهرة فتقول بأن اسم " هارون الرشيد" لا يزال أكثر اسماء الخلفاء دوراناً على الألسنة، كما أن لزبيدة زوجته حظها من هذه الشهرة المترامية الأطراف، ولكن القليلون يذكرون اسم "الخيزران" التي كانت أكثر جرأة وسياسة من زميلتها، ولذلك عملت جاهداً حتى يتسلم أولادها العرش بعد أبيهم " المهدي"، وتشير " نبيهة عيود"  إلى أنه بمجرد وفاة " المهدي" تغير دور الخيزران من زوجة خليفة إلى أم خليفة بحيث أطلقت يدها على مؤسسات الدولة، وتربط " نبيهة عيود"  هذه المسألة بالطريقة التي تم بها نشأة كل من " موسي الهادي" وأخيه " هارون الرشيد" .

ثم يشير محسن مهدي قائلاً أن " سيدني كلاوز قال واصفا " نبيهة عيود"  في الكتاب بأنه ركزت على متابعة دور الامرأتين، وهما " زبيدة" و" الخيزران" وراء فيما وراء الكواليس في تشكيل واحدة من أعظم الإمبراطوريات العظمي في العصور الوسطي.

واكتف بهذا القدر، وفي نهاية هذه الورقة أقول : أن المادة العلمية التي كتبها الدكتور محسن مهدي قد أفادت بمعلومات كثيرة عن " نبيهة عبود"، حيث استفاد الأستاذ وميض محمد شاكر إبراهيم في دراسته الشيفة بعنوان : نبيهة عبود ودور المرأة الشرقية الحاكمة دراسة في كتابها " ملكتان من بغداد، وكذلك موقع ويكبيديا حين كتب عنها .

حسبنا هذه الإطلالة السريعة الموجزة علي الجانبين الإنساني والعلمي لتلك الفيلسوفة المبدعة، والنموذج المتفرد للنسوية العراقية " نبيهة عبود" والتي نذرت حياتها بطولها وعرضها لخدمة الفلسفة والثقافة العربية، وأثرت حياتنا الفكرية بكل ما قدمته من جهود.

تحيةً مني لـ" نبيهة عبود" التي  لم تستهوها السلطة، ولم يجذبها النفوذ ولكنها آثرت أن تكون صدى أميناً لضمير وطني يقظ وشعور إنساني رفيع، وسوف تبقى نموذجاً لمن يريد أن يدخل التاريخ من بوابة واسعة متفرداً . بارك الله لنا في " نبيهة عبود" قيمة جميلة وسامية في زمن سيطر عليه "أشباه الفلاسفة" .

***

د. محمود محمد علي

رئيس قسم الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقبل - جامعة أسيوط

...................

المراجع:

1- Muhsin Mahdi: Journal of near Eastern Studies , Vol. 4, N. 3, Arabic and Islamic in honor of Nabiaabbott : part 1, Jul-1981,P.163-177.

2-وميض محمد شاكر إبراهيم: نبيهة عبود ودور المرأة الشرقية الحاكمة دراسة في كتابها " ملكتان من بغداد، مجلة أدب الرافدين، ملحق العدد (82)، 1442هـ-2020م.

3- نبيهة عبود: ويكبيديا .

4- مجلة مجمع اللغة العربية المصري.

 

تعـد المرأة معنـى كبـر أعدتـه العنايـة الإلهية لوظيفة سـامية للغايـة، وهـي حفـظ النـوع البشري واسـتدامته، فهـي مخلـوق شـفاف المشاعر، رقيـق العواطـف، تمثـل قيمــة حقيقيــة في بنيــة المجتمع، وتــرك بشــخصيتها ً ومبادئهـا، وأهدافهـا آثـاراً واضحـة لـدى الآخر، وهذا ينطبق على المرأة في عهد المرابطين، حيث تمتعت بوضع كريم، إذ كانت تشترك في مجلس القبيلة، وتشارك في الأمور الهامة، فكانت للمرأة سيطرتها ونفوذها على الرجل، فقد بلع من احترامهم لها أن كثيراً من قادة المرابطين وأمراء الدولة كانوا يلقبون بأسماء أمهاتهن تقديراً لدور المرأة في المجتمع المرابطي، ويبدو من هذا أن نساء الأمراء والنبلاء والقواد كن يتمتعن بسلطة واسعة ونفوذ كبير.

وتعد زينب النفزاوية واحدة من بين أشهر النساء في تاريخ المغرب، إذ برز اسمها في عهد الدولة المرابطية، وجاء ذكرها في العديد من المراجع التي تحدثت عن جمالها ورجاحة عقلها.. اسمها زينب بنت إسحاق الهواري  وعرفت بـ"زينب النفزاوية"، وحسب ما يحيل على ذلك لقبها فهي تنحدر من قبيلة "نفزة" أو "نفزاوة" الأمازيغية. والدها كان تاجراً من تجار القيروان، حيث يقول عنها المؤرخ المغربي أحمد بن خالد الناصري في كتابه "الاستقصا لأخبار دول المغرب الأقصى": "كانت بارعة الجمال والحسن، وكانت مع ذلك حازمة لبيبة ذات عقل رصين ورأي متين ومعرفة بإدارة الأمور، حتى أنه كان يقال لها الساحرة".

ويروي لنا التاريخ أن هناك امرأة تدعي " زينب بنت إسحاق النفزاوية، وهي من أشهر النساء الأمازيغيات خلال عصر الإمبراطورية المرابطية، إذ لعبت دورًا كبيرًا في إرساء وتثبيت دعائم دولة المرابطين بالغرب الإسلامي، وكان لها الفضل في كتابات العديد من مؤرخي عصرها. قال عنها ابن خلدون: "كانت إحدى نساء العالم المشهورات بالجمال والرئاسة". وهي من قبيلة نفزاوة من بربر الأمازيغ القاطنة بطرابلس الغرب.

وكانت " زينب" تلقب بزوجة الملوك كانت في ما سبق زوجة لأحد حكام أغمات الذين يختارون سنويا، ثم أصبحت من بعده زوجة لأمير أغمات لقوط المغراوي، ويقال إنها تزوجت بالأمير أبي بكر بن عمر فشرع في تشييد مراكش لتقيم بها وبعد أن طلقها، تزوجها يوسف بن تاشفين الذي يعتبر المؤسس الفعلي لمدينة مراكش.

حتى أن ابن خلدون لم يستطع إلا أن يصفها بقوله أنها "كانت إحدى نساء العالم المشهورات بالجمال والرياسة"؛ هي زينب بنت إسحاق النفزاوية من قبيلة نفزة، من بربر أمازيغ طرابلس الغرب، وزوجة السلطان يوسف بن تاشفين لتصبح بذلك " عنوان سعده، والقائمة بمُكله، والمدَبِّرة لأمره، والفاتِحة عليه بحُسن سياسَتها لأكثر بلاد المغرب"، حسب صاحب كتاب "الاستقصا"، كما نقل عن ابن الأثير في كتابه "الكامل" قوله عنها ” كانت من أحسن النساء، ولها الحكم في بلاد زوجها ابن تاشفين”…

كان والدها تاجراً من تجار القيروان، وكانت توصف بالحكمة والذكاء إضافة إلى كونها شديدة الجمال والحسن؛ ذات عقل رصين ورأي سديد. كما تم وصفها بزوجة الملوك، حيث كانت في أول عهدها متزوجة من أمير مدينة "أغمات" وهو " لقوطة بن يوسف "، فلما حاصر المرابطين تلك حاول الهرب وطلب من "زينب" أن تهرب معه، ولكنها رفضت وتركها، وفي خلال هروبه تعقله المرابطين فقتلوه.

ومما يستطاب من حديثها النسوي الفلسفي ما حكاه ابن الأثير في كامله، تلك المناظرة الشهيرة التي دارت بين وبين الأمير أبي بكر بن عمر اللمتوني حين عيرها بقتل زوجها فردت عليه قائلة: الحمد لله على كل حال ولكن أتفرح بمقتل رجلاً مات على ضلالة فانقطعت بموته الآمال من توبته وصلاحه.. خطاة أم هداة!.. فرد عليها اللمتوني فقال: دعوناه فأبي ثم قضي الله فيه، ولكن ألا تخفين وجهك ياامرأة، فردت عليه قائلة: لست من أصحابك الملثمين ونسائهم تكشف دون رجالهم، فرد عليها اللمتوني: ومع ذلك ؟.. فردت عليه زينب: أهو أمر مفروض؟.. فإني لا أري نساء أغمات قد حجبن وجهوهن بعد تمكنكم.. فرد اللمتوني: ليس مفروضاً في مذهبي.. فردت عليه زينب: فلما تدعوني إلى ما لم تدعو إليه غيري.. فرد عليها اللمتوني: ليست النساء سواء.. فرد زينب: فيما؟.. فرد اللمتوني: ما أكثر جدالكِ ياامرأة.. فترد زينب: استفتي الفقيه في الدين فيسميه جدالاً !.. أليس في القرآن الكريم سورة المجادلة " قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها".. الله.. الله أيها الفقيه.. سمع قول المجادلة وأجابها بقرآن تتعبد به.. أفلا تجيبني أنت!.. فرد اللمتوني: ليست النساء سواء فيما أعطاهن الله.. فمن كان لها مثل الذي (أعني).. تعلمين ما أعني! (فيجب عليها أن تستر وجهها درءً للفتنة ).. فردت زينب: ولما لا يغض الرجال أبصارهم وكفي !.. فرد اللمتوني: وكيف يغضون أبصارهم وأنت تحدثينهم؟.. لقد قلت قولي؟.. فما الذي أقدمكي علينا وقد قتل زوجك ؟.. فردت عليه: هذه بلدي؟.. وما كنت لأخرج لو أنه أرغمني؟.. فرد اللمتوني: هل كنتِ تتخلفين عنه  وقد كان زوجك؟..فردت زينب: أتخلف عن الباطل وأمكث في الحق..فرد اللمتوني: إذن فلم تكوني عند رأيه ومذهبه ؟.. فرد زينب: أنا امرأة قارئه.. وأميز الحق من الباطل!.. ولي رأي في نفسي!.. ولا أطيع مخلوقاً في معصية الخالق ولو كان زوجي.. فرد اللمتوني: لا ضغينة إذن؟.. فردت زينب: لا آسي على ما فات ولا أفرح بما هو آت !.. فرد اللمتوني: تا الله إنكِ امرأة ذات عقل ؟.. فردت زينب: هل تبايع النساء كما تبايع الرجال أيها الفقيه ؟.. فرد اللمتوني: كن يبايع أزواجهن وهن تبعاً له ؟.. فردت زينب: ولكن الله جعل لهن ذمة مستقلة فإذا كان يوم القيامة حُوسبت الواحدة منهن فرداً لا جماع مع زوجها وولدها ؟.. فرد اللمتوني: صدقتِ ؟.. فردت زينب: ومن يبلغ المرأة وهو يأخذ منها العهد إن لم يكن لها زوج ؟.. فرد اللمتوني: قد بلغتيِ حجتكِ؟.. فردت زينب: إذن أبايعك على السمع والطاعة وفي المنشط والمكره؟.. فرد اللمتوني: أما السمع والطاعة فنعم؟.. وأما المنشط والمكره فهما من شأن الرجال الذين يشتغلون بأعمال ولي الأمر، ولكن رضينا بذلك إذا تزوجتيني حيث امرأة في عقلك وجمالك لا ينبغي أن تكون بلا زوج؟.. فردت زينب: ألست ولي الأمر ؟.. فرد اللمتوني: تُستأمر المرأة في مثل حالك؟.. فردت زينب: الجمل ومن عليه لله ورسوله ولرأي ولي الأمر.

وعقب ذلك تروجت زينب بالأمير أبي بكر بن عمر اللمتوني، حيث يذكر الناصري في كتابه " الاستقصا": "كان الأمير أبو بكر بن عمر اللمتوني قد تزوج زينب بنت إسحاق النفزاوية وكانت بارعة الجمال والحسن وكانت مع ذلك حازمة لبيبة ذات عقل رصين ورأي متين ومعرفة بإدارة الأمور حتى كان يقال لها الساحرة".

وبعد مرور سبع سنوات من زواج زينب، عزم الأمير أبو بكر بن عمر على الخروج للصحراء ليصلح أمرها فطلق النفزاوية، وقال لها عند فراقه "يا زينب إني ذاهب إلى الصحراء وأنت امرأة جميلة بضة لا طاقة لك على حرارتها، وإني مطلقك فإذا انقضت عدتك فانكحي ابن عمي يوسف بن تاشفين فهو خليفتي على بلاد المغرب" (من كتاب الاستقصا).

ولكن قبل أن يتوجّه الأمير أبو بكر إلى الصحراء ترك أمر بلاد المغرب إلى ابن عمه يوسف بن تاشفين، ونصحه بالزواج من زينب، وعندما عرض الأمر عليها أن تتزوج من يوسف بن تاشفين حسب كتاب "الاستقصا" للناصري قال: "يا زينب، إني ذاهب إلى الصحراء، وأنت امرأة جميلة لا طاقة لك على حرارتها، وإني مطلقك، فإذا انقضت عدتك، انكحي ابن عمي يوسف بن تاشفين؛ فهو خليفتي على بلاد المغرب".

فردت عليه قائلة تجادله:  كنت تريدني أن ألطم خدودي ,أندب وأولول، في أمر أنت اخترته وقضيت فيه، وإن قلت لك، كما أنت لي، فلماذا أراك تفعل ما تتوقعه مني، فإني وإياك على الوِطاء نفسه، لا تفارقني حتى أفارقك، ألم أقل لك من قبل حين دعوتني للزواج منك، لا آسي على ما فات، ولا أفرح بما هو آت، وأنا إمرأة حرة ذات رأي، وقد شهدت مقاتل الرجال، وتقلب الأحوال في الأمور العظيمة، حتى عهدت إلى نفسي أن أقُبل على ما يقبل عليه، وأُدبر عما يدبر عني،ورأيت صبر الرجال على ما تزل له النساء، تطلقون،ولا نطلق، وإذا فارقوا لم يأبهوا ولم ينظروا ورائهم، وإذا فُرقنا قتلنا أنفسنا بالحسرات، فأخذت على نفسي، أن أكون كفئهم، يسعني ما يسعهم، وقد استوينا عند الله في التكاليف وفي المآل، فنستوي في الذمم والأحوال، ومن سواك بنفسه، فما ظلمك، امضي ما أنت ماضٍ فيه، فما عليَ إلا السمع والطاعة لك، والمغرم والمكره ليوسف بن تاشفين.

والحديث عنها في المصادر التاريخية أتى عرضا فقط وليس قصدا، في إطار سعي الإخباريين لنقل خبر انتقال الحكم من الأمير أبو بكر بن عمر اللمتوني إلى ابن عمّه يوسف بن تاشفين، حيث يقول ابن خلدون "حتى إذا ارتحل إلى الصحراء سنة ثلاث وخمسين وأربعمائة واستعمل ابن عمه يوسف بن تاشفين على المغرب، نزل له عن زوجه زينب هذه فكان لها رياسة أمره وسلطانه.

وكانت زينت النفزاوية سنداً لزوجها يوسف بن تاشفين ويرجع بعض المؤرخين نجاحه وإنجازاته -في جزء كبير منها- إلى هذه المرأة، حيث يقال إن زينب النفزاوية كانت تقول لتاشفين "سأجعل منك سلطانا كبيرا يحكم المغرب بأكمله"، وظلت تحفزه على استكمال فتوحات سابقيه وتثبيت دعائم أركان مملكة المرابطين، وباتباع نصائحها قوى يوسف ثروته وجيشه وشوكته وتوغل في فتح مناطق جديدة.

وجاء في كتاب الاستقصا أنها "كانت عنوان سعده، والقائمة بملكه، والمدبرة لأمره، والفاتحة عليه بحسن سياستها لأكثر بلاد المغرب" وكان يوسف يذكر دوما فضل زينب أمام الملأ من الناس ويثني عليها ثناء حسنا، فكان إذا اجتمع بأبناء عمومته يقول "إنما فتح الله البلاد برأيها".

ولذلك زينب لم تدخر عن ابن تاشفين جهوداً في مساعدته، برأيها ومالها. هكذا، يسجل التاريخ أن رجاحة عقلها كانت سببا في إتمام ما تبقى من “فتوحات”، وتثبيت دعائم الدولة المرابطية. وقد بلغ يوسف بن تاشفين بسند من زوجته مبلغا غير مسبوق في الملك، بل وكان أكثر ملوك عصره مكانة، ذلك أنه تميز بعلو الهمة والشأن، كما استطاع أن يسيطر على البلاد.

ولا شك في أن زينب لم تدخر عن ابن تاشفين جهوداً في مساعدته، برأيها ومالها. هكذا، يسجل التاريخ أن رجاحة عقلها كانت سببا في إتمام ما تبقى من "فتوحات"، وتثبيت دعائم الدولة المرابطية. وقد بلغ يوسف بن تاشفين بسند من زوجته مبلغا غير مسبوق في الملك، بل وكان أكثر ملوك عصره مكانة، ذلك أنه تميز بعلو الهمة والشأن، كما استطاع أن يسيطر على البلاد.

ومن الطرائف التي يسوقها الناصري في معرض الحديث عن رجاحة عقل زينب أن ثلاثة نفر اجتمعوا فتمنى أحدهم ألف دينار يتّجِر بها، وتمنى الثاني عملا يعمل فيه لأمير المسلمين، وتمنى الثالث زينب فبلغت مقالتهم أسماع أمير المسلمين، فأحضرهم بين يديه وحقق أمنياتهم ثم بعث بالثالث إلى زينب فحبسته ثلاثة أيام بخيمة لا يذوق إلا طعاما واحدا ثم سألته عن مأكله فقال هو طعام واحد فقالت فكذلك النساء ثم أمرت له بكسوة ومال وصرفته.

وقد توفيت سنة أربع وستين وأربعمائة هجرية.. وقد خلفت بعد وفاتها تميما والفضل والمعز بالله؛ حيث كان تميم هذا من القادة العسكريين البارعين، وقد اختار يوسف لولاية عهده عليا من ولد زوجته “قمر” مما يُفنِّد الزعم القائل باستبدادها بأمور الحكم فلو كانت كذلك لكانت ولاية العهد في ولدها.

***

أ. د. محمود محمد علي

أستاذ الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقل – جامعة أسيوط

........................

المراجع

1- دانية الزعيمي: زينب النفزاوية: زوجة ابن تاشفين ومهندسة توسع دولة المرابطين! 2/1ـ مرايانا، 28 أغسطس 2019 تحديث: 31 مايو 2020.

2- ماجدة أيت لكتاوي: زينب النفزاوية..مغربية "تربّعت" على عَرش الإيالة الشريفة، هسبريس، الأحد 10 مارس 2013 - 00:55

3-المرأة في تاريخ الغرب الإسلامي»: سلسلة مغربيات مواطنات الغد، عبد الهادي

التازي، نشر الفنك، الطبعة الأولى، 1992.

4-الاستقصا لأخبار دول المغرب الأقصى: أبو العباس احمد بن خالد الناصري، تحقيق وتعليق ولدي المؤلف-الجزء الثاني، مطبعة دار الكتاب، الدار البيضاء، 1954.

5-   أحمد بن خالد الناصري: ""من كتاب الاستقصا لتاريخ المغرب الأقصى- الجزء الثاني.

6-ابن خلدون: المقدمة.

(قراءة توثيقية في حياة وتراث الشاعر الكاتب حنا ابو حنا)

رحل عن عالمنا يوم الثلاثاء 2-2-2022، الشخصية الادبية الوطنية الثقافية الفلسطينية الشاعر، الكاتب، الباحث والدارس حنا ابو حنا (1928- 2/2/ 2022)، وقد نعته مؤسسات ثقافية ، تجمعات وفعاليات ادبية مشيرة إلى ما خلّفه من تراث أدبي توزّع على مجالات مختلفة من الابداع الشعري والنثري، وعُرف خلال ما ربا على السبعين عامًا، هي عمر عطائه الادبي المشهود له لدى القاصي والداني من الباحثين والدارسين وشداة الادبي العرب والاجانب إلى حد ما.

البدايات- الحياة، الثقافة والانتاج الادبي الثقافي

 ولد حنا أمين أبو حنا في قرية الرينة عام 1928، وكان مولده لعائلة متعلّمة عُرف أبناؤها بميولهم الثقافية العامة، ونبَه فيها العديد من الكتاب والفنانين، نشير منهم إلى قريبه الكاتب الاستاذ أكرم ابو حنا، وهو صاحب العديد من القصص القصيرة، التي لم تنشر في كتاب وقد قام حنا أبو حنا بإصدار عدد من قصص قريبه أكرم في كتاب حمله عنوان "قوت الآخرين" وأصدره عام 1981. كما نشير من أبناء عائلة ـبي حنا إلى الفنان هشام أبو حنا نجل أكرم وقد أنتج عددًا من الاعمال الفنية الموسيقية بعد أن قام بكتابتها ووضع الحانها وتمّ عرضها برعاية جمعية "غوايش" التي أسسها ورعى نشاطاتها خلال العديد من السنوات الماضية، كما نشير من أبناء عائلته إلى الكاتبة المثقفة السيدة رنا ابو حنا- ابنة المرحوم المحامي المعروف أنيس أبو حنا. عمل والد حنا أبو حنا أمين ابو حنا، في مجال مساحة الاراضي، لذا تنقّل في طفولة نجله حنا بين العديد من المدن والبلدات، ما تسبب في تعدد الاماكن و المدارس التي تلقى حنا تعلّمه فيها. دراسة حنا في مرحلتها الثالثة كانت في مدرسة الناصرة الثانوية، أما دراسته العليا فقد تمت في جامعة حيفا حول موضوع الادب الانجليزي وحصل من هذه الجامعة على اللقب الثاني في موضوع دراسته هذا. لن نشير هنا إلى الكثير من التفاصيل المتعلقة بالفقيد، ونكتفي بالإشارة إلى أنه عمل فترة من عمره محاضرًا في جامعة حيفا التي درس فيها حتى اللقب الثاني، كما عمل المرحوم محاضرًا في كلية التربية – دار المعلمين العرب في حيفا، ويذكر أنه عمل ردحًا من عمره مديرًا للكلية العربية الارثوذكسية في حيفا، وقد تواصل عمله فيها حتى تقاعده من منصبه مديرًا لها عام 1987. وضع حنا في حياته المديدة (94 عامًا)، العديد من المؤلفات التي توزّعت على أنواع أدبية متعدّدة هي: الشعر، البحث الادبي والدراسة، إضافة إلى أدب السيرة الذاتية وأدب الاطفال. اعتُبر حنا أبو حنا منذ بدايات وعيه الاولى واحدًا من الشعراء والادباء اليساريين وقد كتب الشعر السياسي الوطني وردّد أشعاره العديد من أبناء جيله وزملائه من أعضاء الحزب الشيوعي الاسرائيلي، ومما يذكر له هنا هو أنه كان من أوائل مَن كتبوا شعر التفعيلة في بلادنا وربما خارجها، كما يذكر له أنه دفع لقاء مواقفه غير المهادنة مع السلطات الاسرائيلية، ثمنًا عمليًا تمثل في دخوله السجن عام 1958. حصل المرحوم على العديد من الجوائز لعلّ أهمها جائزة منظمة التحرير الفلسطينية في مجال أدب السيرة الذاتية، لقاء كتاب سيرته الذاتية "ظل الغيمة" عام 1999، ولقب عزيز حيفا، وهي المدينة التي أقام فيها جنبًا إلى جنب برفقة أبناء عائلته وهم: زوجته ورفيقة دربه السيدة سامية فرح من شفاعمرو. ابنته رباب، وابنته الصحفية أمية أبو حنا ونجله الاكبر والوحيد الذي حمل اسم جده البروفيسور أمين أبو حنا. ومما يذكر في هذا السياق أن الكاتبين بطرس أبو منه وجوني منصور بادرا عام 2005 لإصدار كتاب تكريمي للمرحوم حنا أبو حنا حمّلاه عنوانًا دالًا ومُعبرًا هو "زيتونة الجليل".

الشاعر حنا أبو حنا، عندما قال محمود درويش منه تعلمنا ترابية القصيدة:

 عُرف حنا أبو حنا منذ سنوات ما بعد عام النكبة 1948، بقصائده الوطنية النارية الملتهبة، ويذكر كاتب هذه السطور أن عددًا من زملائه ومجايليه الشيوعيين، منهم الناشط المثقف المرحوم سهيل نصار، ردّدوا أكثر من مرة أمامه قصائده في مقدمتها قصيدة حنا أبي حنا التي اشتهرت في بدايات شبابه الاول وحملت عنوان "عشر سنين". عمل حنا مُحرّرًا وكاتبًا في العديد من منشورات الحزب الشيوعي مثل صحيفة "الاتحاد" الحيفاوية، ومجلتي "الجديد" و"الغد" وكان واحدًا من مؤسسي مجلة "المواكب" وبعدها "مواقف". ونشر أوائل أعماله الشعرية في منشورات الحزب الشيوعي، ومما يُسجّل له أن أبناء جيله وأبناء الجيل التالي لجيله طالما رددوا قصائده وأشعاره واهتموا بها وربما تعلّموا منها. "من الشاعر حنا ابو حنا تعلمنا ترابية القصيدة"، بمعنى انتمائها وبراءتها ( التوضيح مني)، قال الشاعر الراحل محمود درويش في أكثر من مجلس ومحضر. مع الاهتمام الذي حظي به الانتاج الشعري الاول لشاعرنا، لم يبادر هو ذاته لإصدار مجموعته الشعرية الاولى، وإنما جاءت المبادرة المفاجئة له، كما ذكر هو ذاته خلال حديث خاص معه، من دار نشر في عمان قامت بجمع عدد من قصائده الاولى وأصدرتها ضمن مجموعة شعرية تُعتبر مجموعته الأولى في مجال القول الشعري، وقد حملت تلك المجموعة عنوانًا معبرًا ومؤثرًا ومتماشيًا مع تلك الفترة هو " نداء الجراح"، وكان ذلك في عام 1969. بعد حرب الانتكاس العربية عام 1967 بعامين، وبعد هذه المجموعة الشعرية كتب حنا وأصدر عددًا من المجموعات هي على التتالي: "قصائد من حديقة الصبر"- صدرت عام 1988. "تجرّعت سُمك حتى المناعة"- 1990. و"عرّاف الكرمل"- 2005. ترجم حنا عددًا من قصائك الشعر الروماني وأصدرها عم 1953 تحت عنوان هو " الوان من الشعر الروماني"، وكان قد قام عام 1951 بترجمة ونشر كتاب في مجال أدب الاطفال حمل عنوان" ليالي حزيران". هذان الكتابان مثّلا تجربته الاولى والاخيرة في مجال الترجمة من أيٍّ من اللغات الاجنبية. غلبت على أشعار المرحوم لا سيما في بداياتها الاولى روح رومانسية ثورية شعبية، وهو ما جعل الكثيرين يحفظونها في رأيي ويردّدونها عن ظهر قلب. في مجال القول الشعري يُذكر أن فقيدنا أصدر عام 1991 كتابًا حمل عنوان " ديوان الشعر الفلسطيني". وأذكر أنني سألته ذات لقاء لي به عن سبب كتابته الشعر التقريري المباشر في تلك الفترة، فأجابني قائلًا: إنني وأبناء جيلي تنازلنا عن شيء من فنية الكتابة الشعرية لمصلحة قضيتنا الوطنية، وما تطلّبته من تنازلات كان لا بد منها لمواصلة المسيرة الصعبة والمشاركة الفعالة فيها.

الباحث الدارس، بين الانتماء والتأصيل:

 يبدو أن عَمل الفقيد في مجالات التعليم المختلفة قد أثّر على توجهه الادبي العام، فبادر خلال رحلته الثقافية الثرية، لإصدار العديد من الابحاث والدراسات التي حمّلها عناوين معبرة، ووجهها إلى الابناء والاحفاد ضمن محاولة واعية لتعزيز الانتماء وتأصيل الوجود لأبناء شعبه العربي الفلسطيني عامة ولأبناء شعبه الباقين في بلادهم خاصة. فيما يلي نورد ثبتا نرجو أن يكون شاملًا ووافيًا لما انتجه من مؤلفات وتحقيقات في هذا المجال ابتداء من كتابه الاول فيها حتى الاخير. تقول السيرة الذاتية لفقيدنا إن كتابه الاول في هذا المجال صدر عام 1977 بالاشتراك مع المثقف المرحوم سامي جرايسي-  ابن مدينة الناصرة، حمل عنوان " من مشاكل التعليم في القطاع العربي". بعد هذا الكتاب تتالى صدور كتبه ومؤلفاته على النحو التالي: "عالم القصة القصيرة"- صدر عام 1979. "الادب الملحمي"- 1983. وهما كتابان موجّهان لطلبة المدارس تحديدًا. رواية "مفلح الغساني" للكاتب الصحفي- صاحب جريدة "الكرمل"، نجيب نصار- تحقيق وتقديم - صدر عام 1985. "روحي على راحتي"- تحقيق وتقديم لديوان الشاعر الفلسطيني شهيد معركة الشجرة عام 1948 عبد الرحيم محمود- صدر عام 1985. "ثلاثة شعراء"- وضم معلومات عن عدد من الشعراء الوطنيين- هم: إبراهيم طوقان، عبد الرحيم محمود وعبد الكريم الكرمي - ابو سلمى، صدر في العام ذاته 1985. "دار المعلمين الروسية" في الناصرة- 1994. "رحلة البحث عن التراث" – إعداد وتقديم – 1994. "مذكرات نجاتي صدقي"- صدر عام 2001. و"فستق أدبي"- صدر عام 2004.

