نصوص أدبية

لمى ابوالنجا: الشريرة في رواية أحدهم (2)

فشلت جميع خططي للإنتقام والإطاحة بـ"خالة وداد" تلك المرأة لم تكن بالصيد السهل وأي غلطة أخرى معها كانت ستكلفني مزيداً من القيود وتضييق الخناق للحرية البسيطة الممنوحة لي في حياتي المنغلقة كمراهقة تعيش وسط مجتمع محافظ تمتلك إمكانيات مهدرة وقدرات فنية جيدة بلا بصيص أمل لتسخريها بمكانها الصحيح، كان الأمر أشبه بسجن خيل جامح داخل مضمار بسياج حديدي ضيق لا سبيل أمامه للتحرر إلا بالإرتطام المستمر به لتحطيمه وإيذاء نفسه..

كان لدى الجميع إعتراف ضمني بمواهبي التمثيلية وكثيراً ما تمت الإستعانه بي لتنفيذ بعض المقالب بدافع الترفيه أو بدوافع أكثر نزاهه من ذلك لكنهم في نفس الوقت لم يخطر في تصورهم الحد الذي من الممكن الوصول إليه.. و في هذه النقطة تحديداً تكمن معاناتي..لا أعرف وجهتي ولا الحد الذي يمكن الوصول إليه بأمان كقبطان سفينة في بحر هائج يبحر أبداً إلى اللامكان..

كانت لدى خالتي مدبرة منزل إسمها "دادا صالحة"، مصطلح "دادا" شائع  في العرف التقليدي بين سكّان مدينة جدة كلقب يطلق على العاملة أو المدبرة المنزلية وإعطاؤه معنى أكثر شاعرية..المهم أن خالتي أحبت دادا صالحة كثيراً وعلمتها كل ما يجب عمله باهتمام وصبر حتى أنها توجت قصة حبها بالزواج من السائق "منصور" بحفل زفاف وتأمين مسكن منفصل لهما، وذات يوم وبلا أي مقدمات استيقظ الجميع على خبر هروب دادا صالحة ومنصور وإنهيار خالتي العاطفي ..

أصابها الحزن وبكت لأسابيع، مما اضطر عمي وزوج خالتي رحمه الله بطلب مساعدتي لتقديم حلول لهذه المشكلة وإمتهان الكذب الإحترافي لأغراض إنسانية..

وافقت على الأمر وأمرتهم أن لايفسدون الخطة تحت أي ظرف..سحبت هاتف خالتي دون علمها وعبثت بجهات الإتصال وغيرت إسمي  إلى إسم "دادا صالحة" ثم دخلت إحدى الغرف واتصلت عليها، قمت بتقليد صوت صالحة وأخبرتها "أني كنت مضطرة للهروب مع منصور لأنه أراد تشغيل السيارة الذي يملك في الأجرة بشكل غير نظامي وخاف أن يفتضح أمره ويمنعه عمي من ذلك، أخبرتها أني ممتنه لكل شيء فعلته لأجلي ولكل المحبه التي عوملت بها من الجميع "

صدقت وأخذت تعاتبني على عدم مصارحتها في الأمر من البداية وأن لديها إستعداد لزيادة راتب منصور للحد الذي يريده بشرط أن أعود إليها.

في أثناء الحوار ومن شدة تصديق خالتي لم يتمالك أفراد العائلة أنفسهم من الضحك وأفسدوا كل شيء مما زاد إكتئابها وجرحها.. أردت أن أمنحها نهاية للقصه، سبباً منطقياً للنكران والخذلان لكنهم لم يساعدوني، الغريب أنه بعد مدة بالفعل اتصلت صالحة الحقيقية بخالتي وأخبرتها عن أسباب مشابهه للقصة التي اخترعتها انا..!!

غضبت مني خالتي بشدة وحلفت أيماناً عظاماً غلاظاً أنها لن تصدقني أبداً ولن تقع ضحية لخداعي مطلقاً مرة أخرى…لكنها وقعت.

بعد مدة ليست بالبعيدة، أقامت  حفله لصديقات بناتها حضرت إحداهن بصحبة طفلين من الجن، خلال أقل من ساعة كسر أحدهم تحفة كبيرة لها قيمة مادية ومعنوية لدى العائلة تقدر بقرابة العشرين ألف  أحضرها عمي كهدية شهر العسل لخالتي عند زواجهما ودفع الآخر أخي الصغير على شظايا الزجاج المتناثر على الأرض ليصيبه بجرح قطعي في فخذه أدى إلى نزيف شديد وتم نقله إلى المستشفى لتخييط الجرح بثلاث غرز، أما عن ردة فعل الأم جراء كل ذلك الدمار الشامل كانت من أغرب ردود الأفعال التي شهدت للآن، لم تتحرك من مكانها، لم تمسك طفليها، لم تفكر مطلقاً حتى بمجرد الإعتذار عما حصل رغم استنفار الحاضرين فضلت أن تكمل حديثها عن أخت زوجها الخبيثه الحسودة الحقودة التي حاولت سحرها وكيف وجدت "العمل" مخبأ بين ملابسها!! وسط ذهول الجميع من انعدام أبسط قواعد اللباقه..

ومن جديد أردت منح الموقف خاتمة جيده على طريقتي الخاصه..