حنا ابو حنا، كاتب السيرة الذاتية المجلي:

أراد الشاعر الكاتب حنا أبو حنا على مدار حياته الادبية الثقافية، أن يقدّم شهادة متابع مهتم ومشارك في هذه الحياة، لذا حرص على ما يبدو عندما شرعت السبعينيات من عمره في طرق باب حياته، بكتابة سيرته الذاتية. وقد بدأ في أواسط التسعينيات بكتابة مؤلفه السيري المتميز " ظلّ الغيمة"، وبادر بإرسال فصولها الاولى لنشرها في صحيفة "الصنارة" التي عملت آنذاك محرّرًا ادبيًا فيها، فقمت من فوري بنشر تلك الفصول، متجاوزًا تعليمات هيئة التحرير وتوجيهاتها ومُخصّصًا لأول مرة في تاريخ عملي ذاك صفحتين كاملتين لنشر كلٍّ من تلك الفصول، وقد توقّعت في حينها أن تعارض هيئة التحرير تجاوزي هذا، غير أن ما حدث هو أن صاحب الصحيفة ورئيس تحريها إبّان تلك الفترة، الكاتب الصحفي لطفي مشعور طابت ذكراه، دعاني إلى مكتبه الخاص مستقبلًا إياي بابتسامة عريضة مشجّعة وتقريظ كبير لنشري تلك الفصول. بعد فروغ حنا من تأليف كتابه هذا، وكان ذلك عام ١٩٩٧ تحديدًا قام بإصداره بصورة خاصة. بعد ذلك تتالت الطبعات منه، وقد أهل هذا الكتاب مؤلفه المرحوم حنا أبو حنا للحصول على جائزة فلسطين للسيرة الادبية وتم ذلك عام 1999. بعد ثلاثة أعوام من صدور مؤلفه هذا صدر جزآه الآخران وهما: "مهر البومة" و"خميرة الرماد".

الكتابة للأطفال بشتى الألوان:

عام 2001 تحديدًا عمّق حنا رؤيته التثقيفية الانتمائية التأصيلية، وقرر التوجّه إلى أبناء الاجيال التالية من أطفال وفتيان، فاتحًا لهم أبواب الخيال والتراث العربي المسلّي المثقف، المنور والمفيد، وكان أن أصدر كتابه الأول في هذا النوع الادبي الهام جدًا، كما تقول تجارب الشعوب المتقدمة أيضًا، فأصدر بالتعاون مع "مكتبة كل شيء" الحيفاوية ومديرها الصديق المثقف صالح عباسي، كتابه الاول في هذا المجال مُحمّلًا إياه عنوان "أحمر أخضر"، وقد أصدر في العام ذاته عددًا من المؤلفات الموجّهة للأطفال والفتيان هي: "أرنوب وفرفور"، "أصابع ديما". "قطتي أميرة". في العام التالي صدر له كتاب " سر الملك كيسار". في عام 2004 صدر له "أوراق خضراء". وبعد هذا الكتاب بعامين، عام 2006 صدر كتابه الاخير الموجه للأطفال والفتيان وحمل عنوان "ملك الغابة".

***

ناجي ظاهر

عثرتُ في إحدى مكتبات بغداد قبل أشهر على ترجمة جديدة لرواية الكاتب والشاعر الروسي ميخائيل ليرمنتوف والتي تعرفنا عليها ضمن قراءات فترة الشباب في ثمانينات القرن الماضي. ولهذه الرواية أكثر من ترجمة؛ الأولى كانت للمترجم السوري المتميز الراحل سامي الدروبي، وهي ترجمة متقنة وأقرب إلى إعادة كتابة الرواية بلغة عربية جزلة ومتينة كسائر ترجماته وأشهرها ترجمة الأعمال الكاملة لدوستويفسكي عن اللغة الفرنسية، ويبدو أن ترجمته لرواية ليرمنتوف نشرت بعد سنوات من وفاته عام 1976، فثمة طبعة منها صدرت سنة 1984 عن دار رادوغا في موسكو، وثمة طبعة أخرى تحمل اسم "الطبعة الأولى" أيضا للمترجم نفسه صدرت سنة 2011 عن المركز الثقافي العربي "دار نشر مغربية لبنانية". الترجمة الثانية أجراها إدوار أبو حمرا ولم أطلع عليها، والثالثة وهي الجديدة موضوع حديثنا، وقد ترجمها شاهر أحمد نصر وراجعتها ريم البياتي، وصدرت عن دار آشور /شارع المتنبي سنة 2021، وأغلب ظني أنه ترجمها عن الروسية مباشرة لأنه خريج جامعة الصداقة بموسكو كما تقول سيرته الذاتية، وهي ترجمة جيدة ورصينة ومتينة لغة وأسلوبا، وربما وجدت هناك ترجمات أخرى لا علم لي بها.4785 lermantouf

أعدتُ قراءة هذه الرواية بمتعة قد لا تقل عن متعة قراءتها الأولى قبل حفنة سنوات ولكنها كانت متعة مشفوعة بشجن الذكريات. لا أريد أن أتحدث نقديا وبشكل مسهب عن الرواية في هذه الوقفة الخفيفة السريعة بل سأتوقف عند حياة مؤلفها القصيرة وقدره المأساوي. وبالمناسبة، فحين طرحت الرواية مترجمة إلى العربية في الأسواق قبل عقود، أخطأت غالبية الناس في توقع مضمونها، وهذا ما حدث حتى في روسيا القيصرية، بلد الكاتب، حين طرحت في المكتبات في أيار 1840، وكان لمؤلفها الذي عُرف شاعراً قبلها، من العمر خمسة وعشرين عاما. أقول؛ أخطأت غالبية الناس في تخمين أو توقع مضمون الرواية الذي أوحى به عنوانها "بطل من هذا الزمان" والذي يوحي لأول وهلة بأنه بطل إيجابي. ولكنه على عكس التوقعات، وكما تكشف الرواية، فقد كان هذا البطل "بتشورين" سلبيا بل ونذلا من الناحية السلوكية الأخلاقية حتى أصبح أنموذج (تجسيدا لظاهرة اجتماعية منتشرة، وتشخيصا لعيوب جيل بأكمله) بعبارة النقاد السوفيتي أندرونكوف. ولكنه، وهنا تكمن عبقرية الشاب المؤلف ليرمنتوف ليس "فردأ مشوهاً في مجتمع فضيل، بل هو صورة لجيل خابت آماله وتملكه شعور بالعجز في مواجهة القمع والفردية الحاكمة، ففقدوا أحلامهم وإيمانهم، فلحقهم العوق الخُلُقي/ أندرونكوف".

ولكن من هو هذا البطل، وكيف رسم ليرمنتوف شخصيته بهذه الواقعية والدقة: إنه "شاب وسيم ثري ذكي، حاد الملاحظة وذو الثقافة الرفيعة الواسعة، حياته بلا هدف ولا أمنيات، فلا يعرف طعم السعادة لا في الحب ولا في الصداقة... يمضي أفضل سنوات عمره في الجمود والكسل ... وتتلاشى بلا جدوى تلك القوى الغنية التي يكتنزها في أعماقه وتظل أحلامه بالمآثر العظمى مجرد أحلام، ولا يحمل للناس الذين يرتبط مصيره بهم غير الهلاك والآلام، فيعيش حياته وحيدا تعيسا. من المقدمة"! ترى أليس هذا النموذج البشري هو السائد اليوم وبعد أكثر من قرنين على ولادة هذه الشخصية الروائية من مخيلة شاعر روسي اسمه ليرمنتوف؟ ألا تكمن هنا بذرة عبقرية هذا الشاعر الرائي؟

عودا إلى ليرمنتوف ومصيره المأساوي، فقد بدأ صاحبنا حياته شاعرا مهما وملحوظا في المشهد الشعري الروسي في القرن التاسع عشر، وكان من الناحية الفلسفية والسياسية تحرريا وتقدميا معاديا بعمق وجرأة للحكم القيصري المطلق. وحين قُتل شاعر روسيا الأول ألكسندر بوشكين والذي كان "أول من دعا إلى الحد من سيادة النبلاء وتقييد الحكم القيصري في روسيا واعتماد النظام الديمقراطي في الحكم"، حين قتل في مؤامرة المبارزة الشهيرة وهو شاب له من العمر سبعة وثلاثون عاما، رثاه ليرمنتوف بقصيدة عنوانها "مقتل شاعر"، اتهم فيها القيصرية علانية بأنها كانت وراء تدبير المبارزة التي أودت بحياة هذا الشاعر التحرري الكبير، فصدر ضده - ضد ليرمنتوف - حكم بالنفي سنة 1837. وفي أوائل سنة 1840 تمكن أعداء ليرمنتوف من تدبير مبارزة مكيدة شارك فيها الشاعر فحكمت عليه المحكمة بالنفي للمرة الثانية، وهناك في منفاه قتل في مبارزة أخرى يوم 27 تموز سنة 1841 ولم يناهز السابعة والعشرين من عمره/ من المقدمة".

ملاحظة أخيرة: في هذه الرواية كان ليرمنتوف قد سبق الروائيين في جيله وتمكن من تقديم رواية جديدة على الصعيد الفني من حيث السيناريو المعقد وتعدد الأصوات "الرواة" وهي تجربة لم يسبقه إليها أحد في القرن التاسع عشر على حد علمي.

إنها رواية حية وملهمة وجديرة بالقراءة فعلا مهما تقادمت، فالأعمال العبقرية الرؤياوية خالدة بطبيعتها ولا عمر لها!

***

علاء اللامي

"اللقاءات الأولى تنطبع في الذاكرة بطريقة خاصة، ومهما ترتب عليها من نتائج ومهما تطورت، فإن شيئا خاصا يبقى ممتدا إلى ما قبل النهاية"

سباق المسافات الطويلة

كان الوقت صباحا واليوم هو " 25 " كانون الاول عام 2004، اقرأ في الصحيفة التي امامي خبراً يقول "رامسفيلد يتفقد جنود في الموصل ويزور قاعده عسكرية قرب الفلوجه". كان رامسفيلد الذي تولى وزارة الدفاع الامريكية يوصف بمهندس غزو العراق.. وزير الدفاع العراقي حازم الشعلان يعلن ان الارهاب سينحدر قريبا جدا.خبر آخر "انفجار جديد في النجف". في اسفل الصفحة كانت هناك صورة لرجل عشق العراق مع خبر يقول:" توفي امس الجمعة في دمشق الروائي العربي الكبير عبد الرحمن منيف عن عمر ناهز 71 عاما إثر أزمة قلبية بعد رحلة طويلة مع المرض". كان أخر عهدي باخبار عبد الرحمن منيف، عندما دار حوار بيني وبين الراحل الكبير يوسف العاني عام 2002 وقد حدثني عن آخر لقاء له مع منيف في عمان. قال لي العاني ان منيف طلب منه ان يسلم على بغداد المدينة التي قال عنها:" بغداد جزء من حبي الخالد وزهو أيامي " الانتهاء من قراءة كتابه " العراق هوامش من التاريخ والمقاومة والذي اعارني اياه الراحل يوسف العاني، وفي الكتاب يستحضر منيف مجموعة من الوقائع في تاريخ العراق يجدها مهمة للنشر والتسجيل في ظروف الاحتلال الأميركي للعراق، وهو يرى ان اعادة سرد هذه الوقائع مهمة في تكوين ذاكرة تاريخية.

ظل يحمل حقيبة السفر حتى اليوم الاخير من حياته، ورغم انه اشتهر كواحد من اهم المسافرين داخل نفس الانسان العربي المعاصر، إلا انه عاش في الواقع عالم الترحال بين البلدان، ومثلما يصفه غائب طعمه فرمان بانه: " وزع حياته على خارطة البلدان العربية "، والده نجدي من السعودية، كثير الأسفار، وفي واحدة من سفرياته تزوج في بغداد من امرأة عراقية، سافرت معه إلى الاردن حيث ولد عبد الرحمن منيف في مدينة عمان يوم التاسع عشر من ايار عام 1933، بعد ثلاث سنوات من مولده سيتوفى والده فتضطر العائلة الى البقاء في الاردن بانتظار العودة الى مدينة نجد، في عمان حيث سيطول المقام يكمل دراسته الابتدائية والثانوية، يعود الى نجد التي لم يمكث فيها طويلا، حيث يقرر الدراسة الجامعية في بغداد عام 1953 يدرس في كلية الحقوق، لكن قرارا سيصدر بابعاده بسبب نشاطه السياسي، ليكمل دراسته الجامعية في القاهرة، بعدها سيحط الرحال في يوغسلافيا يدرس النفط بدلا من القانون، هذا النفط الذي كان: " سببا في ان ترافقني حقيبة السفر مثل ظلي "، بعدها سيجد نفسه موظفا في الشركة السورية للنفط في دمشق، وعضوا في القيادة القومية لحزب البعث الذي سيعلن استقالته منه عام 1962، في العام 1963 سيجد نفسه بلا جواز سفر بعد ان قررت الحكومة السعودية سحب الجنسية منه، فتمنحه الجزائر جواز سفر دبلوماسي، سيضطر ايضا الى التخلي عنه امام ضغط الحكومة العراقية التي قررت ان تمنحه جواز سفر عراقي، وسينتقل الى بغداد التي تصبح واحدة من المدن القريبة الى قلبه وسيتذكرها كثيرا حين يضطر الى مغادرتها عام 1981، ليحاول استعادة رائحة المدينة التي عاشت فيها جدته من خلال ملحمته الروائية " ارض السواد " التي صدرت عام 1999:" كنت اريد ان ابعث برسالة حب صادق لهذا البلد الحزين الذي يتناساه الجميع الآن "، معتـقداً أنه لكي يسترد المجتمع الذي غادره فإن عليه أن يعود الى تاريخه:" عندما ذهبت الى العراق عام 1952، وخلال الاسابيع الاولى قدرت انني أخطات اختيار المكان لأن كل شيء: البشر والامكنة والمناخ غير ما تصورت وافترضت، امكنة لها تضاريس خشنة، مناخ قاس بحيث لا يعرف الانسان هل هو في الصيف ام الشتاء؟، اما البشر في الشوارع، في الجامعة، في الباص والدكاكين، فانهم يعبرون مسافرين أقرب الى الصمت والتامل، لكن لم تمر اسابيع اخرى ونتيجة الاحتكاك اليومي المستمر حتى تخلخلت تلك الصورة ثم اخذت تتغير، فالأمكنة التي كانت تراها العين خشنة ما لبثت ان تكشفت عن جمال بدوي غير مجلوب كما يقول المتنبي، والبشر المغلقون الذين لا يضحكون للرغيف الساخن، كما يقال، بعد ان تعرفوا ووثقوا فاض ودهم أالى درجة لايستطيع الانسان ان يجاريهم او يحتمل كل ذلك الود دون ان يصبح اسيراً له، فقد تدفق حبهم الى درجة لا يمكن للانسان الى ان يردد مع محمود درويش: انقذونا من هذا الحب القاسي." - من حوار اجراه فيصل دارج مع عبد الرحمن منيف ونشر في مجلة الكرمل عام 2000- 

قبل ان التقي المرة الاولى بالروائي عبد الرحمن منيف، كانت صورته التي اشاهدها في الصحف مرفقة مع المقابلات التي تجرى معه او مع النقد الذي يكتب عن اعماله، تتنافى مع الصورة التي رسمتها له في مخيلتي وهي صورة لا تختلف عن الصورة التي تعرفنا عليها لبطل روايته الاشجار واغتيال مرزوق " منصور عبد السلام "، رجل في منتصف العمر، ينظر بلا مبالاة الى ضجيج العالم، متخفيا وراء اسماء وهمية منحها لابطال رواياته، خائف قلق، مرتبك احيانا، يعتقد ان الجميع يراقبه ويسجل عليه ادق حركاته.. وفي مرات كنت اتخيله " الياس نخلة" البطل الآخر في الاشجار واغتيال مرزوق، في الخمسين من عمره، ضعيف، عظام وجهه بارزة، ورقبته تبرز واضحة داخل القميص الواسع، عيناه ببن الرمادي والأزرق، ضاحكتان بسخرية، يرتدي ملابس فضاضة متناقضة الالوان.. وربما هو مرزوق الذي يتردد اسمه في الرواية كثيراُ، يملك ابتسامة مليئة بالحزن والسخرية.. في تلك الايام كنت انتهيت من قراءة رواية كازنتزاكيس " زوربا اليوناني " ولا تزال صورة العجوز زوربا ماثلة في ذهني " قامة منتصبة، ذا انحناءة خلف رأسه، وذا عينين صغيرتين مستديرتين مثل عينين طائر.. واخذت اقارن بين شخصية الياس نخلة والعجوز زوربا.. حتى جاء عصر احد الايام قبل اكثر من اربعين عاما حين دخل الى المكتبة التي اعمل فيها الكاتب وصاحب المكتبة العالمية آنذاك جاسم المطير، ومعه رجل انيق جدا، صاحب وجه اسمر شديد الخصوصية والحميمية، ولفرط خصوصيته تكاد تشعر بانك لم تره من قبل نظر لفرادته، ولفرط حميمته تكاد توقن انه احد اقاربك.. والسر في هذه الازدواجية انه وجه مطمئن جدا لما يفعله في حياته اليوميه.. وعلى الرغم ان صاحب الوجه كاتب مشهور، إلا أنه أصر أن يعرفني بنفسه " عبد الرحمن منيف " كنت قد قرأت له الأشجار وإغتيال مرزوق، وشرق المتوسط، وكانت الروايتان قد صدرتا ضمن منشورات وزارة الثقافة العراقية. قال لي جاسم المطير والذي كان يعمل مع منيف في مجلة النفط والتنمية: إن الاستاذ يبحث عن بعض الكتب.

أثناء عملي في المكتبة، كنت أعتقد انني أستطيع الإجابة على أي سؤال عن الكتب، وكان هذا الغرور دائماً ما يضعني في مواقف محرجة، مثلما وجدت نفسي أمام عبد الرحمن منيف وهو يردد على مسامعي عناوين لكتب وأسماء تَطرقُ سمعي للمرة الأولى، قال لي عبد الرحمن منيف: حاول أن تجعل من القراءة واقعاً تعيشه، الكتب كثيرة وأشار الى رفوف المكتبة، ثم أضاف:"ضع قائمة خاصة بقراءاتك، لاتقرأ من أجل المتعة فقط رغم أهميتها، إقرأ من اجل ان تعيش اكثر من حياة"، قلت له انا قرأت الاشجار واغتيال مرزوق واعتبرها رواية لاتقل اهمية عن رواية كازنتزاكيس " زوربا "، قال لي وهو يبتسم هل تعرف ان الكتب تنافس بعضها البعض، والجيدة منها فقط تدخل في سباق مع القارئ، ثم اكمل: استطيع ان ازعم انني قارئ جيد، وان القراءة بالنسبة لي متعة.. ولهذا فان الاشجار واغتيال مرزوق لايربطها بعمل كازنتزاكيس الكبير سوى ان ابطال العملين همهم البحث عن الحلم.. كان كازنتزاكيس عندما كتب روايته زوربا وهو في الثالثة والستين من عمره، وانا الان في الخامسة والأربعين  - اللقاء كان عام 1978 – واضاف منيف لاتنسى ان كازنتزاكيس تاثر جدا بافكار نيتشه وبوذا وبرجسون،، اما انا فعقلي ميال الى ديالكتيك هيجل، لكن عواطفي مع سارتر ومواقفه، ثم يكمل: في زوربا كان كازنتزاكيس يريد من ابطاله ان يتجهوا الى الامام رغم ان اليأ س يحيط بهم.

قلت له: ومنصور عبد السلام  ايضا كان يريد في الاشجار واغتيال مرزوق ان يتجه الى الامام برغم اليأس الذي يحاصره.

صمت قليلا ثم قال بصوت اقرب الى الهمس: منصور عبد السلام خطواته كلها الى الوراء، ما حاولت ان اقوله في الاشجار واغتيال مرزوق هو الاضطهاد والغربة، الاضطهاد والغربة ليست لهما وجه واحد، لهما وجوه متعددة، وحتى نستطيع استيعاب الاضطهاد بكل ابعاده يجب ان نرى نماذج خقيقية للاضطهاد بكل اشكاله وعناوينه.. ومن هنا اخترت نموذجين يمثلان الاضطهاد في مرحلة معينة وبمفهوم معين.. الاضطهاد المادي والاضطهاد النفسي.. ويبدو لي أن صورة الياس نخلة او صورة منصور عبد السلام لم تكن تظهر واضحة لو كانت منفردة.. عكس زوربا صورته لوحده صورة واضحة جدا، بل ان صورته تضفي ملامحها على معظم احداث الرواية، وهذا لم يحدث في الاشجار واغتيال مرزوق، فصورة الياس نخلة التي يجدها البعض شبيهة بصور زوربا لايمكنها لوحدها ان تؤدي غرضا معينا، فالقارئ يحتاج الى جانبها صورة منصور عبد السلام لتكتمل الصورة النهائية، ولنرى ما يعانيه الانسان المسحوق ماديا في منطقة معينة، ومدى ما يعانيه الانسان المسحوق نفسيا عندما يكون عرضة لاضطهاد من نوع آخر، لذلك لا يمكن ابداً الفصل بين الشخصيتين وبين الموضوعين..وانا اعتقد اننا لو حاولنا ان ناخذ احد الوجهين ونذهب بعيدا في تتبع حياته، لا بد ان نصل الى الشعور بفقد شيء ما.

تجرأت وسالته ثانية: عندما قرأت الاشجار واغتيال مرزوق وجدت ان " الياس نخلة " هو البطل، وتاثيره بالنسبة لي كان اكثر من منصور عبد السلام.

نظر في فنجان القهوة الذي احضرته له ثم قال: هذا ما اسمعه من الكثيرين.. في الرواية كان عندي محوران اتحراك فيهما، بمقدار ما كنت ابرز هموم وتعاسة الياس نخلة، كنت ارى تعاسة من نوع آخر يعاني منها انسان المناضل يتعرض لنوع آخر من الاضطهاد والغربة.. الياس نخلة لايفكر في الحياة وانما يعيشها، انها صورة اخرى لزوربا الذي عشقت شخصيته، اما منصور فقد كانت الافكار عماد حياته سنوات وسنوات، وعندما تحطمت افكاره تحطمت معها احلامه.

في مذكراته " تقرير الى غريكو " يخبرنا كازنتزاكي إن فكرة زوربا كانت في البداية أشبه بايقاع جديد استولى على حياته:" حين إلتقيت بزوربا، وكان ما يزال يُلقي بظله على الأرض، وحين عرفت انه لاجسده ولا أغنيته ولا حتى رقصته كانت قادرة على استيعابه، تساءلت بتوقع كبير عن أي نوع من الوحوش البرية سيتفجر حيت تأتي ساعته ويقطع القيود الشفافة المحيطة به "، ولهذا ما إنْ نبتت فكرة الرواية في ذهنه حتى أخذ يكتبها بسرعة، بطريفة محمومة وهو ما جعله يصف الرواية بعد أن انتهى من كتابتها بأنها:" مثل المصيدة، كنت أرتبها بكل الدهاء الذي لدي، لكي أقبض على الصرخة المعجزة التي تظل تتقدم أمامي ".

يلتقي منصور عبد الرحمن في القطار الذي ينقله الى البعثه الاثارية التي سيعمل معها، بالياس نخله، كان كأنه يلتقي بوجهه الحياتي الآخر، منصور انسان الفكر والسياسة والاحلام المؤجلة، والياس انسان الحياة المعاشة، في القطار سيقص الياس نحله كل حياته، ثم ينزل في محطة الحدود، ليتابع منصور رحلته متذكرا حياته حتى يصل الى مقر البعثة الاثرية، هناك يبدا بتسجيل يومياته ومنها سنعرف ان مرزوق مات، مرزوق شريك الطفولة والشباب والاحلام كان موته وجه آخر من موت احلام منصور..ومع الصفحات الأخيرة للرواية يكون عبد الرحمن منيف قد قدم لنا ثلاث حكايات تكاد تكون منفصلة، لولا ربط شخصية منصور عبد السلام بينها.

وهنا حاولت ان استعرض بعض قراءاتي فقلت له: في الأشجار واغتيال مرزوق وايضا في شرق المتوسط كان هناك موضوعة السفر.. وقبل ان يجيبني اكملت ووجدت وانا اقرا الصفحات الاولى من الاشجار واغتيال مرزوق انها قريبة الشبه بافتتاحية دوستويفسكي في روايته الأبله حيث القطار هو المكان (اثناء ذوبان الثلج الجليد. كان قطار وارسو يقترب من بطرسبورغ مسرعا. في احدى حجرات الدرجة الثالثة راكبين قد جلس احدهما امام الآخر قرب النافذة منذ الصباح) – رواية الأبله دوستويفسكي الجزء الاول ترجمة سامي الدروبي –

ابتسم ابتسامه صغيرة، ثم تجمعت في وجهه مجموعة من التعابير المحببة وهو يقول: تعلمت من دوستويفسكي ان الكاتب لكي يكون قادرا على ان يكتب جيدا، عليه ان يعاني..صمت قليلا ثم اكمل: وان يتغلب على معاناته.. ولهذا انا اعتقد ان كل رواية اكتبها اتغلب فيها على جزء من المعاناة التي عشتها في حياتي.. احيانا تكون المحاولة ناجحة، واحيانا اصاب بالفشل لأن المعاناة لاتريد ان تغادرني.. كثير ما يطرح عليُ سؤال عن جنسيتي، وفي الحقيقة هذه القضية لم تعد تشكل محنة بالنسبة لي، وليست المشكلى بالنسبة لي كوني من السعودية او اردني او عراقي وانما مشكلتي انني في رحيل دائم، وعديم الجدوى لانني في كل مرة اعتقد ان هذا هو الميناء الاخير، فاكتشف ان هناك موانيء أخرى، ومن خلال التنقل بين هذه الموانيء اجد ان الاشياء والحالات تتكرر لدرجة لا اعرف في اي ميناء انا الآن.

في الاشجار واغتيال مرزوق كان القطار وسيلة للعودة الى الماضي وفي شرق المتوسط كانت السفينة اشيلوس تنقل رجب الى المستقبل، فهو يغادر شخصيته السابقة..رجب مناضل سياسي اعتقل وعذب اربع سنوات الى ان خرج متبرئا من تاريخه السابق، وقد وافقت السلطات على خروجه وسفره شريطة ان يظل على اتصال بها، وان يزودها باخبار المعارضة في الخارج.

قلت له: الا تعتقد ان ما فعله بطل شرق المتوسط هو انكسار، كيف يتحول المناضل الى مجرد كاتب تقارير على رفاقه.

كأني اثرت مواحع عنده قال بصوت حزين: شرق المتوسط لاتناور، ولاتحاول ان تجمل الواقع، او تتحايل على القراء، انها توجه الاتهام مباشرة الى السلطات، السلطة السياسية هي المسؤولة عن هذا التحول الذي اصاب المناضل، فهذه السلطات هي من جعل التعذيب الاداة التي لاتكتفي بتحطيم الاحلام فقط بل وتكون الاداة الاقوى في تحطيم الانسان وتشويهه جسديا وروحيا (لا احد ينجو الذي يعمل في السياسة والذي لايعمل، الذي يحب هذا النظام والذي لايحبه) – رواية شرق المتوسط –

يقول رجب لنفسه في شرق المتوسط:" لو ظلت امي لظللت شابا وصامداُ، لو ظلت هدى لظللت اقوى واشد، لكن جسدي هو الذي عذبني لم يتركني ارتاح يوما واحدا، حاربت جسدي فترة طويلة، جاملته، سألته أن يقف بجانبي، لكن شيئا في الخارج ظل يغزوني دون رحمة "

(نظرت الى الجدران، توقفت عيناي على صورة الشهادة، كانت زاويتها اليسرى صورتي، نهضت على رؤوس اصابعي، صعدت فوق المقدمة ونظرت طويلاً الى الصورة، ليس بيننا أي شبه، ذهبت الى المرآة وتطلعت الى وجهي، شعرات بيضاء في الفودين، وفي منتصف الرأس، صفرة حقيقة في العينين، تجاعيد، " لمن هذا الوجه ؟ " وعدت اتطلع الى الصورة من زاوية الشهادة، قلت في نفسي ان احد هذين مات) - شرق المتوسط -

قال لي وانا اواصل حديثي معه حول روايته:" معظم عمري ضاع في الانتظار، لاشياء جاءت، ثم بعد ان جاءت ذهبت، او تحققت، وبقيت انتظر أشياء آخرى..ومن خلال التجوال والإنتظار والتنقل بين المدن، اجد أان الأشياء والحالات تتكرر لدرجة انني لا اعرف احيانا من انا ويط هذه الفوضى والاحلام والانكسارات

واذا سالتك الآن من هو عبد الرحمن منيف؟

ضحك وهو يقول: تريد ان تستدرجني، ومع هذا فانا لا اعرف بدقة من هو عبد الرحمن منيف، كل ما اعرفه انتي واحد من الملايين الفقراء الذين يعيشون على الارض الشديدة الغنى والقسوة في وقت واحد، ولاني هكذا ولأن الحياة حولي هكذا، فقد امتلأت منذ الصغر بالتمرد والرفض، ولا ازال كذلك حتى الان، ولاني هكذا، ولان الحياة حولي هكذا، اذن لا اعترف بأي مكان، والى ان يتم الاعتراف، سابقى متجولاُ دائم الرحيل.

(نسفت كل الجسور التي تصلني بالعالم، بشاطيء السلام، لم يبق امامي الا ان اشرب، انا مجرد انسان عادي، انسان مضطهد عاطل عن العمل منذ وقت طويل، لي هموم صغيرة واحلم اغلب الوقت) - منصور من رواية الاشجار واغتيال مرزوق -

لقطة عابرة

في منتصف التسعينيات وانا اهم بدخول بناية دائرة السينما والمسرح التتقيت بالفنان يوسف العاني كان في طريقه الى غرفته في الطابق الرابع، لمحت الفرح يشع من عينيه، اشار الى ظرف يحمله: لقد وصل كتابي الجديد " شخصيات وذكريات " وقبل ان تكلم، اكمل العاني هل تعرف من كتب المقدمة؟ انه صديق سنوات الخمسينيات عبد الرحمن منيف.

عام 2000 سيعيرني الصديق مقداد عبد الرضا ملحمة عبد الرحمن منيف " ارض السواد " باجزائها الثلاثة، لم انتظر طويلا، في المقهى التي كنا نلتقي فيها في شارع السعدون فتحت الصفحة الاولى:" بعد ان حَضرت سليمان الكبير الوفاة، بعد ان ظل واليا على بغداد اثنتين وعشرين سنة " اذن هذا هو عبد الرحمن منيف يعيد لنا حكاية عشقه لبغداد بعد سنوات من مغادرته العراق، ها هو يجد نفسه من جديد مشدوداً الى ذكريات مجتمع أحبه وعاش فيه باستغراق وجداني تام، حيث على هذه البقعة من الارض اختمرت احلامه وتطلعاته وتحولاته الثقافية والسياسية، فالعراق ظل حتى اللحظات الاخيرة من حياة عبد الرحمن منيف هو الحدث الحياتي والروائي الاول الذي لم يفارق ذهنه ابدا، انها العاطفة التي تفوح من بين صفحات الكتاب وتعيدني الى زمن كنت فيه لا ازال اخطوا خطواتي الاولى في عالم القراءة.. في تلك الايام مثل التلميد امام الرجل الاسمر الباسم، وهو يقول لي::"لا تنسى أقرأ حتى وإن شعرت بالملل، دع الكتاب يقوم بالمهمة.. لايعني شيئاً للقارئء إن لم يَفهم بعض الصفحات، يكفي إنه يشعر بالحماس لإتمامه". لقد كانت كلمات منيف مدهشة وصادمة لدرجة لم أستطع إلا أن أقول له إنني ساعتبر نصيحته دليلاً في القراءة.

وبرغم مئات الصفحات التي كتبتها في مديح الكتب، ساظل طوال عمري أتذكر نصيحته وهو يصافحني عند باب المكتبة: " حاول أن تجعل من القراءة واقعاً تعيشه " وبتذمر صرخة الكاتب العاشف التي اطبقها في الاشجار واغتيال مرزوق "أنتَ يا منصور وحيد...وحيد لدرجة لا يمكن للإنسان أن يكونَ وحيدًا هكذا!.

***

علي حسين – كاتب

رئيس تحرير صحيفة المدى البغدادية

 

 

عندما تتداخل المناسبات

أول يوم من العام السابع؛ بعد الألفية الثانية للميلاد، بدأ بيوم ماطر في سدني؛ رذاذ خفيف لم يكن كافيا لأطفاء حرائق العام الماضي؛ الذي انتشرت في ولاية نيو ساوث ويلز الأسترالية، كانت رسائل الأشجار المحترقة تبعثها الريح تباعا؛ عبارة عن أوراق متفحمة، ودخان كثيف.

غلالة حزن؛ نفس منقبضة؛ وألم متشبث بعناد في أعصاب مرهقة، لم تسعف التمنيات بإزاحته؛ ومع انقشاع غيوم السماء؛ اشرقت الشمس على نهار جديد.

تساءلت .. ماذا أضاف للعام الجديد، غير ترهل الزمن وتراكم ارقام الأعوام،  سيسخر الزمن منا ومن اعوامنا وهو يرانا نودع عاما ونستقبل آخر، وهنا أتذكر قول صديقي أحمد هادي:

" سماء الغد كسماء اليوم، فما ازدادت علوا ولا سموا".

لكنه الأمل يا صديقي الذي يراود الأنسان ويخدعه، والواقع انها أوهام تسالم الناس على تصديقها والتعايش معها.

قبل غروب العام الراحل، أعدم اشهر رجل عرفه تاريخ العراق في العقود الثلاثة الماضية من القرن العشرين، أشتهر بحروبة العبثية، وجبروته وعناده واستهتاره بالحياة البشرية والبيئية، كان مشهد إعدامه معلقا على حبل المشنقة، واستسلامه لقدره ومصيره المأساوي البائس، قد ترك انطباعا غامضا في النفس، شئ من الذهول والصدمة، حزن اسود ينتاب النفس التي يأست ان تزحزح صخرته الجاثمة فوق الصدود.

خرج هذا الرجل  فقيرا ويتيما من وسط الشعب، ليصل لأعلى مراكز السلطة  والحكم، ويتحكم ببلد غني بثرواته؛ وعريق بتاريخه الضارب في  عمق الزمن. فينشر الخوف والرعب في النفوس؛ ويسلط الأشرار ليكتموا الأفواه ويحصوا الأنفاس،  بطريقة استبدادية قل نظيرها في تاريخ العالم، مما أدى بالحياة  ان تنسحب الى أبعد وأضيق زوايا الظلام؛ وتصاب الروح الأنسانية المبدعة، بحالة من الشلل والخمود والموت، وينزوي الأنسان العراقي وارث اول حضارة انسانية، في زوايا النسيان.

إستدعاء الماضي المقييت، هو تعذيب الذات وجلدها بسياط الثأر والكراهية، هو العجز واليأس عن استشراف الطريق للخروج من المأزق، الذي وجدنا انفسنا فيه بإكراه أو بإرادة حرة، لقد كان الرجل من نفس النسيج الأجتماعي الذي كون قيمنا في  تقديس القوة، والبطولات الزائفة التي البست لباس البطولة والرجولة والإقدام

مات صدام الذي هتفت بأسمه  حناجر العراقيين والعرب، سواء كانت مسلتبة، خائفة او متملقة، كما هتفت لجميع الرؤوساء الذين اعتلوا سدة الحكم ثم هووا للحضيض، متى يفيق هؤلاء وينتبهوا لخطرهدير الأصوات التي  تجرفهم في عاصفتها الهوجاء الى الجحيم.

الرجل الذي أعدم في صبيحة العيد، سلب الأطفال رعشة صباحة، لمسة الأيدي التي تمنحهم الفرح، هذا العيد شاهدوا إعدام رجل رأوه من قبل متأنقا في بدلته البيضاء؛ بمناسبات اعياده ميلاده، وفي المشهدين تداخل وإنثيال للمشاعر، الحزن يختلط بالفرح، ويموتان معا، فعندما تنكفئ المشاعر تستهزئ بالحواس التي خلقت مثل هذه الصور الوهمية، التي فيها الكثير من الخداع والزيف،  شئ من المكر تستقبله مراكز الأدراك، على انه الحقيقة؛ ولكنها ابعد حتى من الوهم نفسه.

مشاهد المقابر الجماعية التي تنقلها شاشات التلفاز، الكم الهائل من الألم التي تركتها عن القسوة وبشاعة الموت العنيف، تحت آلة بشرية صماء، الموت الذي تجسد في وجدان العراقي كشئ يوثق هويته في التعايش مع الحياة، التي وهبها الله  له، صارت مشروعا للموت الذي تقلص ليتحول من أجل الوطن، الى الفداء للقائد الملهم.

مات الرجل وإنطوت معه صفحة مجللة بالسواد؛ غطت خارطة العراق الحافل بالمآسي والنكبات،  لقد حكم العراق منذ تأسيس الحكم الوطني في أوائل عشرينيات القرن الماضي سبعة حكام، ثلاثة منهم  ملوك، وأربعة رؤوساء جمهورية، لم يمت منهم إلا واحدا حتف أنفه، والآخرون قضوا بين إغتيال وإعدام*.

***

عندما يأتي العام الميلادي الجديد بصبحة كوفيد 19

أصبت بكوفيد 19، وأخبرت صديقي الدكتور صالح الرزوق بحالتي المرضية؛ ومعاناتي خلال أيام المرض الذي ظهرت أعراضه منذ اليوم الأول من العام الميلادي الجديد، وفي اليوم السابع عشر، عدت كما عاد الإله تموز من أطباق الجحيم الى الحياة ..

بثقة أقول هذا يوم مختلف، ودعتني الكرونا بإبتسامة صفراء ساخرة، لقد هزمتني شر هزيمة، أتمتم مع نفسي خجلا ..أما كان بوسعك يا رجل أن تصمد يوما آخر لتعلن انتصارك، أوهمتني فأيقنت الا نهاية لعذابي.

منذ اليوم الأول للعام الميلادي الجديد، وأنا في صراع غير متكافئ مع عدو شرس، سلب كل ما لدي من قوة متواضعة.

يتجنب الإنسان العادي خلق الأعداء، بعكس السياسي المحترف؛ احيانا تحشره تقلبات السياسة في زوايا ضيقة؛ ويجد نفسه وجها لوجه مع أعداء فرضوا عليه فرضا؛ او اختارهم  بنفسه لتصفية حسابات قديمة، ولكن الأمراض التي تفتك بنا، وندخل المنازلة معها على حين غرة، متسلحين بلا وعي بالمناعة الطبيعية، وهي القوة المادية الذاتية، وبالإيماان بوعي؛ وهو الطاقة الروحية، فطوال أيام المرض، والآلام التي خلتها لن تنتهي، كأنها التحمت وإمتدت فصارت يوما عبوسا قمطريرا.

كنت قد وضعت لأول مرة في حياتي؛ خطة عمل للعام الجديد، استغل كل يوم فيه بما يعود علي بالفائدة، وطبعا اقصد الأدبية المعنوية، فأنا رجل ثمانيني، أعتمد في معيشتي على الضمان الأجتماعي الحكومي.

عَينتُ مثلا أحد الأيام للتأمل؛ وفيه يجب ان انقطع تماما عن استخدام  كل وسائل التقنية الحديثه، الكومبيوتر او الموبايل، بإستثناء الرد على المكالمات الهاتفية عند الضرورة.

هذه ليست دعوة رجعية للعودة الى ما قبل عصر التكنولوجيا الفائقة التطور،  او مقاطعة أملتها ردود الفعل السلبية التي احدثتها فوضى العبودية؛  لهذه الوسائل التي اقتحمت حياتنا الخاصة، إنما هي رغبة متألصة في النفس البشرية للعودة الى أمنا الطبيعة، وتصحيح الأخطاء او الإساءات الكثيرة التي إرتكبناها بحقها منذ قيام الثورة الصناعية الغربية الرأسمالية.

نشأت في  بيئة شبه ريفية، وعشت في بيت بسيط  لم يدخله التيار الكهربائي، قبل إنهاء المرحلة الإبتدائية، عام 1953 م.

الأختيار والأرادة الحرة.. هما من بين أهم المحركات المحفزة لتنشيط الحياة، وبث روح التجديد في أوصالها، أتذكر اني عندما أنهيت دراستي الثانوية وكنت على عتبة الدخول للجامعة؛ لم أفكر ماذا سأدرس، كنت مولعا بالأدب الأنكليزي، ولكني أخترت علم الإجتماع؛ بتأثير زميل قديم كان معي في مراحل دراسية سابقة، فهل كان ذاك خيارا صائبا، الجواب قطعا لا، كان أكبر خطأ ارتكبته في باكورة حياتي الدراسية، ولكن لا يهم؛ في النهاية وسع علم الإجتماع ملكتي الفكرية  فقرأت أفكار الموسوعيين الذين مهدوا للثورة الفرنسية : فولتير، مونتسكيو، وروسو، لا تبدو لي الأمور سيئة لدرجة التنصل منها، او عدم ذكرها.

غالبا لا تنطبق المقولة المعروفة :

" إختيارالرجل المناسب في المكان المناسب"

على كل الحالات التي نراها في الحياة، مما قد يؤدي الى إختلاط الأدوار، فنجد رجلا كل امكاناته المتاحة، ان يصلح  جلادا في سجن ينفذ احكام الأعدام بالمجرمين، لكنه لسبب ما نجهله؛ يتخطى مكانه فيصبح بالخطأ رئيس دولة، او تجد رجلا لديه مؤهلات التاجر ورجل الأعمال الناجح؛ وعنده ميل كبيرللمنافسة والربح، يتجاوز دوره فيصبح طبيبا، كيف تحدث هذه الأمور!

هذه أمثلة قليلة ضُربت للأدوار الخطيرة في حياة الناس، اما فوضى  تضارب الأدوار التي لا تسبب اضرارا جسيمة فمسألة عادية جدا.

وهكذا عندما فكرت بالكتابة، قلت لنفسي هل أختار طريق الشعر الذي  سار عليه السياب، الذي كنت معجبا به واحفظ الكثير من قصائدة، فأكون شاعرا، ام أتخذ من الكتابة السردية طريقا أواصل السير عليه، لأكون كاتبا روائيا، لكن كل تلك الأحلام كانت تفتقر الى قدحة الطموح للشهرة، مثلي في ذلك كناسك معتكف في صومعته، الأختيار مسؤولية أدبية، يتبعه بالضرورة الإلتزام، وينتهي سلوكيا بالإنتماء . يبدو لي  أنني لست من هذا النوع، هل استطيع ان اصف نفسي باللامنتمي، ولكن ليس على غرار لا منتمي كولون ولسن. وهل المؤمن  بالله فطريا لا منتم لدين معين، كما في إدبيات الفلسفة الأستشراقية، وخاصة كتاب إبن طفيل، حي بن يقضان.

هذه ليست أعترافات او سيرة ذاتية، بقدر ما هي بوح نفسي، اخرجها المرض من دياجير الظلام الذي لبثت فيه طويلا، وارجو من القارئ الكريم ان ينظراليها من هذا المنظور، اي انها ارهاصات وجدانية، او بوح جرئ قد يفتقر للباقة العرض، في طرح ما في دخيلة النفس.

***

صالح البياتي

1/ 1 / 2023 م

.......................

* نشرت الخاطرة الأولى في صحيفة  كتابات، تحت اسم صالح محمد، بتاريخ 3/12/ 2007 م

تمتعت المرأة العربية في العصر الجاهلي بقوة الشخصية والذكاء والفطنة وقدرة التأثير على الرجال وتحريك الامور الى حد اشعال الحرب بين القبائل انتصارا لحظ الكرامة والعزة خاصة لدى قبيلة بني تميم.

فنساء قبيلة بني تميم عبر العصور المختلفة من الجاهلية وحتى عصر الاسلام ولا يزال في زماننا يمتلكن من الجينات الوراثية ما جعلهن محل احترام وتقدير المجتمعات اللواتي يعشن فيها وحفلت القبيلة بالكثير من الشخصيات النسائية المؤثرة في المجتمع ممن تميزن بالمواقف البطولية، وقوة الشخصية والشجاعة والأدب والبلاغة وفي الحشمة والقدوة الحسنه واشتهرن بانهن يلدن النجباء، وتَميَّزَ هؤلاء بالحِلم والحكمة وإظهار كل ما لديها من علم وفكر وتميز .

ولذلك حرص الكثير من مشاهير العرب على مصاهرة بني تميم  وسجل التاريخ أسماء اشهر نساء بني تميم  في الجاهلية والاسلام ومنهن الصحابيات اسماء بنت سلامه، اسماء بنت عمر، خوله بنت القعقاع، سلمى بنت صخر والدة ابو بكر الصديق، زينب بنت الحارث، رقيه السعديه وام هيثم السعديه اللتان  كانتا مرجعا لعلماء السنه.

والحمراء عقيلة زرارة بن عدس التي كان لها مناظرة مع ملك المناذره وهو يهم بقتلها وقال لولا خشيتي ان تلدي مثلك لعفوت عنك.

ففي العصر الجاهلي كان للمرأة صوت مسموع لدى قبيلة بني تميم، خاصة اذا امتلكن سلاح الشعر وهو يرمي بسهام الكلمة فتقع الحروب او تندمل جراح وهو ما قد تجلى في قصة سعاد بنت منقذ التميمية، والتي اندلعت بسببها حرب استمرت اربعين عاما  فقد استخدم شعر النساء محرضا على حفظ الكرامة والنخوة والانتصار لشرف القبيلة، والثأر والانتقام من تجاوز كرامتها حتى ولوكان ابناء عمومة وحتى لوكان بسبب ناقة.

وهو ماحدث تماما في قصة سعاد التي لقبت بالبسوس وحرب البسوس التي قد يعجز كبار كتاب السيناريو في العالم عن ان يبدع تفاصيلها ويعبر عن دمويتها لكن شعراء الجاهلية كانوا اكثر ابداعا في وصفها والتعبير عن مآسيها .

وسعاد بنت المنقذ، سيدة وشاعرة كبيرة من أدباء الجاهلية، تنتمي لقبيلة بني تميم التي كانت تسيطر على شبه الجزيرة العربية في الجاهلية. واشتهرت بزرقة العيون وعند العرب ربما يدل هذا على جمال وملاحة وجهٍ عندها لان ذوات العيون الزرقاء قلة نادرة في المجتمع العربي، و كانت سعاد صاحبة أكبر معركة في التاريخ وجعلت قبائل العرب يتقاتلون طيلة أربعين عامًا، وسميت الحرب على اسمها. وقتلت البسوس على يد جحدر بن ضبيعة فكانت أول من يقتل في حرب البسوس بعد كليب بن ربيعة.

اندلعت الحرب عندما  اطلقت البسوس وهى فى جوار بكر ناقة لها تدعى سراب لترعى فى حما  كليب فلما راى كليب الناقة ترعى في حماه رماها فشق ضرعها بسهم وادمى راعيها. فعلمت البسوس بما حدث للناقة، فخرجت تصرخ قائلة: "واذلاه وا غربتاه"، وقيل انها قالت أبياتاً تسميها العرب أبيات الفناء – فسمعها ابن أختها جساس فقال لها: أيتها الحرة ! اهدئي فو الله لأقتلن بلقحة جارك كليباً ثم ركب فخرج إلى كليب فطعنه طعنة أثقلته فمات منها.

استطاعت سعاد ان تثير في نفس ابن اختها جساس مشاعر الثأر والانتقام  بأبياتها الشهيرة.

لَعَمْرُكَ لَوْ أَصْبَحْتُ في دَارِ مُنْقِذٍ

لَمَا ضِيْمَ سَعْدٌ وَهْوَ جَارٌ لأَبْيَاتِي

ولكِنَّنِي أَصْبَحْتُ في دارِ غُرْبَةٍ

مَتَى يَعْدُ فِيها الذِّئبُ يَعْدُ على شَاتي

فَيَا سعدُ لا تَغْرُر بِنَفْسِكَ واِرتَحل

فإنَّكَ في قَوْمٍ عنِ الجارِ أَمْوَاتِ

وَدُونَكَ أَذوادِي فَإنّي عَنْهُمُ

لَرَاحِلَةٌ لا يَفْقِدُونِي بُنَيَّاتِي

فرأت قبيلة بكر في قولها المهانة والذلة اذ انهم عجزوا عن حماية ناقة لمن فى جوارهم فاقسم عمرو بن مرة ويسمى (جساس) بأن يثأر لها وهي خالته فالتقى كليبا فقتله لتبدأ ملاحم الثار طوال اربعين عاما بين القبائل والتي لم تؤد فيها دية لقتلى ولذلك سمت العرب هذه الحرب: البتراء

***

سارة طالب السهيل

 

تعتبر البصرة من اقدم المدن العراقية وكانت في زمن الساسانيين امارة تسمى امارة ميشان. وتتكون من بلدتين احدهما في الجنوب على الخليج وتسمى ميشان والاخرى في الشمال وتسمى الابلة والامارة محصورة بين نهري دجلة والكارون.. وكانت الابلة تسمى ثغر الهند حيث فيها مرفأ تجاري للسفن القادمة والمغادرة للهند. وسماها اليونان خلوك او حارك (ولا نعرف معنى ذلك. ربما تعني الخارج اي التي تخرج منها السفن التجارية) وسماها العرب دست ميسان وميشان والحفير والثني وذات الوشمين وخزانة العرب وقبة العلم والزاهرة والفيحاء وام العراق غيرها من الاسماء.. وقد فتحها المسلمون سنة 14 هجرية في زمن الخليفة عمر بن الخطاب.. واطلقوا عليها اسم البصرة وتعني عندهم الارض الغليظة ذات الحجارة الرخوة البيضاء...4715 البصرة عاصمة الثقافة

وفي زمن الخليفة العباسي المأمون (198 هجرية) امر باحصاء علماء البصرة وتلاميذهم فبلغ عدد العلماء سبعمائة عالم وعدد التلاميذ احد عشر الفا.. فلما وقف المأمون على هذا الاحصاء سره سرورا عظيما وأمر بتخصيص رواتب للمحتاجين منهم.. كما طلب بأرسال نسخ من مؤلفات اولئك العلماء. فجمعوا له اكثر من مئتي الف مؤلف بين صغير وكبير في جميع صنوف العلوم والمعرفة.. ارسلت الى المأمون في ثلاثة سفن وصلت الى بغداد وضمها  الى مكتبته...

وكانت البصرة من اهم مراكز الاشعاع الثقافي والفكري والعلمي في العالم الاسلامي. واشتهرت في الادب والشعر واللغة والنحو والبلاغة والفقة والعلم والتصوير....

و منهم الحريري الذي ولد في البصرة سنة /444هجرية/ 1054 م / وهو ابو محمد القاسم بن علي الحريري البصري.. عرف بالفصاحة والبلاغة وجزالة الالفاظ وكان مؤلفا نابغا ذكيا. واشتهر بكتابه – مقامات الحريري - وذكر انه كتب بخط يده منه 700 نسخة  وهو اشارة الى اهمية المخطوط وزيادة الطلب عليه

وقد وصل المخطوط الى الاندلس سنة 1222 وترجم الى اللغة القشتالية ثم عبر الى اوربا وترجم الى عدة لغات في ذلك الوقت. وتأثر به كثير من الادباء الاجانب منهم ثربانتس الاسباني صاحب رواية – دون كيخوته -

وقد ولد في البصرة  عباقرة لم يشهد لهم التاريخ الاسلامي مثيل.  كالجاحظ والفرزدق وبشار بن برد وابو الاسود الدؤلي والخليل بن احمد الفراهيدي وابن الهيثم 965 م عالم الرياضيات والبصريات ومخترع – الكاميرة - والاصمعي والكندي والمربد وابن سيرين وفرقة المعتزلة والمصور احمد الخراط البصري الذي ظهر في النصف الاخير من القرن الثاني الهجري( 8 م )واشتهر برسم الصور الشخصية والكاريكاتير ويعتبر من اوائل المصورين ورسامي الكاريكاتير في العالم الاسلامي...

وكانت الابلة من اجمل مدن الدنيا ويقال انها احد عجائب الدنيا السبع. حيث تكثر فيها البساتين والمزارع وغابات النخيل والقصور.. وكانت مرفأ للسفن القادمة والمغادرة الى الهند وهي محملة بانواع التوابل والاقمشة خاصة الهمايون والقصطور وهي اقمشة ملوكية اشتهرت بها الابلة.... وكانت الابلة مركزا وملتقى الثقافات الهندية والفارسية والعربية والصينية.. واشتهرت بقصصها الخيالية مثل قصص السندباد البحري وجزر الواق واق( وهي جزر تقع قبالة الهند او في الخليج )حيث اتخذها ابن طفيل الاندلسي مكانا لروايته الخيالية – حي بن يقضان -.. وقد اسحرت  هذه القصص وادهشت الغرب فترجمت الى لغاتهم وعملوا منها الافلام الروائية الطويلة وقصص الاطفال واستوحوا منها قصص طرزان وروبنسن كروسو وغيرها.... .

وخلاصة القول ان المشاعر الانسانية العميقة نحو البصرة بما انبتت من المبدعين والعباقرة في الفكر والادب والعلم خلال تاريخها الطويل... تستحق ان تكون عاصمة الثقافة العربية.. وكيف لا وهي التي ولدت السياب ونازك الملائكة رائدي الشعر الحديث في العالم العربي.......

عيناك غابتا نخيل ساعة السحر.

او شرفتان تنأى عنهما القمر.

عيناك حين تبتسمان تورق الكروم.

و ترقض الاضواء كألاقمار في النهر.

انشودة المطر للسياب.

***

د. كاظم شمهود

هنالك اليوم حوالي ٤٠٠ طريقة علاج نفسي كلامي لا يملك أغلبها دليلاً علمياً على فعاليته، لذلك لا تذكر الكتب الاكاديمية للطب النفسي سوى تلك العلاجات التي أثبتت فعاليتها ومنها (العلاج السلوكي الجدلي)، وهو ما سوف نركز عليه اليوم أو بالأحرى على مؤسسته (مارشا لينهان). نقرأ في (كُتَيّب handbook أوكسفورد للطب النفسي) أن (مارشا لينهان) ترفض تصنيف العلاج السلوكي الجدلي على انه علاج جديد أو ما يسمى بالموجة الثالثة من العلاج المعرفي السلوكي، بل هي تفضل وصفه على انه (علاج معرفي سلوكي) مضاف إليه (تقنيات التقبل acceptance strategies).

ويبدو أنها من علماء النفس المعاصرين القلائل الذين جرت ترجمة بعض كتبهم للغة العربية مثل كتابيّ (العلاج المعرفي السلوكي لاضطراب الشخصية الحدية)، و(التدريب على مهارات العلاج الجدلي السلوكي: الأدلة وأوراق العمل).

حياة مارشا لينهان الشخصية

إلا أننا نقرأ فقرة تبدو غريبة وفريدة من نوعها في كتاب (شورتر أوكسفورد) الاكاديمي للطب النفسي، فهناك فقرة تمس شخصية (مارشا لينهان) حيث نقرأ: (أن لينهان قد أعترفت حديثاً أن حياتها كانت تسودها سلوكيات مؤذية للنفس: مثل إيذاء النفس، والافكار الانتحارية، وسوء استخدام المواد المخدرة. وأنها كانت تبحث عن طريقة علاجية فعالة من أجل نفسها)، فما وراء تلك الفقرة الغريبة؟

إن تلك الفقرة تشير إلى مقالة نشرت في جريدة النيويورك تايمز عام ٢٠١١، حيث تكلمت (مارشا لينهان) عن تاريخها المرضي الخاص، وقالت بكل صراحة انها قد تم ادخالها للمستشفى النفسي عام ١٩٦١، حين كان عمرها ١٧ سنة، وبسرعة صار العاملون هناك يضعونها اغلب الاوقات في غرفة العزل، التي كانت تعتبر المكان المثالي للمرضى المصابين بأضطرابات شديدة. وقد كانت تؤذي نفسها بأن تحرق رسغها وذلك بأطفاء السجائر على جلدها، وتقطع ساعدها وساقها وبطنها وذلك باستخدام أي اداء حادة تجدها. تكمل قصتها بأن تقول بأنهم قد شخصوها بأنها مصابة بالفصام، واعطوها دوائي (الثورازين) و (الليبريوم)، وكانوا يحللونها نفسياً على الطريقة الفرويدية، وقد عالجوها بالعلاج بالصدمة الكهربائية فأخذت ١٤ صدمة في المرة الاولى، ثم ١٦ جلسة في المرة الثانية. وبعد ذلك كله لم يتغير في حالتها شيء، فكانوا يرجعونها لغرفة العزل ويقفلونها عليها.

وقد نشرت (مارشا لينهان) مذكراتها عام ٢٠٢٠ بعنوان (بناء حياة جديرة بالعيش، مذكرات)، تتكلم فيها عن كل ذلك، وعن ذلك اليوم من عام ٢٠١١ حين رجعت لنفس المستشفى التي دخلت فيه وهي شابة، ووقفت أمام ٢٠٠ شخص هناك لتقدم كلمة حول تجربتها بكل صراحة، وكيف انها حين خرجت من ذلك العلاج الفاشل في تلك المستشفى قررت أن تدرس علم النفس ثم طورت بعد ذلك الطريقة العلاجية المتمثلة بالعلاج السلوكي الجدلي لإيجاد علاج لنفسها ولمن يعاني من نفس معاناتها. تكتب في في أحد أسطر ذلك الكتاب: (لم أرد أن أموت جبانة).4702 التي لم تمت جبانة

العلاج السلوكي الجدلي

تركز (لينهان) على أن نقطة البداية كانت حين أكلمت دراسة علم النفس وصارت مؤهلة للعمل كمعالجة سلوكية، وصارت مهتمة بعلاج المصابين باضطراب الشخصية الحدية والذين كانوا يؤذون أنفسهم، فوجدت أن أهم ما يميزهم هو أنهم كانوا محل انتقاد من أقرب الناس بخصوص انفعالاتهم، فدائما ما يعتبر المقربون لهم أن ما يعيشونه هؤلاء المرضى من انفعالات مبالغ فيه، وأن الأمر لا يستحق كل ذلك. كان أقرب الناس لديهم لا يقدمون لهم الأعتراف بأن انفعالهم جدير بأن يعيشونه.