اتصلت على منزل خالتي وقلدت صوت "أم العفرتين" قلت لها: "أنا اعتذر يا خاله على تصرفات أطفالي أحرجوني بشدة للحد الذي منعني من قول أي شيء أرجوكِ طمنيني على ابن أختك الصغير" ثم أضفت :" كنت أحكي لأهلي عن منزلك الفخم والعشاء الفاخر وأتمنى أن أزوركم مجدداً مع زوجة أخي وأختي وأمي وعماتي لتعويض تلك الليله التي أفسدها الأطفال وأتمنى أن تطبخين لنا أطباق شرق آسيوية" ردت خالتي بكل فرح وترحيب بالقبول وحددت موعد العزومة المرتقبه بعد يومين وأغلقت الخط..

بعد عدة ساعات نزلت  إلى السوبرماركت لإحضار مستلزمات الطبخ واتصلت بوالدتي لتخبرها أن صديقة بناتها تود تقديم هدية لأخي يوم الأحد وأنها بدأت بالفعل بإعداد الأطباق المطلوبه كون ان المطبخ الشرق آسيوي يتطلب يومين للتجهيز، هنا استوعبت حجم المصيبة التي فعلتها وقررت الإعتراف لخالتي التي من جديد غضبت مني وحلفت أيماناً عظاماً غلاظاً أنها لن تصدقني أبداً ولن تقع ضحية لخداعي مطلقاً مرة أخرى…لكنها وقعت.

كنت أختبر أخلاقيات ونزاهة شباب العائلة خاصة أولئك الذين لا أطيقهم وبيننا إمتعاض خفي، أرى لأي حد يمكنهم الصمود أمام الغنج والدلال والوقوع ضحايا أمام إحدى شخصياتي ولأن  إمتلاك "جوّال" للبنات المراهقات لايعد أمراً سهلاً أو محبباً في تلك الفترة فإن الموضوع كان بحاجة للعديد من التخطيط المحكم لتنفيذ المهمة، كنت أستعير هواتف العاملات ليلاً مقابل مبلغ بطاقات الشحن ومبالغ أخرى كبيره للتكتم علي وأتصل على الأوغاد من شباب العائلة متقمصة لكل منهم شخصية من الأعلى للأقل شرّاً ونجحت بإيقاعهم جميعاً في حبنا..

في جمعة من جمعات العائلة الأسبوعية استهزأ بي أحد أبناء عمومتي وأضحك الجميع علي وقررت حينها الإنتقام الشرس، أوقعته في غرام شخصية "سمر" الفتاة الجامعية الشعبوية اللعوب المشابهه لشخصيته التي فعلت المستحيل للحصول على رقمه من شدة إعجابها به وعيشته بوهم حياة سمر ويومياتها مع أخواتها الثلاث "سحر وسهاد وفتحية" شهراً كاملاً حتى أنني أخيراً قررت مواعدته في مقهى وبالفعل حجزت طاولة وذهبت ولكني أعطيته رقم الطاولة المجاورة، توجه إلى رجل وإمرأة وأخبرها "أنتِ سمر؟" وأنا أتفرج عليه من الجهه الأخرى يتعرض للإحراج ثم أشرت له أن يأتي وقلت له "أنا سمر، وسحر، وسهاد، وفتحية" ليزداد حقده علي للأبد بعدها..

بعد أن أنهيت فصل سمر شعرت بالملل ووقع إختياري على ضحية جديدة لشاب آخر وبالرغم من إعتراض قريبتي ساعدي الأيسر في الشر كون أنه من ألطف وأحن وأجمل الشباب إلا أني أصريت على موقفي ووضعته برأسي لكن لغاية نبيله، أردت أن أمنحه الثقه في النفس والتغلب على خجله الإجتماعي وتجاوز عقد أخرى كنت أعلم عنها، عشق المسكين "داليا" الفتاة الراقية المثقفة المتفهمه المنحدرة من عائلة برجوازية التي كانت بالنسبة له بمثابة الحبيبة والصديقة، مع الوقت بدأت أشعر بتأنيب الضمير وصدمت بطريق مسدود أعتقد أن ذلك كان ذنب جميع من نفذت بهم مقالبي المدمرة لهذا قررت إنهاء العلاقه على قرب إنتهاء الإجازة الصيفية بحجة ذهابي إلى سويسرا للمدرسة الداخلية لتعليم قواعد الإتيكيت لم يتقبل الإنفصال بسهولة وبكى كثيراً، وبحكم قرابة السن بيننا اتصل بقريبتي وطلب مقابلتنا لأنه واقع في مشكلة ما ويريد الفضفضه بخصوصها..

كان متأزم نفسياً ويتساءل كيف تتركه حبيبته بالرغم من كل ماكان بينهم من مشاعر ولتخفيف حزنه وجدتني أشتم نفسي وأخبره أنها فتاة كاذبة ومتلاعبة ولاتستحق دمعه من عينيه ليرد علي : "حتى وإن كانت كاذبة..أريدها مرة أخرى في حياتي أرجوكِ كلميها وأقنعيها بالعودة إلي وأعطاني رقم "داليا" الذي هو في الأساس رقم "دادا كوليندة"

أقول الحق أنني دمعت وقلت في نفسي:

"تباً لي حتى الحب الذي حلمت به دوماً .. حصلت عليه حينما لم أكن أنا"

***

لمى ابوالنجا – أديبة وكاتبة سعودية

 

في نصوص اليوم