لو بحثتم عن المقابلات التلفزيونية الكثيرة التي حصلت مع (مارشا لينهان) وتجدونها في اليوتيوب لوجدتم أنها تكرر قول التالي:

أنها في بداية عملها كمعالجة سلوكية مع مرضى الشخصية الحدية وجدت أنها حين تريد أن تريهم أين تكمن المشكلة لكي يبدأوا في تغييرها ينتفض المريض ويقول لها بأنها تنتقده. فغيرت استراتيجيتها معهم بأن تزيد من الاستماع إليهم وأن تتقبلهم كما هم، فكان المرضى يرجعون ويشتكون لها من أن تلك الطريقة  تبدو سلبية جداً فهي لا تبدو بأنها تساعدهم في شيء. وهنا قررت (لينهان) أن الحل يتمثل في موازنة بين الطريقتين، بين قبول المرضى كما هم من جهة، وبين اقتراح تغييرات في سلوكهم وشخصيتهم من جهة اخرى.

وأحد النقاط الأساسية للبدء في العلاج هو ما تمت ترجمته للعربية بمصطلحات مختلفة مثل (التحقق من الصحة)، (احتضان)، (تفهم)، والكلمة في اللغة الاصلية هي (Validation). وربما يمكن عد كلمة (التفهم) هي الأقرب للمعنى المقصود. في (التفهم) كانت (مارشا لينهان) تريد أن تقول للمريض: (إن ما تشعر به جدير بأن تشعر به). وهناك طرق لإظهار هذا (التفهم) مثل: الانتباه للمتكلم بشكل كامل، الانعكاس الذي يتمثل في اعادة الكلمات التي قالها لنؤكد له اننا سمعناه وفهمناه، والمساواة مع المتكلم بحيث نتجنب أن نشعره بأننا أعلى منه، وعدم اشعاره بعدم كفاءته.

لنرجع للكتب المنهجية للطب النفسي فنقرأ من كتاب (كومبانيون Companion) أن العلاج السلوكي الجدلي أثبت فعاليته لعلاج اضطرابات الشخصية اكثر من بقية العلاجات، خصوصا لدى المرضى الذين لديهم اندفاعية عالية واضطرابات في الأكل. وحديث عن بحث (لينهان) عن علاقة ايذاء النفس بالاعتداءات الجنسية في الطفولة، وكذلك ذكر لاحد بحوث (لينهان) الذي قد قدمت فيه مع باحثين اخرين مقياساً لأسباب البقاء على قيد الحياة يمكن استخدامه مع المرضى الذي يؤذون أنفسهم وتتكرر لديهم الافكار الانتحارية.

بقي أن نقول أن أهم ما يشتمل عليه العلاج السلوكي الجدلي هو تعليم المريض ما يسمى بالـ(مهارات التأقلم  Coping skills)، وهي مهارات يجري تعليمها للمريض كي يستخدمها حين يحتاجها وقت التوتر لكي تزيد من قدرته على (المرونة الذهنية Resilience)، وهي أربعة: مهارات (اليقظة الذهنية Mindfullness)، مهارات (العلاقات البين شخصية الفعالة Interpersonal Effective Skills)، مهارات (تنظيم المشاعر Emotional Regulation Skills)، وأخيراً مهارات (تحمل الضغط Distress Tolerance Skills).

خاتمة

ولنحاول أن نجمع الان تعريفاً للعلاج السلوكي الجدلي فنقول أنه علاج يستند إلى عمل موازنة بين تقبل المريض كما هو من خلال (التفهم Validation) من جهة، وبين محاولة اقتراح تغييرات في سلوكه لكي تزيد من (مرونته النفسية Resilience) وذلك باستخدام (مهارات التأقلم Coping skills) الأربعة من جهة أخرى.

تلك كانت مقالة عن (مارشا لينهان)، تلك المعالجة النفسية التي انتظرت إلى أن تثبت بأن الطريقة العلاجية التي أسستها جديرة بأن يتم الاعتراف بها، ثم أتت لترجع وتعترف أنها هي نفسها كانت مريضة صنفت على أنها تعاني من اضطراب شديد، أدخلت للمستشفى لمدة سنتين ولم تتحسن، فابتكرت أخيراً ذلك العلاج الذي كانت تتمنى لو أنهم عالجوها به.

*** 

سامي عادل البدري

......................

المصادر

Guelfi, J. D., Rouillon, F. et Mallet, L. (2021) Manuel de psychiatrie, 4e édition, Elsevier Masson SAS

عبدالله، أحمد عمرو و الشركسي، أحمد صابر (٢٠١٩) العلاج الجدلي السلوكي (بين النظرية والتطبيق). مجلة جامعة القدس المفتوحة للأبحاث والدراسات التربوية والنفسية. المجلد (١١)، العدد (٢٩)، كانون أول ٢٠١٩

سيرجيه، نور محمد وليد (الشخصية الحدية لدى المرأة العاملة وعلاقتها بشكبكة العلاقات الأسرية (دراسة ميدانية في مدينة حلب) رسالة مقدمة لنيل درجة الماجستير في الإرشاد النفسي. إشراف د. فايز الحسين و د. حنان لطوف. العام الدراسة ٢٠١٧/٢٠١٨

لينهان، مارشا (التدريب على العلاج الجدلي السلوكي، الأدلة وأوراق العمل) ترجمة: د. سامي بن صالح العرجان ود. تيسير الياس شواش. دار الفكر. الطبعة الأولى ٢٠٢٠

Johnstone EC, Owens DC, Lawrie SM, Mcintosh AM, Sharpe S, (2010) Companion to Psychiatric Studies. 8th ed. New York: Elsevier

Harrison, P., Cowen, P., Burns, T. & Fazel, M. (2018) Shorter Oxford Textbook of Psychiatry, 7th Ed. Oxford University Press

Semple, R. & Smyth, R. (2019) Oxford Handbook of Psychiatry 4th Ed. Oxford University Press

في هذه الورقة أكتب عن صديق مبدع دؤوب، احترف الكتابة منذ نعومة أظافره، وتعددت مواهبه بين الشعر والمسرح والتراث الشعبي، واستطاع أن يصنع اسما كبيرا بين الأدباء داخل مصر والوطن العربي، إنه الشاعر الكبير ” درويش حنفي الأسيوطي”، وهو من مواليد عام 1964 بمحافظة أسيوط والتي لم يبتعد عنها كثيرا، فكانت بلدته الهمامية مكانا يلهمه بالكثير من أفكاره، فكتب الشعر وأنتج أعمالا للمسرح، كما اهتم بتدوين التراث الشعبي، ومن يراجع ابداعات “درويش الأسيوطي” كما ذكر الدكتور أشرف أبو السعود في حوار معه ستُلفته تغريبة فى عناوينها ومسٌّ من الشجن والأسى، “من فصول الزمن الرديء” إلى “الحب فى الغربة” و”من أسفار القلب”، و”بدلا من الصمت” “حكاية عن اليمام”، و”منازل الهيام”، و”دى ريحة الدم ولّا ريحة الجنة”، وغيرها كثير من المطبوع، والمخطوط.

وفى الثقافة الشعبية، مضماره الأثير، طرح ثمارا متنوعة، من “لعب العيال” و”من أهازيج المهد”، و”أشكال العديد”، و”من أغانى الفلاحين”، و”أفراح الصعيد الشعبية»، و”جنايات الرواية السطو والتأويل”، و”أشكال الموال الشعبي”، ولم ينس “طبيخ الصعايدة”، ومن دُرره “معجم الأسيوطى للألفاظ الشعبية”؛ كذلك لا ننسي “الألعاب الشعبية.. ألعاب الكبار”، و”المشايخ والقديسون فى التراث الشعبي”، و”قراءات فى حكايات شعبية”، و”الممارسات الشعبية لضمان البقاء” و”مجمع الأسيوطى للأمثال الشعبية” (3 أجزاء)، و”معجم الأسيوطى الكبير للألفاظ الشعبية”.

ولقد كان درويش الأسيوطي من أوائل أبناء الصعيد المهتمين بتراث منطقة وسط الصعيد، وقد ارتبط ذلك الاهتمام بجهود مضنية في جمع وتدوين وشرح ذلك التراث الشعبي، وهي جهود تستحق الحفاوة الكبيرة، ويكفي أنها تتعلق بقسم من الهوية المصرية في طريقه إلى الموت تحت عجلات العصر الحديث، ويمكننا الوقوف هنا أيضا على رمزية الذئب والحمل كما ذكر الأستاذ فتحي عبد السميع،، سيجد أن التراث الشعبي هو الحمل، والأسيوطي هو الراعي الذي يحاول إنقاذ الحمل من أسنان الحداثة وما بعدها، ولقد أسفرت جهوده البحثية عن عدد كبير من الأبحاث والكتب الشيقة، ومنها: “لعب العيال” سنة 2002، “من أهازيج المهد” سنة 2003، “أشكال العديد في صعيد مصر” سنة 2006، “الحمل والولادة والختان” نشر إليكتروني، “الفرح الشعبي” نشر إليكتروني، “أفراح الصعيد الشعبية” الجزء الأول 2011، والثاني سنة 2012، “طبيخ الصعايدة” سنة 2021، وله أعمال أخرى تحت الطبع، بخلاف كتابته الأخرى المنشورة في عدد من الدوريات المختلفة.

وتتوزع تجربة درويش الأسيوطي على عدة محاور كما يقول الأستاذ فتحي عبد السميع، هي أعماله الشعرية، وأعماله المسرحية، وأعماله في جمع وتدوين ودراسة التراث الشعبي في منطقة وسط الصعيد، وأخيرا أعماله في مجال أدب الطفل، وتتفاوت تلك الأعمال من حيث غزارة الإنتاج، وتأتي تجربته المسرحية في المقدمة، حيث قدم أكثر من خمسين عملا تتوزع علي المسرحية الطويلة والقصيرة، وكل هذه المحاور تكشف عن جهود كبيرة بذلها الرجل، تصل إلى درجة النضال اليومي الشاق، في ظل ظروف غير مواتية على مستويات كثيرة، منها استقراره في صعيد الستينيات والسبعينيات بعوائقه الكثيرة، واضطراره إلى السير وحيدا في طرق غير ممهدة.

وقد وصفه الأستاذ ” أسامة الرحيمي” بأنه :” لم يُضيّع لحظة من عمره، فلو وزعنا عدد إبداعاته وكتبه المتنوعة في الثقافة الشعبية، لأدركنا أنه لم يفارق مكتبه يوما منذ تخرجه في الجامعة.. فقدّم عشرات الدواوين، والمسرح الشعرى والتقليدي، وكتبه للأطفال، وسيناريوهات، ورمح في براح الدراسات الشعبية بلا كلل، فسهّل علينا النهل من فنون الشعب مباشرة !، وعشرات الكتب فى السُنّة والدين والحياة، والذى تفرغ للبحث والكتابة ببلوغه الأربعين وقدّم مؤلفات فى مختلف شئون العلوم والآداب والتاريخ والباه، حتى الحلوى وضع عنها كتاباً أسماه “منهل اللطائف فى الكنافة والقطائف”.

كما وصفه الأستاذ فتحي عبد السميع فقال : تعتمد تجربة الأسيوطي بشكل أساسي على أمرين، الأمر الأول، هو الموروث الشفاهي بشكل عام، و الفني بشكل خاص، حيث أخلص الشاعر لتجربة رواد قصيدة التفعيلة، واعتبرها نموذجا مثاليا، وآثر أن يكون امتدادها الطبيعي، من خلال الحفاظ على الوزن والقوافي الحرة، والاهتمام بالقارئ العادي، أو الجمهور العام، ورفض التجريب الشعري المعتمد على التركيبات اللغوية المعقدة، والصور الشعرية المحتشدة بالعوالم الغرائبية وغيرها من السمات الفنية الأخرى التي انتشرت بين أفراد جيله تحت عناوين مختلفة، مثل شعر الحداثة، وقصيدة النثر والتي اعتبرها غربية في جوهرها وتعمل على تقزيم دور الشاعر في المجتمع، وتفصله عن الجمهور.

والأمر الآخر، هو نظرة الشاعر إلى العالم باعتباره مواجهة دائمة بين الذئب والحمل، الذئب الذي يرمز إلى منطق القوة القاهرة بكل تجلياته، والحمل الذي يرمز إلى الضحايا في كل مكان، وفي مقدمتهم الذات الفردية، والجماعة الشعبية، و شعوبنا العربية بشكل عام، في ظل صراعها الظاهر والخفي مع القوى الاستعمارية الكبرى.. وهكذا يتسم شعر الأسيوطي بالجموح على مستوى المضمون، والتحفظ على المستوى التشكيلي، وأعني بجموح المضمون، قدرته على القول الثوري الذي يدين الواقع ورموز العقم بمختلف أشكالها، وعلى النحو الذي يجعل منه شاعرا ثوريا رافضا لكل مظاهر الظلم، لكن هذه الثورية تختفي على المستوى التشكيلي، فالشاعر لا يغامر بثوابته الجمالية، ولا يطاوع جموح الخيال، ويرفض النزوع إلى التجريد، وإن كانت قصائده تمتلئ بالرموز و الصور المجازية، لكنها الصور التي تخضع لشرط البعد عن الغموض، خشية ابتعادها عن الجمهور.

ولاشك أن العديد من أعمال درويش الأسيوطي يمثل غناء شعبي نسائي، حزين، وشفاهي، وإبداع مفتوح لاجتهادات النساء عبر قرون، ففى كتابه «غناء الفلاحين فى صعيد مصر” نتلمس غناء حزين لبعض طوائف المجتمع، خاصة ما ارتبط منها بحرف يدوية، ولن أنسي ذلك الشعر الحزين الذي كتبه عن حال العالم العربي بعد أحداث، حيث يقول : 11 سبتمبر 2001 في سبتمبر / أيلول.. في الثامن والعشرين، من عام الحزن العربى ..جاء ملاكُ الموتِ .. فأخرجها من رهَقِ الدُّنيا.. صيّرها حيثُ يشاء الله.. في اليوم التالي والعشرين.. صار الوطنُ إطارًا لملامحِ صورتِهِ.. وامتدت فى الأرضِ جنازةُ حلمٍ.. يعشقُهُ البسطاء.. كلُّ الموتى في وطني.. من ماءِ النيل نغسِّلُهم.. لكن حين أرادوا … كان الغُسْلُ دموعَ الفقراء .. بعد سنين فاجأهم :ـ حرَّاس الأضرحة الزور وقوَّادى الكلمات ولصوص قبور الموتى ـ وحين أطلَّ عليهم ..في وجهِ تلاميذِ مدارسِهم، وعيونِ العمَّالِ المرهقةِ.. المكْتحِلَةِ بالحزْن وبالسَّهرِ الليلىّ، فاجأهم .. دون إطار ..!! تمتَدُّ ملامحُهُ في الوطنِ جميعا .. لم تقْتُلْهُ الغيْبةُ ..!! .. لم تمنعْهُ الأسوار.. وللحديث بقية!

***

الأستاذ الدكتور محمود محمد علي

أستاذ الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقبل – جامعة أسيوط

..................

المراجع

1- فتحي عبد السميع: درويش الأسيوطي ورمزية الذئب والحمل - باب مصر، 10 أغسطس، 2021

2- فتحي عبد السميع: درويش الأسيوطي ورمزية الذئب والحمل، 10 أغسطس، 2021.

3- حوار ــ د. أشرف أبو السعود: الشاعر درويش الأسيوطى لـ«الأهرام»: أبدعت عندما ابتعدت عن الحياة الثقافية المتشرذمة، الأحد 25 من ذي الحجة 1443 هــ 24 يوليو 2022 السنة 146 العدد 49538

4- حوار أسامة الرحيمي: الشاعر درويش الأسيوطى: المخيلة الشعبية من أحوال الدرويش العاشق لا تتوقف عن الإبداع، الجمعة 13 من جمادي الآخرة 1444 هــ 6 يناير 2023 السنة 147 العدد 49704

 

تمثل جهود د. عبد الجبار الرفاعي امتداداً لحركة تجديد الفكر الديني والكلامي، وهو بذلك ينتمي إلى سلالة المفكرين والفلاسفة المسلمين الأوائل في المشرق والمغرب أمثال الفارابي وابن سينا وابن رشد، أولئك الذين عملوا على التوفيق بين الوحي والعقل بما يخدم الشريعة الإسلامية ويعزز مفاهيمها الغيبية بالأدلة العقلية والبراهين المنطقية، مثلما ينتسب إلى حركة التنوير والتجديد الديني التي بلغت ذروتها نهاية القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين على عهد جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده، ومحمد إقبال، وصولاً إلى حسن حنفي ونصر حامد أبو زيد من المعاصرين، وقبلهم بما يقرب من أربعة قرون صدر الدين الشيرازي المتوفي عام 1640 للميلاد.

لستُ هنا بصدد عرض الجهود العلمية للرفاعي في فلسفة الدين وعلم الكلام الجديد وسعيه لنشر البحوث التي تصب في هذا الميدان لمفكرين وباحثين إسلاميين من شتى المذاهب والنحل، فتلك مهمة تحتاج إلى جهد مضاعف وصفحات طويلة لا يمكن أن تُختزل بعمود صحفي محدود المساحة، لكني اكتفي بالإشارة إلى ما لمسته من اقبال كبير على اقتناء كتبه حتى أن أغلبها نفد تماماً من جناح مكتبة الرافدين في معرض الكتاب الأخير، وهي المكتبة التي تولت طباعة ونشر وتوزيع سلسلة كتبه: "الدّين والنزعة الإنسانية" و "الدّين والظّمأ الأنطولوجي" و "الدّين والاغتراب الميتافيزيقي" و "الدّين والكرامة الإنسانية" و "مقدمة في علم الكلام الجديد"، وذلك عكس ما هو شائع من صعوبة ترويج مثل هذا النوع من الكتب وثقل بيعها في المكتبات ودور النشر، وفي ذلك يكمن سر من أسرار تفرد الرفاعي، وبلاغته اللغوية، وثقافته الموسوعية، واسلوبه السهل الممتنع، وفكره المتحرر من قيود الدوغمائية والصيغ الجامدة في عرض المشكلات العويصة في الفلسفة والدين وعلم الكلام، ولذلك فإن مؤلفاته لا تحظى باهتمام ومتابعة المتخصصين والأكاديميين فحسب، إنما تلقى رواجاً بين عموم القراء المتعطشين للمعرفة الرصينة والفكر المستنير خصوصاً وأن كتب الرفاعي تمثله شخصياً، وأن أسلوبه غير مُفتعل ولا مُقحم على شخصيته، انما هو نابع من جوهرها وفق القول الأثير للكاتب الفرنسي التنويري جورج بوفون "الأسلوب هو الرجل"، أو هو «الإنسان» عموماً رجلاً كان أم امرأة، فضلاً عن روح المعاصرة التي يعتمدها في تفكيك وتفسير وترميز النصوص القديمة، والعمل على احيائها من جديد وكأنها قيلت لعصرنا هذا، ولمشكلاته وتحدياته وقضاياه وأزماته الروحية والنفسية والمادية، وفضيلته فوق ذلك كله أنه مفكر مؤمن بعمق، يستخدم الشك أداة للوصول إلى الحقيقة على طريقة ديكارت ومن قبله الغزّالي صاحب المقولة الشهيرة "من لم يشك لم ينظر، ومن لم ينظر لم يبصر، ومن لم يبصر بقي في العمى والضلال" لذلك فهو من الثائرين على مقولات الكلام الاعتقادية القديمة التي "لا تورثُ الروحَ سكينتها، ولا القلبَ طمأنينَته، ولا تكرّسُ التراحمَ والمحبّة".

ولأن التواضع صفة أخلاقية من صفات العلماء، فإن الرفاعي عبد الجبار على كل ما أنجزه من بحوث ومقارنات وكتب ومحاضرات ومناظرات وندوات وجلسات ومؤتمرات وتعقيبات ونَشرٍ في الصحف والمجلات على مدى ما يقارب من نصف قرن، فإنه مازال يتهيب من الكتابة في معانيها السامية المستمدة من سمو الكلمة: "أشعر بالغثيان من الإسراف المبتذل بكتابة رثة لا تنتمي إلى الكتابة. منذ بدأتُ الكتابة قبل 45 عاماً مازلت أتهيّب الكتابة، ففي كل مرة أقرر أن أكتب أحاول الهروب، وغالباً ألتمس الأعذار بانشغالي، وندرة ما يتوافر لدي من وقت فائض أخصصه للكتابة، وربما هربت إلى حيل نفسية، تنقذني من مأزق "هلع الكتابة". كنتُ أحسب أني مصاب بشلل في الإرادة، وأني أنفرد بذلك، غير أني اكتشفت أن معظم الكتاب الجادين يعانون من ذلك، ولعل من أعنف توصيفات لوجع الكتابة ما تحدثتْ عنه الأديبة آني إيرنو، بأن "الكتابة كخنجر". يكتب الرفاعي ذلك ويعرف حق المعرفة أن خنجر الكتابة الذي يمزق أحشاء الكُّتاب في الغرب، ويتغلغل بين ضلوعهم، هو غير خنجر الكتابة المسموم في الشرق الذي لا ينجو منه مفكر ولا فيلسوف ولا كاتب ولا أديب ولا باحث تنويري ولا ثائر، من صلب الحلّاج إلى نكبة ابن رشد، وصولاً إلى طعنات نجيب محفوظ واغتيال فرج فودة، والتفريق بين نصر حامد أبو زيد وزوجته، ومحاكم تفتيش القرن الحادي والعشرين! ولا عجب أن يكتب الكاردينال لويس ساكو بطريرك الكلدان الكاثوليك بعد قراءته لكتاب "الدّين والظمأ الأنطولوجي": أتمنى أن يقرأ هذا الكتاب كلُّ رجل دين مسلم ومسيحي، حتى تكون له شجاعة الأنبياء في تبليغ الناس رسالة الإيمان.

ورسالة الرفاعي هي المحبة والإيمان لا أكثر، في مواجهة طغيان الإنسان وجبروته وقسوته وخروجه عن الفطرة السليمة والنواميس الإلهية، مقتفياً في ذلك قول جلال الدين الرومي: "توضأ بالمحبَّة قبل الماء، فإنَّ الصلاةَ بقلبٍ حاقدٍ لا تجوز".

***

د. طه جزّاع

باحث وأكاديمي عراقي، أستاذ للفلسفة بكلية الآداب في جامعة بغداد.

 

بقلم: عصام ثائر منصور

مجلة بغداد للترجمة (محررة بالفرنسية)

ترجمة: مصطفى شقيب

***

لهذا الرمز الأدبي البارز، الكاتب الشهيرعلي القاسمي، تأثير مهم للغاية في الأدب العراقي، وهو صاحب أسلوب متميز يختلف عن باقي أساليب الكُتاب الآخرين.

عاش بعيدا عن بلده بضعة عقود؛ لكن ذلك لم يحل دون إبداعه وعبقريته في الكتابة والترجمة. نشر وعلّم معارفه وثقافته. وعمل على تدريب عشرات الطلاب والعديد من الباحثين، بحيث صار رمزا ثقافيا بارزا.

كانت ولادة علي بن الحاج محمد بن الحاج عيسى بن الحاج حسين القاسمي، المعروف بالدكتور علي القاسمي، في بلدة الحمزة الشرقي في محافظة القادسية في العراق في 1942. يقيم هذا الكاتب والأكاديمي في المملكة المغربية منذ خمسين عاما.

حصل على الإجازة في الآداب وفي الحقوق، وعلى ماجستير في التربية. و نال دكتوراه الفلسفة في علم اللغة التطبيقي-المعجمية والمصطلحية- من جامعة تكساس في أوستن.

تلقى تعليمه العالي في عدة جامعات في العراق (جامعة بغداد)، ولبنان (الجامعة الأمريكية في بيروت وجامعة بيروت العربية)، والنرويج (جامعة أوسلو)، وبريطانيا (أكسفورد)، وفرنسا (السوربون)، والولايات المتحدة الأمريكية (جامعة تكساس في أوستن).

مارس التعليم في جامعة بغداد، وجامعة تكساس في أوستن، وجامعة الملك سعود بالرياض وجامعة محمد الخامس بالرباط. حاضر في جامعات أخرى مثل جامعة أكستر في بريطانيا، وجامعة تمبرة في فنلندا وجامعة ماروي ستي في الفلبين.

اشتغل ايضا خبيراً في مكتب تنسيق التعريب بالرباط التابع للمنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم (الألسكو)، ومديرا لدائرة الثقافة بالمنظمة الاسلامية للتربية والعلوم والثقافة (الإسيسكو)؛ ثم ً مدير الأمانة العامة للمجلس التنفيذي وللمؤتمر العام في المنظمة نفسها، فمديرا لدائرة الثقافة ومدير الأمانة العامة لاتحاد جامعات العالم الإسلامي. يشتغل حاليا عضو مجمع اللغة العربية بدمشق ومجمع اللغة العربية بالقاهرة.

عمله الأكاديمي هو المصطلحات والمعجمية والبحوث اللغوية. لكن كل هذا لا يمنعه من الاهتمام بالتعليم، والفكر والإبداع الأدبي في مجال رواية القصص. أسلوبه غني بالمشاعر، يعبر عن معاناته ويدافع عن آرائه بكلمات معتدلة وحرة، دون تعقيدات أو قيود. معظم كتبه محررة باللغتين الإنجليزية والعربية. نال اعترافا كأحد رواد الأدب العربي، وقواميس الاستشهادات في اللغة العربية الحديثة. وقدّم خبراته ومعارفه إلى الأدب ومجالات المعرفة والعلوم.

تُرجمت جميع أعماله السردية، ويبلغ عددها ثمانية كتب من المجموعات القصصية والروايات، إلى اللغة الفرنسية، وقد أصدرت مؤخرا دار نشر لارمتان في باريس الترجمة الفرنسية لروايته "مرافئ الحب السبعة" (في انتظار صدور باقي المجموعات القصصية). كما تُرجمت بعض أعماله الأدبية إلى اللغات الإنجليزية والإسبانية والرومانية والفارسية. وتعتمد بعض كتبه العلمية، لاسيما كتابه بالإنجليزية Dictionaries Bilingual and Linguistic الذي نشرته دار بريل في عدة طبعات "مقررا في معظم الجامعات الناطقة بالإنجليزية. كما يعد مؤلفه “علم المصطلح: أسسه النظرية وتطبيقاته العملية "، مرجع الكليات اللسانية بالجامعات العربية.

شكّلت كتبه موضوع أكثر من 70 أطروحة أكاديمية، واصبحت كتبه وأعماله الأدبية لا غنى عنها للباحثين الذين يعدون الماجستير أو الدكتوراه في عدة جامعات.

مواضيعه متعددة بما في ذلك التعليم، وتدريس اللغة العربية وبرامجها، والمصطلحات، والمعجم، والترجمة والنظريات وحقوق الإنسان، والتنمية، وكتابة القصة القصيرة والروايات، والنقد الأدبي المعاصر، والتاريخ الفكري والتعليم العالي.

يحمل دروعا عدة من جامعات حاضر فيها في إندونيسيا، والجزائر، والسعودية، والفلبين، وفنلندة، وماليزيا، ومصر، والمغرب وغيرها. ـ وسام الأسد السنغالي، من رئيس الجمهورية الشاعر ليوبولد سنغور، لمشاركته في تأسيس مدارس حديثة لتعليم العربية والثقافة الإسلامية في السنغال- كما حصل على عدة منح جامعية من جامعات بغداد وأكسفورد وتكساس أثناء دراساته العليا في هذه البلدان.

قدمت عنه دراسات عديدة منها الكتب التالية : ـ سهاد حسن الشمري، "في اللسانيات الاجتماعية: مقاربة في الجهود المعجمية والمصطلحية للدكتور علي القاسمي"، دار المناهج(عمان 2021 .) ــ جامعة الحسن الثاني بالدار البيضاء، "إنسانية الفكر في الأدب واللغة: قراءات في أعمال العالمة الدكتور علي القاسمي" (عمان: مركز الكتاب الأكاديمي، 2020 )، أعمال الندوة الدولية التي أقامتها كلية الآداب والعلوم الإنسانية، عين الشق، لتكريم القاسمي في نوفمبر / تشرين الثاني 2018 . تنسيق: الدكتورة نزهة بوعياد.

"يذكر القاسمي في احد حواراته: "عندما حصلت على الدكتوراه في جامعة تكساس، واحدة من أكبر عشرة جامعات أمريكية في ذلك الوقت، ألقى رئيس الجامعة كلمة في حفل توزيع الجوائز، جاء فيها: "هذه الشهادة التي نسلمها لكم اليوم هي إشعار يبرهن على أنكم العرب قادرين على تعلم العديد من التخصصات وانه بإمكانكم توجيه الأجيال القادمة."

ويضيف: "لقد عملت على التطبيق الحرفي لكل ما نصحنا به الرئيس، في تدريس طلابي الأدب، الكثير من المحاضرات في مجالات مثل "تاريخ الأدب الإنجليزي"، "النقد الأدبي"، "القصة القصيرة"، "الرواية"، "نظريات الترجمة" دون أن ننسى محاضراتي لطلبة الماجستير والدكتوراه في المصطلحات والمعجمية.

كتب القاسمي وترجم العديد من الأعمال الأدبية الأجنبية باللغة العربية. منها روايات الكاتب والصحفي الأمريكي إرنست هيمنجواي والعديد من القصص الأمريكية المعاصرة.

نشرت له أيضا مجموعاته القصصية المتميزة في عدة طبعات: "رسالة إلى حبيبتي"، "صمت البحر"، "دوائر الأحزان"، "أوان الرحيل"، "حياة سابقة". كما كتب قصة مطولة للأطفال، بعنوان "عصفورة الأمير": وهي قصة مؤثرة للفتيات والفتيان، تعلّم حقوق الإنسان بطريقة سردية مثيرة للاهتمام. وأهم ما ألف من القواميس المرجعية، "المعجم العربي الأساسي" و"معجم الاستشهادات الموسعة".

أما عن روايته، "مرافئ الحب السبعة" فهي واحدة من أكثر الأعمال الأدبية الجميلة التي كتبها علي القاسمي. تم نشر الطبعة الأولى من قبل "المركز الثقافي العربي في بيروت" في 2012. لتتوالي طبعات أخرى بدور نشر مختلفة، وقد أحرزت نجاحا كبيرا حيث كانت على قوائم أفضل الروايات العربية في ذلك الوقت.

يتميز هذا العمل بسمة سردية مؤثرة ذات محتوى شعري راق. تستعيد هذه الرواية الرحلة الطويلة للكاتب، بتفاصيلها، وأحداثها المثيرة والجو الذي عاشه طوال هذه الرحلة. انها مسيرة هذا المثقف المغترب الذي يحلم بالعودة الى وطن جريح، والذي يحتاج إلى الشفاء مما يعانيه. والسفر على أي حال تجربة إنسانية نتشاركها جميعا على مستويات مختلفة.

مرافئ الحب السبعة، كما جاء في تقديم الأستاذة المراجعة لوبودير، "سيرة ذاتيّة روائية؛ مزيج من الأحداث الواقعية والخيالية، مهداة إلى المغتربين والمغتربات عبرالعالم؛ إلى هؤلاء الأشخاص الذين تركوا بلدانهم طوعا أو فروا اضطرارا بغرض اللجوء إلى بلدان أخرى. سليم، البطل، اغترب على إثر انقلاب عسكري حدث في بغداد. القلب، مقر الأحاسيس والعواطف، شكّل روح اغترابه القسري الذي سيمكّنه من البقاء ومواصلة دراسته. غير أنّ ما وراء هذا الرهان المزدوج، سيضحى هذا النفي سريعا هروبا من الحياة من أجل الالتجاء داخل الموت; الحياة والموت، هذان الجاران المتنازعان. سفر طويل من النور إلى الظلام، تطبعه المشاعر والعواطف. النور، إنه أحاسيس الحب، والود، والبهجة، والسعادة، والمتعة، المرتبطة ارتباطا وثيقا بالعراق، وطنه، وبالبيت الأسري، وبإعجاب أعمى بأمه التي كانت تأخذه بين ذراعيها، تضمه إلى صدرها، وتمطره بالقبل. الظلام إنه أحاسيس الحنين، والحزن، والغم، والأسى، والألم، والمعاناة، والوحدة، والخوف أيضا، المرتبطة بشدة بالاغتراب. عند عبور الحدود، ينطفئ النور على الطرق الرملية... تظل الوجوه، والمعالم والروائح، عالقة في شغاف القلب، يستحيل محوها. غير أن سليم، أثناء هذا السفر الطويل، سيصادف ثلاث نساء سيطبعن حياته بشدة؛ امرأة أرادته وأرادها، لكنّ القدر لم يردهما معاً، وامرأة ارادته ولم يردها، فكسر قلبها؛ وامرأة لفظته، لكنه سيعشقها إلى حد الجنون ولن يقوى على نسيانها... حاضرة في كل النواحي، والاتجاهات، والأماكن. بل سيكتب قصتها على أمل التحرر منها. الكتابة المحررة! سيكتب على أمل إعادة بناء عالم مفقود من خلال كلماته، وإنشاءعالم جديد سيكون ملجئه.

رواية رائعة ومؤثرة اسالت الكثيرمن دموعي. شكرا أستاذي وصديقي العزيز جدّا علي القاسمي."

ومؤلفات القاسمي وكتبه وترجماته وأعماله الأدبية عديدة لا تكفي صفحة واحده لحصرها، لذلك نكتفي بذكر أهمها حسب كل مجال:

- في المعجمية: "تاريخ المعجمية والمصطلحية العربية"، "صناعة المعاجم التاريخية للغة العربية"، "قاموس الاستشهادات"، "المعجم الموسع للاستشهادات"، "المعاجم ثنائية اللغة".

- في المصطلحية: "المصطلحية: أسسها النظرية وتطبيقاتها العملية"، "مدخل الى علم المصطلح"، "مصطلحية اللسانيات الحديثة".

- في التربية: "الدماغ الخبيث"، "الجامعة والتنمية" "تعليم اللغة العربية للناطقين بها لغات أخرى''، "التقنيات التربوية في تعليم اللغة العربية لغير الناطقين بها"، "مختبر اللغات".

- في النقد الأدبي: "الثورة والشعر، "صياد اللآلئ"، "الحب والابداع والجنون".

- في القصة القصيرة: "الأعمال القصصية الكاملة"، الحب في أوسلو"، "رسالة إلى حبيبتي"، “صمت البحر”، “أوان الرحيل”

- في الرواية: "مرافئ الحب السبعة"، "معالي المدير العام، رواية ساخرة معّدة للطبع".

- في الاعمال المترجمة: "الوليمة المتنقلة" و"الشيخ والبحر" لارنست هيمنجواي، "الفلاح البائس" و"أحلام أينشتاين".

***

 

في الثالث والعشرين من كانون الاول عام 1955 يصل الشاب البالغ من العمر" 28 "عاما " الى باريس قادما من روما التي قضى فيها فترة قصيرة حضر خلالها فعاليات مهرجان البندقية السينمائي، وكان قبلها قد تجول في البندقية وجنيف وارسل عددا من المقالات الى الصحيفة التي يعمل فيها بكولومبيا. كانت المقالة الاولى عن بابا الفاتيكان، وكتب ثلاث مقالات عن التنافس بين صوفيا لورين وجينا لولو بريجيدا، وكان فيها منحازا الى صوفيا لورين التي وجد انها تملك صورة اكثر جاذبية، بينما كان يرى بريجيدا اقل موهبة، في تلك الفترة التحق بدورة للاخراج السينمائي، لكنه سيتركها بعد ان شعر بالسأم، فقد وجد نفسه ميالا لكتابة السيناريو اكثر من الاخراج. كانت الايام الاخيرة من العام 1955 توشك على نهايتها، عندما قرر غابريل غارسيا ماركيز ان يركب القطار متجها الى باريس، وصل بعد ليلة ماطرة، ويخبرنا كاتب سيرته جيرالد مارتن ان ماركيز سكن في فندق رخيص يفضله المسافرون من امريكا اللاتينية وهو " فندق الفلاندر الكائن في الحي اللاتيني"– سيرة حياة ترجمة محمد درويش - عند وصوله الى باريس اتصل ماركيز بصديقه الصحفي الكولومبي بيلينيو أبوليو ميندوزا الذي كان قد وصل الى العاصمة الفرنسية قبل اشهر، كان ميندوزا قد اطلع على رواية ماركيز الاولى " عاصفة الاوراق "، التي لم تعجبه، وجدها بداية ادبية رديئة، ويتذكر انه عندما التقى بماركيز في باريس وجده صاحبه مملوء بالغرور وهو يتحدث عن روايته الجديدة " في ساعة نحس " والتي ستصدر عام 1962. كان ماركيز يامل ان يواصل العيش في باريس مدة طويلة معتمدا على المقالات التي تنشرها له الصحافة في كولومبيا، بعد اشهر يصف لنا ميندوزا الذي سيصبح واحدا من اقرب اصدقاء ماركيز – صدر له كتاب بعنوان " رائحة الجوافة وهو حوار طويل اجراه مع ماركيز – حال صاحبه بعد ان التقاه من جديد في آيار عام 1957 " وجدته اشد هزالا واكثر نحولا..كنزته الصوفية مثقوبة عند المرفقين. الماءيتسرب من نعل حذائه الى قدميه في اثناء سيره في الشارع، عظام وجنتيه في وجهه العربي بارزة على اوضح ما يكون " –سيرة حياة ترجمة محمد درويش-.

في مقال بعنوان الحياة في باريس الخمسينيات يكتب غابرييل غارسيا ماركيز :" عندما وصلت إلى باريس، لم أكن سوى شخص كاريبي خام. إنني في غاية الامتنان لتلك المدينة، التي اعطتني الكثير "، في منتصف العام 1957 وفيما كان ماركيز يتمشى في شارع " سان ميشيل”، لمح رجلا يرتدي " بنطال جينز وقميص مزكرش وعلى راسه قبعة "، للحظات قال لنفسه ان هذا الرجل هو " ارنست همنغواي "الذي كان يبلغ آنذاك الثامنة والخمسين من عمره، يكتب ماركيز :" كان يبدو عملاقا وكان من السهل التعرف عليه من بعيد، وبالرغم من كلّ هذا، لم تكن تبدو عليه علامات القوة الصارخة. كان يتميز بخصر رفيع ورجلين نحيلتين، تنتعلان حذاء كبيرا. يبدو حيويا وهو يتنقل ما بين أكشاك الكتب القديمة بين حشود من الشباب القادمة من جامعة السوربون، وكان من المستحيل أن يتوقع المرء بأنه قد تبقى أربع سنوات فقط لنهاية حياته".

يشعر ماركيز بالتردد وهو يشاهد كاتبه المفضل، فقد كان يتمنى ان يذهب باتجاهه ليطلب منه اجراء مقابلة صحفية، وفي الوقت نفسه كان يرغب بتقديم تحية الاعجاب الى المعلم، لكنه تراجع في اللحظة الاخيرة فقد كانت لغته الانكليزية متواضعة، فقرر ان ينادي من مكانه بصوت عال " مايسترو " يقول ماركيز :" كنت أبدو كطرزان وهو يصيح في الغابات ". أدرك همنغواي بأنه هو المقصود وسط هذا الحشد الكبير من الناس، لوح بيده وصاح بالاسبانية “وداعا يا صديقي".في تلك الفترة كان ماركيز في الثامنة والعشرين من عمره حصلت رواية " عاصفة الاوراق " على الجائزة الوطنية للادب في كولومبيا، لكنه يعيش الآن في باريس بلا نقود، يحرص على الذهاب الى المكتبات

ظل ماركيز طوال حياته الادبية يردد ان ويليام فوكنر وارنست همنغواي كان لهما التأثير الأكبر عليه، فروايات فوكنر الجنوبية الهمته اكتشاف قرية اكوندو الخيالية، وساعدته في اتكتشاف عالم طفولته في " أراكاتاكا "القرية التي ولد فيها،وقد أشار في مقابلة مع مجلة " باريس ريفيو " الى تلك الاجواء : "كان الجو، والاحباط، والحرارة في القرية تقريبا نفس ما شعرت به وانا اقرأ فوكنر " وسيكتب مقالا يشير فيه الى ان "فوكنر كاتب له علاقة كبيرة بروحي، لكن همنغواي هو أكثر من كان له علاقة بمهنتي - ليس فقط من أجل كتبه، ولكن لمعرفته المذهلة بالجوانب الحرفية في علم الكتابة ".ويضيف انه تعلم من همنغواي ايضا ان "الراحة الاقتصادية والصحة الجيدة تساعد على الكتابة ". كان من الصعب على ماركيز مقابلة فوكنر الذي سيرحل عن عالمنا عام 1962، لكنه حاول اكثر من مرة ان يلتقي بهمنغواي خصوصا عندما كان الاخير يقيم في كوبا، وكانت صورة همنغواي توحي له بان صاحب الشيخ والبحر ييبدو على الدوام قريبا من الموت، كان همنغواي قد قال للصحفي الأمريكي هوتشنر بأن الكتابة إذا تحولت إلى خطيئة ومصدر للسعادة، عندها لن يمنع الكاتب عن مواصلة الكتابة سوى الموت" – بابا همنغواي ترجمة ماهر البطوطي -، ويعلق ماركيز قائلا :" لا أعتقد أن كاتبا ما قد قدّم نصيحة بهذه القيمة فيما يتعلق بمشروع الكتابة، حيث أجد أن ما قاله همنغواي يعتبر وسيلة نادرة لمواجهة تحدّي الصفحة البيضاء صباح كلّ يوم!.".

يؤكد ماركيز ان كلّ عمل أبدعه همنغواي يدل على تجلّ عبقري، كما أن القلق الداخلي العميق لعمله الروائي دائما ما يخضع لسيطرة وتقنية فائقة، ويشير ماركيز الى ان روايات همنغواي تترك انطباعا لدى القارئ بأن الروائي لم يقل كلّ ما لديه، وأن هناك ما قرر ان يصمت عنه.

بعد مشهد رؤية همنغواي يسير في الشارع، اعتاد ماركيز ان يمضي ساعات وأيام بالقراءة في المقهى الباريسيّ الواقع على شارع “سان ميشيل”، والذي كان همنغواي يجلس فيه، على امل ان يلتقي به ثانية، واعتاد ان يمر على مكتبة باريس التي اسستها سليفيا بيتش، وهو يتخيل همنغواي جالسا مع صاحبة المكتبة بانتظار صديقه جيمس جويس، حكايات كاتبه المفضل مع النسخ الاولى من رواية جويس الشهيرة " يوليسيس، وكيف تمكن همنغواي من تهريب اول ثلاثة نسخ من الرواية الى امريكا، وكيف قاد همنغواي في احد ايام شهر آب عام 1944 سيارته العسكرية ليتوجه صوب مكتبة شكسبير، ليخبر سليفيا بيتش بان باريس قد تحررت من الاحتلال النازي.

لم تنته حكاية ماركيز مع همنغواي وسيتذكره في مقال بعنوان " همنغوايا " ترجمه صالح علماني ضمن كتاب صغير بعنوان " كوبا في زمن الحصار " يتحدث فيه عن علاقة همنغواي بكوبا، حيث يشير ماركيز الى ان همنغواي نشر مقالا عام 1949، حاول ان يجيب على سؤال عن السبب الذي دفعه لأن يعيش في كوبا كل تلك السنين، ويقول ماركيز ان اجابة همنغواي كانت تحمل الكثير من التناقض وينقل لنا ماركيز فقرة يقول فيها همنغواي :" يعيش المرء في هذه الجزيرة لانه...يمكن تغطية جرس الهاتف بورقة لتفادي أي اتصال، ولانه بالإمكان العمل في برودة الصباح براحة اكبر من اي مكان آخر "، ورغم التناقض في هذه الجملة، يخبرنا ماركيز ان كوبا كانت هي المكان الوحيد لاقامة همنغواي في حياته، ففيها امضى تقريبا نصف سنوات عمره ككاتب، منذ ان وصلها اليها لاول مرة في نيسان عام 1928 في رحلة استمرت اسبوعين، وكانت ترافقه زوجته الثانية باولين فيفير، كان عمره آنذاك ثمانية وعشرين عاما، وسيقوم بعد ذلك باربعة سنوات عام 1932 باول رحلة صيد في كوبا، وسيكشف همنغواي ولعه بكوبا وسنجده يكتب عام 1949 مقالا عن علاقته بالناس في هافانا وكيف يلوح له معارفه بايديهم عندما يمر في الميناء.. في ذلك الوقت كان همنغواي يعتبر شخصية عامة في شوارع هافانا.. وفي كوبا سيكتب اعماله الكبرى القسم الكبير من لرواية لمن تقرع الاجراس، الشيخ والبحر، وليمة متنقلة، عبر النهر وبين الاشجار والكثير من المقالات الادبية.. وربما الحديث عن علاقة همنغواي بكوبا حديث طويل، لكن ماذا عن علاقته بفيدل كاسترو، يكتب الروائي الصديق محسن الرملي ان :" همنغواي وكاسترو لم يلتقيا إلا مرة واحدة، وكل ما أشيع عن صداقتهما هو دعاية من حكومة كاسترو. التقيا في احتفالية صيد بحري، وكان جيفارا حاضرا ولم يشترك، مكتفياً بالجلوس والقراءة وحتى لم يسلم على همنغواي الذي لم يكن مهتماً بالثورة الكوبية، وكل ما كان يهمه من كوبا هو أن يستمتع فيها وبس "، فهل كان همنغواي حقا غير معني بما يجري في كوبا التي عاش فيها نصف عمره ؟.. في كل المراجع التي كتبت عن حياة همنغواي لانجد اشارات واضحة للثورة الكوبية باستثناء تاييده لها في اكثر من مرة قبل ان يصبح كاسترو رئيسا ويذكر ماركيز ان في فترة الازمة بين اميركا وكوبا بعد الثورة الكوبية مباشرة :" اجرى الصحفي الارجنتيني رودلفو والتش مقابلة فورية مع همنغواي، وفي تلك المقابلة التي عدت اقصر مقابلة وكانت احدى آخر المقابلات في حياة همنغواي الذي قال صارخا باسبانيته السليمة : سنكسب نحن الكوبيون سنكسب..ثم صرخ بالانكليزية انا لست ( يانكي ) الآن ".. وربما هذا التاييد الوحيد الذي صدر عن همنغواي بعد نجاح الثورة الكوبية

والغريب ان العلاقة مع الثورة الكوبية كانت تشكل هاجسا عند همنغواي الأمر الذي دفع صديقه الصحفي هوتشنر والذي كتب عنه فيما بعد كتابا جميلا بعنوان " بابا همنغواي " ان يكتب :" أن الـ (إف ـ بي ـ آي) لم يكتفِ بالتجسس على همنغواي طيلة ربع قرن للشكّ في علاقته بالنظام الكوبي، بل استغلّ ظروف مرضه لملاحقته والتحرش به حتى داخل المصحة التي كان يعالج فيها من الاكتئاب، قبل وفاته ".. وظلت هذه العلاقة غريبة، ففي ذكرى رحيل همنغواي الثالثة عام 1964 اصدرت الحكومة الكوبية طابعا تذكاريا يحمل صورته، الامر الذي دفع أرملة همنغواي ماري ان تبعث برسالة عبر وسيط الى مدير مكتب التحقيقات الفيدرالي أن الطابع الذي اصدرته كوبا لا يعني أن همنغواي دعم الثورة. واكدت أن همنغواي وكاسترو التقيا مرة واحدة فقط، لبضع دقائق في ايار1960، وكل ما فعلوه حين ذاك كان حديثا عن الصيد.. وهو الامر الذي اكده فيما بعد قبطان مركب الصيد الذي كان يصطاد به همنغواي في كوبا فقد اكد في برنامج بعنوان " همنغواي في كوبا " ان كاسترو وهمنغواي التقيا مرة واحدة فقط، في 15 ايار 1960، وكان ذلك قبل عدة أشهر من مغادرة همنغواي كوبا لآخر مرة، لانه بعدها باشهر انتحر..كانت مناسبة اللقاء هي في مسابقة صيد أقيمت على شرف همنغواي. والتي التقطت فيها صورا عديدة لهما.. ماذا قالا في ذلك اللقاء ؟.. كان كاسترو قد فاز في سباق الصيد، وقد قال لهمنغواي الذي منحه الكأس: " "أنا مبتدئ في الصيد". فأجابه همنغواي ضاحكا "أنت مبتدئ صحيح، لكنك محظوظ ".. يتسأل هوتشنر عن الاسباب التي دفعت زوجة همنغواي لانكار علاقته بالثورة الكوبية، فهل كانت خائفة، ام انها ارادت ان تحمي سمعة زوجها الراحل، وتجنبه حديث الشائعات عن علاقته بالشيوعية التي كان مغضوبا عليها في اميركا الستينيات ؟.

يكتب ماركيز الذي كانت تربطه علاقة متينة بالزعيم الكوبي كاسترو ان الأخير كان مغرما بهمنغواي، وقد اعلن عام 1977 امام الصحفيين ان كاتبه المفضل هو همنغواي.. ويضيف ماركيز ان كاسترو كان منذ سنوات قارئا مثابرا لهمنغواي، وقد كان يعرفه بعمق، ويدافع عن اعماله تجاه من يحاولون النيل منها.. وكان ماركيز يشاهد في سيارة كاسترو الخاصة التي دائما ما تمتليء بالاوراق والخرائط والوثائق الحكومية.. " اعمال همنغواي ترقد بين كومة الاوراق وكانت مجلدة باللون الاحمر ". في المقابل ومع سخونة الاحداث والموقف المعادي الذي اتخذته الولايات المتحدة من النظام الكوبي، كان همنغواي يعلق الأمل في المستقبل الذي ينتظر هذه الجزيرة واتفق مع صديقه، مراسل صحيفة نيويورك تايمز هربرت إل. ماثيوز، على أنه لا يزال هناك شيء "ثمين" بشأن الثورة الكوبية، وأنه يجب الحفاظ على شيء ما. قال همنغواي الذي شهد ثورات عديدة لأصدقائه إنه يأخذ يتبنى النظر الطويلة الأمد، واثقًا من أن التجاوزات الثورية ستتقلص وأن النظام الجديد سيعتني بالفقراء الذين اهملتهم الطبقة الحاكمة لعدة قرون..اثناء مرحلة العداء مع اميركا اعلن كاسترو أن الكاتب الشهير سيظل دائماً موضع ترحيب في الجزيرة. لكن تبين أن هذا شيء لم يكن همنغواي يتحمله، أخبر صديقه هوتشنر في صيف عام 1960، أنه برغم لم يتعرض لمضايقة من كاسترو شخصيًا، إلا أنه لم يستريح بسهولة بسبب موقف المخابرات الاميركية من المواطنين الاميركان الذين يعيشون في كوبا،، و كان هذا أحد الأسباب التي دفعت همنغواي إلى قضاء الأشهر الأخيرة من حياته في ولاية أيداهو قبل الانتحار في يوليو 1961..يكتب ماركيز انه ليس هناك كاتب نال في كوبا من التكريم مثل التكريم الذي ناله همنغواي.. بالمقابل وبرغم تنقل همنغواي في الكثير من العواصم، إلا انه احب منزله في فنيكا فيخيا في كوبا والذي كان يحوي تسعة آلاف كتاب إضافة الى اربعة كلاب وسبعة وخمسين قطة.. وهو المنزل الذي تحول الى متحف همنغواي حيث بقيت أشياؤه تحمل جزءا من روحه بعد أن شحنها بسحر حضوره القويّ.

***

علي حسين – كاتب

رئيس تحرير صحيفة المدى البغدادية

إنه لشرف عظيم وسعادة بالغة أن أكون معكم اليوم، في هذه المدرسة العليا العتيدة، في هذه المدينة الرائعة، في هذا البلد العظيم. فشكراً لتكرمكم بمنحي هذا الفرح الذي لا يقدّر بثمن. فنحن نستطيع أن نشتري الكثيرَ مقابل المال، ولكن الفرح ليس للبيع.

من مبادئ علم السعادة أن متطلباتها ثلاثة: الأمن والصحة والكفاية، كما ورد في الحديث النبوي الشريف[1]. بيدَ أن هذه المتطلبات قد تتوافر دون أن تتحقّق سعادةُ فردٍ من الأفراد، إن لم تكُن له أفكار ومشاعر وأحاسيس إيجابية، تمكّنه من حبِّ الناس الذين يسكن بينهم، وحب العمل الذي يمارسه، وحب الأشخاص الذين يعمل معهم، وحب البلاد التي يعيش فيها. فبالحب ينفعل الوجود.

ومن جميل قدري وحسن حظي أنني منذ أن تشرفتُ بدخول هذا البلد الأمين، المغرب العزيز، في سبتمبر 1972 أي قبل خمسين عاماً، وقعتُ بحبِ المغرب، مثل غيري من الناس الذين يزورون المغرب أول مرة، وذلك بفضل شعبه الكريم، وحضارته العريقة، وطبيعته الخلابة، وموقعه الجغرافي البرزخي الفريد. فمدينة طنجة الفاتنة، مثلاً، هي سُرَّةُ العالم، وملتقى القارات، يتناوب أعظم المحيطات وأروع البحار على غسل قدميها ، بماء الورد وبالزعفران، وينشفانهما بالخزامى وشقائق النعمان. وهي مستلقية بوداعة ودلال، في وديان السحر والجمال، بين حراسها الشوامخ الأشداء: جبال الريف وجبال الأطلس، ويداعب جدائلها الطويلة وضفائرها الجميلة البوغاز بنسيماته العليلة. فأيُّ إنسان لا يقع في عشقِ طنجةَ حتى الهيمان من النظرة الأولى؟! قل لي بربك مَن؟!4677 علي القاسمي

أعزائي الحضور!

تربطني بمدرستكم العليا الموقرة، حتى قبل افتتاحها سنة 1986، علاقة مودة متبادلة، فقد كان المرحوم الدكتور عز الدين العراقي[2]، وزير التربية الوطنية آنذاك قد قرر سنة 1983 إنشاء هذه المدرسة. وكان يتحدث معي عنها وعن برامجها حينما كنتُ أعمل آنذاك مديراً في المنظمة الإسلامية للتربية والعلوم والثقافة (الإيسيكو)[3]. كما أن الوزير طلب من أعز أصدقائي بل أخي المغربي، المرحوم الأستاذ محمد أبو طالب، بوضع مشروع نظامها الأساسي ففعل بالتعاون مع صديقنا المشترك الدكتور أبو شعيب الإدريسي. وعندما طلب الوزير من المرحوم محمد أبو طالب أن يتولى إدارة المدرسة، اعتذر، لأنه لا يحبذ العمل الإداري بل كان يكرَّس كلَّ وقته لخدمة طلبته الذين كان يعدّهم أولاده. ومن حسن حظ هذه المدرسة أن وقع الاختيار على الأستاذ الدكتور أبو شعيب الإدريسي. وهو من خيرة الأساتذة وعلى خلق رفيع. فأحسن الإدريسي تدبير سنوات التأسيس، وجهَّز المدرسة بما يلزم، وأغنى مكتبتها بالمراجع، وانتقى لها خيرة الأساتذة القارين والزائرين. وكان يستدعيني كل عام دراسي لألقاء محاضرات على طلبتها الأماجد.

قصة الخوف والترجمة:

في إحدى تلك السنوات، حضرتُ إلى هذه المدرسة العزيزة، ولم يستطع المدير الدكتور الإدريسي تقديمي إلى الطلاب، لأنه كان عليه حضور اجتماع في الرباط. فأناب عنه الأستاذ الفاضل الدكتور علي أزرياح. (من منكم ـ طلبتنا الأعزاء ـ يعرف الدكتور علي أزرياح؟)، هنا أود أن أقترح عليكم ـ بعد الاستئذان من أساتذتكم الكرام ـ الاضطلاع ببحث لإعداد معلمةٍ أو دليل وجيز عن أساتذة الترجمة في هذه المدرسة العزيزة، بإحدى لغات العمل، وترجمته إلى لغات العمل الأخرى، لتحصلوا على خبرة في البحث والتأليف والترجمة. وبعد ذلك القيام بإعداد مَعلمة المترجمين المغاربة منذ أوائل القرن الميلادي العشرين حتى اليوم، كما فعل المترجم الفذّ عصام ثاير منصور في العراق.

لم أكن قد التقيتُ بالدكتور علي أزرياح من قبل. وفي تقديمه لي بدأ بالقول إنه كان يضطلع ببحث باللغة الإنكليزية عن كاتبات القصة العربية. وفيما كان يتصفح أحد أعداد مجلة (الآداب)[4] اللبنانية بحثا عن قصص لكاتبات، لم يجد في ذلك العدد سوى قصتين، الأولى وعنوانها "الخوف" لعلي القاسمي، فقرأها من باب حب الاستطلاع، وقال الدكتور أزرياح:

" ما إن أكملت الفقرة الافتتاحية، حتى أحسستُ بأصابع يديَّ ترتجف خوفاً. وحين وصلت إلى منتصف القصة، كان جسمي كلّه يرتعد هلعاً. فترجمتها بصورة استثنائية. هذا هو علي القاسمي كاتب تلك القصة."

في شكري للدكتور علي أزرياح، قلتُ له ما معناه:

" سيدي الدكتور أنت رجل شجاع ومترجم مبدع، لأنني عندما كنت أكتب تلك القصة، كنتُ أشعر بأن كياني كلَّه وفرائصي جميعها تضطربُ فَرَقاً بصورة غريبة، وأن الحمّى اجتاحت أعضاء جسمي، وكان لا بدّ أن أكمل كتابة القصة لأعود إلى حالتي الطبيعية. بيد أن الحمّى لازمتني يوميْن كامليْن بعد ذلك."

نُشِرت ترجمة الدكتور علي أزرياح في ثلاث مجلات ورقية إنكليزية في إنكلترا وأستراليا والعراق.

ونظراً لوجود اثنين من أفذاذ المترجمين معنا في هذا اليوم الدراسي، أود أن أتحدث عنهما قليلاً قبل الانتقال إلى الموضوع، وهو "دور التجربة الحياتية الصادقة في تجويد الإبداع الأدبي وفي ترقية الترجمة":

نظَّم الدكتور حسن درير مديرُ (مختبر الترجمة وتكامل المعارف) في جامعة القاضي عياض، ندوةً بمراكش حول (الترجمة وتعليم اللغات الأجنبية وتعدد اللغات) قبل أكثر من عام بقليل. وفوجئت، بأنه أضاف إلى عنوان الندوة عبارة (تكريما لعلي القاسمي) على الرغم من أننا لم نلتقِ من قبل وليست ثمة صداقة أو علاقة تربطنا. وهذا مثالٌ آخر على الكرم ودماثة الخلق الذي يزدان به هل المغرب العظام. وشارك في هذه الندوة باحثون من عدد من الأقطار لعل أبرزهم صديقي العزيز الدكتور عبد الرحمان السليمان أستاذ الترجمة وعلم التأثيل في جامعة لوفان في بلجيكا الذي افتتح دراسته القيمة عن الترجمة بالقول:

" عندما أهداني أخي علي القاسمي نسخة من مجموعته القصصية " أوان الرحيل" في مراكش الغنّاء... قراتُ في ليلةِ ذلك اليوم أحدى القصص وأنا مستلقٍ في سريري انتظر رحيل يقظة النهار وبداية سَفر النوم. لكنّي رأيت في تلك الليلة كابوسا من الكوابيس التي تجعل الولدان شيباً. تكرَّرت التجربة معي في بلجيكا، فما قرأتُ قصَّةً من مجموعة " أوان الرحيل " إلا وهجم عليَّ كابوس في تلك الليلة، حتى أصبحتُ أزعم أن مَن يريد أن يحجز كابوساً في ليلةٍ، مثلما يحجز بطاقة سفر أو مبيتَ ليلةٍ في فندق، فما عليه إلا تلاوة قصة من قصص " أوان الرحيل."[5]

ولهذا قرر أخي الدكتور السليمان، ترجمة هذه المجموعة القصصية إلى اللغة الهولندية. وعندما استمع الدكتور حسن درير إلى محاضرة الدكتور السليماني التي أرسلها بالفيديو، عزم هو الآخر ترجمة هذه المجموعة إلى اللغة الإنكليزية.

السؤال الذي يطرح نفسه هو: ما هو السر في نجاح قصص هذه المجموعة؟

نجد الإجابة عن هذا السؤال في كتاب كامل لشيخ النقاد العراقيين، الدكتور محمد صابر عبيد، أستاذ الأدب العربي، في جامعة أنقرة حاليا، وعنوانه " التجربة والعلامة القصصية: رؤية جمالية في قصص " أوان الرحيل" لعلي القاسمي" [6]. أما أنا اليوم فسأحاول الإجابة على سؤالين هما:

ـ هل للمترجم تجربته الحياتية أم هو مجرد ناقل لتجارب الآخرين؟

ـ هل المترجم مبدع، مثل القاص، أم هو حرفي متخصِّص في النقل؟

نوع القصة القصيرة:

القصة القصيرة فن سردي صعب المراس، يتميز بدقة وكثافة وتقانة، ويتطلب كاتباً ذا تمكّن من اللغة ودراية بأسرارها. ومهارة كتابة القصة القصيرة الجيدة لا تتأتى لكثير من الأدباء[7]. وعلى الرغم من أن الرواية في الوقت الحاضر هي التي سرقت الأضواء، فإن كبار النقّاد، مثل الدكتور سعيد يقطين، يرون ان الناقد الجيد هو الذي يستطيع أن يتناول القصة القصيرة ويقارب الصنعة القصصية وسحر الحكي فيها، ليكشف الرؤية الفكرية والبعد الفلسفي للقاص، وموقفه من العالم والإنسان والأشياء.

التجربة والإبداع:

إن الإبداع عموماً، والإبداع الأدبي على وجه الخصوص، يقوم على ثلاثة أعمدة: الثقافة، والتجربة، والخيال. والمبدع الجيد هو الذي يصنع من هذه العناصر خلطة سحرية تستهوي القارئ وتغنيه فكرياً. فالمبدع عادة ينطلق من أرض الواقع ويحلق في سماوات الخيال. والتجربة أساس لا بدَّ منه.

والتجارب على أنواع، لعل أرقاها تلك (التجربة الحياتية) العادية الصادقة المتوهجة بالحرارة والمطعَّمة بالقلق. فهي تشتمل على المشاعر والعواطف والتصورات. وهذه التجربة عامة لدى الناس كلِّهم. أما (التجربة الجمالية) فهي نفس التجربة الحياتية التي تظل تحفر في وجدان المبدع وكيانه كله، حتى يحوّلَها إلى نص مكتوب وفق رؤيته وفلسفته، ويتلقاه القارئ فيدرك معانيه وتأويلاته وينفعل به ويتجاوب معه.

كيف كتبتُ قصة الخوف:

كنتُ أجلس وحدي في مقهى مطلٍ على البحر بالقرب من الرباط، وأفكر في مصير بلدي العراق في زمن الحكم العسكرتاري الدكتاتوري أواسط التسعينيات، بعد إقحام العراق في حروب عبثية قتلت مئات الآلاف من المواطنين ومئات الآلاف من الأسرى ومعوقي الحرب، وهجرّت الملايين من العلماء والمفكرين والتقنيين إلى الدول الأخرى[8]. وفجأة التفتُ إلى اليمين، كما لو أن قوة خارقة أدارت رأسي إلى ذلك الاتجاه. وخيل إليّ أنني رأيتُ عن بُعْد، رجلاً مكبلاً تجرّه بعنف مجموعة من لابسي الخاكي العسكرتاريين الأشداء، وهو يتلفتُ يمنةً ويسرة طلباً للنجدة والعون، ويخوض العسكرتاريون في شاطئ البحر لإغراق هذا الأسير البائس. ووضع أحد العسكر يده على فم الأسير وفتحه عنوة، وتولى الآخر القبض على لسانه، وإخراجه من الفم بقسوة، واستلّ ثالثُ سكيناً وبتر اللسان، فانبثقت نافورة دمٍ من قاع البحر إلى عنان السماء. وبدلاً من أن أهُبَّ لنجدة الرجل المسكين، وجدتني أنكمش في مكاني مرتعشاً، مثل سلحفاة خائفة. هذا هو تلخيصٌ مخل لقصة " الخوف" نلفي فيه تجربة متخيلة، ليست حقيقية، ولا واقعية، ولا صادقة. ولكن ينبغي أن نتذكَّر أن الصدق صدقان: صدق واقعي وصدق فني.

هل يستطيع المترجم أن يعيش تجربة الكاتب الأصلي؟

عندما كنتُ طالباً في الجامعة الأمريكية في بيروت في أواسط الستينيات من القرن الماضي، وجهت الجامعة دعوة إلى الشاعر العراقي الزاهد، أحمد الصافي النجفي[9] المشهور بترجمته الشعرية لرباعيات الخيام[10] من اللغة الفارسية مباشرة، لإلقاء محاضرة عامة في الجامعة. وفي حصة الأسئلة، كان سؤالي:

ـ كيف ترجمتم الخيام، سيدي؟

وفوجئت بجوابه المقتضب:

ـ أنا لم أترجم الخيامَ. أنا كنتُ الخيامَ نفسَه.

ثم التفتَ إلى غيري من الطلبة. لم أفهم جوابه في ذلك الحين. ولكن بعد ثلاثة عقود من الزمن، عندما أخذت أترجم كتباً وقصصاً لهمنغواي، أدركتُ ما رمى إليه الصافي النجفي.

القارئ الجيد هو الذي يعيش تجربة المؤلف، ويندمج في النص، ويتعاطف مع البطل، ويتماهى به، ويتقمص شخصيته، ويذوب فيها، ويتوحد بها. والتماهي (أو التقمّص أو التوحُّد) من مصطلحات التحليل النفسي، التي وضعها سيغموند فرويد[11] في أواخر القرن الميلادي التاسع عشر، وتعرّفه معاجم التحليل النفسي بأنه " عملية نفسية يتمثَّل الشخص بواسطتها أحدى خصائص أو صفاتِ شخصٍ اخر، ويتحوّل كليا أو جزئيا تبعا لنموذج الآخر، وتتكون الشخصية وتتمايز من خلال سلسلة من التماهيات " ويعرَّف التماهي كذلك بأنه " . حيلة من حيل التوافق تتمُّ على مستوى لا شعوري، وهو عملية تلجأ النفس فيها لإستدماج دوافعِ واتجاهات وسمات شخص أخر داخل ذات الفرد، بحيث تصبح أصيلة في الفرد تضرب بجذورها في اعماق بنائه النفسي"[12]

المترجم الحاذق هو كالممثل المسرحي اللامع، فهو يتماهى مع الشخصية التي يمثِّل دورها، حتى يصير هو هي، أو هي هو. ويبقى بعض هؤلاء الممثلين متقمصين شخصيات أدوارهم، حتى بعد انتهاء العرض المسرحي بعدة ساعات أو أيام تبعاً لرهافة إحساس كلٍ منهم. فالممثل الذي يؤدّي دور رجل عدائي، مثلا، قد يبقى يتصرف تجاه الآخرين بصفة عدائية عدة أيام أو أسابيع بعد انتهاء عرض المسرحية. المترجم الحاذق لا يشرع بترجمة النص الأدبي المكتوب حين يتلقاه، بل يقرأه كاملاً أولاً مرةً أو أكثر، حتي يتشبّع به ويتماهى معه، ويقرأ دراسات نقدية عن النص الأصلي وعن صاحبه، فيصبح النصُّ جزءاً من بنائه النفسي ويعيش المترجم تجربة الكاتب الأصلي بصورة صادقة. هذا هو الصدق الفني في التجربة حتى لو كانت متخيَّلَة.

ولهذا نجد أن الدكتور علي أزرياح والدكتور عبد الرحمان السليمان، يتماهيان مع بطل قصة " الخوف" ويتقمصان شخصيته ومأساته، وينغرس لديهما في اللاشعور أو حتى في اللاوعي ( العقل الباطن)[13]، ويظهر ذلك الخوف عليهما بصورة ارتجاف وارتعاش على اليدين أو على شكل كوابيس تغتال النوم. وذلك لأن أزرياح والسليمان من عظام المترجمين.

وخلاصة القول، إن السؤال في أعلاه:

ـ هل يستطيع المترجم أن يعيش تجربة الكاتب الأصلي الحقيقية أو المتخيلة؟

جوابي هو : نعم، بالتماهي أو التقمًّص أو التوحُّد.

ـ هل المترجم مبدع، مثل القاص، أم هو حرفي متخصِّص في النقل فقط؟

ثمة فرق بين (الخلق) و(الإبداع). فالخلق هو إنشاء شيء جديد من عدم. فالخالق هو الله. أما الإبداع فهو إنشاء شيء جديد من عناصرَ موجودةٍ سابقاً. والخاصيتان الجوهريتان في الإبداع هما: تجاوز الواقع، وتخيّل الجديد. مع العلم أن (البديع ) من أسماء الله تعالى كذلك، فله الأسماء الحسنى.

يكمن الإبداع الأدبي في أن الكاتب الأصلي ينشئ ــــ في اللغة المترجَم إليها ـــ خطاباً جديداً من عناصر لغوية متفرقة موجودة في اللغة سابقاً، كالمفردات والتعابير الاصطلاحية والتراكيب النحوية وغيرها؛ فهو يختار منها ويشكّلها بطريقته الخاصة لينتج الأثر المطلوب في المتلقي. وهذا ما يُسمى بـ " الأسلوب". فإذا ترجم مترجمان جيدان نصاً واحدا بأمانة، فإنهما قد يختلفان في الأسلوب. فالأسلوب يتباين من شخص لآخر. ولهذا يقول الفرنسيون " إنَّ الأسلوب هو الشخصُ ذاتُه."

Le style est l’homme lui-même. » "

ونقول باللغة العربية إن "المترجم كاتبٌ آخر للنص.". فهو لا ينقل المعنى فقط بل يبدع النصَّ في اللغة المترجَم إليها بأسلوبه الشخصي، كما أبدع الكاتب الأصلي قصته في اللغة المترجَم منها. فالمترجم هو كاتب أديب، إنه مبدع كذلك دائماً.

واسمحوا لي في الختام، أن أكرر شكري الجزيل لكم من صميم القلب وأعماق الروح، متمنياً لكم جميعا موفور الصحة والهناء، وموصول العمل والعطاء.[14]

***

ا. د. علي القاسمي

جامعة عبد المالك السعدي يوم دراسي حول أعمال علي القاسمي، مدرسة الملك فهد العليا للترجمة الثلاثاء 3/1/2023

...............

[1] الحديث الشريف: " من أصبح منكم آمناً في سربه، معافى في جسده، عنده قوت يومه؛ حيزت له الدنيا بحذافيرها". {متفق عليه)

[2] عز الدين العراقي (1929ـ 2010: طبيب وسياسي مغربي درس في فاس والرباط وباريس، وزير التربية الوطنية وتكوين الأطر 1977، وفي سنة 1986 نائب الوزير الأول ووزير التربية ، ثم الوزير الأول في المدة 1987ـ1992، ثم رئيس مجلس إدارة الأخوين، ثم الأمين العام لمنظمة المؤتمر الإسلامي بجدّة التي تُسمى اليوم منظمة التعاون الإسلامي. أنجز تعريب التعليم العام في المغرب.

[3] تُسمّى اليوم : منظمة العالم الإسلامي للتربية والعلوم والثقافة (الإيسيسكو).

[4] مجلة الآداب اللبنانية، شهرية. أسسها الأديب سهيل إدريس ورأس تحريرها قرابة 40 عاماً ، وعندما توفي تولى رئاسة تحريرها ابنه الدكتور سماح إدريس في المدة (1992ـ2021). وسهيل إدريس هو صاحب رواية " الحي اللاتيني"، ومؤلف قاموس (المنهل) فرنسي ـ عربي.

[5] عبد الرحمان السليمان،" أوان ترجمة الرحيل " دراسة أعدها الباحث عن ترجمته للمجموعة القصصية " أوان الرحيل" لعلي القاسمي، للندوة التي أقامتها جامعة القاضي عياض بمراكش (مختبر الترجمة وتكامل المعارف) حول الترجمة وتعليم اللغات الأجنبية وتعدد اللغات، يومي 24و25 /11/ 2021، تكريماً لعلي القاسمي.

[6] محمد صابر عبيد. التجرية والعلامية القصصية: رؤية جمالية في قصص "أوان الرحيل" لعلي القاسمي، تقديم الدكتورسعيد يقطين ( أربد، الأردن : عالم الكتب الحديث، 2011). وهذا الكتاب متوافر في موقع (أصدقاء الدكتور علي القاسمي) على الشابكة.

إضافة إلى هذا الكتاب النقدي الفاخر فقد حظيت هذه المجموعة بكتابيْن نقدييْن آخرين. أحدهما نقد طبنفسي، للعلامة العراقي الراحل الطبيب النفسي الدكتور حسين سرمك حسن بعنوان " قاربُ الموت"، والآخر للكاتب السياسي المغربي المهندس الحسين بوخرطة بعنوان " سراديب الرحيل المخيفة " الذي يؤوِّل قصصي بطريقة اجتماعية سياسية. إضافة إلى ذلك حظيت إحدى طبعات "أوان الرحيل" بمقدمة نقدية للناقد العربي الكبير الدكتور سعيد يقطين.

[7] محمد صابر عبيد. المرجع السابق.

[8] للاطلاع على بعض التفاصيل، يُنظر فصل " هجرة العقول العربية" في كتاب:

ـ علي القاسمي. السياسة الثقافية في العالم العربي، ط 2 (بيروت: مكتبة لبنان ناشرون، 2019) ص 175ـ182

[9] أحمد الصافي النجفي (1897ـ1977) شاعر من أب عراقي وأم لبنانية. اشتغل مفتشاً للغة العربية في إيران 7 سنوات، ثم ولأسباب صحية أقام في لبنان من عام 1933 حتى وفاته. للتفاصيل عن شخصيته وشعره، وفي أثناء الحرب الأهلية اللبنانية، أصيب النجفي برصاصة طائشة سنة 1967 فعاد إلى العراق وتوفي بعد بضعة شهور. يُنظر كتاب:

ـ علي القاسمي. العراق في القلب: دراسات في حضارة العراق، ط2 (بيروت: الدار العربية للموسوعات، 2010) أحمد الصافي النجفي : شاعر بين الأمواج المغرقة والنيران المحرقة، ص 313ـ322 .

[10] عمر الخيام (1048ـ1131م) : شاعر فيلسوف عالم فلك ورياضيات ولد وتوفي في نيسابور ، خراسان . تُرجمت رباعياته إلى اللغة العربية أكثر من أربعين مرة، وتختلف هذه الترجمات فيما بينها من حيث عدد الرباعيات المترجمة، ومن حيث نوع الترجمة شعرية أم نثرية، ومن حيث اللغة المترجَم منها الفارسية أم لغة وسيطة كالفرنسية والإنكليزية.

[11] سيغموند فرويد Sigmund Freud ( 1856-1939 ) طبيب أعصاب نمساوي ومؤسس التحليل النفسي بوصفه طريقة لمعرفة الأمراض النفسية التي يراها فرويد بوصفها نتيجة صراع داخلي ويتم معالجتها بالحوار بين الطبيب النفساني والمريض.

[12] انظر " تماهي " في https://ar.wikipedia.org/w/index.php?title=%D8%AA%D9%85%D8%A7%D9%87%D9%8A&action=edit&section=1

شوهد بتاريخ 26/12/2022

[13] للتفريق بين اللاشعور وبين اللاوعي، يُنظر:

ــ طالب الخفاجي. الدماغ الخبيب. ترجمه من الإنكليزية: علي القاسمي (الرياض: دار التوبة، 2019) ص 57 ـ80. والكتاب متوافر في موقع (أصدقاء الدكتور علي القاسمي) على الشابكة.

[14] يشكر الكاتبُ صديقة العزيز الأستاذ الدكتور حسن درير الذي تكرّم بقراءة هذه الكلمة وإبداء ملاحظات عليها.

 

(1921 – 2004) Gerard Debreu

عرفناه كطلاب في الدراسات العليا في مطلع الثمانينات من خلال كتابه الفريد "الاقتصاد الرياضي" المنشور عام 1983 من قبل جامعة كمبرج. هذا الكتاب احدث ضجة في الوسط الاكاديمي آنذاك، ذلك انه لم يكن كتابا جامعيا تقليديا، انما كان مجموعة مقالات في المعالجة الرياضية المتقدمة لموضوعات مختارة في النظرية الاقتصادية، كانت تصعب على الطلبة وعلى اساتذتهم في بعض الاحيان، ماعدا من درس الرياضيات منهم بشكل منهجي.

هو الاقتصادي الفرنسي -الامريكي الذي شغل منصب استاذ الاقتصاد الرياضي في جامعة كالفورنيا – بركلي لثلاثين عاما، والحائز على جائزة نوبل في الاقتصاد لعام 1983 لريادته في الاقتصاد الرياضي وادخاله طرق تحليلية جديدة في النظرية الاقتصادية، وبالذات مساهماته المتقدمة في نظرية القيمة وصياغته لبراهين نظرية التوازن الاقتصادي العام والمنفعة وظاهرة اللاحتمية الاقتصادية Economic Uncertainty .

لقد وصفته صفحة الانسكلوبيديا بأنه "القوة الضاربة لترسيخ وتقدم نظرية التوازن الاقتصادي العام"، وجعلها متقدمة بخطوات كثيرة وحثيثة على ما سبقها من شروح انشائية افتراضية.4676 ديرو

يقول دبرو ان الاساس في تحليلاته الرياضية لاشكالات النظرية الاقتصادية هو المنهج البديهي Axiomatic الذي يعامل اي قضية، السلعة مثلا، باعتبارها مادة رياضية ذات طبيعة زمكانية Spatiotemporal. ومثل هذا التصور يأتي لكونه الرجل الذي يؤمن بتفوق التحليل الرياضي على غيره ويعتبر التسبيب الرياضي فوق الجدال وفي علياء البراهين العقلية، ليس ترفعا، انما اعتزازا بحصافته ودقته، أولا، ولأنه الرجل الذي تخصص في الرياضيات وتفوق فيها وأحب الاقتصاد حين درسه في مراحل دراسته العليا ومارس العمل في حل مشكلاته، واكتشف المكامن التي يمكن لعلم الاقتصاد ان يستفيد فيها مما تمنحه الرياضيات من أدوات تحقق الدقة والعمق التي يرغبها أي دارس للاقتصاد، وخاصة الاجيال القادمة، حين لن يصبح للانشاء الاقتصادي الادبي مكانا كما كان لانتهاء صلاحيته وانتفاء دوره.

ولد جرارد عام 1921 في مدينة كاليه Calais في الشمال الفرنسي على ساحل القنال الانگليزي. وقد اصبح يتيما في بواكير حياته. فعندما كان طفلا، انتحر والده الذي كان يعمل عند جده في صناعة الدانتيل الفرنسي الذي تشتهر به منطقة كاليه. ثم بعد مدة قصيرة توفت والدته فبقي في رعاية جديه لحين تخرجه من الثانوية عام 1941 وسفره الى باريس للبدء بدراسته الجامعية في جامعة باريس. حينذاك كان الجيش الألماني النازي قد احتل النصف الشمالي من فرنسا وبضمن ذلك العاصمة باريس. لقد كان حادث يتمه و ظروف الاحتلال الاجنبي لوطنه قد زرعا فيه الهدوء والكتمان فكان معروفا عنه انه لا يتكلم عن حياته الشخصية بل فضل ان يكرس وقته للدراسة والاجتهاد.

أنهى تخصصه في الرياضيات وما تزال الحرب مستعرة. وقد كان يوم امتحانه النهائي قبل التخرج هو السادس من حزيران 1944، وهو اليوم الذي عرف بيوم D-Day الذي شنت فيه القوات الامريكية هجوما بحريا - جويا كاسحا على سواحل النورماندي الفرنسية لمجابهة القوات النازية التي تخندقت هناك. فبدلا من وصوله الى قاعة الامتحان قادته قوات الانضباط العسكري التي كانت تروم الشوارع الى دوائرها وسجلته في حملة التجنيد الالزامي وارسلته الى معسكرات التدريب في الجزائر. وهكذا فقد بقي في الخدمة العسكرية لحين انتهاء الحرب وعودته الى الجامعة حيث تمكن من اخذ الامتحان النهائي واجتيازه وتخرجه من جامعة باريس عام 1945.

بعد تخرجه مباشرة بحث عن عمل ملائم فوجد له عملا في مركز للبحوث من 1946 الى 1948. وخلال هذا العمل عرّفه احد الزملاء الباحثين على كتاب موريس ألايس عن المعالجة الرياضية لمسألة التوازن الاقتصادي العام عند ڤالراس. قرأه بشغف فوجده المصدر الذي أدى الى تحول اهتمامه الى الاقتصاد الذي بدأ يدرسه شخصيا. ولقد قال فيما بعد انه تلمس امكانية تزاوج الرياضيات والاقتصاد حالة ممكنة وصحية ومفيدة وقد تصبح مثالية اذا تمكن المرء من الرياضيات أولا بعمره المبكر، ثم يتمكن من الاقتصاد لاحقا بعمر النضوج. وهذا مما دفعه ان يسجل في سمنارات الاقتصاد الامريكية المتوفرة في باريس والتي كان احد محاضريها المنظر الاقتصادي الكبير وسلي ليونتيف الذي هو من أوائل اتباع المنهج الرياضي في الاقتصاد والذي مررنا بدوره سابقا.

في عام 1949 حصل على زمالة روكفلر التي مكنته من زيارة أفخم الجامعات الامريكية والاطلاع على مناهجها التعليمية والتعرف على حالة الاقتصاد في أمريكا. تضمنت تلك الزيارات جامعة هار ڤـرد في بوسطن وجامعة كاليفورنيا – بركلي وجامعة كولومبيا في نيويورك وجامعة شيكاغو. وخلال بقاءه في شيكاغو استلم عرضا للعمل كباحث مشارك في مؤسسة كاولز  Cowles للبحوث الاقتصادية المتقدمة التابعة للجامعة. لقد قال بروفسور دبرو فيما بعد انه وجد هذا العمل ملائما تماما لما يطمح به، مما شجعه ان يكرس نفسه للبحث والدراسة طيلة المدة التي بقي فيها باحثا لدى كاولز والتي تجاوزت 11 عاما. من أهم المواضيع التي بحث فيها كانت أفضلية پاريتو، اثبات وجود حقيقة التوازن العام، المنفعة الكاردينالية، ومسألة اللاحتمية الاقتصادية. وقد تناول كل تلك المواضيع من منهج رياضي تجريدي عالِ.

عندما انتقلت مؤسسة كاولز الى جامعة ييل في ولاية كنتكت، انظم دبرو الى الهيئة التدريسية في ييل اضافة الى استمرار عمله في كاولز كباحث يتنقل حيثما يتطلب البحث الذي بين يديه. ففي عام 1960 ذهب الى مركز الدراسات المتقدمة في علوم السلوك في جامعة ستانفورد -كاليفورنيا، وهناك وجد الشريك العلمي المثالي ، كينث أررو الذي اشترك معه في عدد من البحوث اهمها اكمال براهين نظرية التوازن العام. وقد وُصف تعاونهما بانه كان فتحا لعهد جديد في عالم الاقتصاد تلعب فيه الرياضيات دورا حاسما في صياغة المفاهيم وبرهنة النظريات.

في عام 1962 تلقى دعوة من جامعة كاليفورنيا – بركلي للعمل كعضو في هيئتها التدريسية مع منحه درجة الاستاذية في الاقتصاد، فقبل الدعوة، وفي عام 1975 حصل على درجة الاستاذية في الرياضيات ايضا، فاصبحت الجامعة مستقره الاكاديمي لغاية تقاعده عام 1991.

من بين بحوثه المتقدمة الكثيرة يمكن الاشارة الى بحثين اساسيين يقفان وراء صناعة نجوميته في عالم النظرية الاقتصادية، واللذين يعتبرهما مؤرخو الفكر الاقتصادي Breakthrough.

 أولاً بحثه الشهير المشترك مع كينث أررو المنشور في جورنل "إيكونوميتركا" عام 1954 بعنوان " وجود التوازن الاقتصادي في اقتصاد الاسواق التنافسية" الذي هو عبارة عن مجموعة من البراهين الرياضية التي تثبت حقيقة التوازن، نظريا، في عموم الاقتصاد التنافسي. وهو أمر لم يسبق اثباته من قبل، بل كان فكرة افتراضية عامة. وهو طفرة كبيرة في حقل الاقتصاد الرياضي، علما ان الباحثيَن تمكنا من تحقيق براهينهما الدقيقة باستخدام ادوات تحليلية جديدة تجاوزت المألوف من حسابات التفاضل والتكامل والمعادلات الجبرية الى ادوات جديدة كنظرية الصفوف والتوپولوجيا التي تسمح بدراسة موقعية مقارنة في المفاهيم المنطقية المدركة بديهيا أي تقييم موقع الشئ من الاشياء الاخرى.

وثانيا كتابه الشهير الذي نشرته مؤسسة وايلي للنشر عام 1959 الذي أحدث الطفرة الثانية في فحوى الاقتصاد الرياضي وكان بعنوان " نظرية القيمة: تحليل بديهي للتوازن الاقتصادي". لقد قدم في هذا الكتاب تفصيلا شاملا لاشكالية القيمة وحدوث التوازن الاقتصادي بجميع افتراضاته وشروطه والعوامل المؤثرة فيه وحساب احتمالات حدوثها ومديات تأثيرها. وبذلك فقد قدم لأول مرة دراسة مفصلة دقيقة عالية التجريدية لكنها عميقة في شرح مسألة حدوث التوازن الاقتصادي العام وامكانات تحقق وجود الاسعار الكفيلة باحداث ذلك التوازن.

في بحثه الرياضي عموما وردت العديد من المفاهيم الجديدة على الادب الاقتصادي، منها تلك التي استعارها من علوم الرياضيات والفيزياء ومنها تلك التي ابتكرها بموجب معرفته بتلك العلوم فوجدها قابلة للتكيف الى الادب الاقتصادي. فيما يلي امثلة مختارة مما اقصد وهي كثيرة تعج بها كتب ومقالات دبرو.

- Quasi Equilibrium وهو مصطلح مستعار من فيزياء الثرموداينمكس، ويراد به الحالة التي يكون فيها على الاقل سوق واحد من منظومة التوازن بحالة يفتقر فيها للتوازن الكامل مما يحتم احتوائه قبل ان تتفشى حالة عدم التوازن الى الاسواق الاخرى وتخل بنظام التوازن بأجمعه.

- Agent ويراد به العامل او الفاعل الاقتصادي أي الشخص او الكيان الذي يتخذ القرار الاقتصادي كالمستهلك مثلا الذي يقرر مشترياته أواللجنة الاقتصادية للشركة او الحكومة التي تتخذ قرارا اقتصاديا بشأن قضية من القضايا. وهناك انواع من هذا العامل ، منهم الذي يسميه Representative Agent الذي يكون ممثلا لمنظومته او حالته الاقتصادية متجانسة القرار، وهو عكس الـ Heterogeneous Agent الذي لايمثل منظومته او سوقه الاقتصادي لعدم توفر التجانس الداخلي لتلك المنظومة أو السوق . وهناك الـ Neighboring Agent الذي يتفاعل مع منظومة او سوق معين ضمن شروطها مع عدم انتمائه لها.

- وهناك حالة السلعة المشروط توفرها او بيعها بظروف معينة والتي يسميها بـ

- State-contingent commodity ومثال على ذلك الثلج كسلعة التي يكون توفرها أو بيعها مشروطا بحالة الطقس مثلا، فالثلج الذي يتوفر او يباع في يوم قائض لايمكن لنا ان نعامله في حسابات التوازن بنفس معاملة الثلج الذي يباع في يوم شتوي قارس البرد.

- Debreu-Sonnenschein Theorem وهي النظرية أو جزء النظرية الذي يؤكد انه في مسألة حساب التوازن لايجوز الاكتفاء بالمعلومات العامة التي يوفرها الاقتصاد الكلي وذلك للاختلافات الحاصلة مع حالة المعلومات المأخوذة فرديا عن كل واحدة من المنظومات الاقتصادية التي تؤلف الاقتصاد عموما. فهذه المنظومات تتميز بتفاصيل عن السلع والمستهلكين والاسعار والدخول والموقع وما الى ذلك من ظروف زمكانية. فيما يلي مجموعة مختارة صغيرة من مؤلفات جرارد دبرو الهامة:

***

ا. د. مصدق الحبيب

.................

Debreu, Gérard; Arrow, Kenneth J. (1954). "Existence of an equilibrium for a competitive economy". Econometrica. 22 (3): 265–290.

Debreu, Gérard (1959). The theory of value: an axiomatic analysis of economic equilibrium, NY: Wiley Publications.

Debreu, Gérard (1960), "Topological methods in cardinal utility theory, In Mathematical models in the social sciences, Stanford mathematical studies

Debreu, Gérard; Scarf, Herbert (1972), "A limit theorem on the core of an economy, In McGuire C.B., Amsterdam: North-Holland Publications. pp. 283–297.

Debreu, Gérard (1962). "New concepts and techniques for equilibrium analysis" International Economic Review. 3 (3): 257–273b

Debreu, Gérard (1959). "Cardinal utility for even-chance mixtures of pairs of sure prospects”. The Review of Economic Studies. 26 (3): 174–177

Debreu, Gérard; Scarf, Herbert (1963). "A limit theorem on the core of an economy" International Economic Review. 4 (3): 235–246

Debreu, Gérard (March 1975). "The rate of convergence of the core of an economy. Journal of Mathematical Economics. 2 (1): 1–7

Debreu, Gérard (March 1991). "The mathematization of economic theory". The American Economic Review. 81 (1): 1–7

من لغز الزمان والحياة والموت، يمكن لنا فهم معنى ظاهرة الاحتفالات بتعاقب الاعوام عند الشعوب بمختلف ثقافاتها وعقائدها. إذ يحتفلون بحياتهم أما الأموات فلا يحتفلون ابدا ولا توجد جماعة بشرية على هذا الكوكب السابح بين الأفلاك لا تحتفل في كل زمان ومكان بغض النظر عن نوع ذلك الاحتفال بالولادة والزواج والحصاد وتعاقب الأيام والأحداث التاريخية والحروب والانتصارات والثورات وغيرها. إذ تعد الاحتفالات السنوية من الظواهر الاجتماعية التي رافقت حياة الإنسان منذ ما قبل التاريخ، بوصفها انزياحا سوسيولوجيا وسيكولوجيا عن السياق الاجتماعي الروتيني للحياة اليومية للشعوب؛ انزياح يتم التعبير عنه بتنويعات شتى من الأفعال والتفاعلات والعلاقات والممارسات والقيم والرموز . فكل جماعة أو تجمع أو شعب من شعوب الأرض يمارس الاحتفال بوصفه تأكيدا للوجود والحضور وتعبيرا عن الفرح والسعادة بالحياة وإنجازاتها وتجديدا للطاقة وتحفيزا للأمل بالمستقبل. فالأحياء هم الذين يحتفلون بحياتهم دائما حتى وإن بدوا إنهم يحتفلون بأمواتهم. ففي الأزمنة القديمة ما قبل التاريخ كان الناس يحتفلون بأنفسهم وبأعيادهم في سياق أسطوري شديد الالتصاق بالطبيعة وتقلباتها ومواسمها، وكانت أعظم الاحتفالات عند الشعوب القديمة هي احتفالات بالمطر والزرع والثمر وبحصاد الثمار نهاية كل عام وتوقعاتهم بما سوف تجود به السماء والأرض في قادم الأيام. " كانت الثقافة المصرية القديمة مرتبطة ارتباطًا وثيقًا بنهر النيل، ويبدو أن عامهم الجديد يتوافق مع الفيضان السنوي، وفقًا للكاتب الروماني Censorinus، وكان التنبؤ بالعام الجديد مرتبطا بنجم "الشعرى اليمانية" ألمع نجم فى سماء الليل، إذ يبدأ العام عندما يكون مرئيًا لأول مرة بعد غياب 70 يومًا. وتحدث هذه الظاهرة عادة في منتصف يوليو قبل الغمر السنوي لنهر النيل، مما يساعد على ضمان بقاء الأراضي الزراعية خصبة للعام المقبل.

واحتفل المصريون بهذه البداية الجديدة بمهرجان يُعرف باسم Wepet Renpet، والذي يعنى "افتتاح العام"، وكان يُنظر إلى العام الجديد على أنه وقت ولادة جديدة وتجديد الشباب، وتم تكريمه بالأعياد والطقوس الدينية الخاصة" ( ينظر، بسنت جميل، اليوم السابع ، السبت، 02 يناير 2021 06:00) وكانت الشعوب القديمة في منطقة بلاد الرافدين وسوريا، تحتفل بحسب دورة الطبيعة، بأعياد الحصاد والزرع. إذ كان عيد أكيتو في الحضارة البابلية، عيداً للزرع وتحضير التربة للبذور والسقي. إذ كان يعتقد أن عودة الربيع تعني صعود الاله دموزي من عالم الأموات، وعودته إلى الحياة، كما تعود البذور إلى الحياة من جديد بحلول الربيع وتجدد الطبيعة" وكما هي الحال مع أعياد الربيع الأخرى، مثل النيروز لدى الإيرانيين والأكراد، وشم النسيم لدى المصريين، يحفظ الأشوريون والكلدان والسريان تقاليد الحضارات البابلية والسومرية والأكادية والكلدانية القديمة" إذّاك لم يكن الناس اصحاب عقلية تاريخية لان الوسط الاجتماعي الذي يعيشون فيه، لا يحدثهم عن التاريخ ولكنه يحدثهم عن الطبيعة، وهذا ما تنبأ عنه اعيادهم الاحتفالية الموسمية. كانت اياما لم يسجلها التاريخ، بل هي ايام السنة الزراعية التي تتعاقب في كل عام وهذا يصدق على ما قاله المؤرخ الانجليزي (ادوار كار) "يبدأ التاريخ حين يبدا الناس في التفكير بانقضاء الزمن ليس بمعايير السياقات الطبيعية- دورة الفصول، وآماد الحياة البشرية، وانما بوصفه سلسلة من الاحداث المحددة التي ينخرط الناس فيها ويؤثرون فيها بصورة واعية". او كما عبر ايكهارات "التاريخ هو انقطاع مع الطبيعة يحدث استيقاظا للوعي" وهذا ما يراه "اريك فروم" في كتابه "الخوف من الحرية" بقوله: بدا التاريخ الاجتماعي للإنسان ببزوغه من حالة التوحد مع العالم الطبيعي الى وعيه بنفسه كذاتية منفصلة عن الطبيعة والناس المحيطين به) ويرى شبنجلر ان كلمة "الزمان لا معنى لها عند الرجل الفطري، فهو يحيا دون ان يكون في حاجة الى ادراك الزمان، لان كل ادراك انما ينشأ عن الشعور بالحاجة الى المعارضة، بين شي بشي، ومثل هذا الشعور لا مجال لوجوده عند الفطري، لانه لا يزال يتصور الوجود على انه تاريخ ولم يتصوره بعد بعده طبيعة. ولكن ليس معنى هذا ان الفطري ليس له زمان، كلا، انه له زمان ولكن ليس لديه شعور بهذا الزمان" غير أن الأمر المختلف في هذه الظاهرة الاجتماعية التاريخية المستمرة بتنويعاتها المختلفة عند بني الإنسان هو مدى وعيهم بالزمان بوصفه تاريخاً، والتاريخ هو انقطاع عن الطبيعة يحدث استيقاظا للوعي. مع تبلور الوعي التاريخ بسيرورة الحياة بالزمان ، بأبعاده الثالث، الماضي والحاضر والمستقبل، إي الذاكرة والوعي والخيال، بدأ التفكير بتوقيت الزمن وتحديده وتقسيمه الى لحظات وساعات وأيام وأعوام وعقود وقرون. بصيغ مختلف عند الشعوب والأقوام والحضارات، إذ يختلف التقويم عند الصينيين عن التقويم الإسلامي والتقويم اللاتيني. ويرى خزعل الماجدي

" عيد رأس السنة من الأعياد الحديثة التي يحتفل بها جميع الناس في الكرة الأرضية، وهو من الأعياد غير الدينية. حيث يفرح الناس بالسنة الجديدة، ويقيموا الاحتفالات في ليلة 31 ديسمبر. وأول يوم في التقويم الغريغوري، والذي يحل في 1 يناير مع الألعاب النارية والتي تبدأ من منتصف الليل حيث تبدأ السنة الجديدة" (ينظر، خزعل الماجدي، عيد رأس السنة لا علاقة له بالديانة المسيحية، صفحته بالفيسبوك)

ويكشف تاريخ الأنثروبولوجيا الثقافية أن معظم الشعوب البدائية والحديثة تحتفل بتعاقب الأعوام بإشكال مختلفة ولكنها متشابهة في وظائفها السوسيولوجيا  الأساسية، فوظائف الاحتفال هي ذاتها عند بني الانسان إذ تشبع لديهم حاجات حيوية، لكسر الروتيني وتغيير النمط وسعادة الإنجاز وتوقع المستقبل، والقياس والتقويم المقارن بين ما قبل وما بعد؟ ماذا تحقق في العام الذي مضى وماذا يمكننا تحقيقه في العام الجديد؟ ولما كان الانسان كائناً زمنياً، فان التفكير في التاريخ جزء من انشغالاته، وكل نظرة في التاريخ تظهر موقف الانسان من الزمان فالإنسان هو الكائن الزماني الوحيد، لإنه مفطور على حاستي الذاكرة والتوقع، اذ انه ينظم حياته داخل شبكة نسيجها الماضي والحاضر والمستقبل، هذا الحس الزماني يرجع الى الحضارات البدائية، قال الشاعر (جون دن) "الكائنات ذوات الطبيعة الادنى اسيرة الحاضر اما الانسان فكائن مستقبلي "ومن السخف النظر الى احتفالات الشعوب المسيحية بوصفها مجرد احتفادا دينيا وشجرة ميلاد وبابا نويل وكريسمس وشرب خمر أو غير ذلك من الرموز التي ترافق الاحتفالات بتبدل السنين الميلادية. إذ أن كل تلك الرموز والعناصر هي جزء من الباراديم الكلي للاحتفال الذي يعني أكثر منها بالتأكيد. وكلما كانت حياة الأفراد والشعوب منظمة ومستقرة وأمنة في قواعدها المؤسسية الراسخة كلما كان للاحتفال بعيد رأس السنة قيمة واهمية واعتبار، إذ يمكن لمواطني تلك الدول المسيطرة على ممكنات تاريخها أن يحتفلوا بما مضى من أيامهم وما حققوه من إنجازات في إطار العام الذي مضى بسعادة وفرح مصحوب بالأمل والتطلع الى عام جديد أجمل وأفضل. أما من يفتقدون قدر السيطرة على شروط حياتهم اليومية في بلدانهم ويعيشون حياتهم في مهب العاصفة وبلا مزايا كما هو حالنا في البلاد العربية المسممة بالحروب والفساد والخوف والخراب، بما يعجزنا عن توقع ما تخبئوه الليالي والأيام القريبة القادمة، فليس للاحتفال بتعاقب الأعوام بالنسبة لنا معنى واعتبار، فنحن نعيش في زمن دائري، يكرر باستمرار ما قد جرى وكان منذ قديم الازمان بمختلف الأنماط والصيغ والاشكال ودون أن نعي أن الزمان تاريخ وأن التاريخ يسير من الماضي الى الحاضر الى المستقبل، فمن العبث الحديث عن الاحتفال برأس السنة الهجرية أو الميلادية، فالأمر سيان! وطالما وقد عجزنا عن القبض على ممكنات التاريخ والسير في ركابه مثل سائر الأمم والشعوب والأقوام، فليس بمقدورنا منع غيرنا من التعبير عن أفراحهم كما يشتهون! ويجب أن نسأل أنفسنا السؤال البسيط ؟ ما هو الزمن، وكيف نعيه بوصفه تاريخا متغيرا باستمرار؟

أنه الزمن الذي " يدمر كل شي

لا أحد بمأمن من الموت سوى الالهة

الأرض تفنى.. كل شي الى زوال

حتى الثقة بين الناس تذوى،

ويحل محلها عدم الثقة

الاصدقاء ينقلبون على الاصدقاء

والمدن على المدن

مع الزمن.. كل شي يتغير البهجة الى مرارة

حتى البغضاء تتحول الى حب"

وكلمة "الزمن" باليونانية "كارونوس" هي اسم الاله الذي التهم اطفاله، واوديب عند "سوفوكليس" هو الذي عبر عن تراجيديا الحياة والموت بهذه الكلمات الشجية. هذا الوعي الفطري بالطبيعة العابرة للحياة الانسانية والتغير والتبدل المستمر الذي يسري على الكون كله كان ولازال مبعث كل الأديان والفلسفات الكبرى فالخبرة اليومية بالولادة والحياة والموت، لا سيما سر الموت ورهبته، دفعت الإنسان الى الاعتقاد في عالم سحري ملئ بالأرواح وطقوس الموتى. كان الانسان مدمجاً بالطبيعة وكانت الاسطورة هي الافق الممكن للتفكير والمعرفة والحياة, "فالأسطورة كانت النظام الفكري المتكامل الذي استوعب قلق الانسان الوجودي، وتوقه الابدي للكشف عن الالغاز والغوامض والمشكلات التي يطرحها محيطه "والأمر المهم هنا ليس هو ماذا يقول الناس ويفعلون، ولماذا يقولون ما يقولونه ويفعلون ما يفعلونه؟ بل لماذا يعتقدون ويقولون ويفعلون ذلك؟ ومن ينجب يسمي ومن ينتج يجني ومن يبني يسكن ومن ينجز يحق له أن يسعد كما يحلو له. أما العاجز فليس لديه خيارات غير الحسرة والندم على الزمن الذي ضاع دون أن يعلم كيف ضاع ولماذا؟ ونحن كائنات تاريخية نعيش التاريخ كما تعيش الأسماك بالماء! والتاريخ هو ما يصنعه البشر بأنفسهم ولا شيء يأتي اليه من خارجه ولا شيء يخرج منه، ولكنه يكسر رؤوس البشر ولا يتكسر رأسه ابدا! وفي العصور الفطرية القديمة كان أسلافنا يتدبرون حياته في سياقهم الطبيعي على نحو أكثر استقرارا مما نعيش نحن اليوم . إذ فقدنا الطبيعة الحانية ولم نتمكن من ترويض التاريخ الذي لا يمتلك لا قلب ولا عيون. وتحضرني الذاكرة هنا والآن أننا حينما كنا نودع عاما هجريا مضى ونستقبل عاما هجريا أتى كان للاحتفال بقدوم العالم الهجري الجديد معاني ودلالات معبرة وجميلة. إذ يستعد الناس للاحتفال بلحظ الذروة بطرق وإشكال عديدة ويعبرون عن فرحتهم بالسنة الجديدة بصور ورموز شديدة الاتصال بحياتهم الطبيعة وعلاقتهم بربهم. فعلى سبيل المثال كان مزارعو البن في كل أسرة يكلفون سيدة الأسرة ألأم بوضع سبع حبيبات من ثمار البن الناضجة المختارة بعناية لتضعها في وعاء الطبيخ وتطبخها مع العصيدة وجبة العشاء. وكان جميع أفراد الأسرة ينتظرون تلك الوجبة بلهفة وفرح لاسيما الأطفال منهم ذكورا وإناثا. حيث يحتلقون حول قدح العصيدة وهم يتمتمون بدعاوى لله سبحانه وتعالى بان يرزقهم الحصول على العدد الوفير من حبات البن المخفية في العصيدة بوصفها تعبيرا رمزيا بالبشارة والحظ السعيد والرزق الحلال القادم، ومن حالفه الحظ في العثور على أكبر عدد من حبات البن يوصف بالبرك أو المبارك وتغمره مشاعر سعيدة. وعلى العكس يكون حال من لم يحالفه الحظ في الحصول على حبة بن واحدة. وكان الاجداد والأباء يشجعون الاولاد على جلب أغصان شجرة البن الخضراء ووضعها في نوافذ المنازل وأسطحها وهم يرددون الاغنية التالية:

أدخلي يا خضراء واخرجي يا غبراء

ارحبي يا بشرى وأذهبي يا جرباء

أشرقي يا نجلاء وأغربي يا دبراء

مرحبا يا كحلي بعد تاك العمياء

يا هلا بكِ سهلا والجديدة أحلى

ربنا يرزقنا رزق دائم يبقى

وهكذا هو معنى الاحتفال في كل زمان ومكان ؛ الأحياء هم الذين يحتفلون بحياتهم حتى وأن بدوا أنهم يحتفلون بموتاهم وسنة جديدة أفضل وكل عام وأنتم بخير وسلام

***

ا. د. قاسم المحبشي

 

على سبيل الاستهلال

ماطلتني كتابة هذه الدردشة، وكلّما سعيت إلى تدوينها سردًا وإضافة وتعقيبًا وجدتها لا تأتي مطواعةً، وفي الوقت الذي تطلّ فيه بقوّة أحيانًا، تغيب في أحيان أخرى أو تندسّ في خضم تفاصيل مختلفة حاولت الابتعاد عنها. وهكذا لا هي جاءت منسابة سمحة لتفسح في المجال كي أستكملها بهارموني متّسق، ولا هي استعصت كي أغضّ النظر عنها أو أؤجّلها إلى وقت آخر.

ظلّت الحالة متموّجة ترتفع حينًا وتنخفض حينًا آخر، إلّا أنها حاضرة. ومع الذهاب والإياب ثمة منثورات وحكايات تتسرّب من بين ثناياها، اكتمل بعضها ولم يكتمل بعضها الآخر، لكنّني وجدت فيها ما يمكن وضعه على الورق، لتصل إلى القارئ بشكل عام، وإلى قرّاء مهتمّين خصوصيين أيضًا، وذلك مبتغاها، فثمّة إيقاعات ذاتية وتقاسيم مشتركة، ناهيك عن لمسات خاصّة تأتي وتذهب ومعها ذكريات واستعدادات ووقائع وأحداث وتقييمات وشجون تُستحضر، بل تفرض نفسها أحيانًا.

هكذا كانت دردشتي مع نوري عبد الرزاق في 15 تشرين الأول / أكتوبر 2022 في القاهرة، وأنا عائد من الخرطوم. توجّهت لزيارته بعد أن اضطرّ العودة إلى منزله لظرف صحّي طارئ، وكنّا قد اتفقنا على اللقاء في أوتيل الماريوت، وأجّلنا الموعد إلى اليوم الذي يليه. وصلت على الموعد، ضغطت على جرس الباب عدّة مرّات واتصلت به على موبايله الشخصي ولكن دون جدوى، فقلقت، وبعد انتظار لعدّة دقائق فتح الباب بعد أن استفاق من نوم عميق. استعدت هذه اللقطة حين فتح لي باب منزله في الكرّادة  ببغداد قبل ما يزيد عن نصف قرن من الزمان وهو ممتلئ شبابًا وحيويّة حينها وبين هذه اللحظة حين فعل الزمن فعله.

استعدت لحظتين مفارقتين بين زمنين، الأولى  في كرّادة بغداد التي قفزت إلى في ذهني، والثانية  في حي الشيخ زايد بالقاهرة، وهكذا داهمتني صور من الماضي في بغداد وبراغ ولندن والقاهرة وفيينا وجنيف ودمشق وبيروت وعمان وديربن، وأخرى معلّقة على جدران غرفة الاستقبال تتحدّث عن تاريخ طويل في الحركة الشيوعية وفي محافلها الدولية، بينها صور مع الزعيم عبد الكريم قاسم ومع الجواهري ومع بوناماريوف، حين تسلّم وسام لينين لبلوغه الأربعين العام 1974 وغيرها من الصور.

الصور المتخيّلة في الذهن والواقعيّة على الحائط والمعروضة في إطارات بطريقة عفوية تحفّزك على فتح حوار مع نوري عبد الرزاق المثقّف الموسوعي الرؤيوي لتقليب "أمور الدنيا" كما يعبّر عنه، بما فيه همومنا وشجوننا الراهنة، دون أن ننسى تاريخنا العام والخاص ونجاحاتنا وإخفاقاتنا. وهو حوار لم ينقطع بينه وبيني طيلة السنوات المنصرمة، بما فيه من تجاذبات وتباينات ومشتركات ورؤى وإعادة قراءة ومراجعة ونقد.

المناضل في فضاء الضوء

لم تتكوّن شخصية نوري عبد الرزاق في الأوكار السريّة أو في السجون والمعتقلات أو من ملاحقة رجال الأمن والشرطة على ما جرت العادة في الأحزاب المحظورة أو غير المرخّصة، وهو ما كنّا نطلق عليه لقب "مناضل"، بل نشأت في فضاء من الضوء والعلانية، وإن عمل في حزب سرّي لفترة من الزمن في بدايات انخراطه في العمل السياسي، إلّا أن العهد الملكي وبعد الحرب العالمية الثانية شهد نوعًا من الانفتاح النسبي وتشكيل أحزاب علنية منها "حزب التحرّر الوطني" واجهة الحزب الشيوعي، إضافة إلى "عصبة مكافحة الصهيونية"، التي أسسها يهود شيوعيون معادون للصهيونية وتمّت إجازتها من وزير الداخلية سعد صالح (جريو)، كما أجيز "حزب الشعب" برئاسة عزيز شريف، و"حزب الاتحاد الوطني" برئاسة عبد الفتاح ابراهيم، و"حزب الاستقلال" برئاسة الشيخ محمد مهدي كبّة، و"الحزب الوطني الديمقراطي" برئاسة كامل الجادرجي و"حزب الأحرار" برئاسة سعد صالح بعد استقالة الوزارة. وعلى الرغم من عدم إجازة حزب التحرر الوطني، إلّا أن النشاط كان شبه علنيًا في حينها.

الوعي الأول

في هذه الأجواء نشأ نوري وتبلور وعيه الأول وبدأت ملامح شخصيته تتكوّن، خصوصًا وأن ميله للقراءة وانفتاحه على الآخر جعل منه شخصية عامة. ومنذ حماسته الشبابية الأولى ومشاركته في التظاهرات وتعرّضه للاعتقال، إلّا أن توجّهه كان وسطيًا اعتداليًا منفتحًا على الآخر، على الرغم من أجواء التعصّب والتطرّف السائدة على المستوى السياسي، فربما كانت الحاجة إلى الحريّات والدعوة إلى التحرّر في ربقة الاستعمار البريطاني هي الهاجس الأول، خصوصًا في ظلّ أجواء عائلية تشجّع على ذلك.

وهو ما تعزّز خلال عمله في الخارج بعد ذهابه للدراسة في بريطانيا، حيث شارك في الحركة الطلابية امتدادًا لنشاطه في العراق، وأصبح أحد أبرز وجوهها في الخارج، وحين تمّ فصله بسبب موقفه من حلف بغداد العام 1955 اتّجه إلى القاهرة بعد محطة دمشق لفترة قصيرة، وهناك نسج العديد من الصداقات والعلاقات مع القوى المصرية اليسارية والقومية، وكان أحد شباب الحركة الوطنية، بل أنه كان أحد مرجعيات الحزب الشيوعي المقيمة في الخارج والوثيقة الصلة بالداخل من جهة ومع التيارات العربية وأحزابها المختلفة من جهة أخرى.

ومنذ العام 1956 كانت علاقته تتوطّد مع ياسر عرفات "أبو عمّار" وظلّت حتى أيام قبل رحيله، كما أقام علاقات وطيدة مع منظمة التضامن الأفرو آسيوي التي تأسست العام 1957 في القاهرة، وتولّى منصب السكرتير العام فيها بعد عقدين ونيّف من الزمن.

وفي مهرجان الشباب والطلاب العام 1957 الذي انعقد في موسكو كان أحد الوجوه الأساسية المنظمة لمشاركة الوفد العراقي برئاسة محمد صالح العبلي الذي استشهد لاحقًا في العام 1963 بعد انقلاب شباط / فبراير وكان حينها عضوًا في المكتب السياسي.

وفي القاهرة أصدر كتابًا عن "تيارات الحركة الوطنية في العراق"، ظل يعتبر مرجعًا حيويًا لتلك الفترة الزمنية وفيه تحليلات دقيقة لاتجاهاتها وتوجّهاتها يومئذٍ في العراق الملكي.

ثقة سلام عادل

أكسبته تلك السنوات ثقة سلام عادل الذي التقى به في العام 1954 في لندن، حيث كان قد تولّى القيادة (1955) بعد صراعات حادّة وانشقاقات وتكتّلات، فاستعاد الحزب حيويّته ونشاطه بعد أن تهيّأت ظروف وحدته وتسوية الخلافات بين مجموعاته وكتله المتصارعة، الأمر الذي وفّر فرصةً مهمةً لكي يلعب دوره على الصعيد الحركة الوطنية التي اتحدت في جبهة الاتحاد الوطني العام 1957 والتي ساهمت في التحضير لثورة 14 تموز / يوليو 1958.

خلال سنوات نوري في لندن تعزّزت علاقاته مع الحزب الشيوعي البريطاني وتعمّقت ثقافته وصقلت شخصيته الجامعة المنفتحة العلنية، وبعد الثورة وعودته إلى العراق كان أحد أبرز الكوادر الشبابية في الحزب، لذلك تمّ اختياره رئيسًا لاتحاد الشبيبة الديمقراطي العراقي في مؤتمره الأول ونائبه الدكتور رحيم عجينة، وقابل الزعيم عبد الكريم قاسم أكثر من مرّة، كما ترأس وفودًا عديدة واستقبل شخصيات عالمية.

وعرض عليه بليكان رئيس اتحاد الطلاب العالمي في العام 1960 أن يتولى منصب الأمين العام للاتحاد لمعرفته بكفاءاته وقدراته الفكرية والعملية. وكان نوري هو من ساهم في إقناع اتحاد الطلاب العالمي على عقد المؤتمر السادس في بغداد، ووافقت قيادة الحزب على إيكال تلك المهمة الكبيرة إليه والتي شغلها من العام 1960 إلى العام 1968، حيث تقرر بعدها عودته إلى بغداد التي وصلها العام 1969 وشرع حينها بالعمل في ميدان العلاقات، إضافةً إلى عمله في مجلّة الثقافة الجديدة، وبتكليف من قيادة الحزب تولّى إعادة تأسيس اتحاد الشبيبة، وخلال تلك الفترة التقيناه لؤي أبو التمن وكاتب السطور، وذلك بعد تخرّجنا من الجامعة (1968)، لكن الأمر كان يحتاج إلى تحضيرات طويلة فتمت إعادتنا إلى قيادة الطلبة، وشغل ماجد عبد الرضا موقع سكرتير عام الشبيبة الديمقراطي لاحقًا.

محطات

توقّفت عند نوري في بعض المحطّات في مرّات سابقة، نشرت بعضها وما يزال بعضها الآخر ينتظر النشر، لكن ثمّة قضايا سارعت لفتح الحوار حولها أو لنقل الدردشة، مؤجلًا بعض ما توفّر لدي وما استقرّ في خزانتي إلى وقت آخر، وإن تداخل بعضها لدرجة التماهي بين الحاضر والماضي.

الدردشة الحالية هي استمرار واستكمال لحوار سابق بعنوان "الذاكرة والزمن الجميل" نشرته بتاريخ 18 و 20 تموز / يوليو 2019  في جريدة الزمان (العراقية)، واستكملته بحوار لاحق تواصلًا مع الحوار الأول  وتبادل رأي واستئناس بوجهات نظر والموسوم "المثقف الرؤيوي نوري عبد الرزاق – الذاكرة التاريخية والفرادة الفكرية"، وقد نشر في جريدة الزمان (العراقية) على ثلاث حلقات بتاريخ 30 و31 كانون الأول/ ديسمبر 2019 و2 كانون الثاني / يناير 2020.

وفي كلّ لقاء مع نوري عبد الرزاق نبدأ وكأننا في حوار مستمر دون مقدمات ودون بروتوكول السؤال والجواب، فأنا أسأل وهو يتحدّث، وأحيانًا هو يسأل ليوسّع دائرة الحوار، وهكذا نتبادل المواقع. وفي كلّ مرّة أجد عنده الجديد وغير التقليدي، وغالبًا ما نتّفق على العديد من المنطلقات والتقديرات. وكنت أنتهز هذه الفرصة للتفكير بصوت عالٍ لمناقشة جوانب من تجربته ومعلوماته وعلاقاته ومعارفه لما فيها أجزاء من تاريخنا فأدقّق فيها فكرة وأراجع تاريخًا وأتوثّق من مسألة وأفحص حدثًا.

والنقاش مع نوري عبد الرزاق يجعلك تعيش الحدث بدقائقه وتفصيلاته حتى لو لم تعشه، لأنه يأتي إليه من زواياه المختلفة الفكرية والاجتماعية والشخصية وعلاقاته بالمحيط الداخلي والخارجي والـتأثيرات عليه، وكيف نظر إليه في حينها وكيف ينظر الآن، وهو لا يبالي في تغيير وجهات نظره وآرائه لأن الحياة لم تزكّ بعضها أو لم تُثبت صحّتها، ويقوم بذلك بكل أريحية وخفّة دم وقفشات أحيانًا، الأمر الذي يضعك أمام صدقية ونقد ذاتي ومراجعة للنفس والغير بروح رياضية عالية دون حقد أو عنعنات أو ادعاءات فارغة، وأحيانًا ينخرط في سخرية لذيذة لبعض مواقفنا بما فيها مواقفه، ويتأمّل ويُعيد النظر ويضحك بهدوء أقرب إلى الابتسامة، ويضع يده على فمه وكأنه يريد أن يُخفي ما أصابه من عاديات الزمن، لاسيّما الأمراض التي هجمت عليه. وسبق أن قلت له وكتبت ذلك أكثر من مرّة "لا تجربة حقيقية دون نقد ذاتي"، فقيمة أي تجربة بنقدها وإعادة قراءتها باستشراف مستقبلي.

إن ذاكرة نوري عبد الرزاق الشفاهية وبعض ما هو مدوّن منها أحد المصادر الأساسية لتاريخ اليسار العراقي بشكل خاص، بل والعربي والعالمي. وكنت قد توقّفت معه عند سلام عادل الذي التقاه في لندن العام 1954 حين كان يدرس الهندسة، وحينها كان نوري عضوًا في منظمة الحزب الشيوعي العراقي في بريطانيا، وأصبح مسؤولًا عنها بعد أنيس عجينة، حيث تمّ فصله بعد إبرام معاهدة حلف بغداد "حلف المعاهدة المركزية - السنتو  CENTO" الذي ضمّ العراق وتركيا وإيران وباكستان وبريطانيا،، ومرورًا ﺑ بليكان الذي جئت على ذكره، وكيف التحق من موقعه كرئيس لاتحاد الطلاب العالمي مع حركة الإصلاح التي بدأها الكسندر دوبتشيك الذي دعا إلى "اشتراكية ذات وجه إنساني"، وكانت محطة جيفارا الذي التقاه مرتين في كوبا أحد الانفرادات التي تميّز بها نوري عبد الرزاق، وكان أول من كتب عنه بعد عودته إلى العراق العام 1969 في جريدة الراصد، وقدّم قراءة إيجابية لدوره بغضّ النظر عن التوجّه السائد، ولاسيّما السوفييتي الذي قلّل من شأنه فيها وهو ما انعكس على الأحزاب الشيوعية، وكان عامر عبد الله قد كتب نقدًا للجيفارية في مجلّة الثقافة الجديدة، انطلاقًا من الرؤية النافذة في الحركة الشيوعية آنذاك واستنتاجاتها المقنّنة.

***

عبد الحسين شعبان

(1920 – 2013) Lawrence Klein

هو الاقتصادي الامريكي الاستاذ في جامعة بنسلفانيا لأكثر من ثلاثة عقود، والحائز على جائزة نوبل في الاقتصاد لعام 1980  لريادته في تصميم وبناء النماذج الرياضية-الاحصائية الأولى التي شكلت بواكير نظرية الاقتصاد القياسي من ناحية، والتي عالجت قضية التنبؤ بتغييرات الاقتصاد الكلي من ناحية اخرى. ولذلك فقد وصفه البروفسور مارتن فلدستين الاستاذ في جامعة هارفرد بأنه الاقتصادي الأول الذي غامر في بناء الموديلات القياسية لتجسيد النظرية الكينزية. والاجمل من ذلك فإن تلك الموديلات ما زالت تستخدم الى اليوم ويعوّل على دقتها البنك الاحتياطي الفدرالي في تحليلاته الاقتصادية الهامة. لكن أبلغ وأجمل ماعُرف به الاستاذ لورنس كلاين هو تنبؤه الجرئ ابان الحرب العالمية الثانية الذي كان مخالفا تماما لكل التنبؤات الاقتصادية في حينه حول حالة الكساد الاقتصادي الذي سيعقب الحرب. فقد تنبأ الاقتصادي الشاب بأن القوة الشرائية الاضافية التي سيجلبها الجنود العائدون من الحرب ستوسع السوق الاقتصادية وستؤدي الى اقتصاد مزدهر. وفعلاً،  كانت نبوءته صحيحة كما اثبت واقع حال اقتصاد مابعد الحرب.

ولد لورنس كلاين عام 1920 في أوماها-نبراسكا لعائلة متوسطة الحال، وهو الابن الأوسط لثلاثة اطفال. دخل المدارس المحلية العامة، وكان لزمن الكساد الاقتصادي العظيم أثر كبير على نشأته، كما قال في ملاحظاته عن سيرته الذاتية التي قدمها الى لجنة جائزة نوبل. حيث اعتبر الاوضاع الاقتصادية القاسية خلال سنوات الكساد هي التي اشعلت فيه جذوة الرغبة لدراسة الاقتصاد وفهم تغيراته الكمية.  وهذا ما قاده الى الاهتمام بأدوات الاقتصاد التحليلية التي وفرها تعليمه الجامعي في ظروف الحرب العالمية الثانية، خاصة ذلك الذي تلقاه في كلية لوس أنجلس ثم جامعة كاليفورنيا في بركلي التي تخرج فيها حاصلا على بكالوريوس في الاقتصاد والرياضيات عام 1942. انتقل بعد ذلك مباشرة الى معهد ماسچيوستس MIT لدراسته العليا حيث اصبح الطالب الأول لپول سامولسن وتخرج على يده حاصلا على الدكتوراه في الاقتصاد عام 1944.

بعد حصوله على الدكتوراه، التحق  مباشرة بمركز كاولز Cowles للبحوث الاقتصادية الذي كان تابعا آنذاك الى جامعة شيكاغو. هناك انضم الى فريق العمل في الاقتصاد القياسي تحت اشراف الاقتصادي الهولندي جان تنبرگن، الحائز على أول جائزة نوبل في الاقتصاد،  فکانت فرصته الاولى لصياغة النماذج الرياضية - الاحصائية مستخدما بيانات الاقتصاد الكلي وساعيا للوقوف على امكانية التنبؤ بالتغييرات المستقبلية في أرقام ومديات النمو الاقتصادي ونشاط الشركات الانتاجي والمالي وتأثير السياسات الحكومية على تلك التغييرات.  وهناك ايضا كان نموذجه الاول الذي طوره بموجب عمل تنبرگن الرائد حيث جاءت صياغته له كاملة استطاع من خلالها التنبؤ بالتغييرات التي ستطرأ على مديات الانفاق الحكومي والضرائب والمشروعات العامة. 

یصف کلاین مشاعره الطيبة عن البيئة الاكاديمية التي عاش في كنفها خلال عمله فی جامعة شیکاغو، فيقول في سيرته الذاتية لدى لجنة جائزة نوبل:

" في شيكاغو وجدت جواً اكاديميا رائعا وسعدت وسط مجموعة من النجوم الساطعة في سماء الاقتصاد آنذاك وكذلك اولئك الذين أثبتوا نجوميتهم فيما بعد مثل جالي كوبمنز وكينث أررو وليونيد هورووتز وهربرت سايمنز وآخرون الذين كانوا ينغمسون في نقاشات علمية رصينة تعلمت منها الكثير، خصوصا في حقل الاقتصاد الكلي والمعالجات الرياضية والقياسية لمشكلاته".  ويواصل:

" في مؤسسة كاولز اتسعت معرفتي الاكاديمية باتساع دائرة علاقاتي مع زملائي واصدقائي الاقتصاديين، ولعل أهم حدث كان لقائي بسونيا أدلسن وارتباطي بها بعلاقة حب تطورت الى زواج. وقد سافرنا معا الى أوربا للقاء الكثير من اصدقاء المهنة والعمل معهم. ففي طريقنا الى أورپا توقفنا في أوتاوا- كندا للعمل في أول سلسلة من النماذج القياسية التي كلفتنا بها الحكومة الكندية .  في أورپا التقينا باصدقاء كثيرين اذكر منهم راگنر فرش وتَري هافلمو في النرويج، وأرك لندبرگ وأرك لندال وهرمن وولد في السويد، اضافة الى رچرد ستون في انگلترا".

بعد عودة كلاين من الرحلة الأورپية، دعاه زميله آرثر برنز في المركز الوطني للبحوث الاقتصادية NBER لقبول وظيفة بحث لما بعد الدكتوراه Post-Doc للعمل في اولى النماذج القياسية لدالة الانتاج التي فتحت الطريق فيما بعد الى تطوير دوال الانتاج الاخرى، والتي قال عنها كلاين في أواخر سنوات حياته بانها موضع فخره واعتزازه لانها ما تزال تستخدم الى اليوم.

في عام 1947 وخلال عمله في شيكاغو، انتدب للعمل على تقدير آثار الوفرة في السيولة النقدية على الادخار وسلوك المدخرين والمستهلكين. کان ذلك في مشروع مشترك مع مركز البحوث الاقتصادية في جامعة ميشگن، حيث استخدم البيانات التي انتجها جورج كاتونا والتي عرفت باستبيانات المستهلك المالية.  وقد اطرى خلال العمل في ذلك المشروع على الفائدة التي استخلصها من عمل زميل آخر كان مهتما بنفس الاهتمام هو جيمس مورگن. كما عمل ايضا مع تلميذه آرثر گولدبرگر في مشروع هام كانت حصيلته النموذج المعروف باسم نموذج كلاين وگولدبرگر  Klein-Goldberger Model  الذي تطور فيما بعد الى سلسلة  من النماذج التي سميت بنماذج مشيگن.  بعد مضي أربع سنوات في العمل بهذا المشروع المشترك، أي في عام 1954،  استحق كلاين التثبيت الجامعي Tenure في وظيفته الاصلية في جامعة شيكاغو لكنه لم يحصل عليه بسبب انتماءه للحزب الشيوعي الامريكي لفترة قصيرة!  فتحت ضغوط الحملات المكارثية الشرسة التي شنتها التيارات اليمينية والدينية على نطاق واسع، أذعنت ادارة الجامعة لاستبعاد كل من انتمى للحزب الشيوعي او اتهم بالميول اليسارية والتقدمية.  وعلى أثر ذلك لم يكن بداً من كلاين إلا ان يغادر الولايات المتحدة الى بريطانيا حيث استقبلته جامعة أوكسفورد بالاحضان.

وهكذا ذهب الى أوكسفورد بدعوة خاصة من المعهد الاحصائي البريطاني للعمل على بناء نموذج قياسي للاقتصاد البريطاني مستخدما البيانات الكثيرة التي كانت جاهزة حيث عمل المعهد على جمعها وتبويبها من قبل.

أمضى كلاين أربع سنوات في أوكسفورد، وفي عام 1958 عاد الى الولا يات المتحدة ليستلم تعيينه كأستاذ مثبت Tenured في جامعة بنسلفانيا. وبعد ذلك حصل على اللقب التشريفي العالي للاستاذية المعروف بـ Benjamin Franklin Professor من مدرسة وارتن للبزنس الذائعة الصيت Wharton Business School  والتابعة للجامعة. وبذا فقد أصبحت جامعة بنسلفانيا  مستقره الاكاديمي كاستاذ للاقتصاد والمالية الذي بنى النماذج القياسية التي عرفت فيما بعد بنماذج وارتن للتنبؤات الاقتصادية. فبقي هناك لحين تقاعده عام 1991 بعد 33 عاما من خدمته الاكاديمية فيها.

لدى استقراره في جامعة بنسلفانيا تمكن من توسيع دائرة نشاطه الاكاديمي وتعزيزعلاقاته بالمؤسسات الاخرى المحلية والدولية بمشاريع مشتركة وتعاون مهني.  فقد بدأ، على سبيل المثال،  بتصميم نماذج تنبؤ اقتصادية قياسية لشركات القطاع الخاص والعام مستخدما عوائد عمله لدعم الدراسات العليا في قسم الاقتصاد وتطوير نطاق البحوث فيه،  حتى انه تمكن من توسيع هذا الجانب من نشاطات قسم الاقتصاد ليصبح شركة قائمة بذاتها تدعى شركة وارتن للتنبؤات القياسية. 

في عام 1961 ترأس مشروع بروكنگز Brookings Project  لتنبؤ معدلات النمو في الاقتصاد الامريكي في الأمد القصير. تبع ذلك باطلاق مشروع وارتن القياسي الذي استخدم فيه نماذجا متقدمة للتنبؤ بمعدلات الانتاج والاستهلاك والاستثمار والتصدير مع تقدير التغيرات التي ستطرأ عليها تبعا لتغيرات الاسعار والانفاق ومعدلات الضرائب. في عام 1968 قاد المشروع الدولي الأكبر المسمى لنك LINK لتوسيع نماذج الاقتصاد الامريكي وتطبيقها على اقتصادات الدول الاخرى، اضافة الى الاشتراك في تصميم وبناء نماذج التنبؤ القياسية لبلدان التخطيط المركزي، خاصة الاتحاد السوفيتي والصين، وفي هذه المناسبةتجدر الاشارة الى ان الفضل يعود الى لورنس كلاين،حسب بعض المصادر، في ادخال علم الاقتصاد القياسي لجامعات الصين الشعبية. كما انه قاد جهود البحث المشترك مع جامعة أوساكا اليابانية الذي تمخض عن نشر عدد من المقالات الهامة  التي قادت الى تأسيس مجلة (جورنل) اقتصادية جديدة هي International Economic Review على غرار الجورنل الاقتصادية الشهيرة المعروفة بـ AER أو  American Economic Review.

في عام 1976 اختاره جمي كارتر ليكون المستشار الاقتصادي لحملته الانتخابية الرئاسية. وحين تحقق الفوز، كان الرئيس المنتخب كارتر مستعدا ان يوليه منصبا عاليا في حكومته ، لكن كلاين رفض قبول أي وظيفة رسمية في الحكومة وفضل ان يبقى اكاديميا مستقلا عن السياسة، فانتخب في العام اللاحق، عام 1977 رئيسا لجمعية الاقتصاديين الامريكيين.

وفي عام 1980 فاز بجائزة نوبل في الاقتصاد لدوره الرائد في تصميم وبناء نماذج التنبؤ للاقتصاد الكلي وتفسير وتعزيز دورها في التحليل الاقتصادي، وتطوير وترسيخ حقل الاقتصاد القياسي التطبيقي في علم الاقتصاد.

خلال حياته الاكاديمية، حصل البروفسور لورنس كلاين على عدد كبير من الشهادات والدرجات الفخرية من أكثر من 30 جامعة ومعهد اكاديمي. وأُنتخب عضوا في الاكاديمية الوطنية للعلوم، والاكاديمية الامريكية للفنون والعلوم،  والاكاديمية العلمية البريطانية وجمعية الفلسفة الامريكية، وهو المؤسس لحركة "الاقتصاديون للسلم والأمان"، والمؤسس لمعهد پن Penn للبحوث الاقتصادية Penn Institute for Economic Research

واخيرا فان للبروفسور كلاين ثلاث بنات وولد من زوجته الاقتصادية سونيا التي تزوجها أيام العمل في شيكاغو.  توفي عام 2013 عن عمر 93 عاما.

فيما يلي عدد من اهم مؤلفاته:

- الثورة الكينزية 1947

- تقلبات الاقتصاد الامريكي 1921 – 1941

- نموذج قياسي للاقتصاد الأمريكي 1955

- نموذج وارتن القياسي للتنبؤات الاقتصادية

- الاقتصاد القياسي – تكستبوك 1973

- نموذج بروكنكز 1975

- أداء النموذج القياسي 1976

- مقدمة في التنبؤ القياسي 1980

- النماذج القياسية كدليل لصنع القرارات الاقتصادية 1982

- اقتصاديات العرض والطلب 1983

- الاقتصاد والاقتصاد القياسي 1995

- الصين والهند: العملاقان الآسيويان والفرق بينهما 2004

***

ا. د. مصدق الحبيب

إذا أردنا أن نقدر القيمة الحقيقة التي ينطوي عليها مشروع أبوبكر السقاف وإرثه الثقافي والفكري فلابد لنا من النظر إليه في السياق التاريخي الذي ولد ونشأ وازدهر وفكر وكتب ونشر في أرضه وفضائه. والسياق هو كامل الوسط الاجتماعي والسياسي والثقافي الذي يحيط بحياة السقاف من كل الجهات. إذ يواجه الباحث في حياة الفيلسوف أبوبكر السقاف ومداراتها الحزينة جملة واسعة من الصعوبات المحاذير، إذ ينبغي عليه البحث في شخصية متعددة الأبعاد، وتجربة ثقافية وحياتية فريدة ومتنوعة لاهتمامات والريادات، فهو رائد في النشاط الطلاب ومؤسس أول رابطة طلابية يمنية في القاهرة عام١٩٥٦م " ويصفه زملاؤه بأنه الطالب الشغوف بالاطلاع والمعرفة، ومن رواد دور العلم والمنتديات، ودور النشر والمكتبات "(ينظر، عبدالباري طاهر، أبو بكر السقاف مفكر الأمة المدافع عن الحريات والحقوق صحيفة اليمني الأمريكية، ١٨ ديسمبر ٢٠٢٢م)  وهو أول أستاذ فلسفة يمني في جامعة صنعاء منذ تأسيسها ١٩٧٠ بطاقم أكاديمي مصري إذ  "اضطلع كادر مصري بوضع النظام الإداري والنظام الأكاديمي وتحديد المقررات الدراسية للأقسام الأكاديمية ومفرداتها.. وكان الدكتور أبو بكر السقاف هو الذي يدرس مقرر الفلسفة الحديثة لطلاب قسم الفلسفة والاجتماع وقسم الدراسات الإسلامية" (ينظر عادل الشرجبي ، الدكتور أبو بكر السقاف رائد التنوير الأكاديمي ١٨ ديسمبر ٢٠٢٢) وهو أول أكاديمي جعل من الفلسفة منهجا في دراسة المشكلات الاجتماعية وهو رائد في النقد السوسيولوجي والنقد الثقافي وهو رائد في النشاط المدني والحقوقي. وهو رائد في النقد العقلاني للسياسة والدعوة إلى تأسيس المجال السياسي المستقل وربما أخذت المشكلة السياسية والقضايا الاجتماعية والحقوقية جل اهتماماته الفكرية وهذا ما يعزوا سبب شحة كتاباته الفلسفية البحتة. فمعظم ما كتبه يشتبك مع القضايا السياسية والاجتماعية والحقوقية الحيوية التي كان يعيشها لحظة بلحظة" كان على رأس مجموعة من أهم الحقوقيين والناشطين الذين تنادوا إلى تكوين لجنة وطنية للدفاع عن حقوق الإنسان والحريات وهو القائل: “إن غابت الكرامة احتجب الوجود الإنساني" (ينظر، منصور هائل، في البدء كان السقاف: بورترية متجدد، صحيفة النداء ٢٠٢٢) ورغم أن السقاف ينتمي إلى مرجعية دينية تقليدية الا أنه ترك كل المرجعيات التقليدية وراء ظهره وجعل عقله الشخصي مرجعيته الوحيدة إذ كان يؤمن بأن كل إنسان ذاتا فردية حرة تمتلك كامل الأهلية القانونية في حق العيش بوطنها تمثيل نفسها وتلك هي ذروة المدنية الليبرالية التنويرية. وكتابه دفاعا عن الإنسان والحرية يحتوي خلاصة قناعاته ومواقفه التي مارسها بذاته في خضم حياته اليومية الواقعية وهو بذلك يجسد إلى اقصى حد ممكن نموذج المثقف العضوي الملتزم بحسب غرامشي لقد كان حقا وفعلا صوت من لا صوت لهم. فهو في في حياته وسلوكه وفكره ومحاضراته وكتاباته إنما كان يؤرخ على طريقته لتغير داهم طرافي الأفق الاجتماعي والثقافي لحياة اليمنيين المعاصرين لا مثال سابق له. إذ كان يؤمن إيمانا راسخا بان حاجة الناس إلى مثُل عليا للسلوك والقيم هي حاجة حيوية وملحة أكثر من حاجتهم إلى المواعظ والوصايا والتعاليم الجوفاء. فجسد صورة الأكاديمي المثقف في قول ما يعتقده صوابا بتجرد وأمانة ونزاهة قل نظيرها، ذلك لأن التشكيل الأكاديمي هو تشكيل غايته الكمال الأكمل، والتام الأتم والكلي المطلق المجرد، المثال الأمثل. وتأبى الأكاديمية النزول بالتشكيل عن أرقى تصميم، فهي نزوع دائم نحو الأكثر حكمة والأكثر عدلاً والأكثر جمالاً والأكثر نفعاً والأكثر صدقاً والأكثر أمانة والأكثر رقياً مهما كلف الأمر، والأمر من أعلى ما تكون الهمم ومن أرقى ما تكون معالي الأمور. كان السقاف هو الأكاديمي العربي الوحيد الذي يميز بين الأدوار المفترضة للأستاذ الجامعي (دور المعلم دور الباحث، ودور المشرف الأكاديمي ودور المحكم العلمي) أو حارس البوابة  وهذا الأخير يعد أهم الادوار وأخطرها، إذ تقع عليه مهمة حراسة بوابة قلعة المعرفة العلمية – بما تعنية كلمة (حارس) من معاني اليقظة الدائمة والحذر الاحتراس والأمانة والشجاعة والنزاهة والمسؤولية الرفيعة- وتأمينها وحمايتها وصيانتها من كل الاختراقات والتهديدات المحتملة، فضلا عن التعهد الدائم برعايتها ونقدها وتنميتها وتطويرها وتجديدها وتجويدها. فضلا عن تمييزه بين دور الخبير الأكاديمي ودور المواطن المدني إذ كان شديد الحرص على عدم الخلط بين الدورين. واتذكر أنه ذات يوم نشر مقالا ينتقد فيه جامعة صنعاء وفساد إدارتها في عهد رئيسها الراحل صديقه وزميله الشاعر الكبير عبد العزيز المقالح. كان ذاك المقال من الشجاعة والجرأة والوضوح حد وصف رئيس الجامعة التي يعمل فيها بماسح احذية السلطان! نشر ذلك المقال عام ١٩٩٨إذ لم تخني الذاكرة. إذ كان السقاف ينادي بضرورة حماية المؤسسة الأكاديمية وجعلها مستقلة إن الحرية الأكاديمية تنبع من مقتضيات الحقيقة العلمية، إذ أن العلم والتفكير العلمي والبحث العلمي لا ينمو ولا يزدهر إلا في فضاء حر ومجال مستقل وبيئة شفافة وكان يدرك مخاطر ترك الجامعة بوصفها مؤسسة حديثة في مجتمعنا اليمني التقليدي خاصة والعربي عامة، إذ  هي مؤسسة حديثة وجديدة في كينونتها المؤسسية وبنيتها التنظيمية ووظيفتها العلمية، والتعليمية والتنموية وقيمها المهنية والأكاديمية وأنماط علاقاتها وأهدافها وعاداتها وتقاليدها، في حين أن مجتمعاتنا بحكم التخلف التاريخي لا تزال أسير البنى والعلاقات والقيم التقليدية على مختلف صعد الحياة، السياسية والاقتصادية والثقافية والاجتماعية والأخلاقية هذه البنى الثقافية التقليدية لا ريب وأنها تأثر في المؤسسة الجامعية وتخترقها بسهامها المنطلقة من كل حدب وصوب، إذ إن الجامعة ليست جزيرة منعزلة عن المجتمع التي توجد فيه، بل هي جزء من هذا المجتمع الذي يؤثر فيها وتأثر فيه. فإذا لم تجد من يحميها ويصون قيمها فلن يكتب لها الصمود والنجاح وهذا هو ما تم فعلا الآن . واتذكر أنه قال لي: بعد قراءة أبحاثي لغرض الترقية العلمية لدرجة الأستاذ المشارك عن فلسفة بن خلدون ومنهجه العقلاني- قال لي: (يا قاسم أنت قدست ابن خلدون بدلا من أن تنتقده) وكتب لي بالخط الأحمر نحن بحاجة إلى تجاوز العقدة الخلدونية وليس إعادة بعث الروح فيها) تلك الملاحظة الساقفية الذكية منحتني جرعة نقدية لا تقدر قيمتها بثمن . وبشهادة تلاميذه في جامعة صنعاء كان السقاف أكاديميا صارما حتى مع أحب الطلاب إلى قلبه. غيران تلك الصرامة الأكاديمية تختفي حينما يمارس دوره بوصفه مثقفا عموميا إذ كان مدافعا صلبا عن حقوق المقموعين والمضطهدين حتى وأن كانوا من اشد خصومه. وهكذا تكمن أهمية السقاف في أنه يمثل تجربة فكرية أصيلة ومتفردة نشأت وتبلورت في خضم المشكلات الاجتماعية والثقافية الحيوية التي شهدها وعاشها بنفسه في سياق المجابهة الحية بين الفكر والواقع في علاقة صميمة مع العالم لمعاصر وتحدياته التاريخية الحضارية الثقافية المدنية المضطربة في عالم مأزوم. ويعد السقاف أول أستاذا جامعيا عربيا تخلى عن لقب الدكتور عند كتاب اسمه. "كان يتبرم ويسخط في وجوهنا حين نضيف لقب “الدكتور” إلى اسمه، فهو يرسل مقالاته مذيلة باسمه العادي العاري من أي لقب، ويحذرنا من تدبيج توقيعه بالدال”، فقد كان سباقًا إلى انتقاد “الفيض من حملة الدكتوراه الذي يقابله -دون مفارقة- تدنٍّ صارخ في دور العلم في المجتمع، وضعف فاضح في المستوى العلمي لحملة شهادة الدكتوراه ” (ينظر، منصور هائل، المعطيات السابقة) مع الاستاذ السقاف الخصم اللدود للرثاثة والهرجلة وشهوة الحضور المهرجاني ستوجهنا صعوبات جمة الكشف عن حياته وتجربته الفكرية التي شكلت ظاهرة ثقافية فريدة في بيئة شديدة التخلف والاضطراب إذ تقاطب عند دروبها مختلف المواقف والأحكام والتقييمات والآراء المتضاربة، بين الدارسين والنقاد هذا ما سوف نتحقق منه في دراستنا سيرة حياة السقاف وتطوره الفكري في السياق التاريخي لمجتمعه وعصره. ومن المؤسف أن يكون أبرز مفكرا يمنيا بدون سيرة ذاتية مدونة في الشبكة العنكبوتية وتلك هي مهمة القسم والجامعة. إذ كتب محمدا لشيباني ما يلي" قبل العشرين السنة الأولى من عمره، لا تتوفر الكثير من المعلومات الدقيقة عن التكوين الثقافي الباكر للدكتور أبوبكر عبد الرحمن السقاف، أستاذ الفلسفة بجامعة صنعاء) فكيف يمكننا مقاربة السقاف وتجربته الفكرية في بيئة حالكة الظلام والعتمة كما وصفها أمين اليافعي " في هذه البقعة الموحشة من العالم، حيث الظلامُ يتبدى نوراً، والدُجى قناديل زاهية، والغسق قمراً مُنيراً تغازله ألفُ سوقٍ عكازيه، والليلُ يغشى النهار فيسلخه...

ولا فجر في الفجر غير زيغ بصري سمحنا له برضى تام أن يَغُش العين والقلب وما استقر على حافة الأمل من أحلام مذعورة!

في عمق كل ذلك العمى، كان أبو بكر السقاف أشراقة معلم لا تزول، البصيرة، أثر لا يُمحى، كثافة المعنى..

ولكم جعل لصخبنا المشدوه قوةً وتماسك بعدما كسرته هشاشة عارمة.

ذات مرةً كتب جيل دولوز مقالاً عن سارتر بعنوان "كان مُعلمي":

" كلّ شيء مرّ عبره، ليس فقط لأنّه كان يملك، بصفة الفيلسوف، عبقرية الكلّ الجامع، بل لأنّه كان يعرف كيف يخترع الجديد، ويجد طرق التفكير المناسبة لحداثتنا، لصعوباتنا كما لحماستنا الصاخبة. نحن نعلم أنّه ليس ثمّة سوى قيمة فنّية واحدة، بل حتى قيمة حقيقية واحدة: "اليد الأولى"، الجدّة الأصيلة لما نقول..."

بالنسبة لنا، كان أبو بكر السقاف، في عمق هذا العمى، كل ذلك، وأكثر.. وأكثر..

فسلامات سلامات يا مُعلمنا العظيم!

***

قاسم المحبشي

 

الصفحة 6 من 7

في المثقف اليوم